(1)
نقف في السطور التالية إزاء روايتين نالتا حظّاً وافراً من الشهرة التي تجاوزت بلديهما إلى العالم كلّه، وترجمتا إلى العديد من اللغات: الأولى رواية “اسم الوردة” (1980) للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو[1]، والثانية رواية “عزازيل” (2008) للمصري يوسف زيدان[2]، ذلك أنّ بينهما كثيراً من المشتركات التي تلفت نظر القارئ.
وإذا كان النقد قد توجه بشكل عام إلى عقد بعض المقارنات بين “عزازيل” يوسف زيدان، و”ِشيفرة دافنشي” للأمريكي دان بروان، أو إلى اتهام زيدان بنسخ تجربة تشارلز كينغسلي في “أعداء جدد بوجه قديم”؛ فإنّه يبدو لنا من الأولى عقد تلك المقارنات بين “عزازيل” و”اسم الوردة”، ذلك أنّ التشابهات التي تثير شهية المقارنة لا تقتصر على القضية العامة، وبعض القضايا التفصيلية التي تثيرها الروايتان، بل تتعدى ذلك إلى بعض طرائق الاشتغال السردي.
(2)
تبدو الروايتان للوهلة الأولى مختلفتين تماماً من حيث حكايتيهما، فرواية إيكو رواية بوليسية تهتم حبكتها بكشف سلسلة جرائم يتم ارتكابها بوساطة كتاب مسموم، بينما تحكي رواية عزازيل حياة راهب يتقلّب بين الروح والمادة، غير أنه عند التحقيق نجد الروايتين فلسفيتين تهتمان بالصراع الفكري الذي كان محتدماً داخل منظومة الفكر المسيحي منذ بداية انتشار الدين المسيحي إلى ما قبل عصر التنوير.
تبدأ حكاية رواية “اسم الوردة” من وصول الراهب الفرانشيسكاني غوليالمو ومرافقه آدسو/ السارد إلى دير في شمالي إيطاليا عام 1327م، تحضيراً لأعمال اجتماع بين ممثلين عن الرهبنة الفرانشيسكانية وممثلين عن البابا، لمناقشة قضية الفقر والكنيسة. ثم يجد غوليالمو نفسه، بطلب من رئيس الدير، متقصياً عن جريمة قتل حصلت في الدير، ثم تبعتها خلال أيام سلسلة جرائم مثيرة للرعب. وهكذا يجتهد غوليالمو، ويرافقه مساعده أدسو في حل اللغز قبل موعد الاجتماع، فيتعرف أكثر إلى الدير، ويحاول الدخول إلى مكتبته الحصينة التي تشبه المتاهة، فيدخلها، ويكتشف أخيراً أنّ قيّمَ المكتبة يورج هو الذي قام بتسميم كتاب “الكوميديا” لأرسطو الذي تصفّحه هؤلاء الضحايا الراغبون في المعرفة الدنيوية، ويسعى أخيراً إلى أن يقتل غوليالمو ومساعده، معرباً عن رغبته في (إهدائه الكتاب تقديراً لذكائه!!):
“ـ هيّا، اقرأْ، تصفّحْ. إنّه لك. لقد نلته عن جدارة.
فضحك غوليالمو وكأنه يهزأ: إذاً ليس صحيحاً أنك تعتبرني فطناً، كما كنت تقول، يا يورج، أنت لا ترى ذلك. ولكنني أحمل قفازين. وبأصابعي المعرقلة لا أقدر على فصل الأوراق، إحداها عن الأخرى، كان ينبغي أن أفعل ذلك بيدين عاريتين، وأن أبلل أصابعي بلساني (…) حتّى يمرّ السمّ إلى فمي بمقدارٍ كافٍ. أعني السمّ الذي سرقته أنت ذات يوم منذ زمن بعيد من مخبر سفيرينو[3]“، وتنتهي الحكاية باحتراق المكتبة والدير احتراقاً كاملاً بسبب سقوط السراج على الكتب.
أما رواية “عزازيل” فهي تحكي عن الراهب هيبا الذي يشهد مقتل أبيه في أخميم، بعد أن وشت أمه به، فيهرب إلى الإسكندرية؛ ليتعرف إلى أوكتافيا التي كانت تنتظره على شاطئ بحرها، فيغرم بها، وينوس بين الرهبانية وأوكتافيا. وإذ ذاك تنتصر الرغبة في جولة من جولاتها، ويمضي بعدها هيبا إلى كنيسة الإسكندرية؛ ليرى وجهاً من أوجه التشدد الديني الذي تمارسه الكنيسة في ملاحقة العلماء والمفكّرين، وتستهدف هيباتيا التي تلقي محاضرات في الرياضيات، وتحرّض الناس ضدّها، فتقوم الجماهير الهائجة بقتلها، وقتل أوكتافيا التي تدافع عنها.
ثمّ يلجأ هيبا إلى هروبه الثاني، بعد ثلاث سنوات من التيه، بعد أن يرى حلماً يقوده إلى القدس، فيتوجه إليها، وبعد فترة من إقامته في القدس إلى جانب القس نسطور، تأتي ساعة انتقال نسطور إلى القسطنطينية، ليكون أسقفاً للعاصمة الإمبراطورية، فيعرض عليه الانتقال إلى دير تابع للكنيسة في أنطاكية، فيوافق دون تردد؛ وإذ يذهب إلى الدير في أنطاكية يجد صوراً أخرى للخلافات الفكرية، ويتعرف إلى حبيبته الثانية مرتا التي تسافر إلى حلب مضطرة، في سياق روائي مسوّغ، وتأتي إليه أخبار القسطنطينية تباعاً، وتنتهي بعزل نسطور، وانتصار الكنيسة الإسكندرية، فيقرر أن يكتب مذكراته بناء على اتفاق مع عزازيل.
وإذا كانت الحكايتان على هذا القدر من الاختلاف فما الذي يغري إذاً؟ وما الذي يفتح شهية المقارنة بينهما؟
(3)
نشير أولاً إلى أن الروايتين كلتيهما تطرحان القضايا نفسها تقريباً؛ فإذا كان إيكو قد طرح لغز الكتاب المسموم، فإنه لم يكتف بذلك بل طرح ألغاز النفس البشرية، وهذا ما يشترك فيه مع يوسف زيدان، مثلما يشترك معه في المناقشات اللاهوتية الدينية التي غصت بهما صفحات الروايتين.
لقد تفرّد إيكو بعبقرية حبكته للحكاية حين حوّلها من رواية بوليسية تشبه روايات أغاثا كريستي إلى رواية بوليسية فلسفية، وإن كانت حكاية الكتاب المسموم ذاتها ليست جديدة، فقد أخذها إيكو من الليلة الخامسة من ليالي ألف ليلة وليلة، وفيها حكاية حكيم أصرّ الملك على قتله؛ لظنّه أنه يتآمر عليه، مع أنّ الحكيم يحذره: “أبقني يبقك الله، ولا تقتلني يقتلك الله[4]“، فيطلب الحكيم منه مهلة؛ كي يوصي أهله وجيرانه بدفنه، ويعده مقابل المهلة بإهدائه كتاباً عجيباً، إذا عدّ منه ثلاث ورقات، وقرأ ثلاثة أسطر من الصفحة التي على يساره، فإن رأسه المقطوع سيكلّم الملك. وإذ عاد إليه بالكتاب وجده الملك ملصوقاً، “فحطّ إصبعه في فمه، وبلّه بريقه، وفتح أول ورقة والثانية والثالثة، والورق ما يفتح إلا بجهد. ففتح الملك ست ورقات، ونظر فيها، فلم يجد فيها كتابة. فقال الملك: أيّها الحكيم ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلّب زيادة على ذلك. فقلّب فيه زيادة، فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته، فإنّ الكتاب كان مسموماً[5]“.
فإذا نحّينا محور الجريمة جانباً، وأنعمنا النظر في طبيعة المناقشات الدائرة بين الشخصيات في الروايتين وجدنا تشابهاً كبيراً، إذ تناقش الروايتان الصراعات المذهبية داخل الكنيسةـ وتجليات انعكاسها على المجتمع، على الرغم من الفارقين الزماني والمكاني للمجتمعين الذين صورتهما الرواية؛ إذ تحكي رواية إيكو عن المجتمع المسيحي في القرن الرابع عشر قبل عصر التنوير في دير شمالي إيطاليا؛ بينما تدور أحداث رواية “عزازيل” في القرن الخامس الميلادي ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سوريا، عقب تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية.
فقد عرض إيكو أوجه ذلك الصراع من خلال الحوارات الكثيرة بين الفرانشسكانيين والبابويين، ومن خلال المحادثات الدينية والفقهية بين غوليالمو وتلميذه أدسو، فتنوعت القضايا حول فرق الهراطقة، وحول قضية فقر الشعب وغنى الكنيسة، وظهرت الخلافات بين دعاة التفسير الحرفي للكتب المقدسة ودعاة إعمال العقل في فهم العالم، إضافة إلى المناقشات حول محاكم التفتيش التي كان غوليالمو نفسه يعمل فيها، قبل أن يكتشف أنها تعمل لإرضاءالكنيسة لا لإرضاء الله.
ولعلّنا نشير إلى السياق التالي الذي يجسد الخلاف بين متطرفي الفرانشيسكانية والروحانيين الذين حاولوا أن يخرجوا عن الرهبانية بسلام: “وقد حاول الروحانيون الحصول على موافقة بابوات آخرين، مثل كليمانتي، حتى يمكنهم من الخروج عن الرهبانية بطريقة غير عنيفة. وأظنّ أنهم توصلوا إلى ذلك، ولكن مجيء جيوفاني الثاني والعشرين نزع منهم كل أمل. ما أن انتُخب سنة 1316 حتى أرسل إلى ملك صقلية يطرد من أراضيه أولئك الإخوان[6]“.
كما يمكن أن نشير إلى محادثة جرت بين غوليالمو ورئيس الدير حول العلة والمعلول[7]، وأخرى بينه وبين أدسو حول الطبيعة الإنسانية[8]، وثالثة بينه ونيكولا حول السحر الشيطاني والسحر الإلهي[9]. كذلك تمكن الإشارة إلى التحقيق مع ميكيلي الذي “يؤمن بالمسيح فقيراً ومصلوباً وأنّ البابا جيوفاني الثاني والعشرين هرطيق لأنه يقول عكس ذلك، وهو التحقيق الذي انتهى بالحكم على ميكيلي بالإعدام حرقاً:
“وسقط على الأرض؛ لأن الحبال التي كانت توثقه قد تقطعت، وكان قد مات لأنه قبل أن يحترق الجسم تماماً يموت الإنسان من فرط الحرارة التي تجعل القلب ينفلق من الدخان الذي يغمر الصدر. ثم اشتعل الكوخ بأكمله، كما لو كان مشعلاً، وأحدث وميضاً كبيراً[10]“.
ويستحضر هذا المشهد أجواء الرعب والعنف التي تحضر بقوة في الرواية؛ فبالإضافة إلى الجرائم المتوالية في الدير التي طالت أدالمو وفينانسيو وبرينغاريو وسفيرينو وملاخي وغيرهم، هناك مشاهد عنف تروى استرجاعاً، من مثل إحراق دولتشينو ومارغريت بعد تقطيع أوصالها، ومن مثل مشهد قطع أنف دواتشينو وخصيتيه بكلابات حامية[11]، وإعدام الآلاف من أتباع دولتشينو دون رحمة، بدعوى الهرطقة.
وتستدعي هذه الصور الدموية للخلافات العقيدية إلى أذهاننا مشاهد مروّعة مشابهة من رواية “عزازيل”؛ حيث تقود الخلافات العقيدية إلى العنف والدم، بدءاً من مقتل والد الراهب هيبا في أخميم طعناً بالسكاكين الصدئة التي كان يخبئها القتلة تحت ثيابهم الرثة[12]؛ وهذا ما يدفع هيبا إلى الهرب، حيث تبدأ رحلة هيبا بكشف وجه من أوجه التشدد الديني، ثم تتلاحق أوجه التشدد؛ حيث تنتقم الكنيسة من العلماء والمفكّرين، فتستهدف هيباتيا التي تلقي محاضرات في الرياضيات، وتحرّض الناس ضدّها، فتقوم الجماهير الهائجة بقتلها؛ فعندما تبلغ كراهية هيباتيا مداها عند الكنيسة والبابا، يقوم البابا بتهييج الجماهير، مستشهداً بقول المسيح: “ما جئتُ لألقي في الأرض سلاماً بل سيفاً[13]“. وعندما تتقابل غوغائية العوام مع الفكر تنتصر الغوغائية وتقتل هيباتيا قتلاً بشعاً بعد سحلها في شوارع الإسكندرية، بعد أن تقتل أوكتافيا التي حاولت الدفاع عنها. ويقدّم السارد لقتل هيباتيا بسياق ينذر بشرّ مستطير: “ثار غبار الطرقات، وهربت الملائكة الرحيمة من السماء، وحدّثني قلبي بقرب وقوع حدث مروّع، كنت أسير مأخوذاً بما يجري من حولي، وكأنني في واحدة من رؤى سفر حبقوق المنذرة بفناء العالم وزوال الدنيا[14]“.
وإذا كنا نشير إلى تشابه كثير من القضايا المثارة للنقاش في الروايتين حول طبيعة السيد المسيح وغيرها، فإننا نخص بالذكر القضية التي أفرد لها إيكو فصلاً كاملاً حول فقر المسيح (يُنظر: مطلع اليوم الخامس: أولى)[15]، وهي قضية أشار لها يوسف زيدان في سياق مقارنة يعقدها هيبا بين الأسقف وتمثال يسوع:
“نظرتُ إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثمّ إلى الرداء الموشّى للأسقف! ملابس يسوع أسمالٌ بالية ممزَّقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كلّه، وبالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام الدنيا، وفي يد الأسقف صولجان، أظنّه من شدّة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص[16]“.
(4)
فإذا انتقلنا من التشابهات الثيمية إلى التشابهات الفنية أمكننا أن نقول إنّ اللعبة السردية العامة واحدة، تعتمد على (أوراق ـ لفائف ـ مخطوط..) كانت مختفية قروناً عديدة، ثم وصلت إلى من قدّمها للقارئ بسبب أهميتها، بطريقة يمتزج فيها الواقعي بالتخيلي، والعادي بالمثير، فقد أشار السارد الخارجي عند إيكو إلى أنه تسلم عام 1968 كتاباً من تأليف الأب فالي بعنوان: “مخطوط دون أدسون دا مالك”، “وفيه يؤكد مؤلفه بأنه نسخ بوفاء مخطوطاً يعود إلى القرن الرابع عشر[17]“، وتابع السارد أن قصة أدسو دا مالك الرهيبة قد شغلته وأثارته، خلال رحلة مع صديقته، إلى درجة أن وضع لها ترجمة فورية؛ وإذ تشاجر مع رفيقة سفره، اختفت حاملة معها الكتاب الذي لم يبق منه سوى ترجمات فورية سريعة موجودة في كراسات كتبها السارد بخط يده، وحاول البحث عن نسخة مطابقة للكتاب دون أن يفلح إلا في إيجاد نسخة تختلف في بعض جزئياتها، وليجد عام 1970 كتاباً فيه فقرات تتطابق تماماً مع المخطوط الذي ترجمه فالي الذي يعترف فيه أنه ترجم النص بتصرفٍ طال الأساليب والأفكار معاً. وهذا كله يضفي الإثارة والغموض حول مؤلف الكتاب، وحول صحة الكتاب، وتمامه.
أمّا فيما يتعلق برواية عزازيل فيشير “المترجم” في مقدمته أنّ هذا الكتاب “ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الحافلة الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، وهو مثل إيكو، يوهم بالوقائع من خلال الإيحاء بتداخل الرقوق، على الرغم من حالتها الجيدة، مع هوامش وتعليقات كتبها راهب عربي من مدينة الرها على أطرافها، ولإضفاء المزيد من الإثارة، فإن الرقوق التي دونها الراهب هيبا كانت موضوعة في صندوق خشبي محكم الإغلاق.
لقد نشرت الروايتان، مجازاً، مذكّرات أدسو ومذكّرات هيبا بعد عدة قرون على وفاتهما، فقال أدسو: “ها أنا أتهيأ لأن أترك على هذا الرق بينة على الأحداث المدهشة والرهيبة التي عشتها وأنا شاب، معيداً بالحرف والكلمة ما شاهدت وما سمعت، دون المجازفة بأي حكم أو استنتاج[18]“.
وقال هيبا: “من أين أبدأ تدويني؟.. البدايات متداخلة ومحتشدة برأسي. ولعلّ البدايات كما كان أستاذي القديم سوريانوس يقول، ما هي إلا محض أوهام نعتقدها (…) فكلّ شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ، ويتداخل مع ما به اتّصل. فليس ثمّة بداية ولا نهاية على الحقيقة، وما ثمَّ إلا التوالي الذي لا ينقطع[19]“.
كما أشارت الروايتان في مواقع متعددة إلى التدوين، ومنها قول أدسو: “وعسى ألا ترتعش يدي وأنا أتهيأ لسرد ما حدث لنا بعد ذلك[20]“. ومنها قول هيبا: “أظنُّ أنَّ خوفي من الانتهاء، وليس إلحاح عزازيل هو دافعي للكتابة[21]“.
وعلى الرغم من مجالات التشابه بين الروايتين، فقد بدا يوسف زيدان متفهماً جداً لطبيعة المجتمع العربي وثقافته، فقدّم روايته التي جعلت القارئ يتلقفها بنهم، بسبب ما انجبلت عليه من لغة متفردة، وقدرة على المحاورة.. حتى فيما يتعلّق بالعنوان الذي بدا نموذجياً تماماً، إذ بدا قصيراً ومثيراً ولافتاً في الوقت ذاته، ولا ينقص من جماله أبداً أنه إشارة لاسم، لأن القارئ العربي مرتبط سيكولوجياً بالأسماء أكثر من ارتباطه بالأفكار، ويمكن له أن يتقبّل الاسم في العنوان، على عكس العقل الغربي الذي نجده لا يميل كثيراً لهذا الأمر.
فقد أشار إيكو نفسه إلى أنّ الناشر قد رفض أن تسمّى الرواية باسم شخصيتها الرئيسة (أدسو دي مالك)، كما أشار إلى تردّده كثيراً في اختيار عنوان روايته، حيث وضع خيارات متعددة قبل أن يستقر على “اسم الوردة”، وبارك له أصدقاؤه هذا الاسم، لأن الوردة في المخيال الأوروبي عامة ذات أبعاد دلالية متعددة، وصار تعدد الدلالات مثار غموض أكثر إيحاءً (تمكن مراجعة مقدمة الطبعة العربية التي كبتها المترجم الأستاذ أحمد الصمعي).
وإذا كان زيدان قد قدّم رواية عزازيل في ثلاثين رقاً تعاقبياً، فإن إيكو جعَل مذكرات أدسو تجري على سبعة أيام مع تحديدات زمنية داخلية، تشير إلى الساعات التي تحدد الفروض الدينية، ويشرحها السارد، وينسبها احتمالاً، من أجل زيادة الغموض والإثارة، إلى الأب فالي الذي ترجم النصوص إلى الفرنسية لا إلى أدسو الذي كتب المذكرات. فثمة في عناوين الفصول للأيام السبعة مثل: (أول الصبح، وصلاة الحمد، وأولى وثالثةـ وسادسةـ وتاسعة، وصلاة الستار، وصلاة النوم[22])، وثمة تحديدات زمنية مشتقة منها من مثل: حوالي تاسعة وبعد تاسعة وبعد صلاة الستار وبعد صلاة النوم، وليلاً، إضافة إلى ورقة أخيرة تصف مشهد احتراق الدير والمكتبة في نهاية الرواية.
وبينما بدأ إيكو بعرض مخطط الدير، وانتهى بعرض مخطط المكتبة، فقد أفرد زيدان عدة صفحات في نهاية روايته لعرض صور منها: منزل هيبا في أخميم، والمسرح الذي استمع فيه هيبا لهيباتيا، وأطلال الدير الذي جرت فيه الأحداث وغيرها.
(5)
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً أن كلتا الروايتين اعتمدتا على الإطار البنائي العام ذاته، وبدا إيكو أكثر تشويقاً في صناعة متاهة الحبكة التي تشبه متاهة المكتبة التي أبدعها خياله، في حين بدت لغة زيدان أكثر سلاسة في تقديم مقولاته الذهنية، وفي ربطه بين الأحداث على مدى الرواية. على أننا لا نحسم الأمر بشأن أفضلية سلاسة لغة زيدان الباهرة؛ لأن النص المقابل كتب بالإيطالية، ولعلّ الترجمة قد حرمتنا سلاسة تظهرها اللغة الأم على نحو أفضل.
غير أن ربط الأحداث وتشتت السرد جاء أكثر صعوبة، واحتاج إلى كثير من الأناة عند متلقي إيكو، خاصة في ربع الرواية الأوّل الذي يصعب على أي قارئ أن يتابع تفاصيله دون أن يقع في الملل، وهو أمر استطاع إيكو لاحقاً أن يلمّ شعثه، وأن يقنع المتلقي الصابر بأنّ كل التفاصيل، بما فيها تفاصيل وصف المكان هي تأثيث تمهيدي لحدث لاحق. من هنا جاء وصف الدير والمكتبة مؤثثاً تأثيثاً دقيقاً، وربما مملاً. وقد تبادل كل من الدير والمكتبة الأهمية في سرد الرجلين، فالمكتبة أكثر حضوراً وأهمية عند إيكو، وتسويغ ذلك أنها تشكّل بدء اللغز ومنتهاه، بينما تحتل في سرد زيدان مكانة ثانوية تناسب حضورها في الحدث. وفي كل الأحوال يبقى وصف المكتبة والدير سمة مكانية تضاف إلى السمات المشتركة بين الروايتين.
ويمكن للاستشهاد أن نشير إلى صورة الدير في الروايتين، وإن بدت أكثر تفصيلاً عند إيكو. يبدأ أدسو/ السارد بوصف الدير مع بداية السرد، فهو “بناية مثمنة الزوايا، تظهر من بعيد كأنها رباعية الأضلاع (صورة تامة الكمال تعبّر عن ثبات ومناعة مدينة الله) تنتصب جوانبها الجنوبية على الرحبة التي أقيم فوقها الدير، بينما الشمالية منها كانت تبدو وكأنها نشأت من الجبل نفسه، وتتعرّق منه عمودياً. أعني أنه، في بعض النقاط تظهر الصخور من الأسفل، وكأنها تتعالى نحو السماء، لتصبح على ارتفاعٍ ما برجاً وقلعةً، لا فرق بينهما في اللون وفي المادة (ومن صنع عمالقة لهم ألفة كبيرة بالأرض والسماء) ثلاثة صفوف من النوافذ تدلّ على النسق الثلاثي الذي تمتاز به تعليته، مما يجعل ما هو مربع على الأرض مثلثاً في السماء من الناحية الروحية[23]“. والمجال ها هنا لا يتسع للأوصاف والمؤثِّثات التي غصّت بها الرواية، ولكننا نورد المقطع للبرهنة على أن وصف الدير يعدُّ أحد المشتركات بين الروايتين، ونورد هنا مقطعاً يصف فيه زيدان الدير، على لسان هيبا الراهب:
“يقع الدير على رأس تلة مرتفعة، تحيط به تلال متفرقة وسهول، بوابته فتحة في جدار قديم لا يحيط بإحكام، بالساحة المتناثر فيها أعمدة رومانية قديمة، بعضها قائم عال، والبعض الآخر متهدّم متناثر القطع. مدخل الدير من الناحية الجنوبية، حيث المرتقى الصعب للتلة العالية، أما النواحي الثلاث الأخرى فلا مرتقى لها أصلاً ولا انحدار، فهي انحدار حاد يبدو معه الدير كمثل شرفة عالية تطل على آفاق لا يحدها البصر شمالاً وشرقاً وغرباً. تحت الدير من ناحية الجنوب قرية صغيرة بيوتها متناثرة على غير نظام[24]“.
(6)
على مستوى الشخصيات ثمة تشابهات كثيرة، ليست فقط على المستوى الشكلي، بل على مستوى ما تمثله تلك الشخصيات؛ فثمة تقابلات كثيرة بين نماذج شخصيات الروايتين التي تمثّل التشدد الديني، والشخصيات المعتدلة التي لا تفهم النصوص فهماً حرفياً، وثمة تقابلات أخرى بين نماذج تريد للدين أن يبقى في الكنيسة، ونماذج تريد منه أن يتحكّم بالحياة برمّتها.
هذه التشابهات، وإن كانت مسوّغة في حبكتي الروايتين، وفي إطارهما العام، وإن كانت تناسب موضوعيهما؛ فإنها تؤشر بقوة إلى أن حدود تأثر زيدان برواية إيكو لم يقف فقط عند حدود الإطار العام.
ولعلنا نشير على سبيل المثال إلى شخصية الشيطان/ عزازيل في الروايتين؛ إذ ثمة عدة سياقات روائية تتحدث عنه في السرد، ومن ذلك ما يقوله رئيس الدير لغوليالمو الذي كان قد برّأ عدداً من المتهمين في محاكم التفتيش: “إني أومن خاصة في هذه الأيام المحزنة بتدخل الشيطان المستمر في شؤون الإنسان (…) ولكنني أعتقد أيضاً أن الشيطان يعمل في كثير من الأحيان لأغراض ثانية. وأعرف أن بوسعه أنّ يدفع ضحاياه لفعل الشر بطريقة تجعل الذنب يقع على بريء[25]“. فيردّ عليه غاليالمو غامزاً من قناة المحققين في تلك المحاكم: “يحدث أيضاً أن يكون المحقق محرّكاً من طرف الشيطان[26]“.
وفي سياق آخر يعبّر غاليالمو عن إيمانه بأن الشرّ، حين يتمكن من قلب الإنسان، يجعل منه شيطاناً، على نحو ما نجد في السياق التالي الذي يتحدث فيه إلى يورج بعد أن كشف سلسلة جرائمه المتوالية: “إنك أنت الشيطان (…) لقد كذبوا عليك. إن الشيطان ليس أمير المادة، إنه صلف الفكر، هو الإيمان دون ابتسام، الحقيقة التي لا يعتريها الشك. الشيطان قائم؛ لأنه يعرف أين يذهب. ويذهب دائماً إلى المكان الذي ذهب منه. أنت الشيطان، وكالشيطان تعيش في الظلمات[27]“.
في الجانب الآخر تبدو صورة الشيطان أكثر وضوحاً وطرافة في رواية “عزازيل”، فهو شخصية لها وجودها وتدخلها الواضح في إقناع هيبا بأمور كثيرة منها تدوين مذكراته، وفي تشجيعه على تطوير علاقته مع أوكتافيا ومرتا:
“أمضيتُ يومين بالمكتبة، أحاور عزازيل حتى أقنعته بأمور، وأقنعني بأمور كنت متردداً فيها.. كان مما أقنعني به وصادف هوى في نفسي أن أختلي بصومعتي هذه أربعين يوماً، أدوّن خلالها ما رأيته في حياتي منذ هروبي من قرية أبي، حتى رحيلي عن هنا غداً، للقيام بما اتفقنا عليه (..) والآن سأغفو قليلاً، ثم أصحو قبل الفجر، فأضع الرقوق في هذا الصندوق، وأواريه التراب تحت الحجارة الكبيرة التي عند بوابة الدير، ولسوف أدفن معه خوفي الموروث، وأوهامي القديمة كلّها. ثم أرحل مع شروق الشمس، حرّاً[28]..”. ويبدو عزازيل/ الشيطان ذا حضور طاغ في السرد، إذ إنه يحرّض هيبا باستمرار على متابعة تدوين مذكراته، كاشفاً تردده، ويكون حضوره نتيجة للتردد الدائم الذي يميّز شخصية هيبا، لذلك يصرُّ دائماً أنه يأتي بناء على طلب هيبا نفسه:
– “عزازيل! جئت؟
– يا هيبا، قلتُ لك مراراً إنني لا أجيء ولا أذهب، أنت الذي تجيء بي حين تشاء[29]“
وهو دائماً يمثل النصف الآخر لهيبا المتردد، فيدعوه إلى ما يرغب به، لذلك يسعى إلى إقناع هيبا بتحقيق رغباته التي يتوق إليها في خفايا روحه، مثلما يدعوه لتدوين تلك الرغبات، فهو ينصحه أن يذهب إلى مرتا، ليحقق كل من الحبيبين سعادته وهناءته، وليحقق عزازيل ذاته، من خلال فعل الغواية:
“اسعد بها، ودعها تمرح، ثمَّ صبّ عليّ اللعنات لأنني أغويتك، فنكون نحن الثلاثة قد تحققنا، وحققنا ذواتنا[30]“.
(7)
تتفق الروايتان إذاً في كثير من الأشياء التي تثير شهية المقارنة، بالإضافة إلى أنهما تحققان رؤية كل من إيكو وزيدان في الدعوة إلى تمجيد الخير، والدعوة إلى الحبّ، ورفض العنف، والانتصار للفكر الحرّ الذي يلاحقه التطرف الفكري، بحجة المحافظة على جوهر الدين وصفائه.
يجب أن نشير أخيراً إلى أنّ افتراض عدم اطلاع زيدان على اسم الوردة، بترجمتها العربية على الأقل، هو احتمال بعيد، فالتشابه أكثر من أن يكون مجرد توارد خواطر: إنّه اطلاع على رواية إيكو، وإفادة مثلى من تقنيتها الروائية العامة، والبناء على الهيكلية التنظيمية للرواية، وعلى ما حصّله زيدان من ثقافة موسوعية، تؤهله لهذا التشابه.. كيف لا. وقد جاب كلّ من زيدان وإيكو حقول المعرفة ذاتها في النقد والفكر والثقافة والأديان؟
[1] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، ترجمة أحمد الصمعي، دار التركي للنشر، تونس، 1991.
[2] يوسف زيدان: عزازيل، دار الشروق، القاهرة، ط14، آب (أغسطس)، 2009.
[3] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص ص504ـ 505.
[4] ألف ليلة وليلة، دار صادر بيروت، ط2، 2008، مج1، ص25.
[5] المصدر نفسه، ص26.
[6] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، ترجمة أحمد الصمعي، دار التركي للنشر، تونس، 1991، ص72.
[7] المصدر نفسه، ص50.
[8] نفسه، ص220.
[9] نفسه، ص110.
[10] نفسه، ص265.
[11] نفسه، ص ص418ـ 419.
[12] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص41.
[13] المصدر نفسه، ص152.
[14] نفسه، ص153.
[15] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص ص367ـ380.
[16] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص146.
[17] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص21.
[18] المصدر نفسه، ص29.
[19] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص15.
[20] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص36.
[21] يوسف زيدان: عزازيل، ص50.
[22] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص27.
[23] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص39.
[24] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص ص195ـ196.
[25] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص49.
[26] المصدر نفسه، ص49.
[27] نفسه، ص513.
[28] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص ص367ـ368.
[29] المصدر نفسه، ص100.
[30] نفسه، 365.
نقف في السطور التالية إزاء روايتين نالتا حظّاً وافراً من الشهرة التي تجاوزت بلديهما إلى العالم كلّه، وترجمتا إلى العديد من اللغات: الأولى رواية “اسم الوردة” (1980) للكاتب الإيطالي أمبرتو إيكو[1]، والثانية رواية “عزازيل” (2008) للمصري يوسف زيدان[2]، ذلك أنّ بينهما كثيراً من المشتركات التي تلفت نظر القارئ.
وإذا كان النقد قد توجه بشكل عام إلى عقد بعض المقارنات بين “عزازيل” يوسف زيدان، و”ِشيفرة دافنشي” للأمريكي دان بروان، أو إلى اتهام زيدان بنسخ تجربة تشارلز كينغسلي في “أعداء جدد بوجه قديم”؛ فإنّه يبدو لنا من الأولى عقد تلك المقارنات بين “عزازيل” و”اسم الوردة”، ذلك أنّ التشابهات التي تثير شهية المقارنة لا تقتصر على القضية العامة، وبعض القضايا التفصيلية التي تثيرها الروايتان، بل تتعدى ذلك إلى بعض طرائق الاشتغال السردي.
(2)
تبدو الروايتان للوهلة الأولى مختلفتين تماماً من حيث حكايتيهما، فرواية إيكو رواية بوليسية تهتم حبكتها بكشف سلسلة جرائم يتم ارتكابها بوساطة كتاب مسموم، بينما تحكي رواية عزازيل حياة راهب يتقلّب بين الروح والمادة، غير أنه عند التحقيق نجد الروايتين فلسفيتين تهتمان بالصراع الفكري الذي كان محتدماً داخل منظومة الفكر المسيحي منذ بداية انتشار الدين المسيحي إلى ما قبل عصر التنوير.
تبدأ حكاية رواية “اسم الوردة” من وصول الراهب الفرانشيسكاني غوليالمو ومرافقه آدسو/ السارد إلى دير في شمالي إيطاليا عام 1327م، تحضيراً لأعمال اجتماع بين ممثلين عن الرهبنة الفرانشيسكانية وممثلين عن البابا، لمناقشة قضية الفقر والكنيسة. ثم يجد غوليالمو نفسه، بطلب من رئيس الدير، متقصياً عن جريمة قتل حصلت في الدير، ثم تبعتها خلال أيام سلسلة جرائم مثيرة للرعب. وهكذا يجتهد غوليالمو، ويرافقه مساعده أدسو في حل اللغز قبل موعد الاجتماع، فيتعرف أكثر إلى الدير، ويحاول الدخول إلى مكتبته الحصينة التي تشبه المتاهة، فيدخلها، ويكتشف أخيراً أنّ قيّمَ المكتبة يورج هو الذي قام بتسميم كتاب “الكوميديا” لأرسطو الذي تصفّحه هؤلاء الضحايا الراغبون في المعرفة الدنيوية، ويسعى أخيراً إلى أن يقتل غوليالمو ومساعده، معرباً عن رغبته في (إهدائه الكتاب تقديراً لذكائه!!):
“ـ هيّا، اقرأْ، تصفّحْ. إنّه لك. لقد نلته عن جدارة.
فضحك غوليالمو وكأنه يهزأ: إذاً ليس صحيحاً أنك تعتبرني فطناً، كما كنت تقول، يا يورج، أنت لا ترى ذلك. ولكنني أحمل قفازين. وبأصابعي المعرقلة لا أقدر على فصل الأوراق، إحداها عن الأخرى، كان ينبغي أن أفعل ذلك بيدين عاريتين، وأن أبلل أصابعي بلساني (…) حتّى يمرّ السمّ إلى فمي بمقدارٍ كافٍ. أعني السمّ الذي سرقته أنت ذات يوم منذ زمن بعيد من مخبر سفيرينو[3]“، وتنتهي الحكاية باحتراق المكتبة والدير احتراقاً كاملاً بسبب سقوط السراج على الكتب.
أما رواية “عزازيل” فهي تحكي عن الراهب هيبا الذي يشهد مقتل أبيه في أخميم، بعد أن وشت أمه به، فيهرب إلى الإسكندرية؛ ليتعرف إلى أوكتافيا التي كانت تنتظره على شاطئ بحرها، فيغرم بها، وينوس بين الرهبانية وأوكتافيا. وإذ ذاك تنتصر الرغبة في جولة من جولاتها، ويمضي بعدها هيبا إلى كنيسة الإسكندرية؛ ليرى وجهاً من أوجه التشدد الديني الذي تمارسه الكنيسة في ملاحقة العلماء والمفكّرين، وتستهدف هيباتيا التي تلقي محاضرات في الرياضيات، وتحرّض الناس ضدّها، فتقوم الجماهير الهائجة بقتلها، وقتل أوكتافيا التي تدافع عنها.
ثمّ يلجأ هيبا إلى هروبه الثاني، بعد ثلاث سنوات من التيه، بعد أن يرى حلماً يقوده إلى القدس، فيتوجه إليها، وبعد فترة من إقامته في القدس إلى جانب القس نسطور، تأتي ساعة انتقال نسطور إلى القسطنطينية، ليكون أسقفاً للعاصمة الإمبراطورية، فيعرض عليه الانتقال إلى دير تابع للكنيسة في أنطاكية، فيوافق دون تردد؛ وإذ يذهب إلى الدير في أنطاكية يجد صوراً أخرى للخلافات الفكرية، ويتعرف إلى حبيبته الثانية مرتا التي تسافر إلى حلب مضطرة، في سياق روائي مسوّغ، وتأتي إليه أخبار القسطنطينية تباعاً، وتنتهي بعزل نسطور، وانتصار الكنيسة الإسكندرية، فيقرر أن يكتب مذكراته بناء على اتفاق مع عزازيل.
وإذا كانت الحكايتان على هذا القدر من الاختلاف فما الذي يغري إذاً؟ وما الذي يفتح شهية المقارنة بينهما؟
(3)
نشير أولاً إلى أن الروايتين كلتيهما تطرحان القضايا نفسها تقريباً؛ فإذا كان إيكو قد طرح لغز الكتاب المسموم، فإنه لم يكتف بذلك بل طرح ألغاز النفس البشرية، وهذا ما يشترك فيه مع يوسف زيدان، مثلما يشترك معه في المناقشات اللاهوتية الدينية التي غصت بهما صفحات الروايتين.
لقد تفرّد إيكو بعبقرية حبكته للحكاية حين حوّلها من رواية بوليسية تشبه روايات أغاثا كريستي إلى رواية بوليسية فلسفية، وإن كانت حكاية الكتاب المسموم ذاتها ليست جديدة، فقد أخذها إيكو من الليلة الخامسة من ليالي ألف ليلة وليلة، وفيها حكاية حكيم أصرّ الملك على قتله؛ لظنّه أنه يتآمر عليه، مع أنّ الحكيم يحذره: “أبقني يبقك الله، ولا تقتلني يقتلك الله[4]“، فيطلب الحكيم منه مهلة؛ كي يوصي أهله وجيرانه بدفنه، ويعده مقابل المهلة بإهدائه كتاباً عجيباً، إذا عدّ منه ثلاث ورقات، وقرأ ثلاثة أسطر من الصفحة التي على يساره، فإن رأسه المقطوع سيكلّم الملك. وإذ عاد إليه بالكتاب وجده الملك ملصوقاً، “فحطّ إصبعه في فمه، وبلّه بريقه، وفتح أول ورقة والثانية والثالثة، والورق ما يفتح إلا بجهد. ففتح الملك ست ورقات، ونظر فيها، فلم يجد فيها كتابة. فقال الملك: أيّها الحكيم ما فيه شيء مكتوب. فقال الحكيم: قلّب زيادة على ذلك. فقلّب فيه زيادة، فلم يكن إلا قليل من الزمان حتى سرى فيه السم لوقته وساعته، فإنّ الكتاب كان مسموماً[5]“.
فإذا نحّينا محور الجريمة جانباً، وأنعمنا النظر في طبيعة المناقشات الدائرة بين الشخصيات في الروايتين وجدنا تشابهاً كبيراً، إذ تناقش الروايتان الصراعات المذهبية داخل الكنيسةـ وتجليات انعكاسها على المجتمع، على الرغم من الفارقين الزماني والمكاني للمجتمعين الذين صورتهما الرواية؛ إذ تحكي رواية إيكو عن المجتمع المسيحي في القرن الرابع عشر قبل عصر التنوير في دير شمالي إيطاليا؛ بينما تدور أحداث رواية “عزازيل” في القرن الخامس الميلادي ما بين صعيد مصر والإسكندرية وشمال سوريا، عقب تبني الإمبراطورية الرومانية للمسيحية.
فقد عرض إيكو أوجه ذلك الصراع من خلال الحوارات الكثيرة بين الفرانشسكانيين والبابويين، ومن خلال المحادثات الدينية والفقهية بين غوليالمو وتلميذه أدسو، فتنوعت القضايا حول فرق الهراطقة، وحول قضية فقر الشعب وغنى الكنيسة، وظهرت الخلافات بين دعاة التفسير الحرفي للكتب المقدسة ودعاة إعمال العقل في فهم العالم، إضافة إلى المناقشات حول محاكم التفتيش التي كان غوليالمو نفسه يعمل فيها، قبل أن يكتشف أنها تعمل لإرضاءالكنيسة لا لإرضاء الله.
ولعلّنا نشير إلى السياق التالي الذي يجسد الخلاف بين متطرفي الفرانشيسكانية والروحانيين الذين حاولوا أن يخرجوا عن الرهبانية بسلام: “وقد حاول الروحانيون الحصول على موافقة بابوات آخرين، مثل كليمانتي، حتى يمكنهم من الخروج عن الرهبانية بطريقة غير عنيفة. وأظنّ أنهم توصلوا إلى ذلك، ولكن مجيء جيوفاني الثاني والعشرين نزع منهم كل أمل. ما أن انتُخب سنة 1316 حتى أرسل إلى ملك صقلية يطرد من أراضيه أولئك الإخوان[6]“.
كما يمكن أن نشير إلى محادثة جرت بين غوليالمو ورئيس الدير حول العلة والمعلول[7]، وأخرى بينه وبين أدسو حول الطبيعة الإنسانية[8]، وثالثة بينه ونيكولا حول السحر الشيطاني والسحر الإلهي[9]. كذلك تمكن الإشارة إلى التحقيق مع ميكيلي الذي “يؤمن بالمسيح فقيراً ومصلوباً وأنّ البابا جيوفاني الثاني والعشرين هرطيق لأنه يقول عكس ذلك، وهو التحقيق الذي انتهى بالحكم على ميكيلي بالإعدام حرقاً:
“وسقط على الأرض؛ لأن الحبال التي كانت توثقه قد تقطعت، وكان قد مات لأنه قبل أن يحترق الجسم تماماً يموت الإنسان من فرط الحرارة التي تجعل القلب ينفلق من الدخان الذي يغمر الصدر. ثم اشتعل الكوخ بأكمله، كما لو كان مشعلاً، وأحدث وميضاً كبيراً[10]“.
ويستحضر هذا المشهد أجواء الرعب والعنف التي تحضر بقوة في الرواية؛ فبالإضافة إلى الجرائم المتوالية في الدير التي طالت أدالمو وفينانسيو وبرينغاريو وسفيرينو وملاخي وغيرهم، هناك مشاهد عنف تروى استرجاعاً، من مثل إحراق دولتشينو ومارغريت بعد تقطيع أوصالها، ومن مثل مشهد قطع أنف دواتشينو وخصيتيه بكلابات حامية[11]، وإعدام الآلاف من أتباع دولتشينو دون رحمة، بدعوى الهرطقة.
وتستدعي هذه الصور الدموية للخلافات العقيدية إلى أذهاننا مشاهد مروّعة مشابهة من رواية “عزازيل”؛ حيث تقود الخلافات العقيدية إلى العنف والدم، بدءاً من مقتل والد الراهب هيبا في أخميم طعناً بالسكاكين الصدئة التي كان يخبئها القتلة تحت ثيابهم الرثة[12]؛ وهذا ما يدفع هيبا إلى الهرب، حيث تبدأ رحلة هيبا بكشف وجه من أوجه التشدد الديني، ثم تتلاحق أوجه التشدد؛ حيث تنتقم الكنيسة من العلماء والمفكّرين، فتستهدف هيباتيا التي تلقي محاضرات في الرياضيات، وتحرّض الناس ضدّها، فتقوم الجماهير الهائجة بقتلها؛ فعندما تبلغ كراهية هيباتيا مداها عند الكنيسة والبابا، يقوم البابا بتهييج الجماهير، مستشهداً بقول المسيح: “ما جئتُ لألقي في الأرض سلاماً بل سيفاً[13]“. وعندما تتقابل غوغائية العوام مع الفكر تنتصر الغوغائية وتقتل هيباتيا قتلاً بشعاً بعد سحلها في شوارع الإسكندرية، بعد أن تقتل أوكتافيا التي حاولت الدفاع عنها. ويقدّم السارد لقتل هيباتيا بسياق ينذر بشرّ مستطير: “ثار غبار الطرقات، وهربت الملائكة الرحيمة من السماء، وحدّثني قلبي بقرب وقوع حدث مروّع، كنت أسير مأخوذاً بما يجري من حولي، وكأنني في واحدة من رؤى سفر حبقوق المنذرة بفناء العالم وزوال الدنيا[14]“.
وإذا كنا نشير إلى تشابه كثير من القضايا المثارة للنقاش في الروايتين حول طبيعة السيد المسيح وغيرها، فإننا نخص بالذكر القضية التي أفرد لها إيكو فصلاً كاملاً حول فقر المسيح (يُنظر: مطلع اليوم الخامس: أولى)[15]، وهي قضية أشار لها يوسف زيدان في سياق مقارنة يعقدها هيبا بين الأسقف وتمثال يسوع:
“نظرتُ إلى الثوب الممزق في تمثال يسوع، ثمّ إلى الرداء الموشّى للأسقف! ملابس يسوع أسمالٌ بالية ممزَّقة عن صدره ومعظم أعضائه، وملابس الأسقف محلاة بخيوط ذهبية تغطيه كلّه، وبالكاد تظهر وجهه. يد يسوع فارغة من حطام الدنيا، وفي يد الأسقف صولجان، أظنّه من شدّة بريقه، مصنوعاً من الذهب الخالص[16]“.
(4)
فإذا انتقلنا من التشابهات الثيمية إلى التشابهات الفنية أمكننا أن نقول إنّ اللعبة السردية العامة واحدة، تعتمد على (أوراق ـ لفائف ـ مخطوط..) كانت مختفية قروناً عديدة، ثم وصلت إلى من قدّمها للقارئ بسبب أهميتها، بطريقة يمتزج فيها الواقعي بالتخيلي، والعادي بالمثير، فقد أشار السارد الخارجي عند إيكو إلى أنه تسلم عام 1968 كتاباً من تأليف الأب فالي بعنوان: “مخطوط دون أدسون دا مالك”، “وفيه يؤكد مؤلفه بأنه نسخ بوفاء مخطوطاً يعود إلى القرن الرابع عشر[17]“، وتابع السارد أن قصة أدسو دا مالك الرهيبة قد شغلته وأثارته، خلال رحلة مع صديقته، إلى درجة أن وضع لها ترجمة فورية؛ وإذ تشاجر مع رفيقة سفره، اختفت حاملة معها الكتاب الذي لم يبق منه سوى ترجمات فورية سريعة موجودة في كراسات كتبها السارد بخط يده، وحاول البحث عن نسخة مطابقة للكتاب دون أن يفلح إلا في إيجاد نسخة تختلف في بعض جزئياتها، وليجد عام 1970 كتاباً فيه فقرات تتطابق تماماً مع المخطوط الذي ترجمه فالي الذي يعترف فيه أنه ترجم النص بتصرفٍ طال الأساليب والأفكار معاً. وهذا كله يضفي الإثارة والغموض حول مؤلف الكتاب، وحول صحة الكتاب، وتمامه.
أمّا فيما يتعلق برواية عزازيل فيشير “المترجم” في مقدمته أنّ هذا الكتاب “ترجمة أمينة لمجموعة اللفائف (الرقوق) التي اكتشفت قبل عشر سنوات بالخرائب الأثرية الحافلة الواقعة إلى جهة الشمال الغربي من مدينة حلب السورية، وهو مثل إيكو، يوهم بالوقائع من خلال الإيحاء بتداخل الرقوق، على الرغم من حالتها الجيدة، مع هوامش وتعليقات كتبها راهب عربي من مدينة الرها على أطرافها، ولإضفاء المزيد من الإثارة، فإن الرقوق التي دونها الراهب هيبا كانت موضوعة في صندوق خشبي محكم الإغلاق.
لقد نشرت الروايتان، مجازاً، مذكّرات أدسو ومذكّرات هيبا بعد عدة قرون على وفاتهما، فقال أدسو: “ها أنا أتهيأ لأن أترك على هذا الرق بينة على الأحداث المدهشة والرهيبة التي عشتها وأنا شاب، معيداً بالحرف والكلمة ما شاهدت وما سمعت، دون المجازفة بأي حكم أو استنتاج[18]“.
وقال هيبا: “من أين أبدأ تدويني؟.. البدايات متداخلة ومحتشدة برأسي. ولعلّ البدايات كما كان أستاذي القديم سوريانوس يقول، ما هي إلا محض أوهام نعتقدها (…) فكلّ شيء دائري يعود إلى ما منه بدأ، ويتداخل مع ما به اتّصل. فليس ثمّة بداية ولا نهاية على الحقيقة، وما ثمَّ إلا التوالي الذي لا ينقطع[19]“.
كما أشارت الروايتان في مواقع متعددة إلى التدوين، ومنها قول أدسو: “وعسى ألا ترتعش يدي وأنا أتهيأ لسرد ما حدث لنا بعد ذلك[20]“. ومنها قول هيبا: “أظنُّ أنَّ خوفي من الانتهاء، وليس إلحاح عزازيل هو دافعي للكتابة[21]“.
وعلى الرغم من مجالات التشابه بين الروايتين، فقد بدا يوسف زيدان متفهماً جداً لطبيعة المجتمع العربي وثقافته، فقدّم روايته التي جعلت القارئ يتلقفها بنهم، بسبب ما انجبلت عليه من لغة متفردة، وقدرة على المحاورة.. حتى فيما يتعلّق بالعنوان الذي بدا نموذجياً تماماً، إذ بدا قصيراً ومثيراً ولافتاً في الوقت ذاته، ولا ينقص من جماله أبداً أنه إشارة لاسم، لأن القارئ العربي مرتبط سيكولوجياً بالأسماء أكثر من ارتباطه بالأفكار، ويمكن له أن يتقبّل الاسم في العنوان، على عكس العقل الغربي الذي نجده لا يميل كثيراً لهذا الأمر.
فقد أشار إيكو نفسه إلى أنّ الناشر قد رفض أن تسمّى الرواية باسم شخصيتها الرئيسة (أدسو دي مالك)، كما أشار إلى تردّده كثيراً في اختيار عنوان روايته، حيث وضع خيارات متعددة قبل أن يستقر على “اسم الوردة”، وبارك له أصدقاؤه هذا الاسم، لأن الوردة في المخيال الأوروبي عامة ذات أبعاد دلالية متعددة، وصار تعدد الدلالات مثار غموض أكثر إيحاءً (تمكن مراجعة مقدمة الطبعة العربية التي كبتها المترجم الأستاذ أحمد الصمعي).
وإذا كان زيدان قد قدّم رواية عزازيل في ثلاثين رقاً تعاقبياً، فإن إيكو جعَل مذكرات أدسو تجري على سبعة أيام مع تحديدات زمنية داخلية، تشير إلى الساعات التي تحدد الفروض الدينية، ويشرحها السارد، وينسبها احتمالاً، من أجل زيادة الغموض والإثارة، إلى الأب فالي الذي ترجم النصوص إلى الفرنسية لا إلى أدسو الذي كتب المذكرات. فثمة في عناوين الفصول للأيام السبعة مثل: (أول الصبح، وصلاة الحمد، وأولى وثالثةـ وسادسةـ وتاسعة، وصلاة الستار، وصلاة النوم[22])، وثمة تحديدات زمنية مشتقة منها من مثل: حوالي تاسعة وبعد تاسعة وبعد صلاة الستار وبعد صلاة النوم، وليلاً، إضافة إلى ورقة أخيرة تصف مشهد احتراق الدير والمكتبة في نهاية الرواية.
وبينما بدأ إيكو بعرض مخطط الدير، وانتهى بعرض مخطط المكتبة، فقد أفرد زيدان عدة صفحات في نهاية روايته لعرض صور منها: منزل هيبا في أخميم، والمسرح الذي استمع فيه هيبا لهيباتيا، وأطلال الدير الذي جرت فيه الأحداث وغيرها.
(5)
ويمكننا أن نلاحظ أيضاً أن كلتا الروايتين اعتمدتا على الإطار البنائي العام ذاته، وبدا إيكو أكثر تشويقاً في صناعة متاهة الحبكة التي تشبه متاهة المكتبة التي أبدعها خياله، في حين بدت لغة زيدان أكثر سلاسة في تقديم مقولاته الذهنية، وفي ربطه بين الأحداث على مدى الرواية. على أننا لا نحسم الأمر بشأن أفضلية سلاسة لغة زيدان الباهرة؛ لأن النص المقابل كتب بالإيطالية، ولعلّ الترجمة قد حرمتنا سلاسة تظهرها اللغة الأم على نحو أفضل.
غير أن ربط الأحداث وتشتت السرد جاء أكثر صعوبة، واحتاج إلى كثير من الأناة عند متلقي إيكو، خاصة في ربع الرواية الأوّل الذي يصعب على أي قارئ أن يتابع تفاصيله دون أن يقع في الملل، وهو أمر استطاع إيكو لاحقاً أن يلمّ شعثه، وأن يقنع المتلقي الصابر بأنّ كل التفاصيل، بما فيها تفاصيل وصف المكان هي تأثيث تمهيدي لحدث لاحق. من هنا جاء وصف الدير والمكتبة مؤثثاً تأثيثاً دقيقاً، وربما مملاً. وقد تبادل كل من الدير والمكتبة الأهمية في سرد الرجلين، فالمكتبة أكثر حضوراً وأهمية عند إيكو، وتسويغ ذلك أنها تشكّل بدء اللغز ومنتهاه، بينما تحتل في سرد زيدان مكانة ثانوية تناسب حضورها في الحدث. وفي كل الأحوال يبقى وصف المكتبة والدير سمة مكانية تضاف إلى السمات المشتركة بين الروايتين.
ويمكن للاستشهاد أن نشير إلى صورة الدير في الروايتين، وإن بدت أكثر تفصيلاً عند إيكو. يبدأ أدسو/ السارد بوصف الدير مع بداية السرد، فهو “بناية مثمنة الزوايا، تظهر من بعيد كأنها رباعية الأضلاع (صورة تامة الكمال تعبّر عن ثبات ومناعة مدينة الله) تنتصب جوانبها الجنوبية على الرحبة التي أقيم فوقها الدير، بينما الشمالية منها كانت تبدو وكأنها نشأت من الجبل نفسه، وتتعرّق منه عمودياً. أعني أنه، في بعض النقاط تظهر الصخور من الأسفل، وكأنها تتعالى نحو السماء، لتصبح على ارتفاعٍ ما برجاً وقلعةً، لا فرق بينهما في اللون وفي المادة (ومن صنع عمالقة لهم ألفة كبيرة بالأرض والسماء) ثلاثة صفوف من النوافذ تدلّ على النسق الثلاثي الذي تمتاز به تعليته، مما يجعل ما هو مربع على الأرض مثلثاً في السماء من الناحية الروحية[23]“. والمجال ها هنا لا يتسع للأوصاف والمؤثِّثات التي غصّت بها الرواية، ولكننا نورد المقطع للبرهنة على أن وصف الدير يعدُّ أحد المشتركات بين الروايتين، ونورد هنا مقطعاً يصف فيه زيدان الدير، على لسان هيبا الراهب:
“يقع الدير على رأس تلة مرتفعة، تحيط به تلال متفرقة وسهول، بوابته فتحة في جدار قديم لا يحيط بإحكام، بالساحة المتناثر فيها أعمدة رومانية قديمة، بعضها قائم عال، والبعض الآخر متهدّم متناثر القطع. مدخل الدير من الناحية الجنوبية، حيث المرتقى الصعب للتلة العالية، أما النواحي الثلاث الأخرى فلا مرتقى لها أصلاً ولا انحدار، فهي انحدار حاد يبدو معه الدير كمثل شرفة عالية تطل على آفاق لا يحدها البصر شمالاً وشرقاً وغرباً. تحت الدير من ناحية الجنوب قرية صغيرة بيوتها متناثرة على غير نظام[24]“.
(6)
على مستوى الشخصيات ثمة تشابهات كثيرة، ليست فقط على المستوى الشكلي، بل على مستوى ما تمثله تلك الشخصيات؛ فثمة تقابلات كثيرة بين نماذج شخصيات الروايتين التي تمثّل التشدد الديني، والشخصيات المعتدلة التي لا تفهم النصوص فهماً حرفياً، وثمة تقابلات أخرى بين نماذج تريد للدين أن يبقى في الكنيسة، ونماذج تريد منه أن يتحكّم بالحياة برمّتها.
هذه التشابهات، وإن كانت مسوّغة في حبكتي الروايتين، وفي إطارهما العام، وإن كانت تناسب موضوعيهما؛ فإنها تؤشر بقوة إلى أن حدود تأثر زيدان برواية إيكو لم يقف فقط عند حدود الإطار العام.
ولعلنا نشير على سبيل المثال إلى شخصية الشيطان/ عزازيل في الروايتين؛ إذ ثمة عدة سياقات روائية تتحدث عنه في السرد، ومن ذلك ما يقوله رئيس الدير لغوليالمو الذي كان قد برّأ عدداً من المتهمين في محاكم التفتيش: “إني أومن خاصة في هذه الأيام المحزنة بتدخل الشيطان المستمر في شؤون الإنسان (…) ولكنني أعتقد أيضاً أن الشيطان يعمل في كثير من الأحيان لأغراض ثانية. وأعرف أن بوسعه أنّ يدفع ضحاياه لفعل الشر بطريقة تجعل الذنب يقع على بريء[25]“. فيردّ عليه غاليالمو غامزاً من قناة المحققين في تلك المحاكم: “يحدث أيضاً أن يكون المحقق محرّكاً من طرف الشيطان[26]“.
وفي سياق آخر يعبّر غاليالمو عن إيمانه بأن الشرّ، حين يتمكن من قلب الإنسان، يجعل منه شيطاناً، على نحو ما نجد في السياق التالي الذي يتحدث فيه إلى يورج بعد أن كشف سلسلة جرائمه المتوالية: “إنك أنت الشيطان (…) لقد كذبوا عليك. إن الشيطان ليس أمير المادة، إنه صلف الفكر، هو الإيمان دون ابتسام، الحقيقة التي لا يعتريها الشك. الشيطان قائم؛ لأنه يعرف أين يذهب. ويذهب دائماً إلى المكان الذي ذهب منه. أنت الشيطان، وكالشيطان تعيش في الظلمات[27]“.
في الجانب الآخر تبدو صورة الشيطان أكثر وضوحاً وطرافة في رواية “عزازيل”، فهو شخصية لها وجودها وتدخلها الواضح في إقناع هيبا بأمور كثيرة منها تدوين مذكراته، وفي تشجيعه على تطوير علاقته مع أوكتافيا ومرتا:
“أمضيتُ يومين بالمكتبة، أحاور عزازيل حتى أقنعته بأمور، وأقنعني بأمور كنت متردداً فيها.. كان مما أقنعني به وصادف هوى في نفسي أن أختلي بصومعتي هذه أربعين يوماً، أدوّن خلالها ما رأيته في حياتي منذ هروبي من قرية أبي، حتى رحيلي عن هنا غداً، للقيام بما اتفقنا عليه (..) والآن سأغفو قليلاً، ثم أصحو قبل الفجر، فأضع الرقوق في هذا الصندوق، وأواريه التراب تحت الحجارة الكبيرة التي عند بوابة الدير، ولسوف أدفن معه خوفي الموروث، وأوهامي القديمة كلّها. ثم أرحل مع شروق الشمس، حرّاً[28]..”. ويبدو عزازيل/ الشيطان ذا حضور طاغ في السرد، إذ إنه يحرّض هيبا باستمرار على متابعة تدوين مذكراته، كاشفاً تردده، ويكون حضوره نتيجة للتردد الدائم الذي يميّز شخصية هيبا، لذلك يصرُّ دائماً أنه يأتي بناء على طلب هيبا نفسه:
– “عزازيل! جئت؟
– يا هيبا، قلتُ لك مراراً إنني لا أجيء ولا أذهب، أنت الذي تجيء بي حين تشاء[29]“
وهو دائماً يمثل النصف الآخر لهيبا المتردد، فيدعوه إلى ما يرغب به، لذلك يسعى إلى إقناع هيبا بتحقيق رغباته التي يتوق إليها في خفايا روحه، مثلما يدعوه لتدوين تلك الرغبات، فهو ينصحه أن يذهب إلى مرتا، ليحقق كل من الحبيبين سعادته وهناءته، وليحقق عزازيل ذاته، من خلال فعل الغواية:
“اسعد بها، ودعها تمرح، ثمَّ صبّ عليّ اللعنات لأنني أغويتك، فنكون نحن الثلاثة قد تحققنا، وحققنا ذواتنا[30]“.
(7)
تتفق الروايتان إذاً في كثير من الأشياء التي تثير شهية المقارنة، بالإضافة إلى أنهما تحققان رؤية كل من إيكو وزيدان في الدعوة إلى تمجيد الخير، والدعوة إلى الحبّ، ورفض العنف، والانتصار للفكر الحرّ الذي يلاحقه التطرف الفكري، بحجة المحافظة على جوهر الدين وصفائه.
يجب أن نشير أخيراً إلى أنّ افتراض عدم اطلاع زيدان على اسم الوردة، بترجمتها العربية على الأقل، هو احتمال بعيد، فالتشابه أكثر من أن يكون مجرد توارد خواطر: إنّه اطلاع على رواية إيكو، وإفادة مثلى من تقنيتها الروائية العامة، والبناء على الهيكلية التنظيمية للرواية، وعلى ما حصّله زيدان من ثقافة موسوعية، تؤهله لهذا التشابه.. كيف لا. وقد جاب كلّ من زيدان وإيكو حقول المعرفة ذاتها في النقد والفكر والثقافة والأديان؟
[1] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، ترجمة أحمد الصمعي، دار التركي للنشر، تونس، 1991.
[2] يوسف زيدان: عزازيل، دار الشروق، القاهرة، ط14، آب (أغسطس)، 2009.
[3] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص ص504ـ 505.
[4] ألف ليلة وليلة، دار صادر بيروت، ط2، 2008، مج1، ص25.
[5] المصدر نفسه، ص26.
[6] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، ترجمة أحمد الصمعي، دار التركي للنشر، تونس، 1991، ص72.
[7] المصدر نفسه، ص50.
[8] نفسه، ص220.
[9] نفسه، ص110.
[10] نفسه، ص265.
[11] نفسه، ص ص418ـ 419.
[12] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص41.
[13] المصدر نفسه، ص152.
[14] نفسه، ص153.
[15] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص ص367ـ380.
[16] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص146.
[17] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص21.
[18] المصدر نفسه، ص29.
[19] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص15.
[20] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص36.
[21] يوسف زيدان: عزازيل، ص50.
[22] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص27.
[23] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص39.
[24] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص ص195ـ196.
[25] أمبرتو إيكو: اسم الوردة، مصدر سابق، ص49.
[26] المصدر نفسه، ص49.
[27] نفسه، ص513.
[28] يوسف زيدان: عزازيل، مصدر سابق، ص ص367ـ368.
[29] المصدر نفسه، ص100.
[30] نفسه، 365.