[1] محمد عبده
لا ريب أن المذكورين من أعظم الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني. ويعنينا منه -هذا الفكر- واحدة من أهم شرائحه الثلاثة وهو الفكر العربي. وهنا أشير إلى مجموعة مقالاتي الموسعة, والمتوزعة على عدة سلاسل تعني بالإنتاجات الفكرية والعلمية والفنية, راعيت فيها التقسيم وفقا لمفهوم الثقافة / الدولة. ويمكن استخدام مصطلح آخر أكثر دقة من ذلك, لولا أنني لم أتفرغ للبحث فيه بعد (والبحوث المفاهيمية تأخذ وقتا وجهدا أكثر مما يسمح فيه تعجلي لكتابة هذه المقالات). وهو مفهوم جامع للوحدات الثلاثة المميزة للثقافات البشرية؛ الأمة, واللغة, والعرق في إطار الثقافة. أو اللغة والعرق والثقافة في إطار الأمة. والثقافة أو الأمة تشمل كذلك الدين في طياتها. الأمة المصرية العربية, واللغة العربية, والعرقية العربية. العرق يجمع الكثير من السلوكيات والأطر والقوالب الإجتماعية, بينما اللغة تحدد شكل التفكير دون أن تخرج كثيرا عن الإطار الاجتماعي الذي يحتضنها, والأمة هي التي تحتوي اللغة والعرق والدين والثقافة فتعطي شكلا لهذه الثقافة.
ولم ارتئي خيرا من الثقافة التي احتضنت فكري بادئة لهذه السلسلة من المقالات؛ أي الفكر المصري. ويمكن تقسيم الفكر المصري إلى ثلاث مراحل كبرى من تاريخه؛ الفرعوني والإسلامي والعربي.
الفكر الفرعوني, ولعوامل تاريخية, اندثر وإن ظل أثره باقيا, الفكر الإسلامي مهدد بالاندثار في الكثير من أجزاءه بسبب الممارسات القمعية والإرهابية ضده أو باسمه. الفكر العربي تنصل في الكثير من أوجهه من تراثه الإسلامي, وألتصق بالخطاب الغربي وإن لم يتخذ منه فكرا مستقلا. وفي أحسن الأحوال انشغل المفكرين, ولأسباب مفهومة, عن القضايا الإسلامية لتناول قضايا فكرية أخرى لا تقل أهمية أو مساسا بالراهن العربي (وربما بعضها قضايا إسلامية في صميمها). ويظل مع ذلك الفكر العربي, وبسبب جهود المشتغلين فيه, اتصالا لا انفصالا عن الواقع, إلا إذا تواجه أو تصادم مع مرجعه الديني الإسلامي.
ولهذا انقسم أكبر فلاسفتنا ومفكرينا في العصر الحديث إلى قسمين؛ التيار الفكري الإسلامي, مقابل الليبرالي العلماني أو الحداثي, ومحمد عبده, رغم دوره النهضوي الرائد, يعد محسوبا على نحو كبير على التيار الأول, فهو أكثر المذكورين ارتباطا بالإسلام,واحتسابا على التيار الفكري الإسلامي, رغم نقده بأنه مخرب للإسلام هو وطه حسين. وفي بواكير نشأتي العقلية كنت (وربما لازلت) اعتبر أن أي سلوك كلامي هو بالضرورة نشاط فكري أو ثقافي. وحاولت ربط ذلك بالعقيدة الإسلامية التي لم أكن أعرف بعد الكثير من فلاسفتها -وربما لم أكن أعرف ما هو علم الكلام- لأخرج بعد ذلك بقائمة عريضة من المفكرين الإسلاميين تشمل القراء (عبد الباسط عبد الصمد / محمد صديق المنشاوي / مصطفى إسماعيل) والخطاب (عبد الحميد كشك / أيمن صيدح / طارق السويدان) والمنشدين (النقشبندي / الطوخي / طوبار) والمفسرين (الشعراوي / ابن كثير / الطبري). وغير ذلك من الاشتغالات الفكرية التي نشملها في شخص وعقل مفكرنا هذا. الشيخ الإمام محمد عبده هو المثال الأمثل لتمثيل الفلسفة الإسلامية, وأحسب أننا لا نبالغ لما نقول أن كل شيوخ الإسلام الكبار الذي أتوا بعده, خرجوا من تحت مظلته. كنت أعددت قائمة للفلاسفة المسلمين تشمل مائة فيلسوفا, ثم تذكرت أن ما أقصده هو الفلاسفة الإسلاميين, وليس المسلمين فحسب, وإن كانوا مسلمين بالضرورة (لأن أي دارس للإسلام بغير أن يفكر (إسلاميا) يصبح أشبه بالمستشرقين كما دلل حسن حنفي). وعليه أعددت قائمة أخرى من مائة فيلسوف, ثم اقتصصت الحقبة التي ولد فيها محمد عبده وركزت على من أتوا بعده, وجدت أن نصف الأسماء في القائمة أتت تاريخيا بعده. وهم في المكانة يأتون بعده أيضا. كانت اختيارات عشوائية قريبة أو بعيدة الصلة بمحمد عبده, وكلهم تلاميذه -فكما نلمس الأثر الثقافي لأحمد خالد توفيق على قراءه وتلامذته يمكن القول أن كل شيوخ السلف هم خلف لمحمد عبده- وإن تقرب منهم (تلاميذه الحقيقيين) ونهل عن علمه كل من رشيد رضا ومتأخرا أتى تلميذه النجيب نصر حامد أبو زيد. محمد عبده قارئ ومنشد وخطيب حتى لو لم يسجل له شيء, واسمه مرتبط في ذهني بكلمة (شيخ) فهو ممن استحقوا عن جدارة لقب شيخ الإسلام من بعد أن تقلده. وثلاثة أسماء ارتبطت في ذهني بهذه الكلمة (شيخ) رغم ما ألحقها من ظلم؛ محمد عبده وسيد قطب وحسن البنا -والأخيرين تلميذاه أيضا وهما مؤسسا جماعة الإخوان المسلمين- فعلى الجانب الآخر, تترائى الصورة الذهنية السلبية له / لهم, والتي لازالت محافظة على نقاءها لديّ من غشاوة قد تغلف عقلي وتضلني عن الحقيقة في ظل هذا الانهمار المعرفي والثقافي من كل مكان. بالطبع هناك لهم بعض الأخطاء والشطحات الفكرية, لكنها ليست بمثل تلك الفجاجة ولا هي القصد من وراء مظاهر التطرف الإسلامي الذي أتى بعدهم وباسمهم.
المنجز الفكري الأكبر لمحمد عبده هو الإصلاح السياسي للدولة في ظل الفكر الإسلامي للعقيدة. وهو إصلاح لا يختلف كثيرا عن الاستخراب الغربي بإسم الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي مما تقتضيه أمور السياسة والدنيا, وهو ما لا يواف الإسلام لا قولا ولا فعلا. إلا أننا هنا يترائى لنا, وبعد قراءات أكثر مما يمكن أن نتواضع به, وبعد تجارب أكثر مرارة مما لا يكفيها كتب ومجلدات لنزع بعد السواد عن قلوبنا. عرفنا أنه -وبحسب رأينا الذي قد يكون خاطئ- من باب أولى للسياسية إتباع المدرسة الأولى المنبثقة عنها لفظة السياسة اشتقاقا عربيا أصيلا (حيث السياسية من سائس القوم). أي من باب الضرورة. وفق القاعدة الشهيرة (الضرورات تبيح المحظورات). وبالطبع هذا لا يعني التجرد من إنسانيتنا. بل الارتقاء بها لملائمة متطلبات العصر التي تقف على رأسها مجموعة من الفلسفات العقلانية لا تنفي ممارساتها الوحشية هذا العقل. ومرة أخرى كوني اتخذ من محمد عبده نموذجا إسلاميا, لا يعني أنني ألحق بالإسلام -نظريا- تهمة أنه دين يدعو للعنف. بل بالعكس, أدين بناء على ما أطرح كل الفلسفات والرؤى المتطرفة التي تدينه بالتطرف, وقد تجاوزت الإدانة إلى الحكم عليه بالإعدام منذ زمن طويل. إلا أن الإسلام يأبى أن يموت. لا يقل طرح محمد عبده, أو طرحي أنا, غرابة عن أطروحات الفلاسفة السبعة المذكورين. وخلاصته في ثلاث قواعد رئيسية
1-الضرورات تبيح المحظورات / أو الغاية تبرر الوسيلة
2-ليس في الإمكان أحسن مما كان / أو الجود بالموجود
3-غضب الأب من غضب الرب / أو غضب الحاكم فيه شقاء المحكوم
هذه ليست دعوة للعودة إلى البطريريكية (الأبوية) أو الأصولية الميكيافيلية, أكثر مما هي مساهمة للاستفادة من الخواص السياسية والإقتصادية والإجتماعية لهذه الثلاثية الفكرية القاعدية.
لهذه جمع -وحقق وقدم- المفكر الإسلامي محمد عمارة -وتلميذ محمد عبده أيضا- جميع نصوصه في أربعة كتب أساسية على خمسة أجزاء, حويت أهم أعماله
1-الكتابات السياسية
2-الكتابات الإجتماعية
3-الإصلاح الفكري والتربوي, والإلهيات
4-تفسير القرآن
5-تفسير القرآن ج2
فمحمد عبده مفسر من المجتهدين في تفسير القرآن ودوّن تفسيره في كتاب. وبقدرة كبيرة على الفهم والإفهام مزج في كتاباته بين تفسيره للنص القرآني وتنظيره للإصلاح الفكري والثقافي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي والقانوني والتربوي والأخلاقي والديني.
"من أعجب ما رأيناه في هذه الأيام,إن بعض طلبة العلم الكرام,الذين قد بذلوا جهدهم في التحصيل,وخلعوا ثياب أوزار البطالة والتعطيل,وافتدوا براحتهم لتنوير بصيرتهم,قد تحركت إلى المعالي همته,ودعته إلى التفنن غيرته,فأخذ في دراسة بعض الكتب المنطقية والكلامية, التي كان قد صنفها بعض أفاضل الملة الإسلامية,لما أنه قد علم -كما هو الواقع- أن العلوم المنطقية إنما وضعت لتقويم البراهين,وتمييزا لأفكار غثها من الثمين,وتبيين إن كيف تتركب المقدمات لإنتاج المطلوب,بعد البيان أن أي مقدمة يصح أن تؤخذ في البيان,وأيها يجب أن يقذف ويطرح,فهذا علم حقيق بأن يتخذ سلما لجميع العلوم,ولا يعدل عن طلبه إلا جهول ظلوم.
والعلوم الكلامية إنما هي أحكام لتأييد القواعد الدينية,بالأدلة العقلية القطعية,حتى يحق لممارس تلك العلوم أن يقتبس نور تلك المطالب من تلك البراهين,ويقنع بذلك الطالبين, ويردع المنكرين,على وجه لا يكون فيه ثبات الشيء بنفسه,ولا تنزيل العقل عن درجته في إدراكه وحسه,فلما سمع بذلك بعض أحبائه,وأصفيائه وأقربائه,الذين يؤثرون خيره ولا يرتضون ضرره,اهتز لذلك واضطرب,وأعجب كل العجب,وأخذه من الحزن على ذلك الطالب ما شاء الله أن يأخذه,وأوسع لذلك الطالب النصيحة,ويا لها من فضيحة أي فضيحة, قائلا: كيف تدرس علوم الضلالات,حتى تقع في الشبهات؟,ألا فارتدع,وبحالتك اقتنع,وكن كما كان الأب والجد,وجد فيما كانوا عليه,فمن جد وجد,فأجاب الطالب المسكين سؤاله, وطوى سجل علمه,ونشر جهله,ومع ذلك لم تدعه ألسنة حساده,المتألبين على عناده,ولم يزالوا مصرين على سفه الكلام,ورمي سهام الملام,يقولون إلى الآن في ضلاله القديم,لم يميز بين المنتج والعقيم. والمخدوش والسليم,حتى إن بعض ذوي الجهل من أهل بلاده, المخلصين في وداده,الساعين في إسعاده,وشوا بهذا الطالب إلى والده,وأنصحوا له القول بشأن ولده,قائلين: إن الرجل من إذا سمع أن ولدك يشتغل بالعلوم,تتناوله أيدي الهموم,يقوم ولا يهنأ له طعام ولا شراب,ويبيت ليله في اضطراب,ويظل نهاره في اكتئاب,أسفا على هذا المسكين كيف ترك جهالتنا,ولم يعمل على مثالنا,ألم تعلم أن الإنسان كلما قوى في العلم اجتهاده,وبدا له رشاده,يتزلزل اعتقاده,فكيف بك وهو ثمرة فؤادك,وأرشد أولادك؟!,فتحرك في والده عرق الحمية,وأسرع ذاهبا إلى مصر المحمية,ليرى هل صح الخبر,أو كذب الناقل وفجر,فوصل إلى ولده في الساعة الثالثة من الليل,ومن آن وصوله أخذ ينذر ولده بالثبور والويل,إن كانت لتلك الأقاويل صحة,فأجابه الطالب إن ذلك من كذب الناقلين,وبغى الحاسدين,وإنني من يوم سعيت في منعي,وقطع نقعي,لم تقر عيني بنظرة في رياض تلك العلوم,ولم أشف قلبي بأخذ منطوق منها ولا مفهوم,فلم يصدقه حتى تمسك بالحبل المتين, وأحلفه بالله رب العالمين,أن الناقل كذاب,وأنه في أمره غير مرتاب,فحلف وهو الصادق في حلفه,وكيف لا وقد حفته المكاره من بين يديه ومن خلفه,فلما أيقن بكذب ما نقل إليه حمد الله وأثنى عليه,وأصبح غده متوجها إلى بلده. فانظر إلى هذا الرجل مع كثرة انشغاله,واحتياجه لساعة ينظر فيها إلى أحواله,كيف ترك الأهم,وصرف الدرهم,وانقض انقضاض السهم,وأقدم إقدام الشهم,وما ذاك إلا لحادث أقلقه,وشناعة عظيمة خاف أن تلحقه,وداهية دهياء قد استفزته من أرضه,وبأس شديد طلب التخلص من حلوله بركضه,فإن سألت ما هذا الأمر الفظيع,والحادث البشع الشنيع؟"
[31]
نموذج عن مقال شيق, يوضح حجم الزخم والغزارة والعمق -وإن كان لا يخلو من إزادة وتكرار- والجدة والمعاصرة التي ألحقها عبده بكتاباته الصحافية القيمة, والقارئة للحدث, والمغيرة له بقدر علمه. فُيعرف أن محمد عبده تبنى أكثر من اتجاه فكري مختلف في حياته وفي الأخير إلتزم المقالة أداة للتغاير والتغيير محاذيا نفس حذو الفرنسي ميشيل دي مونتين أو البريطاني جورج أورويل, فكان من أبرع من كتب المقالة.
***
[2] طه حسين
طه حسين نموذج ممتاز للأديب الفيلسوف, في وقت انتشرت فيه هذه البضاعة بعالمنا العربي, وإن لم تفسد بعد حتى يومنا هذا؛ طه حسين ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم والعقاد. ويعد طه حسين من أهم المفكرين العرب في القرن العشرين. وأحد أبرز روّاد التجديد في الأدب العربي الحديث. لُقِّب بعميد الأدب العربي. درس في جامعة السوربون. رُشِّحَ خمسة عشرة مرة لجائزة نوبل. وأما عن لقبه فلأنه أخرج عدد كبير من التلاميذ الأدباء والمفكرين, المؤثرين والفاعلين في المجتمع. حظى الرجل بشعبية تشبه ما حصل عليه أحمد خالد توفيق اليوم, بعد أن قلده محبيه وقراءه وتلامذته لقب (العرّاب).
بحثت مطولا عن فيلسوف مصري يجمع بين العقل الشرقي والعقل الغربي, فلم أجد خيرا من أديبنا الكبير طه حسين. وعلى هذا, ومثل سابقيه, يتكون مشروعه الفلسفي بشكل أساسي من وجهين متقابلين متلاحمين وغير متنافرين. وقد يحسبه البعض ميالا للعلمانية, ناقدا لأي توجه إسلامي, إلا أنني اعتقد بأن طه ليس إلا امتداد لمشروع رفاعة الطهطاوي النهضوي من قبله, والذي شكل ضمن الثلاثي (الطهطاوي / الأفغاني / محمد عبده) المرحلة الأولى للنهضة العربية والمصرية, واستأنف طه حسين ومن عاصروه لقيام المرحلة الثانية للنهضة العربية. وقد عاصره مجموعة من خيرة عقولنا الواحد منهم لقلما يجود به الزمان علينا. وقد مزجت أعمالهم بين الفكر العالي, والساقط من علياءه إلى عموم الشعب خاصة مع معايتشهم لأزهى عصور الصحافة المصرية ونشر أفكارهم من خلالها. وجمعت أفكارهم بين الإصلاح الفكري والنقد الأدبي. ومن أولاء نذكر طه حسين, والعقاد, وأنيس منصور, والمصطفيين (مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي), وأحمد أمين. ويبدوا أن أبناء أمين من الفلاسفة كثيرون أسما في مصر؛ أحمد أمين, سمير أمين, جلال أمين, حسين أمين, عثمان أمين, وقاسم أمين الذي كانت نوال السعداوي امتدادا له. فيلاحظ القارئ في اختياراتي للسبعة المذكورين, أنني خدمت توجه معين منحازا لفرضية (أن الإسلام غالب) في نهاية أي مسار فكري سليم. ولا أعرف هل يغفر لي اعترافي ذلك تجاهلي للتيار المضاد وعلى رأسهم سلامة موسى وفرج فودة رائدا الإشتراكية المصرية, وقاسم أمين ونوال السعداوي رائدا النسوية المصرية. ومع ذلك,وعودة إلى مشروع طه حسين,نجد أن وجهيه هما
الحداث والتراث
مستخدما الأول لتحليل ونقد الأخير, وتمثل هذا التوجه الفكري في ثلاثة كتب رئيسية
1-في الشعر الجاهلي
أشهر أعماله,والتي وإن إختلف المفكرون حول عمق هذا الكتاب,إلا أنهم لا يختلفون في أثره الكبير,الذي بلغت به شهرته أن أحدث جدلا وصخبا واسعا لا يزال صداه يتردد إلى يومنا هذا.
2-مستقبل الثقافة في مصر
هذا هو المنجز الثقافي الثاني الرئيس في مشروعه حول قراءة التراث. وفي كل الكتابين اتخذ نقطة إنطلاق واضحة كمرجع له,أي "إبتداء من العصر الذي تشكلت فيه هذه الثقافة أي عصـر التدويـن الـذي عـده الجابـري الإطـار المرجعـي للثقافـة العربيـة الإسـلامية."
3-مقالات وفصول ونصوص أخرى
وفيها يتكشف أكثر ميله للغرب,الذي ينحرف في الكثير من المرات عن المنهج الوسطي, فعلى الصعيد الأدبي لاحظ عبد الرحمن بدوي تبنيه للمناهج النقدية الغربية والإستشراقية وتطبيقها على تاريخ الشعر الجاهلي,وفي نقده للنصوص الأدبية الحديثة. وعلى الصعيد العلمي ينادي بالمنهج الشكي متبعا فلسفة ديكارت. وعلى الصعيد السياسي كان "الحال أن أنظار طه حسين في الديمقراطية قامت على التمييز بين (معاني الديمقراطية) و(أواني الديمقراطية),بين (روحها) و(آلياتها). أما (أواني الديمقراطية) فقد علمناها: (الدستور) و(الانتخاب) و(الحياة النيابية)."
"فإذا كانت الثورة العرابية قد قامت على تعاليم الأفغاني ومحمد عبده,والإصلاح الديني فإن ثورة 1919 إستمرار لهذه التعاليم,فقد كان سعد زغلول تلميذا لمحمد عبده مع مزيد من الليبرالية والغربية وجرأة فيها تمثلت في الثورة الكمالية في تركيا في 1923 وإسقاط الخلافة في 1926. وأعلن دستور 1923 في مصر. وصدر عديد من المؤلفات تعبر عن الروح الجديدة مثل (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق في 1925 وهو نفس العام الذي تأسست فيه الجامعة المصرية و(في الشعر الجاهلي) لطه حسين في 1926."
ومن تحت معطف عميد الأدب العربي خرج زكي نجيب محفوظ. "وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها,والتي كانت تحتكر عندنا اسم (الثقافة)؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ,ولم أعد أقول -كما قلت مرارا مقلدا هيوم وجاريا مجراه- لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال,ابتغاء الوصل بين جديد وقديم".[32]
فطه حسين أول من تجرأ,وسدد نقده -حتى وإن كان نقلا عن الغرب- إلى كبار الشخصيات الإسلامية,بعد أن وضع القرآن نفسه تحت عدسة التحليل. أهم كتابين قام فيهما بذلك هما في الشعر الجاهلي (نقد القرآن) وعلى هامش السيرة (نقد السيرة). هذا غير تناوله لبعض الصحابة تقريبا على الضد تماما من عبقريات العقاد.
ولكن يقول حسن حنفي وكأنه يرد عليه
"لا يعني تركي تقليد القدماء أن أنتقل بالتبعية لتقليد المحدثين,وبالتالي لا أرى تغيير يذكر بل هو تقليد ولكن مع اختلاف السيد الذي أقلده. ولا فرق بين السلفي والعلماني إذا كان كل منهما مقلدا,الأول يقلد أحمد بن حنبل وابن تيمية والثاني يقلد ديكارت".
"يشكل طه حسين حلقة رئيسية في الفكر التحديثي الليبرالي العربي في منتصف القرن العشرين. يتوزع إنتاجه على ثلاثة مكونات
-الإبداع الأدبي وتاريخ الأدب
-الإسلاميات
-النقد الاجتماعي والثقافي"
[33]
على كل حال,مات طه حسين,والجدل حوله وحول أعماله لم يمت.
***
[3] عبد الرحمن بدوي
سبحان الله .. كأنه تسلسل لا ينقطع؛ فكان جمال الدين الأفغاني المعلم الأكبر, وتلميذه الأبرز هو محمد عبده, وطه حسين تتلمذ على يد محمد عبده وإن كان بشكل غير مباشر, وتتلمذ على يد طه حسين عدد كبير من المؤثرين في الفكر العربي على رأسهم عبد الرحمن بدوي.
هو أكبر ممثلي التيار الغربي (أو الغير إسلامي / الغير عربي,القومي أو العلماني),حيث استوعب عبد الرحمن بدوي جمع الفكر الغربي,وتنوعت عمليات التلقي الذهنية لديه ما بين قراءة وبحث وترجمة وتحقيق وشرح وعرض ونقد ونقل وتقديم وتأريخ وتحليل ودراسة وتدريس وتأليف.[TM4]
وشاركنا معه في مشروع قراءته الكبرى,فقدم لنا (خلاصة الفكر الأوروبي) كما أطلق هو على مشروعه الكبير -المشتق من مشروع أكبر- الذي ضمن عدة مؤلفات ضمن سلسلة بحثية جمعت الفلسفة الغربية وفلاسفتهم بين طياتها. لتشمل مؤلفاته النقلية سلسلة (الفكر الأوروبي)
ومنها
-ترجماته وتحقيقاته لمؤلفات أرسطو
-ربيع وخريف الفكر اليوناني (كتابان)
-أعلام الفكر الألماني
وسلسلة دراسات إسلامية التي عنى فيها بالفلسفة الإسلامية,ومنها
-أرسطو وأفلاطون عند العرب (كتابان)
-الإنسان الكامل في الإسلام
-الإنسانية والوجودية في الفكر العربي
-شخصيات قلقة في الإسلام
وغير ذلك كثير
ويمكن أن نعاين انبثاق مشروع فرعي حول (الترجمة) وما يعقبها من (شرح ونقد),وهو مشروع لا يمتزج مع المنجز الفلسفي لعبد الرحمن بدوي فحسب,بل ينصهر وسط ذهب متمثل في الإنتاج الفلسفي لمعاصريه من المفكريين المصريين وكبار المترجمين للفلسفة الغربية,الذين عنوا بها نقدا وشرحا وتقديما؛مثل إمام عبد الفتاح إمام,وفؤاد زكريا,وزكي نجيب محمود. هذا غير مشروعه الطويل,الذي امتد بطول عمره (وقد عاش 85 عاما) حول تأريخ الفلسفة (الغربية والعربية,القديمة والحديثة,المثالية والمادية) وكل إتجاهاتها ومدارسها وأعلامها ومواضيعها.
ومن خلال كل ذلك كوّن فلسته الخاصة. فلسفة مترابطة تميل للصيغة التعليمية,وقد نجح في ذلك كثيرا,وعبر جيدا عن اراؤه. وهو غزير الإنتاج حقا,تزيد كتبه على 150 عنوانا. وبذلك لم يسبقه أحد,ولا يضايهيه أحد من معاصريه,أو الذين أتوا بعده في ضخامة مشروعه,لا في غزارة الإنتاج,ولا في عمق التناول,فجمع الدقة والتنوع كما لم يفعل أحد على خارطة الوطن العربي.
"يمكن اعتبار بدوي حالة فريدة في الفكر العربي,من حيث حجم الأعمال المنشورة وتنوع موضوعاتها. إن هذا الرجل الذي عاش عمرا مديدا انقطع فيه -فهو لم يتزوج إلى مماته- بالكامل للبحث والتدريس والتأليف,وأتقن العديد من اللغات القديمة والحديثة حتى لم يبق مجال في الفلسفة إلا كتب فيه,مترجما وشارحا وعارضا. وهكذا شملت كتبه تاريخ الفلسفة بكامله من الفلاسفة اليونانيين ما قبل سقراط إلى هايدغر,ومن المدارس الكلامية الإسلامية إلى فلاسفة الإسلام والمتصوفة وأهل الفرق والملل."[TM5]
حتى أن حسن حنفي وقع في خطأ الحكم على مشروعه الأكبر مختزلا فيه فلسفة بدوي كونه لا يزيد عن فيلسوف موسوعي شامل,غلب عليه النقل,وفي ظل إنحيازاته (القرائية) عجز عن تكوين فلسفة خاصة. هذا رأي حسن حنفي (والذي يظهر إنحيازه القرائي) وليس رأينا, ولا ننسى تجنب الأخير الحياد في بعض النواحي بسبب الخلافات بين المفكرين الكبيرين بدوي وحنفي.
وبدوي خير من مارس الدور التعليمي الأكاديمي بمنظوره الأوسع,وبشقيه (التقديمي والتأسيسي),ومجمل أعماله تشكل مادة دسمة "لازالت تمد الباحثين بمصادر الفكر الغربي القديم والحديث,والتراث العربي الإسلامي,تأليفا وتحقيقا وترجمة,بما لا يستغني عنه الباحث,والمثقف,والمتخصص في أي من مجالات الدراسة الفلسفية". [TM6] أي أنه يمكن لأي دارس مجد العثور على ضالته في الكتب والدرسات التي خطها قلم بدوي. سواء أراد قاعدة تأسيسية لبحوثه الفلسفية,أو أراد مرجعية علمية لدعم إحدى أطروحاته الفكرية. "فأعماله الأكاديمية دفعت إلى حد بعيد البحث الفلسفي,وأفادت منها الأوساط الجامعية والثقافية إجمالا".[TM7]
ضف على ذلك كونه أستاذا,مارس أستاذيته,في أروقة الجامعات,وتتلمذ علي يديه,ومن خلال كتبه أو الإتصال المباشر عبر محاضراته أو ندواته,الكثير جدا من المثقفين ممن قامت الثقافة المصرية على أكتافهم لاحقا,وساهموا في حقول الفكر المختلفة من بعده,ومننهم من يجري احتسابهم حاليا ضمن المفكرين العرب إن لم نقل الرواد. ويمكن أن أعد لك,ودون مبالغة, نحو أربعين إسما صار له ثقله من بعده,بعد أن تتلمذ على يده. وهو الأحق بـ (جعل الشباب يفكرون). التي قلدها مهاويس الروايات الشبابية على أحمد خالد توفيق كونه (جعل الشباب يقرأون). ماذا جعلهم يقرأون؟. المزيد من الروايات الشبابية التي غزت النزعة الثقافية لإلغاء الآخر,والبقاء على السطح (مع ذلك لا ننكر أن للعرّاب أثر إيجابي نتعرض في موضع آخر).
وامتدت أستاذيته -أي بدوي- من داخل قلاع الجامعات وأروقتها,إلى ساحات وميادين الكتابة الصحفية / السياسية. في فترة شهدت تحول كبير في مجال النشر الذي مزج بين الكتابة التنظيرية والكتابة الصحافية. "فقد بدأ بدوي نشاطه العلمي في لحظة تاريخية اختلطت فيها الكتابة العلمية العربية بالصحفية بالأدبية،كما في مؤلفات العقاد ولويس عوض وتوفيق الحكيم مثلًا،فصار من أولوياته أن يساهم في صوغ سياق مرجعي أكاديمي يتمتع بصفتي التنوع والدقة،التنوع نظرًا للتنوع الأصلي للمجالات الفلسفية،التي لم تكن قد تأسست مدرسيًا بشكل علمي صارم بعدُ،والدقة من أجل تحقيق هذه الصرامة العلمية. وهو التوسع الأفقي لبدوي،الذي شمل كل تخصصات الفلسفة المعروفة في عهده تقريبًا،من تاريخ الفلسفة بعصورها المختلفة،إلى مناهج البحث،إلى الموسوعات،إلى الاستشراق،إلى الإسلاميات، وإشكالات الفلسفة المركزية كالسياسة،القانون،الأخلاق،المنهج،المصطلح،المذهب."[TM8]
وله دور سياسي بارز ربما يستحق وقفة,ولكن ليس هنا المجال للتفصيل أكثر.
وفي كل هذا هو يمارس أستاذية حقة جديرة بأفلاطون الذي لا يمكن لأي دارس للفلسفة اليوم,أن يصبح فيلسوفا دون المرور على مؤلفاته / محاوراته (أفلاطون).
وثانيا,وبعيدا عن فلسفته النقلية (البحثية والتعليمية),وبعد أن عنى بنقل الفلسفة الوجودية إلى العربية وتعريف قرائها بأهم أعلامها,كوّن فلسفته الخاصة,وهي فلسفة وجودية -تبناها بعده تلميذه أنيس منصور- عرضها في مؤلفاته المعنونة؛الزمان الوجودي,دراسات في الفلسفة الوجودية,المثالية الألمانية,الإنسانية والوجودية في الفكر العربي. وتشكل العناوين الأربعة أهم كتبه في هذا السياق. "فارتبط بالتيار الفلسفي الوجودي,الذي عرف به في أعماله الفلسفية الأولى واختاره مذهبا خاصا به,وأراد تأسيس مرجعية تراثية له في أقوال الصوفية وشطحاتهم."[TM9]
وبالفعل وجد بدوي أرضية مشتركة بين المدرسة الصوفية الشرقية والمدرسة الوجودية, وحدد بعض السمات المشتركة بين الفلسفتين,ومن هذه السمات أدب (القلق) الذي تناوله في كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام). ولم تتوقف إسهاماته الوجودية عند هذا الحد.
المفارق في فلسفة بدوي الوجودية,أنها لم تنطلق من مؤسس الفلسفة الوجودية الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر. بل ولم يعترف به فيلسوفا وجوديا أصلا. واعتمد على كتاب مارتن هيدجر الوجود والزمان,وما سبقها أو لحقها من أعمال مهمة في الفلسفة الوجودية الألمانية.
ولم يكن بدوي منفصلا -وكذلك الستة الآخرين المذكورين في القائمة- عن الفلسفة الإسلامية, الذي أهتم بها في شطري حياته,أي في فترة مبكرة وأخرى متأخرة من مسيرته الفكرية الطويلة. وإن لم يتحول هذا الإهتمام إلى أرضية تحول فلسفي,أو بداية موقف فكري منسجم وواع.
ولهذا جرى تقسيم تحولاته الفلسفية في سياق الوجودية إلى
الوجودية الغربية
والوجودية الإسلامية
في سياق آخر,تمثلت محطة ثالثة لمثالية بدوي (الوجودية / الإسلامية) في المثالية الألمانية التي استغلها في ممارساته السياسية لـ حصار اليسار. ودون الابتعاد كثيرا عن الفلسفة الإسلامية داخل فكر بدوي,نقول أنه جمع الثلاثة.
ولا يجب أن نغفل دورا آخر مارسه بدوي,وساهم فيه,حتى صار لا يجوز التعديل لا أقول عن أي ترجمة صدرت له,بل ويمكن القول أنه لا يجوز التعديل على أي كلمة مرت أسفل قلمه. أقصد بدوي بصفته ناقدا أديبا. وبالطبع نحن لا نمنع أحدا من تصحيح أي خطأ قد يقع في مؤلفاته عموما,فلا أحد منزه عن الخطأ,وإنما ذلك يستلزم باحثا عتيدا متمكن من عدته, ومستعدا لبذل جهود مضنية في سبيل التحقق مما أفنى بدوي عمره لتحقيقه والتحقيق فيه.
في الأخير ربما قد يختلف أحد معي حول الستة الآخرين المذكورين هنا,ولي على كل واحد منهم العديد من الإنتقادات التي قد تتجاوز مجرد تحفظات,لكن من الصعب أن يختلف أحد حول مكانة عبد الرحمن بدوي,ودوره البارز في فترة شكلت مرحلة ذهبية من تاريخ الفكر الحديث بالنصف الأول من القرن العشرين,حيث لمعت أسماء مثل عبد الرحمن بدوي,حسن حنفي,طه حسين,والعقاد,الحكيم,ونجيب محفوظ,وفؤاد زكريا,وزكي نجيب محمود.
على الناحية الأخرى,وكما أدخل عبد الرحمن بدوي -والطريف أن الإثنين من دمياط- الوجودية إلى مصر والفكر العربي,أسس زكي نجيب محفوظ للفلسفة الوضعية,وهاجم كل أثر للفلسفة الميتافيزيقية في الفكر العربي. ليشكل الوجه الآخر لمثالية بدوي الوجودية,حيث مادية زكي الوضعية. ويرجع إنشغاله بها,إلى نفس السبب الذي هم به بدوي والمسيري بشكل خاص,وهي إشكالية كبرى أثارها وأهتم بها كل المحدثين من المفكرين العرب منذ نهضة محمد علي والأفغاني والطهطاوي. وذلك لإخراج مصر من عصور التبعية (البطلمية والبيزنطية والإسلامية والفرنسية والبريطانية) التي توسطت بين الدولة المصرية الفرعونية والدولة المصرية الحديثة. مخلفة أثرها الواقع دوما بعد الاحتلال من الانحلال,في كل عصر وزمان. أي المشكلة المطروحة في التسأؤل الشهير (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟).
لذا,ارتكن زكي نجيب محمود إلى الوضعية المنطقية أساسا فلسفيا وعلميا لتحقيق نهضة مصرية عربية. وجمع الشواهد على ذلك,تلك الشواهد هي نفسها التي تشكل المراحل الثلاثة لفلسفته الوضعية
أولا النظر إلى تخلف العرب في الزمن المعاصر,و"نقد الحياة الإجتماعية في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري،ويتمثل هذا النشاط في الكتب الثلاثة التي اشترك في تأليفها مع أحمد أمين؛قصة الفلسفة اليونانية,قصة الفلسفة الحديثة,قصة الأدب في العالم."[TM10]
ثانيا النظر إلى تقدم الغرب في الزمن المعاصر,وبعد سفره إلى أوروبا "دعا زكي نجيب إلى تغيير سلم القيم إلى النمط الأوربي،والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر،ولاشتمالها على جوانب إيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية،ولها تقاليد في تقدير العلم وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان،وهي قيم مفتقدة في العالم العربي. وفي هذه الفترة دعا إلى الفلسفة الوضعية المنطقية ونذر نفسه لشرحها وتبسيطها،وهي فلسفة تدعو إلى سيادة منطق العقل،وإلى رفض التراث العربي وعدم الاعتداد به."[TM11]
وفي هذه الفترة تتضح معالم مشروعه الفلسفي الذي "بدأ بهدف جلي هو (هدم الميتافيزيقا) واستنبات التحليل النقدي منهجا للفكر العربي للقضاء على اللامعقول,معرفا بهذه التيارات الفكرية الجديدة التي أرادها بديلا عن الثقافة التراثية والمعتقدات الغيبية" [TM12] استئنافا لما بدأه في المرحلة الأولى حيث توضحت أكثر,وتبلورت رؤية أكبر,لديه حول الأزمة الراهنة في مجتمعنا العربي. فأرجع أسبابها إلى الميتافيزيقا عاملا أول حيث الميل إلى الروحانية الغيبية والإبتعاد عن المادية العقلانية بسبب الاستغراق في التبعية النقلية عن الموروث الديني الغير قابل لأي تفكر خارجه بسبب حيثيات الفهم الخاطئة تجاهه -وهذا حكمنا- لذا كان زكي نجيب محمود "داعية للوضعية رافضا للتراث ولقيمه الدينية"[TM13]
وفي هذه الفترة من مسيرته أحدث -هو في فكره- وصال بين المرحلة الأولى (الهدم والنقد) والمرحلة الثانية (البناء والنقل) عن الفلسفة الغربية,وقد تجلت أكثر في كتبه (قشور ولباب) و(المنطق الوضعي) و(نحو فلسفة علمية) حيث "الحسية والتجريبية الصريحة؛حصر الحقيقة في الحسيات وقياس المعارف والقيم بمقياس النجاعة العملية."[TM14]
ثالثا,وبعد التوسع في قراءة الفلسفة الغربية,تحول جذري في مشروع زكي نجيب بعد أن أدرك عيوب الفكر العربي والغربي معا,ووصل إلى نتيجة مفادها "أن الميزة الأساسية للحضارة الغربية منذ العهد اليوناني هي العقلانية والتجريبية,في حين تتميز حضارة الشرق الأقصى بـ (الحدس الصوفي),أما حضارة الشرق الأوسط فقد جمعت بين الأمرين (حدس المتصوف ومنطق الفيلسوف)."[TM15]
لذا وجب الجمع بين إيجابيات كلا الطريقتين في التفكير. ولهذا شهدت المرحلة الثالثة "عودته إلى التراث العربي قارئا ومنقبا عن الأفكار الجديدة فيه،وباحثا عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم."[TM16]
هذه المرحلة بالذات تعيد طرح إشكالية التوفيق بين العقل والنقل,الحداث والتراث,الشرق والغرب. إشكالية تحولت إلى ظاهرة مع تكرار حدوث التحول من الحث إلى الغرب للرجوع إلى التراث بين مفكر وآخر.
وعودة إلى عبد الرحمن بدوي
"وإن كان أغلب الباحثين العرب لا يتنازعون فيما بينهم على هذه الحقائق السابقة،والمتعلقة بشكل أساسي بمرحلة بدوي قبل حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 في مصر،وتحديدا قبل دستور 1956 وإلغاء دستور 1954 الذي شارك في إعداده،ونزاعه مع حكومة الضباط الأحرار،فإنهم أيضًا لا يكادون أن يتفاوتوا فيما هم عليه من حال الدهشة أو التساؤل إزاء مؤلفات بدوي الأخيرة في المرحلة التالية،التي هاجر فيها بدوي من مصر ليعمل في الكويت وإيران وليبيا وليقيم في فرنسا ثم يعود في ختام حياته إلى مصر. هذه المرحلة الأخيرة هي التي أصدر فيها سلسلة الدفاع عن الإسلام الشهيرة بالفرنسية،وخاصةً: (دفاع عن القرآن ضد منتقديه)-1988 Défense du Coran Contre ses critiques و(دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره)-1990 Défense de la vie du Prophète Muhammad contre ses Détracteurs. اللذين وجدا لهما المتحمسين من التوجهات والمؤسسات الأصولية الإسلامية،كما وجدا ناقدينَ ومندهشينَ. مما أيّد على الفور أطروحة شبه-محايدة تفترض أن المفكر العربي المعاصر لا بد وأن ينتهي إلى الإسلام بشكل أو بآخَر،مهما غالى في نقده أو تجاهله،والقائمة طويلة تحت هذه الفرضية: زكي نجيب،سيد قطب،خالد محمد خالد,محمد عمارة،مصطفى محمود،محمد عابد الجابري (بعد تفسيره للقرآن) إلخ."[TM17]
***
[4] المسيري
انشغل المسيري بالقضية الفلسطينية (وما أحوجنا إلى ذلك بالنظر إلى الأحداث الجارية في غزة وطوفان الأقصى) وشكلت مشروعه الفكري الأهم,وقد تخلى أثناء دراستها عن أي منظور إسلامي قبلي قد يغرقه في نوع من الخطاب البكائي من جهة,أو الخطاب الإرهابي من الجهة الأخرى,أو حتى الخطاب التبعي الذي حذر منه زكي نجيب محمود. وقد تخلى أيضا عن أي منظور عربي قد يوقعه في نوع من الخطاب القومي. وقد تخلى عن أي منظور يهودي قد يوقعه في نوع من الخطاب الصهيوني (مع أو ضد). وقد تخلى عن أي منظور علموي قد يوقعه في نوع من الخطاب السلطوي يدعي احتكاره للعلم. لقد استطاع المسيري في تناوله للقضية الفلسطينية أن يتجرد من أي تحيزات مسبقة قد يقع فيها أي من طرفي الصراع العربي / الإسرائيلي. بل إن مسألة التحيزات تحديدا قد تشكلت دراسة هامة في موسوعة (إشكالية التحيز) التي حررها في سبعة مجلدات. والتي شكلت بدورها منطلقا لإعادة صياغة كل بحوثه السابقة في منهج محكم وسليم. كما شكلت موقفا نقديا ذو مرجعية أيديولوجية تجاه الغرب,نفس المرجعية التي انطلق منها حسن حنفي مؤسسا علم الاستغراب.
نقلت الأديبة اليمنية هند هيثم,عن الأديبة الأمريكية من أصول أفريقية موريسون "ما مغزاه أن أوروبا البيضاء،ووريثتها أمريكا البيضاء،كانت من يُعرِف العالم على مر التاريخ وفقاً لرؤيتها الخاصة،ورغبتها التفضل بالإنعام على من شاءت،وحرمان من شاءت،ومحاولة المُنعَمِ عليهم والمحرومين أخذ حق التعريف بأيديهم،وصياغة كيوننتهم من دون الحاجة إلى اعترافٍ أبيض بها،يُقلق البيض،حتى من يفترض أنهم المتنورين منهم."[TM18] أي أنها جمعت بين المشيئة (الذات) والشيئية (الموضوع). حيث يشاء الغرب أن يصير العرب شيئا.
وهذه الذاتية في النقد,بإعتراف الذات العربية,ليس مجرد تحيز أعمى,بل هو موقف مضاد له ما يبرره "فقد اتهم نقاد الاستشراق هذه المدرسة الاستشراقية من منطلقات تبعد عن المسائل العقلانية أو الفكرية,إذ اعتبر المستشرقون رجال سياسة واستعمار وأن الأسباب التي تحثهم على الدراسة لا تخرج عن كونها نوازع سياسية أو أيديولوجية -وليست نوازع حيادية- على سبيل المثال. يضاف إلى ذلك مقولة احتقار الاستشراق للشرق والتعامل معه بكراهية وعلى نحو سلبي."[TM19]
وهو في تحقيق ذلك لم يلتزم الجهة المضادة إلا إحتياجا لبعض منازع أيديولوجية تصنع الهوية الإنسانية والثقافية لأي مفكر كضرورة إنسانية لا يمكن الخروج عن سياقها,ولكنه لم يتضرر كثيرا من ذلك لأنه تبنى لنفسه تيارا فكريا سار عليه هو المذهب التحليلي. الذي لم يلتزم به كما هو نقلا عن الغرب. بل أعاد قراءته وصياغته ونحت مفاهيمه وتوليفها مع أخذ -أو ترك- عن مفاهيم المدرسة التحليلية.
قام المفكر السعودي إبراهيم سكران بتحليل منجزه ونموذجه الفكري حيث "يمكن القول أن منطقتي العمل في كتابات المسيري الفكرية هما: الأول دراسة وتفسير الظاهرة اليهودية معرفيا,والثاني نقد الحداثة الغربية ومنتجاتها الفكرية,ومع ذلك فيمكن القول أيضا أن هاتين المنطقتين بالنسبة للمسيري هما مجرد (عينة بحث) أو (حالة للدراسة) للموضوع الأثير لدى المسيري والذي أغرم به واستحوذ على تفكيره وصار دائم اللهج به وهو قضية (التفسير بالنماذج) أي بلورة المركبات المفهومية وقراءة الظواهر بها,فولع المسيري بالنموذج التفسيري يظهر غالبا أسخن بكثير من حماسه للموضوع محل التفسير ذاته,فهو يبدو لقارئه أحيانا كصانع يحرث أرضا معينة لا لأولوية هذه القطعة من الأرض بعينها بل ليريك مقدرة فأسه.
وبسبب هذا الميل للنماذج التفسيرية تميل كتبه الأخيرة إلى شكل من أشكال المعجمية لأنه يهيكلها على النماذج التفسيرية ويكرر شرحها,فالوسائط المفهومية المستعملة في القراءة والتفسير والتركيب هي مركز الإهتمام ومحور العناية وهي الموضوع السعيد في خطابه."
[320]
أما عن القضية الفلسطينية,وهي واحدة من أهم سبعة قضايا -أو ثلاثة- قد تشغل الفكر العربي,تمثل اشتغاله الأساسي بها أولا في بيان التعارض بين طرفي الصراع؛القضية الفلسطينية والقضية الإسرائيلية,فتبقى حقيقة أن تقديم الأخيرة عبر جهازها الإعلامي الهائل يغطي تماما على وجود الأولى أصلا,وتحيز أوروبا / أمريكا لإسرائيل أمر واضح, وتضامنها مع أوكرانيا مثال فاضح.
وثانيا في بيان التعاضد بين الديانة اليهودية والسياسة الصهيونية. فالديانة اليهودية إلى جوار الديانة المسيحية في المصادر الأساسية للفلسفة الغربية (بينما يشكل الإسلام مرجعيتنا الأساسية),والسياسة الإسرائيلية نظام يحقق تماما غايات السياسات الغربية الإمبريالية (التوسعية),فهو النجاح الاستيطاني الوحيد للنظام البريطاني / الأمريكي,وإخفاقات فيتنام وباكستان تشهد على ذلك.
وثالثا,ولأن هناك طرح قوي على الصعيدين الديني والسياسي يؤيد وجود إسرائيل على حساب فلسطين,والأهم لأن المعرفة قوة,فإن الإكثار في الكلام فيما جفت فيه أحبار الأقلام لا يعدوا كونه مجرد (سفسطة فارغة) طالما هذا (الحق) لا يتبع قوله بفعله من المطالبين به.
ومع ذلك,تظل الصلة وثيقة بين الشق الكلامي,والشق الفعلي,بل إن المسألة تحولت إلى لعبة كلمات تمثلت فيها لعبة الحياة والموت,البقاء والزوال. "لأن أحد معالم الكارثة الثقافية - السياسية التي نواجه اليوم,تكمن في الطلاق بين الكلمات والمعاني,وفي ابتذال الكلام,من أجل محو الفوارق بين الجلاد والضحية"[TM21] وهو أمر واضح في مصطلح (معاداة السامية) وقد خص المسيري المجلد الأول من موسوعته لبحث مثل هذا العبث والألاعيب الكلامية. وقد طرح الباحث في مقدمته للموسوعة بعض هذه المفاهيم وبين أوجه التعارض بها.
تعد موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية) أهم أعماله,ويرى الباحثين أنها أهم عمل موسوعي كتبه عربي تناول الإستعمار اليهودي بالتفصيل,وهي تمتاز عن كتابات الرباعي المصري رمزي المنياوي ومجدي كامل ومنصور عبد الحكيم والحسيني الحسيني معدي التي توصف عادة بأنها كتابات سطحية (رغم أنها لا تخلو من معلومات وملاحظات وآراء مفيدة). أنا أرى وكذلك المسيري -ليس لدي معلومة مؤكدة بأنه مصري- نفسه في مقدمته لموسوعته,أن هذا العمل (موسوعة المسيري) إلى وقته عد عملا غير مسبوق,وهو أفضل منجز نقدي حول موضوعه. ليس على الصعيد العربي فحسب,بل وقد تجاوز كل المنتج الفكري الغربي كذلك. وإلى يومنا هذا لم يطرح ما يتخطى في قيمته وأهميته هذا الكتاب الضخم.
***
[5] حسن حنفي
"يتمحور مشروع حسن حنفي حول مقاربة (التراث والتجديد) التي تشكل بالنسبة إليه مشروع عمر كامل,وممارسة معرفية وفلسفية متكاملة,وإستراتيجية نضالية كثيفة. ويتوخى حنفي من هذا المشروع تجديد الدين والنهوض بالأمة من خلال العمل على (جبهات ثلاث) هي: العلاقة بالتراث,والعلاقة بالغرب,والعلاقة بالواقع". والواقع,أن أغلب المنظرين والمفكرين والنقاد وعلماء الإجتماع,في مختلف المجالات الثقافية أو السياسية أو العلمية أو الفنية لا يخرجون في تناولهم عن الجهات الثلاث,ولا يتوقفون عن نقد الجهات الثلاث في آن واحد. "واستخدم حسن حنفي أربع أدوات منهجية هي: التحليل الشعوري لإعادة بناء العلوم العقلية والنقلية,ولاهوت التحرير من أجل إعادة بناء الشعور الديني,وعلم الاستغراب لتحجيم الغرب وتحويله لموضوع للقراءة والتجاوز."
وكما وضحت في مقدمة المقال,كانت هذه محاولة متواضعة لتقسيم أكبر فلاسفة مصر الحديثة يمين أو يسار الإسلام. اليميني إسلامي,واليساري غير إسلامي. ولما كان بدوي وزكي والمسيري ممثلين عن التيار اليساري (قبل تبنيهم فكرة الفلسفة الإسلامية الحديثة), كان حسن حنفي أول ثلاثة ممثلين للتيار الإسلامي. ولأني تحيرت فيه هل هو إسلامي (أي يضع القضايا الإسلامية وعلوم الدين ضمن أولوياته الفكرية) أم غير إسلامي (ولاحظ هنا أن مفهوم غير إسلامي لا يعني بالضرورة ضد إسلامي,حتى ولو كان ذو توجه علماني) بحيث يتناول القضايا العربية الأخرى التي قد تشغله عن مسائل فقهية أو صوفية أو كلامية. ولهذا وضعته في مرتبة وسطى حسبما أظن حلقة وصل بين التيارين. وقد تمثل منجزه الفكري الإسلامي في مشروع التراث والتجديد الذي يشكل بالفعل حلقة وصل بين التراث والحداثة وما يتبع كل منهما من ثنائيات متعارضة نسعى (بحكم موقعنا الثقافي الجغرافي المميز) إلى التوفيق دوما بينهما.
وهو إتجاه وسطي يكاد يكون نتيجة حتمية لكل المذكورين في قائمتنا,وغيرهم بقائمة طويلة من المفكرين المصريين والعرب تشكل ظاهرة فريدة من نوعها.
1-أحمد أمين وتأريخه لأعلام الإصلاح الوسطي
2-مصطفى محمود وتنظيره للوسطية الإقتصادية بين الشيوعية والرأسمالية
3-العقاد والتعريف بالفلسفة الإسلامية
ما يأتي كأنه امتداد لهيجل وثلاثي الطريحة والنقيضة والجميعة,أو سقراط وتعريفه للفضيلة أنها وسطا بين رذيلتين.
وعبر مخطط ذكي أسس حسن حنفي علم الاستغراب كرؤية مضادة لرؤية الغرب (لنا), والذي اشتمل على ثلاثة مشاريع[322]
1-موقفنا من التراث
1-من العقيدة إلى الثورة
2-من النقل إلى الإبداع
3-من الفناء إلى البقاء
4-من النص إلى الواقع
5-من النقل إلى العقل
6-العقل والطبيعة
7-الإنسان والتاريخ
2-موقفنا من التراث الغربي
1-مصادر الوعي الأوروبي
2-بداية الوعي الأوروبي
3-نهاية الوعي الأوروبي
3-موقفنا من الواقع
1-المنهاج
2-العهد الجديد
3-العهد القديم
وفي بعض خططه حاول الربط بين بعض تيارات المثالية الألمانية والصوفية الإسلامية متبعا نهج أستاذه عبد الرحمن بدوي,قرأت على حساب أحد القراء يقول:- "الدكتور حسن حنفي وحده من قام بمقارنة فينومينولوجيا الروح للفيلسوف المثالي هيجل وفصوص الحِكم للفيلسوف المتصوف محيي الدين ابن عربي. ركز الأول على تطور الفكر والثاني على تطور النبوة، فكان تحقيق المطلق لدى الأول وبرهن الثاني وحدة الوجود".
اشتقاقاً استغرب من لفظ الغرب استغراب مثل الشرق استشرق إستشراق لكنـه لـيس
ضد الإستشراق هو استكمال لحركة التحرر العربي؛فلا يكفي لحركة التحرر أن نتحرر مـن
قوات الاحتلال ولكن نتحرر من أن نكون أشياء وموضوعات للدراسة. فإذا لم تنتفض الـذات
باعتبارها ذاتً قادرة على الرؤية والبصيرة والحكم فإنها تحول نفسها إلى شيء. انظـر مـاذا
فعل الغرب أخذوا الحضارة المصرية والعربية وحولوها إلى موضوع للعلم مثل علم المصريات Egyptology,وعلم الشرقيات Eastology. ولم نستطع حتى الآن أن نؤسس علما للغربيات Westology أو الأمريكيات Amiricanology فلماذا لم يتحول الغـرب إلـى موضوع للعلم؟ لأن الغرب في رأيي أنه ذات،هو الذي أسس المعرفة وهو الذي أسس المناهج وبالتالي منه نأخذ العلم وهو لا يتحول إلى متحف،فهناك متحف للمصريات،ومتحف للهنديات,ولكن لا يوجد متحف للغربيات,فلا يسمح الغرب أن يكون موضوع لمتحـف ويتحـول إلى شيء" إلا في نطاق سيطرته هو,أي أن الغرب ومثلما حوّل كل الذوات الأخريات إلى أشياء (ورواية أرض العظايا تتخيل تاريخ بديل / مستقبل قريب اتحدت فيه الدول الغربية وقامت بالقضاء على شعوب آسيا وأفريقيا ومن بينهم العرب،ثم أنشأت صندوق الأنواع المنقرضة لحماية ماتبقى من الأعراق المُبادة،والتي سُميت بالعظايا) هي فقط المسموح لها بتحويل ذواتها إلى موضوعات,ولكنها تظل موضوعات مفارقة عن الأخريات. لأن الأخريات محصورة في الماضي,بينما الغرب يعيش حاضر متجدد. حتى في تراثه المفارق لأي تراث ماضوي,لأن "الغرب عندما ينظر إلى الحضارات يحولها إلى حضارات متحفية ميتة يصف بدايتها وتاريخها وعلومها إلى آخره".
بل وحتى المفارق لأي تراث حقيقي. والفرنسيين مهتمين بإيضاح تفاصيل هذه المفارقة وصورها المختلفة. وعلى رأسهم جان بودريار عبر عمله الرئيس (المحاكاة والتشبيه). يذكر مثالا شاهدا على أن الغرب لا يقبل أبدا بموته أو حجزه في الماضي. "وثم شاهد على ذلك هو دير سان ميشال دو كوكسا الذي سيتم نقله بتكاليف باهظة من كلويسترز في نيويورك لُيعاد بناؤه في (موقعه الأصلي). ولكم صفق الجميع لعملية إعادة البناء هذه (كما رحبوا (بعملية استعادة أرصفة) جادة شانزيليزيه!. والحال,إذا كان نقل الأعمدة فعلا تعسفيا,وإذا كانت أروقة دير كلويسترز فسيفساء مجمعة من كل الثقافات (تبعا لمنطق التمركز الرأسمالي للقمية),فإن الإعادة إلى الأماكن الأصلية هي أيضا عمل اصطناعي: إنه المصطنع الشامل الذي يلتقي (الواقع) عبر التفاف شامل عليه".[TM23]
نفس الأمر مع سارتر مؤسس الوجودية الفرنسية الذي انتقد نظرة الذات إلى الآخر,وتحويلها لهذا (الآخر) إلى (شيء). فهو يرى أنه عندما انظر إليك أحولك إلى شيء. وجود ينتهك وجود آخر. هذه الرؤية التي تلقفتها سيمون دي بوفورا ببراعة لتحلل نظرة الرجل إلى المرأة بوصفها (شيئا). وهي فلسفة انطلق منها ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا نحو فلسفة الاختلاف. ويلتقط إدغار موران الخيط من دريدا وينادي بـ توحيد الإنسان بعد عقود من تفكيكه. ويقف بول ريكور مندهشا أمام عجز الإنسان عن (تشيؤ) الزمن. ويستفيض بيير بورديو في دراسة أخرى مشابهة لما قدمه مواطنه جان بوديارد. والقائمة تطول ولا تنتهي.
***
[6] نصر حامد أبو زيد
تمثل منجزه الأهم في توظيفه للحداثة كأداة لدراسة ونقد النص القرآني مما يترتب عليه عدد من النتائج هي
1-الفصل بين الدين,والفكر الديني
قاد حملة الحداثة على القرآن -وهي ليست بالضرورة حملة هجومية أو ضدية- عدد من كبار المفكرين العربي,على رأسهم نصر حامد أبو زيد من (نقد الخطاب الديني) وحسن حنفي ومحمد عمارة من مصر,وعرفان عبد الحميد من العراق,وطيب تيزيني ومحمد شحرور (الكتاب والقرآن) من سوريا,وعبد الله القصيمي من السعودية. وفي بلاد المغرب طه عبد الرحمن (روح الحداثة),ومحمد عابد الجابري (فهم القرآن الحكيم),ومحمد أركون من الجزائر (القرآن).
ولكن معالم الطرح الحداثي الخاص بأبو زيد تفترق في الكثير من الطرق عن هؤلاء فهي إمتداد لـ مشروع محمد عبده وحسن حنفي وختامه بنصر حامد أبو زيد. وفيه فصل بين الدين والتفكير في الدين أو الفكر الديني,لذا كان كل ما طرحه من تساؤلات حول بنية النص القرآني مفيدا لبحثه هذا,وليس من باب نقد القرآن,أو بيان النقائص فيه.
2-كشف الستار عن تفسير جديد للقرآن
يشكل علم التفسير (تفسير القرآن) واحد من العلوم الأساسية في الشريعة الإسلامية كونه يعد مدخلا إلى فهم مرجع فقهي وتشريعي وتاريخي. ومن خواص القرآن أنه أكثر النصوص احتواءا على التنوع الدلالي والتفسيري,وهو ما يؤخذ خطأ في تأويلات مزاجية ومتعصبة تريد أن تذهب بالقرآن إلى حيث ذهبت عقولهم لإضفاء شرعية على ما يفعلون. هذا غير إلصاق بعض الإعجازات العلمية الكاذبة بشكل غبي بالنصوص التي يتم تطويعها لأغراض دعائية مثلما تفعل منظومة الإرهاب ويستخدموها لأغراض أيديولوجية خارجة عن مراد النص. ولكن هذا ليس موضع الكلام في هذه المسألة ويعنينا هنا أن نوضح أن تفسير القرآن له علم ذو أصول وقوانين لا يحق لأي أحد أن يهبد (يفتي) بما يشاء ذات اليمين وذات اليسار. من ملامح هذا العلم مثلا أن كل آية لها ظاهرها وباطنها وحدها ومطلعها. أي تؤخذ على أكثر من جانب لكن هناك مراجع لتحديد المقاصد من هذه الجوانب منها
1-صحيح الكلام
2-المأثور عن الرسول
3-الاستدلال من القرآن
وهذا أول ما تعرض له نصر حامد أبو زيد في دراساته (التي لم تكتمل للأسف وإن كانت مكتملة) وعلى ضوءه بحوثه يتوسع فهمنا لهذا النص العظيم بالغ التأثير,فهما يبلغ آفاقا لم نصل إليها من قبل. والمتشددين تجاه هذه التوجه الجديد,لا يقدمون مبررات كافية أو تفسيرات وافية لنقدهم الغير حيادي ضد الحداث تمسكا بالتراث. وما جعلنا نقبل إجتهادات المفسرين وفقا لعلوم هم واضعوها تحت مسمى علوم القرآن أو علوم التفسير. بناء على هذه الأساس,لماذا لا نقبل المزيد من الاجتهادات الممنهجة في ظل تيارات تفسيرية جديدة وعلى رأسها علم التفسير (الهرمونيطيقا) وما جاوره من مذاهب مثل البنيوية والتفكيكية والتحليلية والحداثية,إلخ. حيث "يتمحور مشروع نصر حامد أبو زيد حول هم واحد هو إشكالية التأويل وطرق قراءة واستثمار دلالات النص الديني والتراثي من منظور أراده أن يكون تأسيسا لـ هرمينوطيقا عربية جديدة."[TM24]
3-تحليل النص القرآني في سياقاته الثقافية والإجتماعية
"إن القرآن يصف نفسه رسالة,والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة,أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي -هذه النقطة تحتمل الجدل- فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة. "إن القرآن يصف نفسه رسالة,والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة,أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي -هذه النقطة تحتمل الجدل- فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة."
وهنا يكمن الطرح الأخطر لـ نصر حامد أبو زيد,إنطلاقا من مبدأ غير تقليدي في الشريعة الإسلامية يفترض أن (القرآن فيه نقصان). ولا ريب أن القرآن يتمتع بخصوصيات كثيرة تجعله يوصف كنوع سردي مستقل حتى عن الكتب المقدسة الأخرى مثل الإنجيل والتوراة وأحاديث الرسول دون نفي علاقته معها وتمثيله لها. وتتشارك الكتب الثلاثة في كونها منزلة بحسب الأديان الإبراهيمية من ذات عليا واحدة هي التي أنزلت نصوص الكتب الثلاثة على رسلها. لذا يجري دراسة النص القرآني وفق النصوص التي سبقته,ومدى إتفاقه أو اختلافه معها,ثم وفق القراءات المختلفة لاحقا بمرور الزمن وبعد نزول القرآن مكتملا.
القرآن نص معجز,ولكنه ليس بالضرورة كاملا (فالكمال لله وحده),ويتمثل إعجازه في شقين؛إعجاز بلاغي وإعجاز صوري. أو هو إعجاز بلاغي وإعجاز كوني كما تسميه الباحثة منى محمد الشاهد. أو هو إعجاز في النص,وإعجاز خارج النص كما يورد نصر حامد أبو زيد في كتابه الرئيس مفهوم النص,وهو المفتاح لفهم نصوصه الأخرى (الهاء هنا عائدة على أبو زيد).
أوضح مظاهر الإعجاز في القرآن هو بلاغته,وذلك لأنه تفوق على أبلغ الشعراء في التاريخ بشهادة -وربما بإجماع- أغلب النقاد والباحثين والمؤرخين في الشعر العربي. تساعدهم -أي الشعراء- على ذلك -وتصعب عليهم للإرتقاء- اللغة العربية التي تصنف ضمن أكثر لغات العالم تعقيدا وصعوبة. ويقول المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي عن الشعر العربي "إن بعض علماء اللغة يرون فيه -ولرأيهم هذا أسباب وجيهة- قمة الإبداع اللغوي السامي, أول ما نلحظه,من أول نظرة نلقيها على هذه اللغة,الغنى العظيم في الكلمات,والإتقان في الشكل,والليونة في التركيب." وشهادة أحد الكفار وهو الوليد بن المغيرة ببلاغة القرآن لما يقول: "والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو وما يعلى عليه"(19)
ونحو دراسة بلاغة القرآن,يقتضي الحال التأكيد على أن أي عمل بلاغي,هو موجه للإنسان, كون البلاغة صنعة البشر. والقرآن ليس بقول كاهن ولا ساحر ولا شاعر,الأخيرة بالذات أكد القرآن على نفيها -ضمن ما نفى من الشُبه- (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) (11)حتى لا يحدث خلط بين تشابه الخصائص في النص الشعري والقرآني. وقد أتى النفي أيضا بشهادة واحد من أكبر خصوم الرسول وهو الوليد بن المغيرة لما دخل على جماعته فقال لهم "تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يحنق قط؟" قالوا "اللهم لا"،قال: "تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟" قالوا "اللهم لا" ، قال: "تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟" قالوا لا.(12)
وقد أجمع الدارسون -ومنهم الباقلاني صاحب إعجاز القرآن- على أن القرآن "ليس شعرا وليس نثرا وإنما هو قرآن".(13) وكذا أكدت الباحثة منى محمد الشاهد. (14)ولكن ذلك لا ينفي أن القرآن يستفيد من الخصائص الشعرية في تكوين نصه,ولذلك أسباب لا يسعنا الحديث فيها هنا. وأوضح مثال هو المقارنة بين البيت الشعري والآية القرآنية(15). وهناك مظاهر عديدة نتعرض لها لاحقا في مقال آخر للتعدد السردي -وهو يختلف عن التفرد السردي- في القرآن,من استخدام الشعر والنثر بأشكال عديدة. (نحن نقص عليك أحسن القصص).(16)
هذا الحسن يرجعه القدامى إلى كون القرآن يقص قصصا حقيقية,وأن التاريخ هو الحافظ لأفضل القصص كونها حقيقية (والشاهد عبارة "مقتبس من أحداث حقيقية" التي تستخدم إعلاميا للترويج لبعض الروايات والأفلام). وهم أيضا يقرون بعظم بلاغته في قص هذه القصص. بينما يرى المحدثون أن بلاغة القرآن منوطة في جوانب منه بـ حبك القصص. هذه الفرضية إن صحت (حتى ولو كانت بشكل رمزي موازي للقصة الحقيقية في نفس الآية) فإنها تؤيد الفرضية الأكبر بإعتبار أن القرآن ليس كاملا,بحكم تصنيفه السيميائي / الخطابي كونه (رسالة). وأي رسالة تقتضي أن يفهمها الطرف الآخر لتستوفي حاجتها. وكما يعرف أي كاتب في أدب الأطفال,مهما بلغ عقله,فإن براعته تتجلى في الكيفية التي يوصل بها رسالة / قصة إلى طفل. بل إلى أكثر من طفل متفاوتي الأعمار والعقول والثقافات والإهتمامات.
هذه المدخلات الرمزية إلى القرآن أنتجها (في سياق فهمنا الجديد) مجموعة كبيرة من المفكرين العرب والمصريين مثل سيد قطب وسيد القمني,وحتى أنيس منصور ونجيب محفوظ ونوال السعداوي.
نصر حامد أبو زيد هو رائد الحداثة الإسلامية.
***
[7] يوسف زيدان
يقول نوبوأكي نوتوهارا في كتابه عن العرب, واصفا كتاب (شخصية مصر)
-الكاتب يعتز بعروبته اعتزازا لا يقل عن اعتزازه بمصريته,إضافة إلى أن الكتاب نفسه لا مثيل له في ميدانه.[325]
فأنا لم أندم على عدم ذكري لأحدهم, قدر ما ندمت على غياب جمال حمدان (الذي كان حاضرا ولم يغب عنا لحسن الحظ), والمفكر الاقتصادي الكبير سمير أمين. أو محمود أمين العالم. ويجب أن نعلم أن جمال حمدان فتح لنا نافذة جديدة للفهم الاقتصادي واضعا أو ناقلا لنظرية, حتى الآن يبدوا أنه المفكر الوحيد, الجاد, والمتمكن من أدواته الذي تناولها في العالم العربي. في الواقع, نحن أغفلنا حتى الدور النسوي المهم لرائدات من من وزن بنت الشاطئ أو نوال السعداوي.
بل وأزيدك عزيزي القارئ من الشعر بيتا, فأقول إني لم أكن مهتما قط بإدراج يوسف زيدان في قائمتي شبه الشخصية هذه, وكأن لذلك أي معنى, بل وكنت أحرص على استبعاده, ثم مترددا بين إبعاد وتقريب, وأخيرا استقر القرار لي حين لم أعثر على أي اسم معاصر للفترة التي نعايشها ويستحق أن يكون موجودا وسط هؤلاء العظماء, ولا حتى أحمد خالد توفيق نفسه لو كان الله أطال له العمر وقدر له البقاء. فكان يوسف زيدان امتداد لمشروع نصر حامد أبو زيد من حيث الرؤية الحداثية إلى الدين, وخاصة الدين الإسلامي, وبشكل أكثر خصوصية النظرة الجديدة الفاحصة والناقدة للنص القرآني بالاستعاني بأدوات الحداثة المغايرة تماما لما عهدنا في تراث المفسرين لأكثر من ألف من الزمان (ألف وأربعة قرون).
على كل حال تبدو لي القائمة هكذا
-محمد عبده 1849-1905
-طه حسين 1889-1973
-عبد الرحمن بدوي 1917-2002
-عبد الوهاب المسيري 1938-2008
-حسن حنفي 1935-2021
-نصر حامد أبو زيد 1943-2010
-يوسف زيدان 1958 ....
رحم الله الراحل مؤخرا حسن حنفي وأطال في عمر يوسف زيدان.
[HR][/HR]
[31]في الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات / محمد عبده / فصل العلوم الكلامية والدعوة إلى العلوم المصرية,ص15:17.
[32]تجديد الفكر العربي / زكي نجيب محمود / دار الشروق,الطبعة الثالثة,بيروت 1974,ص 241.
[33]أعلام الفكر العربي / السيد ولد أباه /
[TM4]يتفق معي في ذلك الباحث الدكتور السيد ولد أباه,انظر كتابه أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص 100.
[TM5]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص 100.
[TM6]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM7]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM8]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM9]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM10]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM11]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM12]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص53,54.
[TM13]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص54.
[TM14]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص54.
[TM15]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص55.
[TM16]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM17]من النقد إلى الدفاع عن الإسلام / كريم الصياد / المنصة,ملف خاص عن عبد الرحمن بدوي فيلسوف مصر القَلِق | عبد الرحمن بدوي.. من النقد إلى الدفاع عن الإسلام
[TM18]القبعات / هند هيثم / وتصدعت المرآة
القبعات
[TM19]من التراث إلى ما بعد الحداثة / فدوى مالطي دوجلاس / ترجمة فدوى مالطي دوجلاس,المستشرق ونصه,ص21.
[320]الماجريات / إبراهيم السكران / دار,الفصل الثالث بعنوان الماجريات السياسية,ص 181,182.
[TM21]مجلة الدراسات الفلسطينية.
[322]بحسب ما جاء في كتابه؛مقدمة في علم الاستغراب / حسن حنفي / ص11.
[TM23]المصطنع والاصطناع / جان بوديارد / المنظمة العربية للترجمة,ت جوزيف عبد الله,ص 58,59.
[TM24]أعلام الفكر العربي / الشبكة العربية للأبحاث,فصل نصر حامد أبو زيد,ص 177.
[325]العرب؛وجهة نظر يابانية / نوبوأكي نوتوهارا / منشورات الجمل,ص 8.
لا ريب أن المذكورين من أعظم الفلاسفة في تاريخ الفكر الإنساني. ويعنينا منه -هذا الفكر- واحدة من أهم شرائحه الثلاثة وهو الفكر العربي. وهنا أشير إلى مجموعة مقالاتي الموسعة, والمتوزعة على عدة سلاسل تعني بالإنتاجات الفكرية والعلمية والفنية, راعيت فيها التقسيم وفقا لمفهوم الثقافة / الدولة. ويمكن استخدام مصطلح آخر أكثر دقة من ذلك, لولا أنني لم أتفرغ للبحث فيه بعد (والبحوث المفاهيمية تأخذ وقتا وجهدا أكثر مما يسمح فيه تعجلي لكتابة هذه المقالات). وهو مفهوم جامع للوحدات الثلاثة المميزة للثقافات البشرية؛ الأمة, واللغة, والعرق في إطار الثقافة. أو اللغة والعرق والثقافة في إطار الأمة. والثقافة أو الأمة تشمل كذلك الدين في طياتها. الأمة المصرية العربية, واللغة العربية, والعرقية العربية. العرق يجمع الكثير من السلوكيات والأطر والقوالب الإجتماعية, بينما اللغة تحدد شكل التفكير دون أن تخرج كثيرا عن الإطار الاجتماعي الذي يحتضنها, والأمة هي التي تحتوي اللغة والعرق والدين والثقافة فتعطي شكلا لهذه الثقافة.
ولم ارتئي خيرا من الثقافة التي احتضنت فكري بادئة لهذه السلسلة من المقالات؛ أي الفكر المصري. ويمكن تقسيم الفكر المصري إلى ثلاث مراحل كبرى من تاريخه؛ الفرعوني والإسلامي والعربي.
الفكر الفرعوني, ولعوامل تاريخية, اندثر وإن ظل أثره باقيا, الفكر الإسلامي مهدد بالاندثار في الكثير من أجزاءه بسبب الممارسات القمعية والإرهابية ضده أو باسمه. الفكر العربي تنصل في الكثير من أوجهه من تراثه الإسلامي, وألتصق بالخطاب الغربي وإن لم يتخذ منه فكرا مستقلا. وفي أحسن الأحوال انشغل المفكرين, ولأسباب مفهومة, عن القضايا الإسلامية لتناول قضايا فكرية أخرى لا تقل أهمية أو مساسا بالراهن العربي (وربما بعضها قضايا إسلامية في صميمها). ويظل مع ذلك الفكر العربي, وبسبب جهود المشتغلين فيه, اتصالا لا انفصالا عن الواقع, إلا إذا تواجه أو تصادم مع مرجعه الديني الإسلامي.
ولهذا انقسم أكبر فلاسفتنا ومفكرينا في العصر الحديث إلى قسمين؛ التيار الفكري الإسلامي, مقابل الليبرالي العلماني أو الحداثي, ومحمد عبده, رغم دوره النهضوي الرائد, يعد محسوبا على نحو كبير على التيار الأول, فهو أكثر المذكورين ارتباطا بالإسلام,واحتسابا على التيار الفكري الإسلامي, رغم نقده بأنه مخرب للإسلام هو وطه حسين. وفي بواكير نشأتي العقلية كنت (وربما لازلت) اعتبر أن أي سلوك كلامي هو بالضرورة نشاط فكري أو ثقافي. وحاولت ربط ذلك بالعقيدة الإسلامية التي لم أكن أعرف بعد الكثير من فلاسفتها -وربما لم أكن أعرف ما هو علم الكلام- لأخرج بعد ذلك بقائمة عريضة من المفكرين الإسلاميين تشمل القراء (عبد الباسط عبد الصمد / محمد صديق المنشاوي / مصطفى إسماعيل) والخطاب (عبد الحميد كشك / أيمن صيدح / طارق السويدان) والمنشدين (النقشبندي / الطوخي / طوبار) والمفسرين (الشعراوي / ابن كثير / الطبري). وغير ذلك من الاشتغالات الفكرية التي نشملها في شخص وعقل مفكرنا هذا. الشيخ الإمام محمد عبده هو المثال الأمثل لتمثيل الفلسفة الإسلامية, وأحسب أننا لا نبالغ لما نقول أن كل شيوخ الإسلام الكبار الذي أتوا بعده, خرجوا من تحت مظلته. كنت أعددت قائمة للفلاسفة المسلمين تشمل مائة فيلسوفا, ثم تذكرت أن ما أقصده هو الفلاسفة الإسلاميين, وليس المسلمين فحسب, وإن كانوا مسلمين بالضرورة (لأن أي دارس للإسلام بغير أن يفكر (إسلاميا) يصبح أشبه بالمستشرقين كما دلل حسن حنفي). وعليه أعددت قائمة أخرى من مائة فيلسوف, ثم اقتصصت الحقبة التي ولد فيها محمد عبده وركزت على من أتوا بعده, وجدت أن نصف الأسماء في القائمة أتت تاريخيا بعده. وهم في المكانة يأتون بعده أيضا. كانت اختيارات عشوائية قريبة أو بعيدة الصلة بمحمد عبده, وكلهم تلاميذه -فكما نلمس الأثر الثقافي لأحمد خالد توفيق على قراءه وتلامذته يمكن القول أن كل شيوخ السلف هم خلف لمحمد عبده- وإن تقرب منهم (تلاميذه الحقيقيين) ونهل عن علمه كل من رشيد رضا ومتأخرا أتى تلميذه النجيب نصر حامد أبو زيد. محمد عبده قارئ ومنشد وخطيب حتى لو لم يسجل له شيء, واسمه مرتبط في ذهني بكلمة (شيخ) فهو ممن استحقوا عن جدارة لقب شيخ الإسلام من بعد أن تقلده. وثلاثة أسماء ارتبطت في ذهني بهذه الكلمة (شيخ) رغم ما ألحقها من ظلم؛ محمد عبده وسيد قطب وحسن البنا -والأخيرين تلميذاه أيضا وهما مؤسسا جماعة الإخوان المسلمين- فعلى الجانب الآخر, تترائى الصورة الذهنية السلبية له / لهم, والتي لازالت محافظة على نقاءها لديّ من غشاوة قد تغلف عقلي وتضلني عن الحقيقة في ظل هذا الانهمار المعرفي والثقافي من كل مكان. بالطبع هناك لهم بعض الأخطاء والشطحات الفكرية, لكنها ليست بمثل تلك الفجاجة ولا هي القصد من وراء مظاهر التطرف الإسلامي الذي أتى بعدهم وباسمهم.
المنجز الفكري الأكبر لمحمد عبده هو الإصلاح السياسي للدولة في ظل الفكر الإسلامي للعقيدة. وهو إصلاح لا يختلف كثيرا عن الاستخراب الغربي بإسم الاستعمار الإنجليزي أو الفرنسي مما تقتضيه أمور السياسة والدنيا, وهو ما لا يواف الإسلام لا قولا ولا فعلا. إلا أننا هنا يترائى لنا, وبعد قراءات أكثر مما يمكن أن نتواضع به, وبعد تجارب أكثر مرارة مما لا يكفيها كتب ومجلدات لنزع بعد السواد عن قلوبنا. عرفنا أنه -وبحسب رأينا الذي قد يكون خاطئ- من باب أولى للسياسية إتباع المدرسة الأولى المنبثقة عنها لفظة السياسة اشتقاقا عربيا أصيلا (حيث السياسية من سائس القوم). أي من باب الضرورة. وفق القاعدة الشهيرة (الضرورات تبيح المحظورات). وبالطبع هذا لا يعني التجرد من إنسانيتنا. بل الارتقاء بها لملائمة متطلبات العصر التي تقف على رأسها مجموعة من الفلسفات العقلانية لا تنفي ممارساتها الوحشية هذا العقل. ومرة أخرى كوني اتخذ من محمد عبده نموذجا إسلاميا, لا يعني أنني ألحق بالإسلام -نظريا- تهمة أنه دين يدعو للعنف. بل بالعكس, أدين بناء على ما أطرح كل الفلسفات والرؤى المتطرفة التي تدينه بالتطرف, وقد تجاوزت الإدانة إلى الحكم عليه بالإعدام منذ زمن طويل. إلا أن الإسلام يأبى أن يموت. لا يقل طرح محمد عبده, أو طرحي أنا, غرابة عن أطروحات الفلاسفة السبعة المذكورين. وخلاصته في ثلاث قواعد رئيسية
1-الضرورات تبيح المحظورات / أو الغاية تبرر الوسيلة
2-ليس في الإمكان أحسن مما كان / أو الجود بالموجود
3-غضب الأب من غضب الرب / أو غضب الحاكم فيه شقاء المحكوم
هذه ليست دعوة للعودة إلى البطريريكية (الأبوية) أو الأصولية الميكيافيلية, أكثر مما هي مساهمة للاستفادة من الخواص السياسية والإقتصادية والإجتماعية لهذه الثلاثية الفكرية القاعدية.
لهذه جمع -وحقق وقدم- المفكر الإسلامي محمد عمارة -وتلميذ محمد عبده أيضا- جميع نصوصه في أربعة كتب أساسية على خمسة أجزاء, حويت أهم أعماله
1-الكتابات السياسية
2-الكتابات الإجتماعية
3-الإصلاح الفكري والتربوي, والإلهيات
4-تفسير القرآن
5-تفسير القرآن ج2
فمحمد عبده مفسر من المجتهدين في تفسير القرآن ودوّن تفسيره في كتاب. وبقدرة كبيرة على الفهم والإفهام مزج في كتاباته بين تفسيره للنص القرآني وتنظيره للإصلاح الفكري والثقافي والسياسي والإجتماعي والإقتصادي والقانوني والتربوي والأخلاقي والديني.
"من أعجب ما رأيناه في هذه الأيام,إن بعض طلبة العلم الكرام,الذين قد بذلوا جهدهم في التحصيل,وخلعوا ثياب أوزار البطالة والتعطيل,وافتدوا براحتهم لتنوير بصيرتهم,قد تحركت إلى المعالي همته,ودعته إلى التفنن غيرته,فأخذ في دراسة بعض الكتب المنطقية والكلامية, التي كان قد صنفها بعض أفاضل الملة الإسلامية,لما أنه قد علم -كما هو الواقع- أن العلوم المنطقية إنما وضعت لتقويم البراهين,وتمييزا لأفكار غثها من الثمين,وتبيين إن كيف تتركب المقدمات لإنتاج المطلوب,بعد البيان أن أي مقدمة يصح أن تؤخذ في البيان,وأيها يجب أن يقذف ويطرح,فهذا علم حقيق بأن يتخذ سلما لجميع العلوم,ولا يعدل عن طلبه إلا جهول ظلوم.
والعلوم الكلامية إنما هي أحكام لتأييد القواعد الدينية,بالأدلة العقلية القطعية,حتى يحق لممارس تلك العلوم أن يقتبس نور تلك المطالب من تلك البراهين,ويقنع بذلك الطالبين, ويردع المنكرين,على وجه لا يكون فيه ثبات الشيء بنفسه,ولا تنزيل العقل عن درجته في إدراكه وحسه,فلما سمع بذلك بعض أحبائه,وأصفيائه وأقربائه,الذين يؤثرون خيره ولا يرتضون ضرره,اهتز لذلك واضطرب,وأعجب كل العجب,وأخذه من الحزن على ذلك الطالب ما شاء الله أن يأخذه,وأوسع لذلك الطالب النصيحة,ويا لها من فضيحة أي فضيحة, قائلا: كيف تدرس علوم الضلالات,حتى تقع في الشبهات؟,ألا فارتدع,وبحالتك اقتنع,وكن كما كان الأب والجد,وجد فيما كانوا عليه,فمن جد وجد,فأجاب الطالب المسكين سؤاله, وطوى سجل علمه,ونشر جهله,ومع ذلك لم تدعه ألسنة حساده,المتألبين على عناده,ولم يزالوا مصرين على سفه الكلام,ورمي سهام الملام,يقولون إلى الآن في ضلاله القديم,لم يميز بين المنتج والعقيم. والمخدوش والسليم,حتى إن بعض ذوي الجهل من أهل بلاده, المخلصين في وداده,الساعين في إسعاده,وشوا بهذا الطالب إلى والده,وأنصحوا له القول بشأن ولده,قائلين: إن الرجل من إذا سمع أن ولدك يشتغل بالعلوم,تتناوله أيدي الهموم,يقوم ولا يهنأ له طعام ولا شراب,ويبيت ليله في اضطراب,ويظل نهاره في اكتئاب,أسفا على هذا المسكين كيف ترك جهالتنا,ولم يعمل على مثالنا,ألم تعلم أن الإنسان كلما قوى في العلم اجتهاده,وبدا له رشاده,يتزلزل اعتقاده,فكيف بك وهو ثمرة فؤادك,وأرشد أولادك؟!,فتحرك في والده عرق الحمية,وأسرع ذاهبا إلى مصر المحمية,ليرى هل صح الخبر,أو كذب الناقل وفجر,فوصل إلى ولده في الساعة الثالثة من الليل,ومن آن وصوله أخذ ينذر ولده بالثبور والويل,إن كانت لتلك الأقاويل صحة,فأجابه الطالب إن ذلك من كذب الناقلين,وبغى الحاسدين,وإنني من يوم سعيت في منعي,وقطع نقعي,لم تقر عيني بنظرة في رياض تلك العلوم,ولم أشف قلبي بأخذ منطوق منها ولا مفهوم,فلم يصدقه حتى تمسك بالحبل المتين, وأحلفه بالله رب العالمين,أن الناقل كذاب,وأنه في أمره غير مرتاب,فحلف وهو الصادق في حلفه,وكيف لا وقد حفته المكاره من بين يديه ومن خلفه,فلما أيقن بكذب ما نقل إليه حمد الله وأثنى عليه,وأصبح غده متوجها إلى بلده. فانظر إلى هذا الرجل مع كثرة انشغاله,واحتياجه لساعة ينظر فيها إلى أحواله,كيف ترك الأهم,وصرف الدرهم,وانقض انقضاض السهم,وأقدم إقدام الشهم,وما ذاك إلا لحادث أقلقه,وشناعة عظيمة خاف أن تلحقه,وداهية دهياء قد استفزته من أرضه,وبأس شديد طلب التخلص من حلوله بركضه,فإن سألت ما هذا الأمر الفظيع,والحادث البشع الشنيع؟"
[31]
نموذج عن مقال شيق, يوضح حجم الزخم والغزارة والعمق -وإن كان لا يخلو من إزادة وتكرار- والجدة والمعاصرة التي ألحقها عبده بكتاباته الصحافية القيمة, والقارئة للحدث, والمغيرة له بقدر علمه. فُيعرف أن محمد عبده تبنى أكثر من اتجاه فكري مختلف في حياته وفي الأخير إلتزم المقالة أداة للتغاير والتغيير محاذيا نفس حذو الفرنسي ميشيل دي مونتين أو البريطاني جورج أورويل, فكان من أبرع من كتب المقالة.
***
[2] طه حسين
طه حسين نموذج ممتاز للأديب الفيلسوف, في وقت انتشرت فيه هذه البضاعة بعالمنا العربي, وإن لم تفسد بعد حتى يومنا هذا؛ طه حسين ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وتوفيق الحكيم والعقاد. ويعد طه حسين من أهم المفكرين العرب في القرن العشرين. وأحد أبرز روّاد التجديد في الأدب العربي الحديث. لُقِّب بعميد الأدب العربي. درس في جامعة السوربون. رُشِّحَ خمسة عشرة مرة لجائزة نوبل. وأما عن لقبه فلأنه أخرج عدد كبير من التلاميذ الأدباء والمفكرين, المؤثرين والفاعلين في المجتمع. حظى الرجل بشعبية تشبه ما حصل عليه أحمد خالد توفيق اليوم, بعد أن قلده محبيه وقراءه وتلامذته لقب (العرّاب).
بحثت مطولا عن فيلسوف مصري يجمع بين العقل الشرقي والعقل الغربي, فلم أجد خيرا من أديبنا الكبير طه حسين. وعلى هذا, ومثل سابقيه, يتكون مشروعه الفلسفي بشكل أساسي من وجهين متقابلين متلاحمين وغير متنافرين. وقد يحسبه البعض ميالا للعلمانية, ناقدا لأي توجه إسلامي, إلا أنني اعتقد بأن طه ليس إلا امتداد لمشروع رفاعة الطهطاوي النهضوي من قبله, والذي شكل ضمن الثلاثي (الطهطاوي / الأفغاني / محمد عبده) المرحلة الأولى للنهضة العربية والمصرية, واستأنف طه حسين ومن عاصروه لقيام المرحلة الثانية للنهضة العربية. وقد عاصره مجموعة من خيرة عقولنا الواحد منهم لقلما يجود به الزمان علينا. وقد مزجت أعمالهم بين الفكر العالي, والساقط من علياءه إلى عموم الشعب خاصة مع معايتشهم لأزهى عصور الصحافة المصرية ونشر أفكارهم من خلالها. وجمعت أفكارهم بين الإصلاح الفكري والنقد الأدبي. ومن أولاء نذكر طه حسين, والعقاد, وأنيس منصور, والمصطفيين (مصطفى لطفي المنفلوطي ومصطفى صادق الرافعي), وأحمد أمين. ويبدوا أن أبناء أمين من الفلاسفة كثيرون أسما في مصر؛ أحمد أمين, سمير أمين, جلال أمين, حسين أمين, عثمان أمين, وقاسم أمين الذي كانت نوال السعداوي امتدادا له. فيلاحظ القارئ في اختياراتي للسبعة المذكورين, أنني خدمت توجه معين منحازا لفرضية (أن الإسلام غالب) في نهاية أي مسار فكري سليم. ولا أعرف هل يغفر لي اعترافي ذلك تجاهلي للتيار المضاد وعلى رأسهم سلامة موسى وفرج فودة رائدا الإشتراكية المصرية, وقاسم أمين ونوال السعداوي رائدا النسوية المصرية. ومع ذلك,وعودة إلى مشروع طه حسين,نجد أن وجهيه هما
الحداث والتراث
مستخدما الأول لتحليل ونقد الأخير, وتمثل هذا التوجه الفكري في ثلاثة كتب رئيسية
1-في الشعر الجاهلي
أشهر أعماله,والتي وإن إختلف المفكرون حول عمق هذا الكتاب,إلا أنهم لا يختلفون في أثره الكبير,الذي بلغت به شهرته أن أحدث جدلا وصخبا واسعا لا يزال صداه يتردد إلى يومنا هذا.
2-مستقبل الثقافة في مصر
هذا هو المنجز الثقافي الثاني الرئيس في مشروعه حول قراءة التراث. وفي كل الكتابين اتخذ نقطة إنطلاق واضحة كمرجع له,أي "إبتداء من العصر الذي تشكلت فيه هذه الثقافة أي عصـر التدويـن الـذي عـده الجابـري الإطـار المرجعـي للثقافـة العربيـة الإسـلامية."
3-مقالات وفصول ونصوص أخرى
وفيها يتكشف أكثر ميله للغرب,الذي ينحرف في الكثير من المرات عن المنهج الوسطي, فعلى الصعيد الأدبي لاحظ عبد الرحمن بدوي تبنيه للمناهج النقدية الغربية والإستشراقية وتطبيقها على تاريخ الشعر الجاهلي,وفي نقده للنصوص الأدبية الحديثة. وعلى الصعيد العلمي ينادي بالمنهج الشكي متبعا فلسفة ديكارت. وعلى الصعيد السياسي كان "الحال أن أنظار طه حسين في الديمقراطية قامت على التمييز بين (معاني الديمقراطية) و(أواني الديمقراطية),بين (روحها) و(آلياتها). أما (أواني الديمقراطية) فقد علمناها: (الدستور) و(الانتخاب) و(الحياة النيابية)."
"فإذا كانت الثورة العرابية قد قامت على تعاليم الأفغاني ومحمد عبده,والإصلاح الديني فإن ثورة 1919 إستمرار لهذه التعاليم,فقد كان سعد زغلول تلميذا لمحمد عبده مع مزيد من الليبرالية والغربية وجرأة فيها تمثلت في الثورة الكمالية في تركيا في 1923 وإسقاط الخلافة في 1926. وأعلن دستور 1923 في مصر. وصدر عديد من المؤلفات تعبر عن الروح الجديدة مثل (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق في 1925 وهو نفس العام الذي تأسست فيه الجامعة المصرية و(في الشعر الجاهلي) لطه حسين في 1926."
ومن تحت معطف عميد الأدب العربي خرج زكي نجيب محفوظ. "وتسألني: وماذا نحن صانعون بآدابنا وفنوننا ومعارفنا التقليدية كلها,والتي كانت تحتكر عندنا اسم (الثقافة)؟ فأجيبك بأنها مادة للتسلية في ساعات الفراغ,ولم أعد أقول -كما قلت مرارا مقلدا هيوم وجاريا مجراه- لم أعد أقول إنها خليقة بأن يقذف بها في النار. وحسبي هذا القدر من الاعتدال,ابتغاء الوصل بين جديد وقديم".[32]
فطه حسين أول من تجرأ,وسدد نقده -حتى وإن كان نقلا عن الغرب- إلى كبار الشخصيات الإسلامية,بعد أن وضع القرآن نفسه تحت عدسة التحليل. أهم كتابين قام فيهما بذلك هما في الشعر الجاهلي (نقد القرآن) وعلى هامش السيرة (نقد السيرة). هذا غير تناوله لبعض الصحابة تقريبا على الضد تماما من عبقريات العقاد.
ولكن يقول حسن حنفي وكأنه يرد عليه
"لا يعني تركي تقليد القدماء أن أنتقل بالتبعية لتقليد المحدثين,وبالتالي لا أرى تغيير يذكر بل هو تقليد ولكن مع اختلاف السيد الذي أقلده. ولا فرق بين السلفي والعلماني إذا كان كل منهما مقلدا,الأول يقلد أحمد بن حنبل وابن تيمية والثاني يقلد ديكارت".
"يشكل طه حسين حلقة رئيسية في الفكر التحديثي الليبرالي العربي في منتصف القرن العشرين. يتوزع إنتاجه على ثلاثة مكونات
-الإبداع الأدبي وتاريخ الأدب
-الإسلاميات
-النقد الاجتماعي والثقافي"
[33]
على كل حال,مات طه حسين,والجدل حوله وحول أعماله لم يمت.
***
[3] عبد الرحمن بدوي
سبحان الله .. كأنه تسلسل لا ينقطع؛ فكان جمال الدين الأفغاني المعلم الأكبر, وتلميذه الأبرز هو محمد عبده, وطه حسين تتلمذ على يد محمد عبده وإن كان بشكل غير مباشر, وتتلمذ على يد طه حسين عدد كبير من المؤثرين في الفكر العربي على رأسهم عبد الرحمن بدوي.
هو أكبر ممثلي التيار الغربي (أو الغير إسلامي / الغير عربي,القومي أو العلماني),حيث استوعب عبد الرحمن بدوي جمع الفكر الغربي,وتنوعت عمليات التلقي الذهنية لديه ما بين قراءة وبحث وترجمة وتحقيق وشرح وعرض ونقد ونقل وتقديم وتأريخ وتحليل ودراسة وتدريس وتأليف.[TM4]
وشاركنا معه في مشروع قراءته الكبرى,فقدم لنا (خلاصة الفكر الأوروبي) كما أطلق هو على مشروعه الكبير -المشتق من مشروع أكبر- الذي ضمن عدة مؤلفات ضمن سلسلة بحثية جمعت الفلسفة الغربية وفلاسفتهم بين طياتها. لتشمل مؤلفاته النقلية سلسلة (الفكر الأوروبي)
ومنها
-ترجماته وتحقيقاته لمؤلفات أرسطو
-ربيع وخريف الفكر اليوناني (كتابان)
-أعلام الفكر الألماني
وسلسلة دراسات إسلامية التي عنى فيها بالفلسفة الإسلامية,ومنها
-أرسطو وأفلاطون عند العرب (كتابان)
-الإنسان الكامل في الإسلام
-الإنسانية والوجودية في الفكر العربي
-شخصيات قلقة في الإسلام
وغير ذلك كثير
ويمكن أن نعاين انبثاق مشروع فرعي حول (الترجمة) وما يعقبها من (شرح ونقد),وهو مشروع لا يمتزج مع المنجز الفلسفي لعبد الرحمن بدوي فحسب,بل ينصهر وسط ذهب متمثل في الإنتاج الفلسفي لمعاصريه من المفكريين المصريين وكبار المترجمين للفلسفة الغربية,الذين عنوا بها نقدا وشرحا وتقديما؛مثل إمام عبد الفتاح إمام,وفؤاد زكريا,وزكي نجيب محمود. هذا غير مشروعه الطويل,الذي امتد بطول عمره (وقد عاش 85 عاما) حول تأريخ الفلسفة (الغربية والعربية,القديمة والحديثة,المثالية والمادية) وكل إتجاهاتها ومدارسها وأعلامها ومواضيعها.
ومن خلال كل ذلك كوّن فلسته الخاصة. فلسفة مترابطة تميل للصيغة التعليمية,وقد نجح في ذلك كثيرا,وعبر جيدا عن اراؤه. وهو غزير الإنتاج حقا,تزيد كتبه على 150 عنوانا. وبذلك لم يسبقه أحد,ولا يضايهيه أحد من معاصريه,أو الذين أتوا بعده في ضخامة مشروعه,لا في غزارة الإنتاج,ولا في عمق التناول,فجمع الدقة والتنوع كما لم يفعل أحد على خارطة الوطن العربي.
"يمكن اعتبار بدوي حالة فريدة في الفكر العربي,من حيث حجم الأعمال المنشورة وتنوع موضوعاتها. إن هذا الرجل الذي عاش عمرا مديدا انقطع فيه -فهو لم يتزوج إلى مماته- بالكامل للبحث والتدريس والتأليف,وأتقن العديد من اللغات القديمة والحديثة حتى لم يبق مجال في الفلسفة إلا كتب فيه,مترجما وشارحا وعارضا. وهكذا شملت كتبه تاريخ الفلسفة بكامله من الفلاسفة اليونانيين ما قبل سقراط إلى هايدغر,ومن المدارس الكلامية الإسلامية إلى فلاسفة الإسلام والمتصوفة وأهل الفرق والملل."[TM5]
حتى أن حسن حنفي وقع في خطأ الحكم على مشروعه الأكبر مختزلا فيه فلسفة بدوي كونه لا يزيد عن فيلسوف موسوعي شامل,غلب عليه النقل,وفي ظل إنحيازاته (القرائية) عجز عن تكوين فلسفة خاصة. هذا رأي حسن حنفي (والذي يظهر إنحيازه القرائي) وليس رأينا, ولا ننسى تجنب الأخير الحياد في بعض النواحي بسبب الخلافات بين المفكرين الكبيرين بدوي وحنفي.
وبدوي خير من مارس الدور التعليمي الأكاديمي بمنظوره الأوسع,وبشقيه (التقديمي والتأسيسي),ومجمل أعماله تشكل مادة دسمة "لازالت تمد الباحثين بمصادر الفكر الغربي القديم والحديث,والتراث العربي الإسلامي,تأليفا وتحقيقا وترجمة,بما لا يستغني عنه الباحث,والمثقف,والمتخصص في أي من مجالات الدراسة الفلسفية". [TM6] أي أنه يمكن لأي دارس مجد العثور على ضالته في الكتب والدرسات التي خطها قلم بدوي. سواء أراد قاعدة تأسيسية لبحوثه الفلسفية,أو أراد مرجعية علمية لدعم إحدى أطروحاته الفكرية. "فأعماله الأكاديمية دفعت إلى حد بعيد البحث الفلسفي,وأفادت منها الأوساط الجامعية والثقافية إجمالا".[TM7]
ضف على ذلك كونه أستاذا,مارس أستاذيته,في أروقة الجامعات,وتتلمذ علي يديه,ومن خلال كتبه أو الإتصال المباشر عبر محاضراته أو ندواته,الكثير جدا من المثقفين ممن قامت الثقافة المصرية على أكتافهم لاحقا,وساهموا في حقول الفكر المختلفة من بعده,ومننهم من يجري احتسابهم حاليا ضمن المفكرين العرب إن لم نقل الرواد. ويمكن أن أعد لك,ودون مبالغة, نحو أربعين إسما صار له ثقله من بعده,بعد أن تتلمذ على يده. وهو الأحق بـ (جعل الشباب يفكرون). التي قلدها مهاويس الروايات الشبابية على أحمد خالد توفيق كونه (جعل الشباب يقرأون). ماذا جعلهم يقرأون؟. المزيد من الروايات الشبابية التي غزت النزعة الثقافية لإلغاء الآخر,والبقاء على السطح (مع ذلك لا ننكر أن للعرّاب أثر إيجابي نتعرض في موضع آخر).
وامتدت أستاذيته -أي بدوي- من داخل قلاع الجامعات وأروقتها,إلى ساحات وميادين الكتابة الصحفية / السياسية. في فترة شهدت تحول كبير في مجال النشر الذي مزج بين الكتابة التنظيرية والكتابة الصحافية. "فقد بدأ بدوي نشاطه العلمي في لحظة تاريخية اختلطت فيها الكتابة العلمية العربية بالصحفية بالأدبية،كما في مؤلفات العقاد ولويس عوض وتوفيق الحكيم مثلًا،فصار من أولوياته أن يساهم في صوغ سياق مرجعي أكاديمي يتمتع بصفتي التنوع والدقة،التنوع نظرًا للتنوع الأصلي للمجالات الفلسفية،التي لم تكن قد تأسست مدرسيًا بشكل علمي صارم بعدُ،والدقة من أجل تحقيق هذه الصرامة العلمية. وهو التوسع الأفقي لبدوي،الذي شمل كل تخصصات الفلسفة المعروفة في عهده تقريبًا،من تاريخ الفلسفة بعصورها المختلفة،إلى مناهج البحث،إلى الموسوعات،إلى الاستشراق،إلى الإسلاميات، وإشكالات الفلسفة المركزية كالسياسة،القانون،الأخلاق،المنهج،المصطلح،المذهب."[TM8]
وله دور سياسي بارز ربما يستحق وقفة,ولكن ليس هنا المجال للتفصيل أكثر.
وفي كل هذا هو يمارس أستاذية حقة جديرة بأفلاطون الذي لا يمكن لأي دارس للفلسفة اليوم,أن يصبح فيلسوفا دون المرور على مؤلفاته / محاوراته (أفلاطون).
وثانيا,وبعيدا عن فلسفته النقلية (البحثية والتعليمية),وبعد أن عنى بنقل الفلسفة الوجودية إلى العربية وتعريف قرائها بأهم أعلامها,كوّن فلسفته الخاصة,وهي فلسفة وجودية -تبناها بعده تلميذه أنيس منصور- عرضها في مؤلفاته المعنونة؛الزمان الوجودي,دراسات في الفلسفة الوجودية,المثالية الألمانية,الإنسانية والوجودية في الفكر العربي. وتشكل العناوين الأربعة أهم كتبه في هذا السياق. "فارتبط بالتيار الفلسفي الوجودي,الذي عرف به في أعماله الفلسفية الأولى واختاره مذهبا خاصا به,وأراد تأسيس مرجعية تراثية له في أقوال الصوفية وشطحاتهم."[TM9]
وبالفعل وجد بدوي أرضية مشتركة بين المدرسة الصوفية الشرقية والمدرسة الوجودية, وحدد بعض السمات المشتركة بين الفلسفتين,ومن هذه السمات أدب (القلق) الذي تناوله في كتابه (شخصيات قلقة في الإسلام). ولم تتوقف إسهاماته الوجودية عند هذا الحد.
المفارق في فلسفة بدوي الوجودية,أنها لم تنطلق من مؤسس الفلسفة الوجودية الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر. بل ولم يعترف به فيلسوفا وجوديا أصلا. واعتمد على كتاب مارتن هيدجر الوجود والزمان,وما سبقها أو لحقها من أعمال مهمة في الفلسفة الوجودية الألمانية.
ولم يكن بدوي منفصلا -وكذلك الستة الآخرين المذكورين في القائمة- عن الفلسفة الإسلامية, الذي أهتم بها في شطري حياته,أي في فترة مبكرة وأخرى متأخرة من مسيرته الفكرية الطويلة. وإن لم يتحول هذا الإهتمام إلى أرضية تحول فلسفي,أو بداية موقف فكري منسجم وواع.
ولهذا جرى تقسيم تحولاته الفلسفية في سياق الوجودية إلى
الوجودية الغربية
والوجودية الإسلامية
في سياق آخر,تمثلت محطة ثالثة لمثالية بدوي (الوجودية / الإسلامية) في المثالية الألمانية التي استغلها في ممارساته السياسية لـ حصار اليسار. ودون الابتعاد كثيرا عن الفلسفة الإسلامية داخل فكر بدوي,نقول أنه جمع الثلاثة.
ولا يجب أن نغفل دورا آخر مارسه بدوي,وساهم فيه,حتى صار لا يجوز التعديل لا أقول عن أي ترجمة صدرت له,بل ويمكن القول أنه لا يجوز التعديل على أي كلمة مرت أسفل قلمه. أقصد بدوي بصفته ناقدا أديبا. وبالطبع نحن لا نمنع أحدا من تصحيح أي خطأ قد يقع في مؤلفاته عموما,فلا أحد منزه عن الخطأ,وإنما ذلك يستلزم باحثا عتيدا متمكن من عدته, ومستعدا لبذل جهود مضنية في سبيل التحقق مما أفنى بدوي عمره لتحقيقه والتحقيق فيه.
في الأخير ربما قد يختلف أحد معي حول الستة الآخرين المذكورين هنا,ولي على كل واحد منهم العديد من الإنتقادات التي قد تتجاوز مجرد تحفظات,لكن من الصعب أن يختلف أحد حول مكانة عبد الرحمن بدوي,ودوره البارز في فترة شكلت مرحلة ذهبية من تاريخ الفكر الحديث بالنصف الأول من القرن العشرين,حيث لمعت أسماء مثل عبد الرحمن بدوي,حسن حنفي,طه حسين,والعقاد,الحكيم,ونجيب محفوظ,وفؤاد زكريا,وزكي نجيب محمود.
على الناحية الأخرى,وكما أدخل عبد الرحمن بدوي -والطريف أن الإثنين من دمياط- الوجودية إلى مصر والفكر العربي,أسس زكي نجيب محفوظ للفلسفة الوضعية,وهاجم كل أثر للفلسفة الميتافيزيقية في الفكر العربي. ليشكل الوجه الآخر لمثالية بدوي الوجودية,حيث مادية زكي الوضعية. ويرجع إنشغاله بها,إلى نفس السبب الذي هم به بدوي والمسيري بشكل خاص,وهي إشكالية كبرى أثارها وأهتم بها كل المحدثين من المفكرين العرب منذ نهضة محمد علي والأفغاني والطهطاوي. وذلك لإخراج مصر من عصور التبعية (البطلمية والبيزنطية والإسلامية والفرنسية والبريطانية) التي توسطت بين الدولة المصرية الفرعونية والدولة المصرية الحديثة. مخلفة أثرها الواقع دوما بعد الاحتلال من الانحلال,في كل عصر وزمان. أي المشكلة المطروحة في التسأؤل الشهير (لماذا تقدم الغرب وتأخر العرب؟).
لذا,ارتكن زكي نجيب محمود إلى الوضعية المنطقية أساسا فلسفيا وعلميا لتحقيق نهضة مصرية عربية. وجمع الشواهد على ذلك,تلك الشواهد هي نفسها التي تشكل المراحل الثلاثة لفلسفته الوضعية
أولا النظر إلى تخلف العرب في الزمن المعاصر,و"نقد الحياة الإجتماعية في مصر وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري،ويتمثل هذا النشاط في الكتب الثلاثة التي اشترك في تأليفها مع أحمد أمين؛قصة الفلسفة اليونانية,قصة الفلسفة الحديثة,قصة الأدب في العالم."[TM10]
ثانيا النظر إلى تقدم الغرب في الزمن المعاصر,وبعد سفره إلى أوروبا "دعا زكي نجيب إلى تغيير سلم القيم إلى النمط الأوربي،والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها باعتبارها حضارة العصر،ولاشتمالها على جوانب إيجابية في مجال العلوم التجريبية والرياضية،ولها تقاليد في تقدير العلم وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان،وهي قيم مفتقدة في العالم العربي. وفي هذه الفترة دعا إلى الفلسفة الوضعية المنطقية ونذر نفسه لشرحها وتبسيطها،وهي فلسفة تدعو إلى سيادة منطق العقل،وإلى رفض التراث العربي وعدم الاعتداد به."[TM11]
وفي هذه الفترة تتضح معالم مشروعه الفلسفي الذي "بدأ بهدف جلي هو (هدم الميتافيزيقا) واستنبات التحليل النقدي منهجا للفكر العربي للقضاء على اللامعقول,معرفا بهذه التيارات الفكرية الجديدة التي أرادها بديلا عن الثقافة التراثية والمعتقدات الغيبية" [TM12] استئنافا لما بدأه في المرحلة الأولى حيث توضحت أكثر,وتبلورت رؤية أكبر,لديه حول الأزمة الراهنة في مجتمعنا العربي. فأرجع أسبابها إلى الميتافيزيقا عاملا أول حيث الميل إلى الروحانية الغيبية والإبتعاد عن المادية العقلانية بسبب الاستغراق في التبعية النقلية عن الموروث الديني الغير قابل لأي تفكر خارجه بسبب حيثيات الفهم الخاطئة تجاهه -وهذا حكمنا- لذا كان زكي نجيب محمود "داعية للوضعية رافضا للتراث ولقيمه الدينية"[TM13]
وفي هذه الفترة من مسيرته أحدث -هو في فكره- وصال بين المرحلة الأولى (الهدم والنقد) والمرحلة الثانية (البناء والنقل) عن الفلسفة الغربية,وقد تجلت أكثر في كتبه (قشور ولباب) و(المنطق الوضعي) و(نحو فلسفة علمية) حيث "الحسية والتجريبية الصريحة؛حصر الحقيقة في الحسيات وقياس المعارف والقيم بمقياس النجاعة العملية."[TM14]
ثالثا,وبعد التوسع في قراءة الفلسفة الغربية,تحول جذري في مشروع زكي نجيب بعد أن أدرك عيوب الفكر العربي والغربي معا,ووصل إلى نتيجة مفادها "أن الميزة الأساسية للحضارة الغربية منذ العهد اليوناني هي العقلانية والتجريبية,في حين تتميز حضارة الشرق الأقصى بـ (الحدس الصوفي),أما حضارة الشرق الأوسط فقد جمعت بين الأمرين (حدس المتصوف ومنطق الفيلسوف)."[TM15]
لذا وجب الجمع بين إيجابيات كلا الطريقتين في التفكير. ولهذا شهدت المرحلة الثالثة "عودته إلى التراث العربي قارئا ومنقبا عن الأفكار الجديدة فيه،وباحثا عن سمات الهوية العربية التي تجمع بين الشرق والغرب وبين الحدس والعقل وبين الروح والمادة وبين القيم والعلم."[TM16]
هذه المرحلة بالذات تعيد طرح إشكالية التوفيق بين العقل والنقل,الحداث والتراث,الشرق والغرب. إشكالية تحولت إلى ظاهرة مع تكرار حدوث التحول من الحث إلى الغرب للرجوع إلى التراث بين مفكر وآخر.
وعودة إلى عبد الرحمن بدوي
"وإن كان أغلب الباحثين العرب لا يتنازعون فيما بينهم على هذه الحقائق السابقة،والمتعلقة بشكل أساسي بمرحلة بدوي قبل حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952 في مصر،وتحديدا قبل دستور 1956 وإلغاء دستور 1954 الذي شارك في إعداده،ونزاعه مع حكومة الضباط الأحرار،فإنهم أيضًا لا يكادون أن يتفاوتوا فيما هم عليه من حال الدهشة أو التساؤل إزاء مؤلفات بدوي الأخيرة في المرحلة التالية،التي هاجر فيها بدوي من مصر ليعمل في الكويت وإيران وليبيا وليقيم في فرنسا ثم يعود في ختام حياته إلى مصر. هذه المرحلة الأخيرة هي التي أصدر فيها سلسلة الدفاع عن الإسلام الشهيرة بالفرنسية،وخاصةً: (دفاع عن القرآن ضد منتقديه)-1988 Défense du Coran Contre ses critiques و(دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره)-1990 Défense de la vie du Prophète Muhammad contre ses Détracteurs. اللذين وجدا لهما المتحمسين من التوجهات والمؤسسات الأصولية الإسلامية،كما وجدا ناقدينَ ومندهشينَ. مما أيّد على الفور أطروحة شبه-محايدة تفترض أن المفكر العربي المعاصر لا بد وأن ينتهي إلى الإسلام بشكل أو بآخَر،مهما غالى في نقده أو تجاهله،والقائمة طويلة تحت هذه الفرضية: زكي نجيب،سيد قطب،خالد محمد خالد,محمد عمارة،مصطفى محمود،محمد عابد الجابري (بعد تفسيره للقرآن) إلخ."[TM17]
***
[4] المسيري
انشغل المسيري بالقضية الفلسطينية (وما أحوجنا إلى ذلك بالنظر إلى الأحداث الجارية في غزة وطوفان الأقصى) وشكلت مشروعه الفكري الأهم,وقد تخلى أثناء دراستها عن أي منظور إسلامي قبلي قد يغرقه في نوع من الخطاب البكائي من جهة,أو الخطاب الإرهابي من الجهة الأخرى,أو حتى الخطاب التبعي الذي حذر منه زكي نجيب محمود. وقد تخلى أيضا عن أي منظور عربي قد يوقعه في نوع من الخطاب القومي. وقد تخلى عن أي منظور يهودي قد يوقعه في نوع من الخطاب الصهيوني (مع أو ضد). وقد تخلى عن أي منظور علموي قد يوقعه في نوع من الخطاب السلطوي يدعي احتكاره للعلم. لقد استطاع المسيري في تناوله للقضية الفلسطينية أن يتجرد من أي تحيزات مسبقة قد يقع فيها أي من طرفي الصراع العربي / الإسرائيلي. بل إن مسألة التحيزات تحديدا قد تشكلت دراسة هامة في موسوعة (إشكالية التحيز) التي حررها في سبعة مجلدات. والتي شكلت بدورها منطلقا لإعادة صياغة كل بحوثه السابقة في منهج محكم وسليم. كما شكلت موقفا نقديا ذو مرجعية أيديولوجية تجاه الغرب,نفس المرجعية التي انطلق منها حسن حنفي مؤسسا علم الاستغراب.
نقلت الأديبة اليمنية هند هيثم,عن الأديبة الأمريكية من أصول أفريقية موريسون "ما مغزاه أن أوروبا البيضاء،ووريثتها أمريكا البيضاء،كانت من يُعرِف العالم على مر التاريخ وفقاً لرؤيتها الخاصة،ورغبتها التفضل بالإنعام على من شاءت،وحرمان من شاءت،ومحاولة المُنعَمِ عليهم والمحرومين أخذ حق التعريف بأيديهم،وصياغة كيوننتهم من دون الحاجة إلى اعترافٍ أبيض بها،يُقلق البيض،حتى من يفترض أنهم المتنورين منهم."[TM18] أي أنها جمعت بين المشيئة (الذات) والشيئية (الموضوع). حيث يشاء الغرب أن يصير العرب شيئا.
وهذه الذاتية في النقد,بإعتراف الذات العربية,ليس مجرد تحيز أعمى,بل هو موقف مضاد له ما يبرره "فقد اتهم نقاد الاستشراق هذه المدرسة الاستشراقية من منطلقات تبعد عن المسائل العقلانية أو الفكرية,إذ اعتبر المستشرقون رجال سياسة واستعمار وأن الأسباب التي تحثهم على الدراسة لا تخرج عن كونها نوازع سياسية أو أيديولوجية -وليست نوازع حيادية- على سبيل المثال. يضاف إلى ذلك مقولة احتقار الاستشراق للشرق والتعامل معه بكراهية وعلى نحو سلبي."[TM19]
وهو في تحقيق ذلك لم يلتزم الجهة المضادة إلا إحتياجا لبعض منازع أيديولوجية تصنع الهوية الإنسانية والثقافية لأي مفكر كضرورة إنسانية لا يمكن الخروج عن سياقها,ولكنه لم يتضرر كثيرا من ذلك لأنه تبنى لنفسه تيارا فكريا سار عليه هو المذهب التحليلي. الذي لم يلتزم به كما هو نقلا عن الغرب. بل أعاد قراءته وصياغته ونحت مفاهيمه وتوليفها مع أخذ -أو ترك- عن مفاهيم المدرسة التحليلية.
قام المفكر السعودي إبراهيم سكران بتحليل منجزه ونموذجه الفكري حيث "يمكن القول أن منطقتي العمل في كتابات المسيري الفكرية هما: الأول دراسة وتفسير الظاهرة اليهودية معرفيا,والثاني نقد الحداثة الغربية ومنتجاتها الفكرية,ومع ذلك فيمكن القول أيضا أن هاتين المنطقتين بالنسبة للمسيري هما مجرد (عينة بحث) أو (حالة للدراسة) للموضوع الأثير لدى المسيري والذي أغرم به واستحوذ على تفكيره وصار دائم اللهج به وهو قضية (التفسير بالنماذج) أي بلورة المركبات المفهومية وقراءة الظواهر بها,فولع المسيري بالنموذج التفسيري يظهر غالبا أسخن بكثير من حماسه للموضوع محل التفسير ذاته,فهو يبدو لقارئه أحيانا كصانع يحرث أرضا معينة لا لأولوية هذه القطعة من الأرض بعينها بل ليريك مقدرة فأسه.
وبسبب هذا الميل للنماذج التفسيرية تميل كتبه الأخيرة إلى شكل من أشكال المعجمية لأنه يهيكلها على النماذج التفسيرية ويكرر شرحها,فالوسائط المفهومية المستعملة في القراءة والتفسير والتركيب هي مركز الإهتمام ومحور العناية وهي الموضوع السعيد في خطابه."
[320]
أما عن القضية الفلسطينية,وهي واحدة من أهم سبعة قضايا -أو ثلاثة- قد تشغل الفكر العربي,تمثل اشتغاله الأساسي بها أولا في بيان التعارض بين طرفي الصراع؛القضية الفلسطينية والقضية الإسرائيلية,فتبقى حقيقة أن تقديم الأخيرة عبر جهازها الإعلامي الهائل يغطي تماما على وجود الأولى أصلا,وتحيز أوروبا / أمريكا لإسرائيل أمر واضح, وتضامنها مع أوكرانيا مثال فاضح.
وثانيا في بيان التعاضد بين الديانة اليهودية والسياسة الصهيونية. فالديانة اليهودية إلى جوار الديانة المسيحية في المصادر الأساسية للفلسفة الغربية (بينما يشكل الإسلام مرجعيتنا الأساسية),والسياسة الإسرائيلية نظام يحقق تماما غايات السياسات الغربية الإمبريالية (التوسعية),فهو النجاح الاستيطاني الوحيد للنظام البريطاني / الأمريكي,وإخفاقات فيتنام وباكستان تشهد على ذلك.
وثالثا,ولأن هناك طرح قوي على الصعيدين الديني والسياسي يؤيد وجود إسرائيل على حساب فلسطين,والأهم لأن المعرفة قوة,فإن الإكثار في الكلام فيما جفت فيه أحبار الأقلام لا يعدوا كونه مجرد (سفسطة فارغة) طالما هذا (الحق) لا يتبع قوله بفعله من المطالبين به.
ومع ذلك,تظل الصلة وثيقة بين الشق الكلامي,والشق الفعلي,بل إن المسألة تحولت إلى لعبة كلمات تمثلت فيها لعبة الحياة والموت,البقاء والزوال. "لأن أحد معالم الكارثة الثقافية - السياسية التي نواجه اليوم,تكمن في الطلاق بين الكلمات والمعاني,وفي ابتذال الكلام,من أجل محو الفوارق بين الجلاد والضحية"[TM21] وهو أمر واضح في مصطلح (معاداة السامية) وقد خص المسيري المجلد الأول من موسوعته لبحث مثل هذا العبث والألاعيب الكلامية. وقد طرح الباحث في مقدمته للموسوعة بعض هذه المفاهيم وبين أوجه التعارض بها.
تعد موسوعة (اليهود واليهودية والصهيونية) أهم أعماله,ويرى الباحثين أنها أهم عمل موسوعي كتبه عربي تناول الإستعمار اليهودي بالتفصيل,وهي تمتاز عن كتابات الرباعي المصري رمزي المنياوي ومجدي كامل ومنصور عبد الحكيم والحسيني الحسيني معدي التي توصف عادة بأنها كتابات سطحية (رغم أنها لا تخلو من معلومات وملاحظات وآراء مفيدة). أنا أرى وكذلك المسيري -ليس لدي معلومة مؤكدة بأنه مصري- نفسه في مقدمته لموسوعته,أن هذا العمل (موسوعة المسيري) إلى وقته عد عملا غير مسبوق,وهو أفضل منجز نقدي حول موضوعه. ليس على الصعيد العربي فحسب,بل وقد تجاوز كل المنتج الفكري الغربي كذلك. وإلى يومنا هذا لم يطرح ما يتخطى في قيمته وأهميته هذا الكتاب الضخم.
***
[5] حسن حنفي
"يتمحور مشروع حسن حنفي حول مقاربة (التراث والتجديد) التي تشكل بالنسبة إليه مشروع عمر كامل,وممارسة معرفية وفلسفية متكاملة,وإستراتيجية نضالية كثيفة. ويتوخى حنفي من هذا المشروع تجديد الدين والنهوض بالأمة من خلال العمل على (جبهات ثلاث) هي: العلاقة بالتراث,والعلاقة بالغرب,والعلاقة بالواقع". والواقع,أن أغلب المنظرين والمفكرين والنقاد وعلماء الإجتماع,في مختلف المجالات الثقافية أو السياسية أو العلمية أو الفنية لا يخرجون في تناولهم عن الجهات الثلاث,ولا يتوقفون عن نقد الجهات الثلاث في آن واحد. "واستخدم حسن حنفي أربع أدوات منهجية هي: التحليل الشعوري لإعادة بناء العلوم العقلية والنقلية,ولاهوت التحرير من أجل إعادة بناء الشعور الديني,وعلم الاستغراب لتحجيم الغرب وتحويله لموضوع للقراءة والتجاوز."
وكما وضحت في مقدمة المقال,كانت هذه محاولة متواضعة لتقسيم أكبر فلاسفة مصر الحديثة يمين أو يسار الإسلام. اليميني إسلامي,واليساري غير إسلامي. ولما كان بدوي وزكي والمسيري ممثلين عن التيار اليساري (قبل تبنيهم فكرة الفلسفة الإسلامية الحديثة), كان حسن حنفي أول ثلاثة ممثلين للتيار الإسلامي. ولأني تحيرت فيه هل هو إسلامي (أي يضع القضايا الإسلامية وعلوم الدين ضمن أولوياته الفكرية) أم غير إسلامي (ولاحظ هنا أن مفهوم غير إسلامي لا يعني بالضرورة ضد إسلامي,حتى ولو كان ذو توجه علماني) بحيث يتناول القضايا العربية الأخرى التي قد تشغله عن مسائل فقهية أو صوفية أو كلامية. ولهذا وضعته في مرتبة وسطى حسبما أظن حلقة وصل بين التيارين. وقد تمثل منجزه الفكري الإسلامي في مشروع التراث والتجديد الذي يشكل بالفعل حلقة وصل بين التراث والحداثة وما يتبع كل منهما من ثنائيات متعارضة نسعى (بحكم موقعنا الثقافي الجغرافي المميز) إلى التوفيق دوما بينهما.
وهو إتجاه وسطي يكاد يكون نتيجة حتمية لكل المذكورين في قائمتنا,وغيرهم بقائمة طويلة من المفكرين المصريين والعرب تشكل ظاهرة فريدة من نوعها.
1-أحمد أمين وتأريخه لأعلام الإصلاح الوسطي
2-مصطفى محمود وتنظيره للوسطية الإقتصادية بين الشيوعية والرأسمالية
3-العقاد والتعريف بالفلسفة الإسلامية
ما يأتي كأنه امتداد لهيجل وثلاثي الطريحة والنقيضة والجميعة,أو سقراط وتعريفه للفضيلة أنها وسطا بين رذيلتين.
وعبر مخطط ذكي أسس حسن حنفي علم الاستغراب كرؤية مضادة لرؤية الغرب (لنا), والذي اشتمل على ثلاثة مشاريع[322]
1-موقفنا من التراث
1-من العقيدة إلى الثورة
2-من النقل إلى الإبداع
3-من الفناء إلى البقاء
4-من النص إلى الواقع
5-من النقل إلى العقل
6-العقل والطبيعة
7-الإنسان والتاريخ
2-موقفنا من التراث الغربي
1-مصادر الوعي الأوروبي
2-بداية الوعي الأوروبي
3-نهاية الوعي الأوروبي
3-موقفنا من الواقع
1-المنهاج
2-العهد الجديد
3-العهد القديم
وفي بعض خططه حاول الربط بين بعض تيارات المثالية الألمانية والصوفية الإسلامية متبعا نهج أستاذه عبد الرحمن بدوي,قرأت على حساب أحد القراء يقول:- "الدكتور حسن حنفي وحده من قام بمقارنة فينومينولوجيا الروح للفيلسوف المثالي هيجل وفصوص الحِكم للفيلسوف المتصوف محيي الدين ابن عربي. ركز الأول على تطور الفكر والثاني على تطور النبوة، فكان تحقيق المطلق لدى الأول وبرهن الثاني وحدة الوجود".
اشتقاقاً استغرب من لفظ الغرب استغراب مثل الشرق استشرق إستشراق لكنـه لـيس
ضد الإستشراق هو استكمال لحركة التحرر العربي؛فلا يكفي لحركة التحرر أن نتحرر مـن
قوات الاحتلال ولكن نتحرر من أن نكون أشياء وموضوعات للدراسة. فإذا لم تنتفض الـذات
باعتبارها ذاتً قادرة على الرؤية والبصيرة والحكم فإنها تحول نفسها إلى شيء. انظـر مـاذا
فعل الغرب أخذوا الحضارة المصرية والعربية وحولوها إلى موضوع للعلم مثل علم المصريات Egyptology,وعلم الشرقيات Eastology. ولم نستطع حتى الآن أن نؤسس علما للغربيات Westology أو الأمريكيات Amiricanology فلماذا لم يتحول الغـرب إلـى موضوع للعلم؟ لأن الغرب في رأيي أنه ذات،هو الذي أسس المعرفة وهو الذي أسس المناهج وبالتالي منه نأخذ العلم وهو لا يتحول إلى متحف،فهناك متحف للمصريات،ومتحف للهنديات,ولكن لا يوجد متحف للغربيات,فلا يسمح الغرب أن يكون موضوع لمتحـف ويتحـول إلى شيء" إلا في نطاق سيطرته هو,أي أن الغرب ومثلما حوّل كل الذوات الأخريات إلى أشياء (ورواية أرض العظايا تتخيل تاريخ بديل / مستقبل قريب اتحدت فيه الدول الغربية وقامت بالقضاء على شعوب آسيا وأفريقيا ومن بينهم العرب،ثم أنشأت صندوق الأنواع المنقرضة لحماية ماتبقى من الأعراق المُبادة،والتي سُميت بالعظايا) هي فقط المسموح لها بتحويل ذواتها إلى موضوعات,ولكنها تظل موضوعات مفارقة عن الأخريات. لأن الأخريات محصورة في الماضي,بينما الغرب يعيش حاضر متجدد. حتى في تراثه المفارق لأي تراث ماضوي,لأن "الغرب عندما ينظر إلى الحضارات يحولها إلى حضارات متحفية ميتة يصف بدايتها وتاريخها وعلومها إلى آخره".
بل وحتى المفارق لأي تراث حقيقي. والفرنسيين مهتمين بإيضاح تفاصيل هذه المفارقة وصورها المختلفة. وعلى رأسهم جان بودريار عبر عمله الرئيس (المحاكاة والتشبيه). يذكر مثالا شاهدا على أن الغرب لا يقبل أبدا بموته أو حجزه في الماضي. "وثم شاهد على ذلك هو دير سان ميشال دو كوكسا الذي سيتم نقله بتكاليف باهظة من كلويسترز في نيويورك لُيعاد بناؤه في (موقعه الأصلي). ولكم صفق الجميع لعملية إعادة البناء هذه (كما رحبوا (بعملية استعادة أرصفة) جادة شانزيليزيه!. والحال,إذا كان نقل الأعمدة فعلا تعسفيا,وإذا كانت أروقة دير كلويسترز فسيفساء مجمعة من كل الثقافات (تبعا لمنطق التمركز الرأسمالي للقمية),فإن الإعادة إلى الأماكن الأصلية هي أيضا عمل اصطناعي: إنه المصطنع الشامل الذي يلتقي (الواقع) عبر التفاف شامل عليه".[TM23]
نفس الأمر مع سارتر مؤسس الوجودية الفرنسية الذي انتقد نظرة الذات إلى الآخر,وتحويلها لهذا (الآخر) إلى (شيء). فهو يرى أنه عندما انظر إليك أحولك إلى شيء. وجود ينتهك وجود آخر. هذه الرؤية التي تلقفتها سيمون دي بوفورا ببراعة لتحلل نظرة الرجل إلى المرأة بوصفها (شيئا). وهي فلسفة انطلق منها ميشيل فوكو وجيل دولوز وجاك دريدا نحو فلسفة الاختلاف. ويلتقط إدغار موران الخيط من دريدا وينادي بـ توحيد الإنسان بعد عقود من تفكيكه. ويقف بول ريكور مندهشا أمام عجز الإنسان عن (تشيؤ) الزمن. ويستفيض بيير بورديو في دراسة أخرى مشابهة لما قدمه مواطنه جان بوديارد. والقائمة تطول ولا تنتهي.
***
[6] نصر حامد أبو زيد
تمثل منجزه الأهم في توظيفه للحداثة كأداة لدراسة ونقد النص القرآني مما يترتب عليه عدد من النتائج هي
1-الفصل بين الدين,والفكر الديني
قاد حملة الحداثة على القرآن -وهي ليست بالضرورة حملة هجومية أو ضدية- عدد من كبار المفكرين العربي,على رأسهم نصر حامد أبو زيد من (نقد الخطاب الديني) وحسن حنفي ومحمد عمارة من مصر,وعرفان عبد الحميد من العراق,وطيب تيزيني ومحمد شحرور (الكتاب والقرآن) من سوريا,وعبد الله القصيمي من السعودية. وفي بلاد المغرب طه عبد الرحمن (روح الحداثة),ومحمد عابد الجابري (فهم القرآن الحكيم),ومحمد أركون من الجزائر (القرآن).
ولكن معالم الطرح الحداثي الخاص بأبو زيد تفترق في الكثير من الطرق عن هؤلاء فهي إمتداد لـ مشروع محمد عبده وحسن حنفي وختامه بنصر حامد أبو زيد. وفيه فصل بين الدين والتفكير في الدين أو الفكر الديني,لذا كان كل ما طرحه من تساؤلات حول بنية النص القرآني مفيدا لبحثه هذا,وليس من باب نقد القرآن,أو بيان النقائص فيه.
2-كشف الستار عن تفسير جديد للقرآن
يشكل علم التفسير (تفسير القرآن) واحد من العلوم الأساسية في الشريعة الإسلامية كونه يعد مدخلا إلى فهم مرجع فقهي وتشريعي وتاريخي. ومن خواص القرآن أنه أكثر النصوص احتواءا على التنوع الدلالي والتفسيري,وهو ما يؤخذ خطأ في تأويلات مزاجية ومتعصبة تريد أن تذهب بالقرآن إلى حيث ذهبت عقولهم لإضفاء شرعية على ما يفعلون. هذا غير إلصاق بعض الإعجازات العلمية الكاذبة بشكل غبي بالنصوص التي يتم تطويعها لأغراض دعائية مثلما تفعل منظومة الإرهاب ويستخدموها لأغراض أيديولوجية خارجة عن مراد النص. ولكن هذا ليس موضع الكلام في هذه المسألة ويعنينا هنا أن نوضح أن تفسير القرآن له علم ذو أصول وقوانين لا يحق لأي أحد أن يهبد (يفتي) بما يشاء ذات اليمين وذات اليسار. من ملامح هذا العلم مثلا أن كل آية لها ظاهرها وباطنها وحدها ومطلعها. أي تؤخذ على أكثر من جانب لكن هناك مراجع لتحديد المقاصد من هذه الجوانب منها
1-صحيح الكلام
2-المأثور عن الرسول
3-الاستدلال من القرآن
وهذا أول ما تعرض له نصر حامد أبو زيد في دراساته (التي لم تكتمل للأسف وإن كانت مكتملة) وعلى ضوءه بحوثه يتوسع فهمنا لهذا النص العظيم بالغ التأثير,فهما يبلغ آفاقا لم نصل إليها من قبل. والمتشددين تجاه هذه التوجه الجديد,لا يقدمون مبررات كافية أو تفسيرات وافية لنقدهم الغير حيادي ضد الحداث تمسكا بالتراث. وما جعلنا نقبل إجتهادات المفسرين وفقا لعلوم هم واضعوها تحت مسمى علوم القرآن أو علوم التفسير. بناء على هذه الأساس,لماذا لا نقبل المزيد من الاجتهادات الممنهجة في ظل تيارات تفسيرية جديدة وعلى رأسها علم التفسير (الهرمونيطيقا) وما جاوره من مذاهب مثل البنيوية والتفكيكية والتحليلية والحداثية,إلخ. حيث "يتمحور مشروع نصر حامد أبو زيد حول هم واحد هو إشكالية التأويل وطرق قراءة واستثمار دلالات النص الديني والتراثي من منظور أراده أن يكون تأسيسا لـ هرمينوطيقا عربية جديدة."[TM24]
3-تحليل النص القرآني في سياقاته الثقافية والإجتماعية
"إن القرآن يصف نفسه رسالة,والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة,أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي -هذه النقطة تحتمل الجدل- فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة. "إن القرآن يصف نفسه رسالة,والرسالة تمثل علاقة اتصال بين مرسل ومستقبل من خلال شفرة,أو نظام لغوي. ولما كان المرسل في حالة القرآن لا يمكن أن يكون موضعا للدرس العلمي -هذه النقطة تحتمل الجدل- فمن الطبيعي أن يكون المدخل العلمي لدرس النص القرآني مدخل الواقع والثقافة."
وهنا يكمن الطرح الأخطر لـ نصر حامد أبو زيد,إنطلاقا من مبدأ غير تقليدي في الشريعة الإسلامية يفترض أن (القرآن فيه نقصان). ولا ريب أن القرآن يتمتع بخصوصيات كثيرة تجعله يوصف كنوع سردي مستقل حتى عن الكتب المقدسة الأخرى مثل الإنجيل والتوراة وأحاديث الرسول دون نفي علاقته معها وتمثيله لها. وتتشارك الكتب الثلاثة في كونها منزلة بحسب الأديان الإبراهيمية من ذات عليا واحدة هي التي أنزلت نصوص الكتب الثلاثة على رسلها. لذا يجري دراسة النص القرآني وفق النصوص التي سبقته,ومدى إتفاقه أو اختلافه معها,ثم وفق القراءات المختلفة لاحقا بمرور الزمن وبعد نزول القرآن مكتملا.
القرآن نص معجز,ولكنه ليس بالضرورة كاملا (فالكمال لله وحده),ويتمثل إعجازه في شقين؛إعجاز بلاغي وإعجاز صوري. أو هو إعجاز بلاغي وإعجاز كوني كما تسميه الباحثة منى محمد الشاهد. أو هو إعجاز في النص,وإعجاز خارج النص كما يورد نصر حامد أبو زيد في كتابه الرئيس مفهوم النص,وهو المفتاح لفهم نصوصه الأخرى (الهاء هنا عائدة على أبو زيد).
أوضح مظاهر الإعجاز في القرآن هو بلاغته,وذلك لأنه تفوق على أبلغ الشعراء في التاريخ بشهادة -وربما بإجماع- أغلب النقاد والباحثين والمؤرخين في الشعر العربي. تساعدهم -أي الشعراء- على ذلك -وتصعب عليهم للإرتقاء- اللغة العربية التي تصنف ضمن أكثر لغات العالم تعقيدا وصعوبة. ويقول المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي عن الشعر العربي "إن بعض علماء اللغة يرون فيه -ولرأيهم هذا أسباب وجيهة- قمة الإبداع اللغوي السامي, أول ما نلحظه,من أول نظرة نلقيها على هذه اللغة,الغنى العظيم في الكلمات,والإتقان في الشكل,والليونة في التركيب." وشهادة أحد الكفار وهو الوليد بن المغيرة ببلاغة القرآن لما يقول: "والله لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وأنه يعلو وما يعلى عليه"(19)
ونحو دراسة بلاغة القرآن,يقتضي الحال التأكيد على أن أي عمل بلاغي,هو موجه للإنسان, كون البلاغة صنعة البشر. والقرآن ليس بقول كاهن ولا ساحر ولا شاعر,الأخيرة بالذات أكد القرآن على نفيها -ضمن ما نفى من الشُبه- (وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون) (11)حتى لا يحدث خلط بين تشابه الخصائص في النص الشعري والقرآني. وقد أتى النفي أيضا بشهادة واحد من أكبر خصوم الرسول وهو الوليد بن المغيرة لما دخل على جماعته فقال لهم "تزعمون أن محمدا مجنون فهل رأيتموه يحنق قط؟" قالوا "اللهم لا"،قال: "تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه تكهن قط؟" قالوا "اللهم لا" ، قال: "تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئا من الكذب؟" قالوا لا.(12)
وقد أجمع الدارسون -ومنهم الباقلاني صاحب إعجاز القرآن- على أن القرآن "ليس شعرا وليس نثرا وإنما هو قرآن".(13) وكذا أكدت الباحثة منى محمد الشاهد. (14)ولكن ذلك لا ينفي أن القرآن يستفيد من الخصائص الشعرية في تكوين نصه,ولذلك أسباب لا يسعنا الحديث فيها هنا. وأوضح مثال هو المقارنة بين البيت الشعري والآية القرآنية(15). وهناك مظاهر عديدة نتعرض لها لاحقا في مقال آخر للتعدد السردي -وهو يختلف عن التفرد السردي- في القرآن,من استخدام الشعر والنثر بأشكال عديدة. (نحن نقص عليك أحسن القصص).(16)
هذا الحسن يرجعه القدامى إلى كون القرآن يقص قصصا حقيقية,وأن التاريخ هو الحافظ لأفضل القصص كونها حقيقية (والشاهد عبارة "مقتبس من أحداث حقيقية" التي تستخدم إعلاميا للترويج لبعض الروايات والأفلام). وهم أيضا يقرون بعظم بلاغته في قص هذه القصص. بينما يرى المحدثون أن بلاغة القرآن منوطة في جوانب منه بـ حبك القصص. هذه الفرضية إن صحت (حتى ولو كانت بشكل رمزي موازي للقصة الحقيقية في نفس الآية) فإنها تؤيد الفرضية الأكبر بإعتبار أن القرآن ليس كاملا,بحكم تصنيفه السيميائي / الخطابي كونه (رسالة). وأي رسالة تقتضي أن يفهمها الطرف الآخر لتستوفي حاجتها. وكما يعرف أي كاتب في أدب الأطفال,مهما بلغ عقله,فإن براعته تتجلى في الكيفية التي يوصل بها رسالة / قصة إلى طفل. بل إلى أكثر من طفل متفاوتي الأعمار والعقول والثقافات والإهتمامات.
هذه المدخلات الرمزية إلى القرآن أنتجها (في سياق فهمنا الجديد) مجموعة كبيرة من المفكرين العرب والمصريين مثل سيد قطب وسيد القمني,وحتى أنيس منصور ونجيب محفوظ ونوال السعداوي.
نصر حامد أبو زيد هو رائد الحداثة الإسلامية.
***
[7] يوسف زيدان
يقول نوبوأكي نوتوهارا في كتابه عن العرب, واصفا كتاب (شخصية مصر)
-الكاتب يعتز بعروبته اعتزازا لا يقل عن اعتزازه بمصريته,إضافة إلى أن الكتاب نفسه لا مثيل له في ميدانه.[325]
فأنا لم أندم على عدم ذكري لأحدهم, قدر ما ندمت على غياب جمال حمدان (الذي كان حاضرا ولم يغب عنا لحسن الحظ), والمفكر الاقتصادي الكبير سمير أمين. أو محمود أمين العالم. ويجب أن نعلم أن جمال حمدان فتح لنا نافذة جديدة للفهم الاقتصادي واضعا أو ناقلا لنظرية, حتى الآن يبدوا أنه المفكر الوحيد, الجاد, والمتمكن من أدواته الذي تناولها في العالم العربي. في الواقع, نحن أغفلنا حتى الدور النسوي المهم لرائدات من من وزن بنت الشاطئ أو نوال السعداوي.
بل وأزيدك عزيزي القارئ من الشعر بيتا, فأقول إني لم أكن مهتما قط بإدراج يوسف زيدان في قائمتي شبه الشخصية هذه, وكأن لذلك أي معنى, بل وكنت أحرص على استبعاده, ثم مترددا بين إبعاد وتقريب, وأخيرا استقر القرار لي حين لم أعثر على أي اسم معاصر للفترة التي نعايشها ويستحق أن يكون موجودا وسط هؤلاء العظماء, ولا حتى أحمد خالد توفيق نفسه لو كان الله أطال له العمر وقدر له البقاء. فكان يوسف زيدان امتداد لمشروع نصر حامد أبو زيد من حيث الرؤية الحداثية إلى الدين, وخاصة الدين الإسلامي, وبشكل أكثر خصوصية النظرة الجديدة الفاحصة والناقدة للنص القرآني بالاستعاني بأدوات الحداثة المغايرة تماما لما عهدنا في تراث المفسرين لأكثر من ألف من الزمان (ألف وأربعة قرون).
على كل حال تبدو لي القائمة هكذا
-محمد عبده 1849-1905
-طه حسين 1889-1973
-عبد الرحمن بدوي 1917-2002
-عبد الوهاب المسيري 1938-2008
-حسن حنفي 1935-2021
-نصر حامد أبو زيد 1943-2010
-يوسف زيدان 1958 ....
رحم الله الراحل مؤخرا حسن حنفي وأطال في عمر يوسف زيدان.
[HR][/HR]
[31]في الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات / محمد عبده / فصل العلوم الكلامية والدعوة إلى العلوم المصرية,ص15:17.
[32]تجديد الفكر العربي / زكي نجيب محمود / دار الشروق,الطبعة الثالثة,بيروت 1974,ص 241.
[33]أعلام الفكر العربي / السيد ولد أباه /
[TM4]يتفق معي في ذلك الباحث الدكتور السيد ولد أباه,انظر كتابه أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص 100.
[TM5]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص 100.
[TM6]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM7]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM8]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM9]أعلام الفكر العربي,فصل عبد الرحمن بدوي,ص
[TM10]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM11]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM12]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص53,54.
[TM13]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص54.
[TM14]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص54.
[TM15]أعلام الفكر العربي,فصل زكي نجيب محمود, ص55.
[TM16]فلاسفة العرب / تحت إشراف سمير أبو زيد / فصل زكي نجيب محمود
زكي نجيب محمود - فلاسفة العرب
[TM17]من النقد إلى الدفاع عن الإسلام / كريم الصياد / المنصة,ملف خاص عن عبد الرحمن بدوي فيلسوف مصر القَلِق | عبد الرحمن بدوي.. من النقد إلى الدفاع عن الإسلام
[TM18]القبعات / هند هيثم / وتصدعت المرآة
القبعات
[TM19]من التراث إلى ما بعد الحداثة / فدوى مالطي دوجلاس / ترجمة فدوى مالطي دوجلاس,المستشرق ونصه,ص21.
[320]الماجريات / إبراهيم السكران / دار,الفصل الثالث بعنوان الماجريات السياسية,ص 181,182.
[TM21]مجلة الدراسات الفلسطينية.
[322]بحسب ما جاء في كتابه؛مقدمة في علم الاستغراب / حسن حنفي / ص11.
[TM23]المصطنع والاصطناع / جان بوديارد / المنظمة العربية للترجمة,ت جوزيف عبد الله,ص 58,59.
[TM24]أعلام الفكر العربي / الشبكة العربية للأبحاث,فصل نصر حامد أبو زيد,ص 177.
[325]العرب؛وجهة نظر يابانية / نوبوأكي نوتوهارا / منشورات الجمل,ص 8.