كنا قد أشرنا كثيرا إلى طريقة القرآن في عرض أحداث وقصص الأمم السابقة ، فهو (يأخذ في الاعتبار) الخلفية الثقافية للأحداث، ويأتي على رأسها الجانب اللغوي، فلغة القرآن تحمل بصمات العصر الذي تنتمي إليه ، فهي ليست مجرد مرادفات للكلمات التي استعملت على مستويات السرد والوصف والحوار، بل هي حقيقة هذه الكلمات في كثير من الأحيان. وقد دللنا على ذلك بعشرات من الألفاظ و الكلمات المشتركة في العربية والمصرية القديمة ،بل وتجاوز الأمر ذلك إلى استعمال صيغ وتراكيب مثل لا مساس ، ولا ضير ، بالأضافة إلى بعض أدوات التوكيد والنفي والاستفهام . وإذا تأملنا آية :"ولي فيها مآرب أخرى" المذكورة في سورة طه على لسان موسى عليه السلام ، فإن ما يلفت نظرنا هو كلمة مآرب التي لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة، وهذا يعني قصدية استعمالها في هذا السياق ، لأنها ببساطة ليست مجرد كلمة ، بل هي (أداة ثقافية) تعكس حقيقة لا مجازا كيفية وطرائق التعبير التي كان يستعملها موسى والمصريون في ذلك الوقت، مع الأخذ في الاعتبار أن موسى عليه السلام كان عائدا من مدين في شمال غرب الجزيرة العربية ، وهي منطقة عربية تحدث فيها موسى مع أهلها مدة عشر سنين. وكلمة مآرب جمع كلمة مأرب، على وزن مفعل (مصدر ميمي)،وهي مشتقة من كلمة أرب، والأرب والمأرب هو حاجات النفس و أغراضها كما جاء في كتب التفاسير. وبالرجوع إلى المصادر الهيروغليفية ، نجد أن الفعل أرب يعني يحقق حاجة النفس أو القلب سواء للشخص ولغيره من الأشخاص.. وكان المصريون القدماء يعبرون من خلال الرموز الهيروغليفية عن الأشياء المعنوية والحسية والافعال والأسماء والحروف ، وكل ما يتعلق بطرائق التواصل ، ويفرقون بين ما هو مادي حسي ، وما هو نفسي شعوري من خلال استعمال بعض الصور والرموز التي تشير إلى المعنى(ideogram) لا الصوت (phonogram). فمثلا رمز أو صورة القلب كانت تعني ما يتعلق بانوايا والعواطف والأمور النفسية، فإذا وجد هذا الرمز بجوار الكلمة المذكورة ، يكون المعنى المقصود هو المعنى العاطفي أو النفسي. فرمز القلب الموجود في الصورة المرفقة لا ينطق على المستوى الصوتي (phonogram), بل هو مجرد رمز يشير إلى الفكرة أو المعنى (ideogram) ، فمثلا كلمة سخسخ التي نستعملها اليوم في مواقف الضحك ، كانت تستعمل بمعنى آخر هو هرب وفر. وكان المصريون يفرقون بين المعنييين من خلال الصورة أو الرمز المرسوم ، فإذا كان رمز القلب ، يكون معنى سخسخ ضحك، وإذا كان الرمز هو القدمين يكون بمعنى هرب. وبذلك تتجلي عبقرية الهيروغليفية في التعبير والتمييز بين الكلمات التي تحمل نفس الحروف الصوتية من خلال رموز غير صوتية تشير إلى المعنى المقصود. لكن الأمر الآخر الأكثر دهشة هو ذلك الاستعمال القرآني الفريد والمعجز للغة بحيث يتأكد الجميع أنه تنزيل رب العالمين.
وفي الصور المرفقة كلمة أرب بمعنى حاجة، وكلمة سخسخ بمعنى ضحك ، وهرب.
وفي الصور المرفقة كلمة أرب بمعنى حاجة، وكلمة سخسخ بمعنى ضحك ، وهرب.