يرى بعض المثقفين أن الثقافة العربية ثقافة مشظاة، ويُقدّمون نموذجًا لهذا التشظي في عبد الله بن المقفع وسهل بن هارون. ويأتي الحكم على تشظي هذين الرجلين من خلال ازدواجية أصلهما وأخلاقهما ومواقفهما الدينية والسياسية، فابن المقفع زنديق في الإسلام، كما صنّفه الخليفة المهدي، وشك في إسلامه سيده عيسى بن علي عم الخليفة المنصور، فقد سمعه في الليلة التي سبقت يوم إسلامه يزمزم زمزمة المجوس. كما أنه يَظهر بخلاف ما يبطن، وقد قتله الخليفة المنصور؛ لأنه تشدد في كتابة عهد الأمان لعمه عيسى بن علي.
أما سهل بن هارون، الذي يُعدونه الحارس الثاني لبوابة النثر العربي في العصر العباسي، فهو مثل ابن المقع فارسي الأصل. كما أنه بخيل، وله رسالة بليغة في ذم الكرم، ورسالة أخرى في ذم العرب. وبناء على ذلك فهو شعوبي مع أن الجاحظ الذي يكره الشعوبية كرهًا شديدًا أثنى على ذكائه وبلاغته. ويُعدّون التحاقه بدواوين الدولة العباسية إبّان حكم الرشيد والمأمون خطأ فادحًا من ذوي السلطة.
كانت تلك التوضيحات التي يُقدّمها بعض المثقفين لوسم الثقافة العربية بأنها مشظاة. لكن هل الثقافة العربية ثقافة مشظاة حقًا؟ هل يصلح ابن المقفع وسهل بن هارون ليكونا النموذج لهذه الثقافة في الأساس؟
في البدء قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات التي يقدمها أولئك المثقفون عن شعوبية ابن المقفع وابن هارون وأخلاقهما هي معلومات غير دقيقة، فيوجد ما يدحضها، وتعود في معظمها إلى أسباب سياسية، فاتهام ابن من المقفع بالزندقة وقتله يعودان في الدرجة الأولى إلى كتابه "رسالة الصحابة" التي ينتقد فيها نظام الحكم، وليس إلى تشدده في كتابة عهد الأمان. ثم إن الشعوبية التي اتهم بها سهل بن هارون ينفيها عنه كثير من العلماء والباحثين. فهذا المفكر واللغوي محمد كردي علي يصفه بالاعتدال، وأنه أخذ عن علماء العرب حتى أصبح من أئمة البلاغة والبيان والحكمة في الأمة العربية. فرجل بهذه الصفات كيف يكون شعوبيًّا؟
على كل حال، فإن جعل ابن المقفع وسهل بن هارون، مهما كان دورهما في الحياة الثقافية العربية، وما اتصفا به من صفات، النموذج للثقافة العربية غير موفق؛ فالثقافة، أية ثقافة من نتاج المجتمع، والفرد يكتسبها منه، وتتميز بأنها متغيرة ومتنوعة ومستمرة، تنتقل من جيل إلى جيل. إنها بكل بساطة منظومة متكاملة من العناصر المادية، مثل المباني والأدوات التي يستعملها الفرد، وغير المادية، مثل اللغة والأفكار والمعتقدات والقيم والفنون والآداب والأساطير والأخلاق والتشريعات وغيرها.
ثم إن الثقافة العربية ليست ثقافة مشظاة، بل ثقافة متنوعة واسعة متجذرة في التاريخ، وقد أفادت من الثقافات الأخرى: اليونانية والفارسية والهندية، واندمج كثيرون من ذوي الأصول المختلفة في هذه الثقافة، وأصبحوا جزءًا منها، فكان منها علماء وأئمة وأدباء وشعراء وفلاسفة من اليونان والروم والفرس والسريان والهنود وغيرهم، وكان نتاج هؤلاء ونمط حياتهم ولغتهم ضمن ثقافة عربية واحدة، شكلت الحضارة العربية التي أثرت في غيرها من الحضارات، وكانت النهضة الغربية الحديثة من ثمار تلك الحضارة.
إن تبادل التأثر والتأثير بين الثقافات، ووجود الأعراق وأصحاب الديانات والمعتقدات والتوجهات المختلفة في ثقافة ما لا يجعلها مفتتة، أو مهتزة، ولا يسمها بسمة التشظي، بل بسمة الإنسانية، ويمنحها ميزات القوة والتنوع والعمق، والقدرة على الأخذ والعطاء.
هكذا فقد استوعبت لغتنا العربية، وهي المكون الرئيسي من مكونات الثقافة العربية كثيرًا من الألفاظ والتراكيب من اللغات الأخرى. وعلى سبيل المثال وردت في القرآن الكريم كلمات أجنبية، مثل: استبرق وسندس والصراط وغيرها، فصارت عربية في الاستعمال والتعريب وإن كانت أصولها أجنبية. ولا يدل وجودها على أن القرآن (معاذ الله) نص متشظ، بل على أنه نص له عمقه الإنساني والكوني.
من الواضح أن وجود ابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهما من ذوي الأصول غير العربية ضمن الثقافة العربية لا يشظي هذه الثقافة؛ فهما قد اندمجا في الثقافة العربية، وانتميا إليها وصارا من رواد النثر فيها. كما أن وجود إدوارد سعيد ضمن الثقافة الأمريكية لا يجعل منها ثقافة مشظاة، رغم أنه من أصل عربي، ولا وجود جوزيف كونراد صاحب رواية "فلب الظلام" ضمن الثقافة البريطانية يشظيها رغم أنه من أصل بولندي. لقد انتميا إلى ثقافة غير ثقافتيهما، وأنتجا مؤلفات أدبية وفكرية بغير لغتيهما فأصبحا ملتحقين الأول بالثقافة الأمريكية، والثاني بالثقافة البريطانية. حتى إننا نجد في الأدب الأمريكي وفي كتابات إدوارد سعيد نفسه ما يشير إلى أنه مفكر وناقد أمريكي.
في النهاية نقول: إن مثل هذه الأفكار التي تواجهنا من وقت لآخر في مقالات بعض المثقفين، خاصة تلك التي ترى الثقافة العربية ثقافة مشظاة إنما هي أفكار لا تصمد أمام حقائق العلم والحياة؛ لأنها تتماشى مع الفكر الاستشراقي الذي ينظر إلى الثقافة العربية بأنها ثقافة متخلفة، وتساير الفكر ما بعد الحداثة الذي ينفي كل شيء، ويميت كل شيء أو يشظيه. وهي تظهر من وقت لآخر انبهارًا بما أفرزته العولمة، أو استجابة لمطامح شخصية، أو خضوعًا لتوجهات سياسية أو دينية أو طائفية ضيقة؟
أما سهل بن هارون، الذي يُعدونه الحارس الثاني لبوابة النثر العربي في العصر العباسي، فهو مثل ابن المقع فارسي الأصل. كما أنه بخيل، وله رسالة بليغة في ذم الكرم، ورسالة أخرى في ذم العرب. وبناء على ذلك فهو شعوبي مع أن الجاحظ الذي يكره الشعوبية كرهًا شديدًا أثنى على ذكائه وبلاغته. ويُعدّون التحاقه بدواوين الدولة العباسية إبّان حكم الرشيد والمأمون خطأ فادحًا من ذوي السلطة.
كانت تلك التوضيحات التي يُقدّمها بعض المثقفين لوسم الثقافة العربية بأنها مشظاة. لكن هل الثقافة العربية ثقافة مشظاة حقًا؟ هل يصلح ابن المقفع وسهل بن هارون ليكونا النموذج لهذه الثقافة في الأساس؟
في البدء قبل الإجابة عن هذين السؤالين، لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات التي يقدمها أولئك المثقفون عن شعوبية ابن المقفع وابن هارون وأخلاقهما هي معلومات غير دقيقة، فيوجد ما يدحضها، وتعود في معظمها إلى أسباب سياسية، فاتهام ابن من المقفع بالزندقة وقتله يعودان في الدرجة الأولى إلى كتابه "رسالة الصحابة" التي ينتقد فيها نظام الحكم، وليس إلى تشدده في كتابة عهد الأمان. ثم إن الشعوبية التي اتهم بها سهل بن هارون ينفيها عنه كثير من العلماء والباحثين. فهذا المفكر واللغوي محمد كردي علي يصفه بالاعتدال، وأنه أخذ عن علماء العرب حتى أصبح من أئمة البلاغة والبيان والحكمة في الأمة العربية. فرجل بهذه الصفات كيف يكون شعوبيًّا؟
على كل حال، فإن جعل ابن المقفع وسهل بن هارون، مهما كان دورهما في الحياة الثقافية العربية، وما اتصفا به من صفات، النموذج للثقافة العربية غير موفق؛ فالثقافة، أية ثقافة من نتاج المجتمع، والفرد يكتسبها منه، وتتميز بأنها متغيرة ومتنوعة ومستمرة، تنتقل من جيل إلى جيل. إنها بكل بساطة منظومة متكاملة من العناصر المادية، مثل المباني والأدوات التي يستعملها الفرد، وغير المادية، مثل اللغة والأفكار والمعتقدات والقيم والفنون والآداب والأساطير والأخلاق والتشريعات وغيرها.
ثم إن الثقافة العربية ليست ثقافة مشظاة، بل ثقافة متنوعة واسعة متجذرة في التاريخ، وقد أفادت من الثقافات الأخرى: اليونانية والفارسية والهندية، واندمج كثيرون من ذوي الأصول المختلفة في هذه الثقافة، وأصبحوا جزءًا منها، فكان منها علماء وأئمة وأدباء وشعراء وفلاسفة من اليونان والروم والفرس والسريان والهنود وغيرهم، وكان نتاج هؤلاء ونمط حياتهم ولغتهم ضمن ثقافة عربية واحدة، شكلت الحضارة العربية التي أثرت في غيرها من الحضارات، وكانت النهضة الغربية الحديثة من ثمار تلك الحضارة.
إن تبادل التأثر والتأثير بين الثقافات، ووجود الأعراق وأصحاب الديانات والمعتقدات والتوجهات المختلفة في ثقافة ما لا يجعلها مفتتة، أو مهتزة، ولا يسمها بسمة التشظي، بل بسمة الإنسانية، ويمنحها ميزات القوة والتنوع والعمق، والقدرة على الأخذ والعطاء.
هكذا فقد استوعبت لغتنا العربية، وهي المكون الرئيسي من مكونات الثقافة العربية كثيرًا من الألفاظ والتراكيب من اللغات الأخرى. وعلى سبيل المثال وردت في القرآن الكريم كلمات أجنبية، مثل: استبرق وسندس والصراط وغيرها، فصارت عربية في الاستعمال والتعريب وإن كانت أصولها أجنبية. ولا يدل وجودها على أن القرآن (معاذ الله) نص متشظ، بل على أنه نص له عمقه الإنساني والكوني.
من الواضح أن وجود ابن المقفع وسهل بن هارون وغيرهما من ذوي الأصول غير العربية ضمن الثقافة العربية لا يشظي هذه الثقافة؛ فهما قد اندمجا في الثقافة العربية، وانتميا إليها وصارا من رواد النثر فيها. كما أن وجود إدوارد سعيد ضمن الثقافة الأمريكية لا يجعل منها ثقافة مشظاة، رغم أنه من أصل عربي، ولا وجود جوزيف كونراد صاحب رواية "فلب الظلام" ضمن الثقافة البريطانية يشظيها رغم أنه من أصل بولندي. لقد انتميا إلى ثقافة غير ثقافتيهما، وأنتجا مؤلفات أدبية وفكرية بغير لغتيهما فأصبحا ملتحقين الأول بالثقافة الأمريكية، والثاني بالثقافة البريطانية. حتى إننا نجد في الأدب الأمريكي وفي كتابات إدوارد سعيد نفسه ما يشير إلى أنه مفكر وناقد أمريكي.
في النهاية نقول: إن مثل هذه الأفكار التي تواجهنا من وقت لآخر في مقالات بعض المثقفين، خاصة تلك التي ترى الثقافة العربية ثقافة مشظاة إنما هي أفكار لا تصمد أمام حقائق العلم والحياة؛ لأنها تتماشى مع الفكر الاستشراقي الذي ينظر إلى الثقافة العربية بأنها ثقافة متخلفة، وتساير الفكر ما بعد الحداثة الذي ينفي كل شيء، ويميت كل شيء أو يشظيه. وهي تظهر من وقت لآخر انبهارًا بما أفرزته العولمة، أو استجابة لمطامح شخصية، أو خضوعًا لتوجهات سياسية أو دينية أو طائفية ضيقة؟