أنا قارئ قبل كل شيء وبعد كل شيء. لم تمنحني القراءة إجازة ليومٍ واحد في حياتي، لم أجد نفسي خارج أسر القراءة، وأظن أني لن أتوقف مادمت حيا. قراءتي تتغير بتغير الواقع، والوعي، وتغير المزاج، وعوامل أخرى خفية لا أدركها تفعل فعلها في انتقاء نصوص واستبعاد أخرى. رفقة الورق والكتب استغرقت معظمَ أيامي، أنفقت من سنوات عمري معها أكثرَ بكثير مما أنفقت برفقة البشر. لو فرضت عليَّ الأقدارُ أن أختار العيش مع الكتب أو البشر لاخترت العيش مع الكتب. أنا كائن لا أطيق العيش بلا منبع للمعنى في حياتي، القراءة كانت وما زالت ترفد حياتي بأعذب معانيها. بعد هذه الخبرة في القراءة أصبح القارئ كاتبا، غير أن القراءةَ مازالت تلازمه وتفرض حضورها كأولوية على الكتابة، لا تصمد مواعيد الكتابة وجداولها الزمنيَّة لحظة يتقد شغف القراءة. حين أضجر من الكتابة استريح بالقراءة، وحين أفقد التركيز بعد ساعات من القراءة، لا يستفيق وعيي إلا بالقراءة.
لا أستطيع إحصاءَ ما حصدتُه من مكاسب القراءة والكتابة. بالقراءة والكتابة استطعتُ أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كلَّ رؤية عقلانيَّة، لكن لا أعبأ بالترهيب الذي يمارسه بعضُ المتحدثين والكتّاب، ممن يحاولون إحباطَك برأي من التراث، أو رؤيةٍ لفيلسوف يوناني أو فيلسوف حديث، أو نصٍّ لأديب شهير، أو قولٍ لمفكر معروف. تعلّمتُ من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدقّ من القراءة، استطعتُ أن أصنع من كلماتٍ مبعثرة معاني مُلهِمة لحياتي. تعلّمتُ من الكتابة الوضوح، ورسمَ الحدود بين الأشياء، واكتشافَ جغرافيا المفاهيم وخرائطها، وحرّرتُ ذهني من وصايات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب بمختلف أساليبِهم البلاغية، وأدواتِهم اللغويَّة، ومراوغاتِ كلماتهم. كانت الكتابةُ وما زالت منبعًا غزيرًا لتوالد أسئلةٍ حارقة لما تراكم في ذهني من أوهام، تولد منها أسئلةٌ أشدّ احتراقًا. كلما فكرتُ بعمق وأنا أكتب ضاق فضاءُ الأجوبة واتسعت الأسئلة، ذلك ما يجعلني أتهيّب اقتحامَ الكتابة، وأحاول ألوذ بخيمة القراءة.
يرى القارئُ في هذا الكتاب تفاصيلَ متنوعة عن رحلتي الطويلة بمعية القراءة وممارسة الكتابة. وتكشف له هذه الأوراقُ شيئًا من ذكريات هذه الرفقةِ الشيقةِ في القراءة والشاقةِ في الكتابة، وشيئا مما تعلمتُه من دروسهما الثمينة. ما ورد فيها فصلٌ من محطات حياتي المتنوعة، اخترتُ كتابةَ هذا الفصل قبل غيره من السيرة الذاتية، بوصفه يعبّر عن أثمن ما عشتُه في حياتي. لا أنكر أن صنفًا من الكتب نقلني من يقينٍ مغلق إلى لا يقين، وزحزح وثوقياتٍ متجذرة كالكائنات المتحجّرة المنهكة لذهني، تلك الوثوقياتُ أخلدتْ تفكيري للنوم. بعد يقظة الذهن تخفّف من أثقال مكثتْ غاطسةً مدة ليست طويلة في منطقةٍ مظلمة، لم يفضحها إلا نورُ التفكير العقلاني. كأن الذهنَ لحظة أزاحها تحرّك بصيرورة متواصلة، لا يلبث طويلًا، إن مكث في محطة، إلا ويغادرها عاجلًا في رحلةٍ لا تتوقف إلى محطةٍ آتية، صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همُّه المضيّ في رحلة اكتشاف، صار الطريقُ فيها غايتَه لا المحطة. لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيلِ التفكير العقلاني النقدي. لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينةِ الروح، ولا بطمأنينةِ القلب. مَن يختزل الإنسانَ ببُعدٍ واحد تبدو له هذه واحدةٌ من المفارقات، أدرك جيدًا أنها تظهر بنظرةٍ عاجلة كمفارقة، وإن كانت النظرةُ المتأنية تكشف عن قدرةِ الطبيعة الإنسانيّة على استيعابِ الأضداد.
تعلّمتُ الكتابةَ بالكتابة، لا يتكون الكاتبُ بالتوصيات الساذجة الجاهزة، على طريقة: "كيف تتعلّم اللغة الإنجليزية بسبعة أيام". لا أعرف كاتبًا عظيمًا ولد في مدارس تدريب وورش كتابة. الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبةً، وشخصيةً صبورة، مضافًا إلى قراءاتٍ نوعية متواصلة، وتفكيرِ هادئ، وجَلَدٍ على تكرارِ تمارين الكتابة المملة، وعدمِ التعجّل بالنشر، والتضحيةِ بكثيرٍ من متع الحياة الحسيَّة الآنيَّة.
قراءة الكتاب الورقي ليستْ كلَّ شيء في تحصيلِ المعرفة وفهمِ العالَم، وليس من لا يقرأ الكتابَ الورقي اليوم لا يفهم شيئًا في العالَم. تتضاعف طرائقُ تلقي المعرفة، وتتبدّل وسائلُ القراءة وتتنوع أساليبُها، وتتضاعف باضطرادٍ أعدادُ القرّاء في عصر الإنترنت. قبل الإنترنت كان عددُ القرّاء محدودًا، صار أغلبُ من يستعمل تطبيقات وسائل التواصل يقرأ اليوم. لم يعد مفهومُ القراءة ضيقًا لا يعرف فضاءً خارج الورق، وسائلُ التواصل الجديدة وسّعتْ هذا المفهومَ وأضافت طرائقَ جديدة للقراءة، اتسعتْ فيها آفاقُها بعد أن تشارك السمعُ والبصرُ الوظيفةَ ذاتها. أكثر من تطبيق اليوم تحضر فيه الصورُ والمسموعاتُ بكثافة، وأحيانًا تأثيرها أبلغ من الكلمات، ويفوق عددُ المشتركين فيه ملياري إنسان. تطبيقات الذكاءُ الاصطناعي تعدنا بإضافات مبتكرة، تتغير فيها وسائلُ تلقي المعرفة، ولا ندري ماذا وكيف تكون غدًا. مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات، ويتكيّف وفقًا لها ولكيفية استعمال القرّاء لها في تلقي المعرفة بصريًا وسمعيًا، كلُّ قارئ يختار طريقتَه المتناغمة واحتياجاتِه ورغباتِه وما ينجذب إليه ويتذوقه. مَن يستعمل هذه التطبيقات يمكن أن يتخذ النمطَ الذي يتوافق معه في القراءة، مَن يرى الكلمات يقرأها، مَن يستمع للنصوص والكتب المسجلة صوتيًا يمارس نمطًا ثانيًا من القراءة، مَن يشاهد الصورَ ويتأملها يمارس نمطًا ثالثًا من القراءة، مَن يرى مقاطعَ الفيديو وينصت إليها يمارس نمطًا رابعًا من القراءة. أعدادُ القرّاء اليوم كبيرة جدًا، الأطفال يبدؤون باستعمال الأجهزة اللوحية وتطبيقات وسائل التواصل قبل أن يتعلّموا القراءةَ والكتابةَ في المدرسة. يقرؤون بطريقة تتناسب ومرحلتَهم العمريَّة، كثيرٌ منهم يستعمل هذه الأجهزةَ بعمر لا يتجاوز السنتين، ويدمن أغلبُهم عليها بشكلٍ مدهش، رأيتُهم لحظة يستفيقون صباحًا إلى أن ينامون ليلًا لا يغادرونها.
كلّما اتّسع مجالُ القراءة اتّسعتْ بموازاته الكتابةُ بأنماطها وأوعيتها الجديدة. إذا ازداد علمُ الإنسان أدرك أن مجهولاته لا حصرَ لها، وتوالدت تبعًا لذلك أسئلتُه المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباتُه. لن تموت القراءةُ والكتابة ما دام الإنسانُ بحاجة إلى التعلّمِ واكتسابِ المعرفة، وإنتاجِ معنى لحياته، وحاجة إلى التسلية. ما كتبه الإنسانُ منذ اكتشاف الكتابة بكلِّ مراحل تاريخه ليس كثيرًا، ما لم يكتبه الإنسانُ ولم تخطّه حروفُه وتستوعبه كلماتُه لا حدود له. لم يتمكن أبرعُ الكتّاب من التعبير عن حالاتٍ تختنق في معانيها الكلمات. لا أتمكن من التعبير عن كلِّ ما تختزنه ذاكرتي، ولا يطيق وعاءُ اللغة جمرةَ ألمي لحظة يبكي قلبي. لا أستطيع البكاءَ أحيانًا على الرغم مما أصطلي فيه كالنار في داخلي. تخرس الكلماتُ لو أرادت النفسُ التعبيرَ عن كلِّ شيء في أعماقها. مثلما تعجز الكلماتُ عن القبض على معاني آلامنا تعجز عن تصوير حالاتِ ابتهاجنا وفرحِ قلوبنا.
لا يتحقق التفكيرُ والمعرفة بكلِّ قراءة. القراءة الجادّة من بواعث التفكير الخلّاق وإنتاج المعرفة، القراءة المحرِّضة على التساؤل والتفكير العميق تمكّن الذهنَ من التعرّف على حدود الأشياء والمفاهيم، وتوقظ قدراتِه على اكتشاف ما تشترك وما تختلف فيه عن غيرها. هذا النوع من القراءة يثير التساؤلَ، ويزحزح المسلّمات في الذهن، وينقله من الركون إلى بداهاتٍ ليست بديهية، ويقينياتٍ غير مبرَهنة، وقناعاتٍ جزافية، إلى إعادةِ النظر فيها وإخضاعِها للمراجعة ومساءلتها، وتقصي بواعث القول فيها وشيوعِها، وعوامل رسوخِها.
كلماتُ هذا الكتاب تدفقت كسيل، بلا توقفٍ وبلا معاندة. أرسلتُ الكتابَ للنشر بعد الفراغ منه، اكتمل الإخراج، فكتبتُ هذه المقدمة فورًا، بعد كتابتها سرعان ما انهزمت ثقتي بكلماتي، ضجرتُ فتركتُ الكتابَ عدة أيام، تريثتُ اسبوعين كي أعود للتحرير النهائي للمقدمة، لم أعد إلا بعد أن شعرتُ بالحرج من الناشر لتأخر الكتاب.
تقديم لكتابي: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، يصدر الكتاب هذا الأسبوع عن منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت.
لا أستطيع إحصاءَ ما حصدتُه من مكاسب القراءة والكتابة. بالقراءة والكتابة استطعتُ أن أفكر خارج الأطر المغلقة، أحترم كلَّ رؤية عقلانيَّة، لكن لا أعبأ بالترهيب الذي يمارسه بعضُ المتحدثين والكتّاب، ممن يحاولون إحباطَك برأي من التراث، أو رؤيةٍ لفيلسوف يوناني أو فيلسوف حديث، أو نصٍّ لأديب شهير، أو قولٍ لمفكر معروف. تعلّمتُ من الكتابة ما هو أبعد مدى وأدقّ من القراءة، استطعتُ أن أصنع من كلماتٍ مبعثرة معاني مُلهِمة لحياتي. تعلّمتُ من الكتابة الوضوح، ورسمَ الحدود بين الأشياء، واكتشافَ جغرافيا المفاهيم وخرائطها، وحرّرتُ ذهني من وصايات الفلاسفة والمفكرين والكتّاب بمختلف أساليبِهم البلاغية، وأدواتِهم اللغويَّة، ومراوغاتِ كلماتهم. كانت الكتابةُ وما زالت منبعًا غزيرًا لتوالد أسئلةٍ حارقة لما تراكم في ذهني من أوهام، تولد منها أسئلةٌ أشدّ احتراقًا. كلما فكرتُ بعمق وأنا أكتب ضاق فضاءُ الأجوبة واتسعت الأسئلة، ذلك ما يجعلني أتهيّب اقتحامَ الكتابة، وأحاول ألوذ بخيمة القراءة.
يرى القارئُ في هذا الكتاب تفاصيلَ متنوعة عن رحلتي الطويلة بمعية القراءة وممارسة الكتابة. وتكشف له هذه الأوراقُ شيئًا من ذكريات هذه الرفقةِ الشيقةِ في القراءة والشاقةِ في الكتابة، وشيئا مما تعلمتُه من دروسهما الثمينة. ما ورد فيها فصلٌ من محطات حياتي المتنوعة، اخترتُ كتابةَ هذا الفصل قبل غيره من السيرة الذاتية، بوصفه يعبّر عن أثمن ما عشتُه في حياتي. لا أنكر أن صنفًا من الكتب نقلني من يقينٍ مغلق إلى لا يقين، وزحزح وثوقياتٍ متجذرة كالكائنات المتحجّرة المنهكة لذهني، تلك الوثوقياتُ أخلدتْ تفكيري للنوم. بعد يقظة الذهن تخفّف من أثقال مكثتْ غاطسةً مدة ليست طويلة في منطقةٍ مظلمة، لم يفضحها إلا نورُ التفكير العقلاني. كأن الذهنَ لحظة أزاحها تحرّك بصيرورة متواصلة، لا يلبث طويلًا، إن مكث في محطة، إلا ويغادرها عاجلًا في رحلةٍ لا تتوقف إلى محطةٍ آتية، صار ذهني لا يتطلع للتوقف في المحطات قدر شغفه للسير في الطريق، همُّه المضيّ في رحلة اكتشاف، صار الطريقُ فيها غايتَه لا المحطة. لا يفزعني تساؤل العقل، ولا أخشاه على الإيمان، ولم أحرص يومًا على حماية إيماني بتعطيلِ التفكير العقلاني النقدي. لم تعبث قراءتي وأسئلتي المتواصلة بأخلاقي، ولا بسكينةِ الروح، ولا بطمأنينةِ القلب. مَن يختزل الإنسانَ ببُعدٍ واحد تبدو له هذه واحدةٌ من المفارقات، أدرك جيدًا أنها تظهر بنظرةٍ عاجلة كمفارقة، وإن كانت النظرةُ المتأنية تكشف عن قدرةِ الطبيعة الإنسانيّة على استيعابِ الأضداد.
تعلّمتُ الكتابةَ بالكتابة، لا يتكون الكاتبُ بالتوصيات الساذجة الجاهزة، على طريقة: "كيف تتعلّم اللغة الإنجليزية بسبعة أيام". لا أعرف كاتبًا عظيمًا ولد في مدارس تدريب وورش كتابة. الكتابة الحقيقية عملية إبداعية تتطلب موهبةً، وشخصيةً صبورة، مضافًا إلى قراءاتٍ نوعية متواصلة، وتفكيرِ هادئ، وجَلَدٍ على تكرارِ تمارين الكتابة المملة، وعدمِ التعجّل بالنشر، والتضحيةِ بكثيرٍ من متع الحياة الحسيَّة الآنيَّة.
قراءة الكتاب الورقي ليستْ كلَّ شيء في تحصيلِ المعرفة وفهمِ العالَم، وليس من لا يقرأ الكتابَ الورقي اليوم لا يفهم شيئًا في العالَم. تتضاعف طرائقُ تلقي المعرفة، وتتبدّل وسائلُ القراءة وتتنوع أساليبُها، وتتضاعف باضطرادٍ أعدادُ القرّاء في عصر الإنترنت. قبل الإنترنت كان عددُ القرّاء محدودًا، صار أغلبُ من يستعمل تطبيقات وسائل التواصل يقرأ اليوم. لم يعد مفهومُ القراءة ضيقًا لا يعرف فضاءً خارج الورق، وسائلُ التواصل الجديدة وسّعتْ هذا المفهومَ وأضافت طرائقَ جديدة للقراءة، اتسعتْ فيها آفاقُها بعد أن تشارك السمعُ والبصرُ الوظيفةَ ذاتها. أكثر من تطبيق اليوم تحضر فيه الصورُ والمسموعاتُ بكثافة، وأحيانًا تأثيرها أبلغ من الكلمات، ويفوق عددُ المشتركين فيه ملياري إنسان. تطبيقات الذكاءُ الاصطناعي تعدنا بإضافات مبتكرة، تتغير فيها وسائلُ تلقي المعرفة، ولا ندري ماذا وكيف تكون غدًا. مفهوم القراءة يواكب تلك التطبيقات، ويتكيّف وفقًا لها ولكيفية استعمال القرّاء لها في تلقي المعرفة بصريًا وسمعيًا، كلُّ قارئ يختار طريقتَه المتناغمة واحتياجاتِه ورغباتِه وما ينجذب إليه ويتذوقه. مَن يستعمل هذه التطبيقات يمكن أن يتخذ النمطَ الذي يتوافق معه في القراءة، مَن يرى الكلمات يقرأها، مَن يستمع للنصوص والكتب المسجلة صوتيًا يمارس نمطًا ثانيًا من القراءة، مَن يشاهد الصورَ ويتأملها يمارس نمطًا ثالثًا من القراءة، مَن يرى مقاطعَ الفيديو وينصت إليها يمارس نمطًا رابعًا من القراءة. أعدادُ القرّاء اليوم كبيرة جدًا، الأطفال يبدؤون باستعمال الأجهزة اللوحية وتطبيقات وسائل التواصل قبل أن يتعلّموا القراءةَ والكتابةَ في المدرسة. يقرؤون بطريقة تتناسب ومرحلتَهم العمريَّة، كثيرٌ منهم يستعمل هذه الأجهزةَ بعمر لا يتجاوز السنتين، ويدمن أغلبُهم عليها بشكلٍ مدهش، رأيتُهم لحظة يستفيقون صباحًا إلى أن ينامون ليلًا لا يغادرونها.
كلّما اتّسع مجالُ القراءة اتّسعتْ بموازاته الكتابةُ بأنماطها وأوعيتها الجديدة. إذا ازداد علمُ الإنسان أدرك أن مجهولاته لا حصرَ لها، وتوالدت تبعًا لذلك أسئلتُه المتنوعة، وتنوعت وتعمقت إجاباتُه. لن تموت القراءةُ والكتابة ما دام الإنسانُ بحاجة إلى التعلّمِ واكتسابِ المعرفة، وإنتاجِ معنى لحياته، وحاجة إلى التسلية. ما كتبه الإنسانُ منذ اكتشاف الكتابة بكلِّ مراحل تاريخه ليس كثيرًا، ما لم يكتبه الإنسانُ ولم تخطّه حروفُه وتستوعبه كلماتُه لا حدود له. لم يتمكن أبرعُ الكتّاب من التعبير عن حالاتٍ تختنق في معانيها الكلمات. لا أتمكن من التعبير عن كلِّ ما تختزنه ذاكرتي، ولا يطيق وعاءُ اللغة جمرةَ ألمي لحظة يبكي قلبي. لا أستطيع البكاءَ أحيانًا على الرغم مما أصطلي فيه كالنار في داخلي. تخرس الكلماتُ لو أرادت النفسُ التعبيرَ عن كلِّ شيء في أعماقها. مثلما تعجز الكلماتُ عن القبض على معاني آلامنا تعجز عن تصوير حالاتِ ابتهاجنا وفرحِ قلوبنا.
لا يتحقق التفكيرُ والمعرفة بكلِّ قراءة. القراءة الجادّة من بواعث التفكير الخلّاق وإنتاج المعرفة، القراءة المحرِّضة على التساؤل والتفكير العميق تمكّن الذهنَ من التعرّف على حدود الأشياء والمفاهيم، وتوقظ قدراتِه على اكتشاف ما تشترك وما تختلف فيه عن غيرها. هذا النوع من القراءة يثير التساؤلَ، ويزحزح المسلّمات في الذهن، وينقله من الركون إلى بداهاتٍ ليست بديهية، ويقينياتٍ غير مبرَهنة، وقناعاتٍ جزافية، إلى إعادةِ النظر فيها وإخضاعِها للمراجعة ومساءلتها، وتقصي بواعث القول فيها وشيوعِها، وعوامل رسوخِها.
كلماتُ هذا الكتاب تدفقت كسيل، بلا توقفٍ وبلا معاندة. أرسلتُ الكتابَ للنشر بعد الفراغ منه، اكتمل الإخراج، فكتبتُ هذه المقدمة فورًا، بعد كتابتها سرعان ما انهزمت ثقتي بكلماتي، ضجرتُ فتركتُ الكتابَ عدة أيام، تريثتُ اسبوعين كي أعود للتحرير النهائي للمقدمة، لم أعد إلا بعد أن شعرتُ بالحرج من الناشر لتأخر الكتاب.
تقديم لكتابي: "مسرات القراءة ومخاض الكتابة: فصل من سيرة كاتب"، يصدر الكتاب هذا الأسبوع عن منشورات تكوين في الكويت، ودار الرافدين ببيروت.