شهادات خاصة عبد الرزاق بوكبة - هشام ناجح.. الكاتب الذي صنعته "مهن القسوة"

مثل البرواق الذي ينبت في الأرض البور، وإليه ينسب "دوّار البراوكة" في المغرب، بدأت حياة القاصّ والرّوائي هشام ناجح قائمةً على المفارقات. فهشام ناجح مولود في الواقع منتصف عام 1973 لكنّه مسجّل في الأوراق مطلع عام 1974. مع العلم أنه مكث في بطن أمّه عامًا لا تسعة أشهر، حتى أن أمّه ظنّت أنه مات وسيقتلها معه، ولم تصدّق أنّه خرج إلى الوجود بعد عودتها من حقل الذرة على يد جدّته طامو. "لقد عرفت غير المتوقّع في حياتي حتى قبل أن أولد".

خبر هشام ناجح حياة البادية والمدينة في الوقت نفسه. فقد كان أبوه عاملًا في الدّار البيضاء العاصمة الاقتصادية للمغرب، ثمّ صبّاغًا في مدينة الجديدة المطلّة على المحيط الأطلسي، ثمّ بنّاءً للمدارس الخاصّة. ولم يمنعه إفلاسه في النّهاية، من أن يتزوّج أكثر من امرأة، قبل أن يعتذر لأمّ هشام ويستقرّ عليها، متّخذًا من هشام صديقًا يبوح له بكلّ أسراره وتطلّعاته وينتظر منه أن يكون مشهورًا.

"كان عليّ أن أدرس حتى أحقّق رغبة أبي في الشّهرة. وكي أدرس كان عليّ أن أترك بيتنا في البادية، وأسكن وحدي بيتًا في مدينة الجديدة، وأنا لم أتجاوز عامي الثّاني عشر. هناك بدأت أتعلّم التّضحية من أجل أحلامي، إذ لم يكن البيت مزوّدًا بالكهرباء، فكنت أستعين بالشّمع الذي تظهر آثاره على ملابسي عند كلّ صباح. لقد كنت أواجه الخوف من الأشباح ليلًا، وأواجه العيون المستهزئة في النهار. وبين الخوف والاستهزاء كان طموحي يكبر مثل عشبة شاءت الأقدار أن تكون بذرتها في شقّ إسمنتي".

غير أنّ هشام ناجح كان ينسى هذا كلّه، عند عودته في العطلة إلى دوّار البواركة. لأنه يتحوّل إلى أمير صغير بفعل رائحة المدينة التي فيهز فهو أوّل من أدخل كرة القدم إلى القرية، وأوّل من سبح بالمايوه في الوادي، وأوّل من تجرأ على شرب النّبيذ كما ورد في روايته "دوّار الكيّة". وكان يمضي بعض العطلة في بيع التّين الشّوكي والسّجائر حتى يجمع نقودًا يعود بها لمواصلة الدّراسة في المدينة.

جرّب هشام ناجح عام 1994 أن يمارس الهجرة غير النّظامية إلى إيطاليا، لكنّ محاولته باءت بالفشل، وهي الفترة نفسها التي طرد فيها من المدرسة الثانوية التي كان يدرس فيها، فتحوّل إلى ثانوية أخرى، لكنه فشل في افتكاك شهادة الباكالوريا/الثانوية العامّة، واضعًا بذلك حدًّا لمساره الدّراسي، "الذي كان يرهقني ويشعرني بالملل والقرف ويحدّ من حرّيتي التي أعشقها".

واشتغل هشام ناجح بعدها في ما يسمّيه "مهن القسوة". فقد كان بنّاءً وبائع سجائر وجامع طحالبَ بحريةٍ وميكانيكيًا في ميناء الجرف الأصفر وحمّالًا للقوارب في مواسم الصّيف وصبّاغًا ومعلّمًا للسّباحة في شاطئ مدينة الجديدة وبائعًا للنّعنع، "كل هذه التجارب قرّبتني من إنسانيتي. وجعلتني أدرك أنّ الحياة كما الموت تقتضي أن تسير فيها وحدك، دون الحاجة إلى الآخر ودون أن تؤدّي دور الضّحية". يضيف محدّث "الترا صوت": "سافرت في المغرب طولًا وعرضًا. وذقت مرارة الجوع، فقد كنت أكتفي أحيانًا بسندويتش طوال اليوم. بتّ أعرف الطبيعة الاستعارية للجوع من خلال جوفي. لهذا عندما قرأت رواية الجوع لكنوت هامسون كنت سعيدًا جدًّا".

كان هشام ناجح متأثرًا بالفكر اليساري وبمقولات المناضلين الفلسطنيين. وتفتّحت عيناه على الملاحق الثقافية والأدبية. لكن اطلاعه على رواية "موسم الهجرة إلى الشّمال" للسّوداني الطيّب صالح برمجه على الكتابة، "كانت هذه الرّواية قد خاطبت روحي من خلال اللغة ومن خلال الأحداث وهذا التجوال في الإنسان الحقيقي بعيدًا عن المساحيق المنمّقة بالأخلاق وزيف الحضور وتمظهرات الخواء".

بين الرّواية الرّوسية والرّواية الأمريكو لاتينية والرّواية العربية، راحت عشبة القراءة تنمو لدى هشام ناجح. وهي القراءات التي تحالفت مع تجاربه الإنسانية، فأصدر روايته الأولى، التي يصفها بالمتواضعة جدًّا "المدينة التي..." عام 2012. ثم مجموعته القصصية "وشم في السّعير" عام 2013، ثم روايته "دوّار الكيّة" عام 2016، ثمّ رواية "حديث الوجوه المائلة" عام 2017.

بعد عشرين عامًا من فشل محاولته الهجرة إلى الجنّة الأوروبية، تمكّن هشام ناجح من ولوج الفضاء الفرنسي، أي عام 2014. يقول: "انفتح لي العالم أكثر. وتلمّست طريقي إلى الحرّية التي تمور في دمي. هنا شرّعت في وجهي أبواب حياة جديدة، إذ لم أعد أفكّر في اليومي وكيف أحصل على إيجار غرفتي على السّطح أو غذائي أو ثمن قهوتي". يضيف: "كنت متعطشًا للحرية، فسافرت إلى ألمانيا وبلجيكا وإسبانيا والبرتغال. ووقفت على أمجاد الكتاب عن كثب. الكتابة بالمعاينة تجعلك سيد نفسك".

من خلال روايتيه المخطوطتين "في حضرة الشلك" و"كلاب فرنسا"، يقول هشام ناجح لـ"الترا صوت" إن جملته السّردية بعد الهجرة باتت مطواعة، وإنه أضحى غير متوجّس من ضغوطات اللّاوعي وتصعيداته. "في ظرف وجيز تغيّرت معالم الكتابة لدي من خلال الكمّ الوفير من الحرية والتحرر". وفي ظلّ هذه الحريّة كتب روايتيه المخطوطتين "في حضرة الشلك" و"كلاب فرنسا".

بات هشام ناجح يفهم الكتابة على أنها نكاية في الموت وفي ذاته نفسها، "فأنا أكتب للمزيد من الألم، ولأسافر في مجاهل نفسي للوقوف على العدوّ الحقيقي. لا أنتظر المجد بقدر انتظاري الإحاطة بمرآة العالم".


* نقلا هن موقع الترا صوت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...