مِن حكاياتِ التراثِ العربي، أنَّ قَصّاصًّا، قامَ يُحدِّثُ في الناس، قائلًا: "حدثني أحمدُ بن حنبل أنًّ النبيَ قالَ كذا وكذا" فسمعه ابنُ حنبل، وكانَ مارًّا في الطريقِ، فقال: "ما حدثتُك بهذا" فما كانَ مِنَ القَصَّاصِ إلا أن قالَ: "كأن ليسَ في الدنيا أحمد بن حنبل غيرك، لقد كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل".
هذه الإجابةُ المفاجئةُ تنقلنا مِن حالةٍ إلى حالة، كتلك التي نقلَتنَا إليها الفاصلةُ المنقوطةُ، وعلامتُها: (؛). وأعني: أننا نضع (نقطةً) لنُعلِن النهاية...! لكن إن أضفنَا إليها فاصلةً، وصِرنا أمامَ (فاصلةٍ منقوطة) فماذا سيتغير؟ هل قاومنا النهايةَ حينها؟ ذاكَ فعلُ الفاصلةِ المنقوطة من بين علاماتِ الترقيم.
نفترضُ أنَّ ذلك القَصَّاص وضعَ فاصلةً منقوطةً في أذهانِ الحاضرين، فانتقلَ بالمتلقي من نهايةٍ يَنتصِر بها ابنُ حنبل، إلى عالمٍ آخر، يَجعل من الحكايةِ واقعًا جديدًا، امتلأ بالتأويلِ، وصراعِ المذاهب حولَ الروايةِ والدرايةِ، وتسميةِ الرجال، وكيفيةِ تصديقِ الحكاية؛ حيث إنَّ القَصَّاصَ صَنعَ في (الواقع) حنابل كُثر؛ حين قالَ: "قد كتبتُ عن سبعة عشر أحمد بن حنبل". ونحن هنا أمامَ نقطةٍ فَصَلناها؛ لتكون النهايةُ غائمة، ومتجددة؛ فهل هي فاصلةٌ منقوطة، أم نقطةٌ مفصولة؟
ما يَهمّ المقالة أنَّ هذا الفعلَ الكتابي قد يَصنع الواقعَ؛ حين يتَّحِدُ موضعُ الكتابةِ بموضعِ جسدِ الفاعلِ في التاريخ. ومن ثمَّ يمكن الاستفادة من هذا التَصرّف، بغربلةِ تاريخِ الكلام؛ لهذا ممَّا يلفت الانتباهَ أنَّ الفاصلةَ المنقوطةَ هُمِّشَت في تاريخِ العلامات الكتابيّة، حتى صارَ الإملائيون يَتعمّدون إخفاءها، إلى درجةِ الاستغناءِ عنها بالفاصلةِ العاديّة. إلا أنَّ ثمة فرقًا مهمًا؛ هو أنَّ الفاصلةَ العاديةَ ليست ثائرة جذريّة، أي لا تُلغِي النهايات المتوقَّعة والمرادة، كما هو فعلُ الفاصلةِ المنقوطة. وربما هذا سببٌ لتهميشِ هذه العلامة الثوريّة.
في فلسطين تَشعّ الفاصلةُ المنقوطةُ، كوجهةٍ خَطِرة تُقلِق مضجعَ النهايات، تَشعّ كأنَّها دقيقةُ صُبحٍ بعد اشتدادِ العتمة؛ إذ كلما قيل "هذه هي النهاية"؛ جاءت فاصلةٌ منقوطةٌ؛ لتبدأ الأشياءَ التاريخيةَ من جديد، بل تبعثها من رمادِ الليل، فتجعلها نارًا للصباح. وإماراتُ هذه الشمس، هي الحروبُ المتوالية الخارجةُ بين حينٍ وآخر، من ركام تاريخٍ استعماريٍّ قديم؛ فهي التي تضع فاصلةً منقوطةً لتُصَبِّح الآخر؛ بغضِّ النظرِ -الآن- عن أسبابِ هذا التصبيح! والتصبيحُ -هنا- هو الإغارة صباحًا، وهي علامةٌ على استئنافِ ما بعد الليل/النهاية، كما قال الشاعر العربي: "نحن الّذون صبَّحوا الصباحا/يوم النُخَيل غارةً ملحاحا"، إذ لو كان الذين غِيْرَ عليهم ليسوا بنائمين صباحًا، لما كانَ للفاصلةِ المنقوطةِ معنى، بل سنكون أمامَ فاصلةٍ عادية. ويعني هذا أنَّ الذين غِيْرَ عليهم آمنوا بالنهايةِ ومن ثمّ حياتهم نقطة بلا فاصلة. والملاحظُ أنَّ هذا التصبيح يجعل الآخر يُعيد للفاصلةِ المنقوطةِ أثرها الحقيقي، فيغِيْر بدوره؛ انطلاقًا من أثرِ تاريخِ المكان. وكأنَّ الفاصلةَ المنقوطةَ مهمةٌ لذاتها، بل قد تُصنع حين يأتي وقتُها المراد. وهذا المعنى المذكور -هنا- عن حروبِ فلسطين، يَغضُّ النظرَ عن الدوافع الآنيّة التي يتحدَّث بها المتمذهبون بحسب معتقداتهم، لأنَّهم مهما اختلفوا الآن، سيظل السؤالُ المُوحَّد قائمًا في الأذهان: (كيف نبتَ الكيانُ الصهيوني في فلسطين)؟ ومن ثمَّ كلُّ إجابةٍ هي اعترافٌ ضمني بالفاصلةِ المنقوطة! وهذا السؤالُ - الذي يُذكِّر بمقولةِ محمود درويش: "إسرائيل تَسرق منا كُلَّ الأدوار: فمنهم القاتل، ومنهم الضحية"- يجعل من الفاصلةِ المنقوطةِ متبادلة في أذهانِ المتحاربين سواءً من جانب الفلسطينيين أو الكيانِ الصهيوني.
أخيرًا: ربما هذا السؤالُ أيضًا هو فاصلةٌ منقوطةٌ تُرهِقُ مفهومَ (التَصهين) الذي نبتَ في مكانِه التاريخي، ولكن بأسبابٍ ليست مِن سياقِ التاريخ اليهودي. ألا نتذكَّر هنا أنَّ الفاصلةَ المنقوطة متعلقةٌ بالأسبابِ تَعلقًا متينًا؛ حيث الجُمل المكتملة إذا تعاطفت وكانت الثانيةُ سببًا للأولى ظهرت الفاصلةُ المنقوطةُ؛ لتلغي نهايةَ الجملةِ الأولى، وتُؤسِس من مجموعِ الجُمَل نَصًا مختلفًا، وهذا ما لا تفعله الفاصلة العادية؟.
التفاتة:
هل يمكن أن يثور يهودٌ على عباءةِ الكيان الصهيوني، ثورةً تبتكر فاصلةً منقوطةً ثوريةَ الفكر والواقع تُغيِّر من سياقات الحربِ الثنائية فكريًا، اللاثنائية واقعيًا؟! إذ المعوَّلُ عليه في الفرقِ بين الثورةِ وفعلِ الثور؛ أنَّ الثورةَ مسبوقةٌ بنظريّةٍ، لها ارتباطٌ مُوحّد بالوعي والواقع المادي، وأمَّا الثور ففعله لا يخفى على أحد.