تعاملت مع أجيال القصة والرواية التي جاءت بعدي في الإسكندرية؛ بحب واهتمام، وقد قال أحدهم لواحد من جيلي:
- إن مصطفى نصر، هو أقرب كتاب جيلكم لنا.
وقد قرءوا رواياتي، خاصة جبل ناعسة واهتموا بها، وناقشوها في أكثر من ندوة وتصدي واحد منهم يعيش في أميركا الآن، لكي يترجمها للإنجليزية.
إنني لا أجيد إقامة الندوات، ولا كتابة النقد، لكن كانت صلتي بهم عن طريق قصصي ورواياتي. لدرجة أن مجموعة منهم أعلنوا العصيان على موظفي الثقافة في الإسكندرية، وأقاموا ندوتهم في القصة في قصر الأنفوشي؛ دون منصة، مقاعد على شكل دائرة، بدون رئيس، فحاولتْ إدارة الثقافة أن ترسل إليهم أدباء كبار ليشرفوا على الندوة، فرفضوهم جميعا، وأصروا أن يقيموا ندوتهم بهذه الطريقة.
فحدثني مسئول في الثقافة، قائلا لي:
- لقد اكتشفت أنك أقرب أديب من الجيل السابق إليهم، فياليتك تشرف على الندوة، فأنت الوحيد الذين سيوافقوا عليه.
فرفضت، وقلت:
- من رأيي أن تتركوهم يديرون ندوتهم كما يشاءون.
00
وأفقت بعد سنوات قضيتها في غيبوبة طويلة، فإذ بكل شيء قد تغير.عالم جديد بدأ، وناس جديدة جاءت، فتاة كانت من رواد الأتيليه، فخورة بنفسها، عنيدة، رأيت الصديق رجب سعد السيد يحاول أن يثنيها عن عزمها في رفض زميلات لها في ندوة بالأتيليه، وهي مصرة على موقفها، وبعض الموجودين متأثرين بآرائها، وقتها أعجبت بشخصيتها القوية، وتمنيت أن تكون حفيدتي مثلها عندما تكبر.
هذه الفتاة رفضتني، أحسست بأنها ترفضني من باب أنني أمثل جيل قديم ترفضه، كان هذا رأيها في روايتي " ليالي غربال"، وهذا ما أعلنته في الندوة عندما نوقشت في اللاتيليه.
وامرأة أخرى من رواد ندوة في مكان آخر، أهديتها مجموعتي القصصية " حفل زفاف في وهج الشمس "، فأعادتها إليّ في الندوة التالية مباشرة، لكي تعلن عن رفضها لكتاباتي. وبلغني أنها قالت عني في غيابي:
- إنني أرفضه شكلاً ومضموناً.
دهشت من تصريحها هذا، فالمفروض أن يكون رأيها في أعمالي لا في شكلي.
إنني أشكر هاتين المرأتين، فقد أظهرتا لي حقيقة كانت خافية عني، إن عالماً جديداً جاء بأفكار تختلف عن أفكاري، أحسست بالأسى وأنني عامر وجدي بطل رواية ميرامار، الصحفي الذي يكتب بلغة لا تتناسب مع ما يكتبه شباب الصحفيين الجدد.
00
عالم تم صنعه دون أن أحس، مجموعة من النقاد الشباب بعضهم حصل على درجات علمية كبيرة، ماجستير أو دكتوراة، أحدهم أراد أن يأتي إلى الإسكندرية لإقامة ندوة، فحدثتني مسئولة في الثقافة عن ذلك، فقلت لها يأتي لمناقشة مجموعتي القصصية " وجوه " ، كنت مطمئناً، ومعتقداً بأنه سيثني على المجموعة، خاصة أن الدكتور السعيد الورقي عندما ناقشها كان متحمساً لها، ومعجباً بها، هذا الضيف القاهري متخصص في علم النفس، فتحدث في الندوة في تخصصه، وحلل القصص من خلال دراسته لعلم النفس، وكادت الندوة تنتهي على خير؛ لكن أحد الزملاء ممن يكتبون القصة والرواية في الإسكندرية، لم يعجبه أن تنتهي الندوة هذه النهاية السعيدة، وأن أنام مطمئناً سعيدا، فقال في سذاجة متناهية:
- ما هو المذهب الأدبي الذي كتب به مصطفى نصر مجموعته؟
وإذ بالضيف يتحدث عني وكأنني كاتب مبتدئ، فأخذ يتحدث عن الأشكال الفنية، وأن كتاباتي فيها تجديد في المضمون، لكن ليس بها تجديداً في الشكل، شعرت بالغثيان، ولم أعلق بشيء.
قال لي روائي كبير :
- موضوع النقاد رميته خلف ظهري، فلو فكرت فيهم، لن تكتب حرفاً.
ظللت أفكر في هذه المقولة لمدة طويلة، فالنقاد من أهم الأشياء التي صنعت مجد نجيب محفوظ، هم الذين راهنوا عليه، وفسروا رواياته، وأعطوها أبعادا بعيدة، وقالوا:
- إن زُهرة في ميرامار هي مصر، وحميدة في زقاق المدق هي مصر أيضا ولكن في وقت آخر.
وهم الذين حرموا كتاب كثيرين من المجد والتقدير، فقد كانت روايات إحسان عبد القدوس توزع أكثر مما توزع روايات نجيب محفوظ، وكان سعر روايات إحسان في السينما أكبر من سعر روايات نجيب محفوظ لأن الأفلام المأخوذة عنها تأتي بعائد أكبر للمنتجين، لكن النقاد هاجموا روايات إحسان وجعلوه في مرتبة أقل، وهكذا فعلوا مع أمين يوسف غراب ويوسف السباعي والسحار وغيرهم. مما أثر بعد ذلك على مكانتهم ككتاب. وجعلوا محمد عبد الحليم عبد الله يصاب بحالة اكتئاب، حتى أن يوسف السباعي كان يقول عنهم دائما:
- لقد كانوا سبباً في موت محمد عبد الحليم عبد الله.
تشارلز ديكنز
وهذا ما حدث للكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز، فقد كان الشعب الإنجليزي كله مولع بكتاباته، تقرأ الملكة فيكتوريا كتبه بإعجاب شديد، وباقي الشعب يحرص على شراء كتبه وقراءتها، لكن ناقدا مؤثرا كان معاصرا له هو "هنري جورج لويس " كان له رأي آخر، فديكنز بالنسبة إليه كاتب تقليدي، محدود القيمة، كاتب مليودرامي، يصنع مشاهد كاريكاتورية ليؤثر بها على القراء، وأن قراءه من النوع الذي يبحث عن التسلية، فمن الممكن أن تقرأه وأنت مضطجع على السرير، وأن تضحك طوال وقت قراءة رواياته أو تبكي من شدة الألم، وإنه تنقصه النظرة الجادة والعمق الفلسفي والاتقان الفني. فهو لم يقرأ في الفلسفة، بعكس الروائية " ماري آن إيفانس " المشهورة باسم " جورج إليوت ". العميقة، والتي تفلسف الأمور.
عاب أعمال تشارلز ديكنز لعاطفيتها المفرطة ومصادفاتها غير المحتملة، وكذلك بسبب التصوير المبالغ فيه لشخصياته.
جورج أليوت
وأثر رأي الناقد هنري جورج لويس على الكُتّاب، خاصة المبتدئين، فانصرفوا عن ديكنز، واعتبروه كماً مهملا، وقلدوا الكاتبة الطليعية جورج أليوت، وظل هذا المفهوم عن ديكنز سائداً حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، وكان لهذا آثاره على الاستهانة به من كبار الروائيين في هذه الفترة أمثال فرجينا وولف وإدوار مورجان فرستر.
لكن كاتبين قاما بدور مهم في إبراز حقيقة تشارلز ديكنز، هما أدموند ويلسون - الناقد الأميركي المشهور - ، وجورج أورويل – الروائي الإنجليزي المعروف - ، فقد بينا المعاني المستترة والرموز واللبس وازدواج الدلالة واللعب بالألفاظ والتكرار ذي المغزي وتيار الوعي ومخابئ العقل الكامن والمجانسة بين المتناقضات. وقد أعادا تقديم فنه الروائي، وأكدا جديته وأظهرا الجانب المأساوي في رواياته، وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق.
واتضح ان هجوم هنري جورج لويس المعاصر لديكنز كان ليعلي شأن عشيقته الروائية " جورج أليوت ".
إنني أنسى دائما اسم الناقد هنري جورج لويس، لكن أقل مهتم بالأدب لا يستطيع أن ينسى تشارلز ديكنز، فالمطابع لم تتوقف عن طباعة أعماله، والسينما تسابقت لتحويل قصصه ورواياته إلى أفلام، وأعتقد أن لولا هجوم هنري جورج لويس على ديكنز ما تذكره قراء الأدب، فقد ساهم ديكنز في شهرته لأنه نال الهجوم منه ، لقد أهتم ديكنز بالوصف الدقيق للشخصيات، والوصف المفصل لمختلف الطبقات الاجتماعية والعاطفة، وخصوصاً الحزن والأسى في العديد من كتاباته.
وهذا ما يحدث في أيامنا هذه، التهليل والتصفيق لكاتب لأنه من شلتهم، أو صديقهم، والتعتيم على كاتب مجيد، لمصلحة كاتب آخر يهمهم.
وقد حكي لي أحد الشعراء الأصدقاء، بأن ناقدا دأب على مهاجمة شعره، والنيل منه في كل قصيدة يقرأها له، ثم جاء شاعر آخر، وقدم لهذا الناقد قصيدة، أعجبته، فقام واحتضنه وقبله، وأخذ يتحدث عنها طويلا، وهو ينظر لصاحبنا - الذي يراه شاعر قليل القيمة -، ويقول له:
- تعلم من هذه القصيدة، ففيها الذي ينقصك في الشعر.
وبعد لحظات، قال – الذي قدم القصيدة - للناقد:
- إنها من تأليف زميلنا فلان.
وأضطر الناقد أن يقول في قلة حماس:
- حقيقة قصيدتك ؟!، لقد تطورت كثيرا.
ولو قُدمت إليه في الأول علي إنها من تأليفه؛ لهاجمها كما يفعل في كل مرة.
وقد كان لنا زميل في الشركة التي كنت أعمل بها، كان مقرباً من المدير العام، فتعامل الجميع مع عمله الحسابي على أنه عمل عظيم وعميق ورهيب، وعندما نقلوه لعمل آخر، وتولى غيره العمل السابق وأداه بطريقة أفضل، فقد العمل أهميته وقيمته. لأن العمل مرتبط بالشخص ومكانته لدى إدارة الشركة .
ما أريد أن أوضحه، أن بعض النقاد يتعاملون مع الأشخاص، لا مع أعمالهم الأدبية.
- إن مصطفى نصر، هو أقرب كتاب جيلكم لنا.
وقد قرءوا رواياتي، خاصة جبل ناعسة واهتموا بها، وناقشوها في أكثر من ندوة وتصدي واحد منهم يعيش في أميركا الآن، لكي يترجمها للإنجليزية.
إنني لا أجيد إقامة الندوات، ولا كتابة النقد، لكن كانت صلتي بهم عن طريق قصصي ورواياتي. لدرجة أن مجموعة منهم أعلنوا العصيان على موظفي الثقافة في الإسكندرية، وأقاموا ندوتهم في القصة في قصر الأنفوشي؛ دون منصة، مقاعد على شكل دائرة، بدون رئيس، فحاولتْ إدارة الثقافة أن ترسل إليهم أدباء كبار ليشرفوا على الندوة، فرفضوهم جميعا، وأصروا أن يقيموا ندوتهم بهذه الطريقة.
فحدثني مسئول في الثقافة، قائلا لي:
- لقد اكتشفت أنك أقرب أديب من الجيل السابق إليهم، فياليتك تشرف على الندوة، فأنت الوحيد الذين سيوافقوا عليه.
فرفضت، وقلت:
- من رأيي أن تتركوهم يديرون ندوتهم كما يشاءون.
00
وأفقت بعد سنوات قضيتها في غيبوبة طويلة، فإذ بكل شيء قد تغير.عالم جديد بدأ، وناس جديدة جاءت، فتاة كانت من رواد الأتيليه، فخورة بنفسها، عنيدة، رأيت الصديق رجب سعد السيد يحاول أن يثنيها عن عزمها في رفض زميلات لها في ندوة بالأتيليه، وهي مصرة على موقفها، وبعض الموجودين متأثرين بآرائها، وقتها أعجبت بشخصيتها القوية، وتمنيت أن تكون حفيدتي مثلها عندما تكبر.
هذه الفتاة رفضتني، أحسست بأنها ترفضني من باب أنني أمثل جيل قديم ترفضه، كان هذا رأيها في روايتي " ليالي غربال"، وهذا ما أعلنته في الندوة عندما نوقشت في اللاتيليه.
وامرأة أخرى من رواد ندوة في مكان آخر، أهديتها مجموعتي القصصية " حفل زفاف في وهج الشمس "، فأعادتها إليّ في الندوة التالية مباشرة، لكي تعلن عن رفضها لكتاباتي. وبلغني أنها قالت عني في غيابي:
- إنني أرفضه شكلاً ومضموناً.
دهشت من تصريحها هذا، فالمفروض أن يكون رأيها في أعمالي لا في شكلي.
إنني أشكر هاتين المرأتين، فقد أظهرتا لي حقيقة كانت خافية عني، إن عالماً جديداً جاء بأفكار تختلف عن أفكاري، أحسست بالأسى وأنني عامر وجدي بطل رواية ميرامار، الصحفي الذي يكتب بلغة لا تتناسب مع ما يكتبه شباب الصحفيين الجدد.
00
عالم تم صنعه دون أن أحس، مجموعة من النقاد الشباب بعضهم حصل على درجات علمية كبيرة، ماجستير أو دكتوراة، أحدهم أراد أن يأتي إلى الإسكندرية لإقامة ندوة، فحدثتني مسئولة في الثقافة عن ذلك، فقلت لها يأتي لمناقشة مجموعتي القصصية " وجوه " ، كنت مطمئناً، ومعتقداً بأنه سيثني على المجموعة، خاصة أن الدكتور السعيد الورقي عندما ناقشها كان متحمساً لها، ومعجباً بها، هذا الضيف القاهري متخصص في علم النفس، فتحدث في الندوة في تخصصه، وحلل القصص من خلال دراسته لعلم النفس، وكادت الندوة تنتهي على خير؛ لكن أحد الزملاء ممن يكتبون القصة والرواية في الإسكندرية، لم يعجبه أن تنتهي الندوة هذه النهاية السعيدة، وأن أنام مطمئناً سعيدا، فقال في سذاجة متناهية:
- ما هو المذهب الأدبي الذي كتب به مصطفى نصر مجموعته؟
وإذ بالضيف يتحدث عني وكأنني كاتب مبتدئ، فأخذ يتحدث عن الأشكال الفنية، وأن كتاباتي فيها تجديد في المضمون، لكن ليس بها تجديداً في الشكل، شعرت بالغثيان، ولم أعلق بشيء.
قال لي روائي كبير :
- موضوع النقاد رميته خلف ظهري، فلو فكرت فيهم، لن تكتب حرفاً.
ظللت أفكر في هذه المقولة لمدة طويلة، فالنقاد من أهم الأشياء التي صنعت مجد نجيب محفوظ، هم الذين راهنوا عليه، وفسروا رواياته، وأعطوها أبعادا بعيدة، وقالوا:
- إن زُهرة في ميرامار هي مصر، وحميدة في زقاق المدق هي مصر أيضا ولكن في وقت آخر.
وهم الذين حرموا كتاب كثيرين من المجد والتقدير، فقد كانت روايات إحسان عبد القدوس توزع أكثر مما توزع روايات نجيب محفوظ، وكان سعر روايات إحسان في السينما أكبر من سعر روايات نجيب محفوظ لأن الأفلام المأخوذة عنها تأتي بعائد أكبر للمنتجين، لكن النقاد هاجموا روايات إحسان وجعلوه في مرتبة أقل، وهكذا فعلوا مع أمين يوسف غراب ويوسف السباعي والسحار وغيرهم. مما أثر بعد ذلك على مكانتهم ككتاب. وجعلوا محمد عبد الحليم عبد الله يصاب بحالة اكتئاب، حتى أن يوسف السباعي كان يقول عنهم دائما:
- لقد كانوا سبباً في موت محمد عبد الحليم عبد الله.
تشارلز ديكنز
وهذا ما حدث للكاتب الإنجليزي الكبير تشارلز ديكنز، فقد كان الشعب الإنجليزي كله مولع بكتاباته، تقرأ الملكة فيكتوريا كتبه بإعجاب شديد، وباقي الشعب يحرص على شراء كتبه وقراءتها، لكن ناقدا مؤثرا كان معاصرا له هو "هنري جورج لويس " كان له رأي آخر، فديكنز بالنسبة إليه كاتب تقليدي، محدود القيمة، كاتب مليودرامي، يصنع مشاهد كاريكاتورية ليؤثر بها على القراء، وأن قراءه من النوع الذي يبحث عن التسلية، فمن الممكن أن تقرأه وأنت مضطجع على السرير، وأن تضحك طوال وقت قراءة رواياته أو تبكي من شدة الألم، وإنه تنقصه النظرة الجادة والعمق الفلسفي والاتقان الفني. فهو لم يقرأ في الفلسفة، بعكس الروائية " ماري آن إيفانس " المشهورة باسم " جورج إليوت ". العميقة، والتي تفلسف الأمور.
عاب أعمال تشارلز ديكنز لعاطفيتها المفرطة ومصادفاتها غير المحتملة، وكذلك بسبب التصوير المبالغ فيه لشخصياته.
جورج أليوت
وأثر رأي الناقد هنري جورج لويس على الكُتّاب، خاصة المبتدئين، فانصرفوا عن ديكنز، واعتبروه كماً مهملا، وقلدوا الكاتبة الطليعية جورج أليوت، وظل هذا المفهوم عن ديكنز سائداً حتى نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، وكان لهذا آثاره على الاستهانة به من كبار الروائيين في هذه الفترة أمثال فرجينا وولف وإدوار مورجان فرستر.
لكن كاتبين قاما بدور مهم في إبراز حقيقة تشارلز ديكنز، هما أدموند ويلسون - الناقد الأميركي المشهور - ، وجورج أورويل – الروائي الإنجليزي المعروف - ، فقد بينا المعاني المستترة والرموز واللبس وازدواج الدلالة واللعب بالألفاظ والتكرار ذي المغزي وتيار الوعي ومخابئ العقل الكامن والمجانسة بين المتناقضات. وقد أعادا تقديم فنه الروائي، وأكدا جديته وأظهرا الجانب المأساوي في رواياته، وكشفا عن حسه الاجتماعي والنفسي الصادق.
واتضح ان هجوم هنري جورج لويس المعاصر لديكنز كان ليعلي شأن عشيقته الروائية " جورج أليوت ".
إنني أنسى دائما اسم الناقد هنري جورج لويس، لكن أقل مهتم بالأدب لا يستطيع أن ينسى تشارلز ديكنز، فالمطابع لم تتوقف عن طباعة أعماله، والسينما تسابقت لتحويل قصصه ورواياته إلى أفلام، وأعتقد أن لولا هجوم هنري جورج لويس على ديكنز ما تذكره قراء الأدب، فقد ساهم ديكنز في شهرته لأنه نال الهجوم منه ، لقد أهتم ديكنز بالوصف الدقيق للشخصيات، والوصف المفصل لمختلف الطبقات الاجتماعية والعاطفة، وخصوصاً الحزن والأسى في العديد من كتاباته.
وهذا ما يحدث في أيامنا هذه، التهليل والتصفيق لكاتب لأنه من شلتهم، أو صديقهم، والتعتيم على كاتب مجيد، لمصلحة كاتب آخر يهمهم.
وقد حكي لي أحد الشعراء الأصدقاء، بأن ناقدا دأب على مهاجمة شعره، والنيل منه في كل قصيدة يقرأها له، ثم جاء شاعر آخر، وقدم لهذا الناقد قصيدة، أعجبته، فقام واحتضنه وقبله، وأخذ يتحدث عنها طويلا، وهو ينظر لصاحبنا - الذي يراه شاعر قليل القيمة -، ويقول له:
- تعلم من هذه القصيدة، ففيها الذي ينقصك في الشعر.
وبعد لحظات، قال – الذي قدم القصيدة - للناقد:
- إنها من تأليف زميلنا فلان.
وأضطر الناقد أن يقول في قلة حماس:
- حقيقة قصيدتك ؟!، لقد تطورت كثيرا.
ولو قُدمت إليه في الأول علي إنها من تأليفه؛ لهاجمها كما يفعل في كل مرة.
وقد كان لنا زميل في الشركة التي كنت أعمل بها، كان مقرباً من المدير العام، فتعامل الجميع مع عمله الحسابي على أنه عمل عظيم وعميق ورهيب، وعندما نقلوه لعمل آخر، وتولى غيره العمل السابق وأداه بطريقة أفضل، فقد العمل أهميته وقيمته. لأن العمل مرتبط بالشخص ومكانته لدى إدارة الشركة .
ما أريد أن أوضحه، أن بعض النقاد يتعاملون مع الأشخاص، لا مع أعمالهم الأدبية.