أ. د. لطفي منصور - الوليدُ بنُ عُبادَةَ الْبُحْتُرِيُّ الطّائيُّ (ت ٢٨٠هج)

الْبُحْتُرِيُّ قالَ فِيهِ الْمَعَرِّي: (أَبُو تَمُامٍ وَالْمُتَنَبِّي حَكِيمانِ ، وَالشّاعِرُ الْبُحْتُرِيُّ) أَيْ فَيْلَسُوفانِ أَكْثَرُ شِعْرِهِما في الْحِكْمَةِ وَالْأَمْثالِ . وَأضافَ أَبُو الْعَلاءِ: (أَمّا الْبُحْتُرِيُّ فَبُلْبُلٌ يُطْرِبُ النّاسَ بِنَغَماتِهِ)عَلَى ذِمََتِهِ.
وَقَدْ شَرَحَ أَبُو الْعَلاءِ شِعْرَ الْمُتَنَبِّي وَسَمّاهُ (مُعْجُزُ أَحْمَدَ)، وَقَدْ طُبِعَ هذا الشَّرْحُ وَعِنْدِي نُسْخَةٌ مِنْهُ، وَشَرَحَ دِيوانَ أَبي تَمّامٍ وَسَمّاه (ذِكْرَى حَبيبٍ) وَهُوَ مَفْقودٌ، وَشَرَحَ دِيوانَ الْبُحْتُرِيِّ وَسَمّاهُ (عَبَثُ الْوَليد) وَهُوَ مَطْبُوعٌ وَعِنْدِي نُسْخَةٌ مِنْهُ.
وَبِالرّغْمِ مِنِ اخُتِلافِ نُقّادِ الشِّعْرِ في مَفْهُومِ كَلِمَةِ (عَبَث) الّذي رَمَى إلَيْهِ أَبو العَلاءِ، فَقَدْ رَأَيْتُ مِنَ الْواجِبَ أَنْ أَدْعَمَ الرَّأْيَ الـّذِي يَقُولُ بِإيجابِيَّتِها، وَذَلِك عَنْ قَناعِةٍ مِنِّي بِّذَلِكَ الرَّأْيِ بَعْدَ أنْ نَظَرْتُ كَثِيرًا في شِعْرِهِ.
اُنْظُرُوا الْفُروقَ في مَعاني الْأَسْماءَ، وَكَيْفَ فَضَّلَ الْمُتَنَبِّيَ عَلى الْآخَرَينِ ، فَجَعَلَ أَبا تَمّامٍ حَبيبَ بَنَ أَوْسٍ ذِكْرَى، وَانظُروا التَّوْرِيَةَ في اسمِ الْوَليدِ وَهُوَ الصَّبِيُّ، وَنَعَتَ شِعْرَهُ بِالْعَبَثِ وَهّوَ اللَّعِبُ وَعَدَمُِ الْجِدِّيَّةِ.
وَأنا لا أُوافِقُ أَبا الْعَلاءِ في كُلِّ ما قالَ بِحَقِّ الشّاعِرَيْنِ أَبِي تَمّامٍ وَالْبُحْتُرِيِّ، وَرَأْيُ أَبَي الْعَلاءِ هَذا ناتِجٌ عَنْ عَصَبِيَّتِهِ الشَّدِيدَةِ لِلْمُتَنَبِّي، وَهذا حَقُّهُ لا نُمارِي فِيهِ.
لِلْبُحْتُرِيِّ قُلائِدُ شِعْرِيَّةٌ، وَوَسائِطُ عُقودِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى في دِيوانِهِ الضَّخْمِ وَحَماسَتِهِ. وَيَكْفي أنْ أُشِيرَ إلى سِينِيَّتِهِ الرّائِعَةِ في وَصْفِ إيوانِ كِسْرَى الّتُي مَطْلَعُها: مُنَ الْخَفيفِ
صُنْتُ نَفْسِي عَمّا يُدَنِّسُ نَفْسِي
وَتَرَفَّعْتُ عَنْ جَدا كُلِّ جِبْسِ
(الْجَدا: الْجُودُ وَالْعَطاءُ، الْجِبْسُ: اللَّئِيمُ الْخَسِيسُ)
وَيَقُولُ فيها عِنْدَما رَأَى صُوَرَ كِسْرَى وَعَساكِرَهُ في الْمَعْرَكَةِ:
يَغْتَلِي فِيهِمُ اِرْتِيابِيَ حَتَّى
تَتَقَرّاهُمُ يَدايَ بِلَمْسِ
(أيْ لِدِقَّةِ التَّصْوِيرِ ظَنَّ أَنَّهُمُ أَحْياءٌ فَتَعَقَّبَهُم بِلَمْسٍ مِنْ يَدَيْهِ)
ثُمَّ أُشِيرُ إلى وَصْفِ الْبُحْتُرِيِّ الْعَجيبِ لِبِرْكَةِ الْمُتَوَكِّلِ الَّتِي مَطْلَعُها: مِنَ الْبَسِيطِ
يا مَنْ رَأَى الْبِرْكَةَ الْحَسْناءَ رُؤْيَتُها
وَالْآنِساتِ إذا لاحَتْ مَغانِيها
وَفيها الْبَيْتُ الْمَشْهُور:
تَنْصَبُّ فِيها وُفُودُ الْماءِ مُعْجِلَةً
كَالْخَيْلِ خارِجَةٍ مِنْ حَبْلِ مُجْرِيها
وَمِنْ قَلائِدِ الْبُحْتُرِيِّ أَيْضًا وَهُوَ أَفْصَحُ بَيْتٍ قالَتْهُ الْعَرَبُ عَلى ذِمَّةِ الْعَلّامَةِ مُفْتِي بَغْداد أبي بَكْرٍ الْخَوارِزْمِيِّ (ت ٣٨٣ هج)مِنَ الطَّوِيلِ
تَبَلَّجَ عَنْ بَعْضِ الرِّضا وَانْطَوَى عَلى
بَقِيّّةِ عَتْبٍ شارَفَتْ أَنْ تَصَرَّما
(يَصِفُ شَخْصًا تَمَلَّكَهُ الْغَيْظُ وَالسَّخَطُ، ثُمَّ أَخَذَ غَضَبُهُ يَنْقَشِعُ شَيْئًا فَشَيْئًا حَتَّى تَحَوَّلَ إلى عِتابٍ. وَهُوَ مِنْ أَدَقِّ الْوَصْفِ)
وَيَرَى الْوَزِيرُ الصّاحِبُ إسْماعِيلُ بْنُ عَبّادٍ وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ الْكُتّابِ في الْقَرْنِ الرّابِعِ الْهِجْرِي أنْ لا شِعْرَ يَعْلُو عَلى قَوْلِ الْبْحْتُرِيِّ: مِنَ الْوافِرِ
دَنَوْتُ تَواضُعًا وَعَلَوْتُ مَجْدًا
فَشَأْنُكَ اِنْحِدارٌ وَارْتِفاعُ
كَذاكَ الشَّمْسُ تَبْعُدُ أنْ تَسامَى
وَيَدْنُو الضَّوْءُ مِنْها وَالشُّعاعُ
وَمِنْ فَرائِدِهِ وَأَمْثالِهِ الْعُلْيا قَوْلُهُ: الْخَفيف
وَإذا ما الشَّرِيفُ لَمْ يَتَواضَعْ
لِلْأَخِلّاءِ كانَ عَيْنَ الْوَضِيعِ
وَقَوْلُهُ: مِنَ الطَّويلِ
هَلِ الدَّهْرُ إلّا لَيْلَةٌ وَانْحِلالُها
وَشِيكٌ وَإلّا ضِيقَةٌ وَانْفِراجُها
وَقَوْلُهُ:
وَالْأَرْضُ لَوْلا الْغِذاءُ واحِدَةٌ
وَالنّاسُ لَوْلا الْفَعالُ أَمْثالُ
وَبَعْدُ،
فَإنِّي لا أَرَى هُنا عَبَثًا، بَلْ جِدٌّ وَعَبْقَرِيَّةٌ وَرَصانَةٌ وَإبْداعٌ، وَكَأَنِّي أُحِسُّ بِأَنْفاسِ الْمُتَنَبِي تَنْسابُ مُنْ أَمْثالِ الْبُحْتُرِيِّ عَلى قِلّتِها.