د. أحمد الحطاب - الإنسان والبيئة، صراع غير مطمئن

الإنسان، عوضَ أن يتناسقَ ويتناغم مع البيئة بأبعادها الطبيعية، الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، فإنه دخل في صراعٍ مع هذه الأخيرة راغبا في بسط سيطرتِه عليها من خلال ما توصَّل إليه من علومٍ وتكنولوجيات. وراغبا كذلك في إرغامها لطموحاته اللامحدودة علما أن عطاءَها محدودٌ في الزمان والمكان، ولا يمكنها أن تُعطيَ أكثر. مما هي قادرةٌ عليه.

واعيا بكل هذه المعطيات، لقد أمضى الإنسانُ عدة عقود بحثا عن تعريف للبيئة يمكن، بواسطتِه، أن يتصالحَ مع الطبيعة لكنه، بكل أسف، كلما حاول، كلما سقط في نظرية "مركزية الإنسان" anthropocentrisme، بمعنى أن كلّ شيءٍ، في الطبيعة وفي البيئة، مُمَركز حول الإنسان. أو، بعبارة أخرى، إن الإنسانَ يُدرك البيئةَ كشيءٍ أو كعُنصر هو مركزه، وبالتالي، فإدراكُه لهذه الأخيرة ينطلق من مصالحه، من أنانيتِه، من طريقة عيشه… وإدراك البيئة من طرف الإنسان يختلف من جماعة بشرية إلى أخرى.

فبالنسبة لعامة الناس، فإن النمطيات stéréotypes، الكليشيهات clichés، الأفكار الجاهزة والمُسبقة idées préconçues et préjugés … هي التي تكون وراء تمثُّلات البيئة. وعلى سبيل المثال، فإننا نسمع، هنا وهناك، أقوالاً تلخِّص البيئةَ في التَّلوُّث، في غرس الأشجار، في الغابات، في المحيطات…

إنها فعلا أشياءٌ لها علاقة بالبيئة، لكنها ليست هي البيئة علما أن وسائلَ الإعلام لها، بالتأكيد، دورٌ في النشر الاجتماعي لمثل هذه التَّمثُّلات.

وفي الأوساط الفكرية والمثقفة، تمثُّلات البيئة تكون، اجتماعيا وفلسفيا، مرتكزة على أسسٍ نظرية أو على تيارات فكرية متموقعة في الزمان والمكان. في هذه الحالة، البيئةُ تُدرك، تارةً، ككل ما هو موجودٌ خارح الإنسان، وتارةًً، ككل ما يُحيط به.

فيما يلي، هذا تعريفٌ للبيئة بسيط، قصير ويُذكِّر الإنسانَ، في كل لحظةٍ وحين، أنه موجودٌ داخل الطبيعة : "البيئةُ هي ال"هنا" le là حيث يوجد الإنسان وليس في أي مكان آخر".

ال"هنا" هو التربة، الماء، الجو، عالم الحيوان faune، عالم النبات flore، الضوء، الضغط، الحرارة، المناخ، الرطوبة…، أي ما يُصطلح عليه بال"بيئة الطبيعية" environnement naturel.

ال"إنسان" هو الاقتصاد، التنمية، البنيات التَّحتية، وسائل الإنتاج، وسائل النقل، الثقافة، التِّكنولوجيا، الدين، العلم، المنشآت البشرية، السكن، الفلاحة، الصناعة، المعتقدات، السياسة، التيارات الفكرية، الاختراعات، الاستهلاك…، أي ما يُصطلحُ عليه بال"بيئة المُشيَّدة" environnement construit.

ال"هنا" وال"إنسان"، مع ما يحتويان عليه من مُكوِّنات، يُشكِّلأن كلاًّ أو نظاما معقَّدا من التَّرابُطات interdépendances والتَّداخُلات interconnexions حيث ال"إنسانُ" يلعب دورا حاسما أو مصيريا في الاشتعال الجيِّد أو السّيئ لهذا النظام. والاشتغال الجيِّد أو السيئ مرتبط ارتباطا وثيقا بنوعية تساكن ال"هنا" وال"إنسان". إذا كان ال"إنسان يحترم ال"هنا"، فالتَّساكن يكون مفيدا للاثنين. وإذا كان ال"إنسانُ" لا يحترم ال"هنا"، فالتَّساكن مسيئ للاثنين.

ومع ذلك وعلى امتداد وقت طويل من الزمان، فال"إنسانُ" بفرط ما أعماه علمُه وتكنولوجياتُه، ظن أن ال"هنا" مُسخَّرٌ له وحده وله وحده فقط. إلى أن أصبح مُحاطا بالعديد من المشكلات كالتَّلوُّث pollution ومختلف أنواع الإيدايات nuisances، وبالأخص، عندما تسبَّب في تغيُّر المناخ.

حينها، أدرك ال"إنسانُ" أنه لم يفهم ال"هنا" بما فيه الكفاية. وبالأخص، حينما أدرك أنه جزءٌ من ال"هنا". لكنه، عندما أدرك أنه جزء لا يتجزَّء من ال"هنا"، كانت الأضرار قد بلغت درجةً من الاختلالات غيَّرت وجهَ ال"هنا" (أي الطبيعة) وافقدته توازنَه. وهذا يعني أن الإدراكَ جاء متأخرا، أي بعد أن تقهقرَ ال"هنا" ودخل، أحيانا، مرحلةَ اللارِجعة!

ولا داعيَ للقول أن الإدراكَ المتأخِّرَ لماهية ال"هنا"، له تداعيات سينعكس مفعولُها، إن عاجلا أو آجلا، على الحياة، بصفة عامة، وعلى الحياة البشرية، بصفة خاصة. وهذه بعضٌ من هذه التَّداعيات :

1.الفصول لم تعد منتظمةً، كما كانت في الماضي؛
2.ارتفاع مقلق لحرارة الأرضَ خارجَ فصل الصيف؛
3.الفلاح يزرع أرضَه لكن المطرَ لا يأتي؛
4. عندما يأتي المطرُ، فإنه الطوفان؛
5.الماء، من جراء توزيعه على سطح الأرض، بكيفية غير متساوية، أصبح من المكوِّنات النادرة؛
6.الجفاف قد يصبح ظاهرةً بنيوية في جميع أنحاء المعمور تقريبا؛
7.الجو لم يعد طبيعيا من جراء ما اقتحمته وما تقتحمه من غازات غريبة عنه أدَّت إلى اختلال توازنه؛
8.التربة الأصيلة لم تعد تلك التربة المِِعطاءة والكريمة. لا تُنتِج إلا إذا شٌحِنَت بمختلف المواد الكيميائية الغريبة عنها؛
9.الغابات تتألَّم تحت ضغط جشع وشَرَه اللوبيات الاقتصادية والصناعية؛
10.المدن أصبحت عبارةً عن أماكن تُفرِزُ العدوانية الضغط والإيدايات nuisances؛
11.تبذير وإسراف واستهلاكٌ مبالغٌ فيه في الشمال، وفقرٌ وهشاشةٌ وتخلُّفٌ في الجنوب…

اليوم، الإنسانُ لا يتوقَّف عن الإساءة للبيئة، في شقها الطبيعي. ولعل أكبر ردَّة فعلٍ لهذه الإساءة هي تغيُّر المناخ الذي هو السبب في تصاعد حرائق الغابات والفيضانات الطوفانية والأعاصير المدمِّرة… كل ما يمكن قولُه، في هذا الصدد، هو أن الإنسان، بحكم فكره وتصرفاته الأنانية، دخل في صراع مع البيئة، بشقَّيها الطبيعي والمشيد. وما هو مؤكَّد هو أن مصيرَ هذا الصراع غير مطمئن. لماذا؟

لأن الإنسانَ، عندما يفكر في الأعمال التي سيمارسها داخل البيئة، يفكِّر فيها وكأنه يتموقع في مكان يوجد خارج هذه البيئة. وبعبارة أخرى، الإنسان، عندما يفكر في الأنشطة التي يمارسها داخل البيئة، يفكِّر فيها وكأنه في مكان والبيئة في مكان آخر. ولهذا قلتُ أعلاه : "البيئةُ هي ال"هنا" le là حيث يوجد الإنسان وليس في أي مكان آخر".

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...