د. أحمد الحطاب - إضراب نساء ورجال التَّربية والتَّعليم، إضرابٌ له مُبرِّراتُه

أولا، ما يجب التَّذكيرُ به هو أن الاعتناءَ بوضعِ هيئةَ التَّدريس اجتماعيا وماديا هو الشرطُ الأساسي لنجاح المنظومة التَّعليمية والتَّربوية في أداء مهامهما.

ثانيا، ما يجب أن أستهلَّ به هذه المقالة، هو لماذا نقول "التَّربية والتَّعليم"؟ لأن هناك خلطاً واضحاً بين هذين المفهومين، لا من طرف المسئولين ولا في الوسط المدرسي. مفهومان يكتسيان أهمِّيةً بالغة لإدراك ما يجري داخلَ المدرسة، وبالأخص، داخلَ الأقسام.

التَّعليمُ عبارة عن عمليةٍ أو عمليات تتِمُّ بين شخصٍ يعرف أو له ما يكفي من المؤهِّلات ليعرف celui qui connaît ou qui possède les pré-requis pour connaître وشخصٍ آخر لا يعرف أو يريد أن يعرفَ أو يطمح ليعرف celui qui ne connaît pas ou celui qui veut ou souhaite connaître. وبعبارة أخرى، التَّعليم هو عمليةُ نقلِ المعرفة من المدرس إلى المتعلِّمِ.

أما التربية، فهي مسخَّرةٌ مباشرة لتكوين أو لبناء شخصية المتعلِّم. والدعامة الأساسية للتربية، أي لبناء شخصية المتعلِّمِ، هي المعرفة، أو بالأحرى، طريقة نقلُ المعرفة. وحتى يكون نقلُ المعرفة، في آنٍ واحدٍ، تثقيفاً وتربيةً، كل الثِّقل يقع على عاتق المدرس الذي هو مُطالبٌ بأن يختارَ الطريقةَ الملائمةَ لهذا النقل.

من هنا، يتَّضح الدَّورُ الأساسي للمدرس في التثقيف وفي بناءِ شخصية المتعلِّمين، في آنٍ واحدٍ. وكل معرفةٍ، منقولة من المدرس إلى المتعلِّمين، لا تدخل في هذا السِّياق، فهي مجرَّد حشوٍ للأدمغة ولا تسمن ولا تغني من جوع. وهذا يعني أن المدرِّسَ، في آنٍ واحدٍ، مُعَلِّمٌ (يُمارس التَّعليم) ومُربِّي (يُساهم في بناء شخصية المتعلِّم).

وللتذكير كذلك، الحياة اليومية والحياة العملية لا تشتغلان بالمعرفة المجردة، أي االمنعزلة عن الواقع المعاش. وبعبارة أوضح، المجتمع ليس في حاجة إلى أدمغة محشوة بمعارف لا تسمن ولا تغني من جوع. المجتمع يتطوَّر. وتطوُّره هذا في حاجة إلى أجيال لها ما يكفي من الفكر النقدي esprit critique ومن التّحرُّر الاجتماعي والتَّفتُّح الفكري émancipation sociale et épanouissement intellectuel. هكذا تسير وتُسَيَّرُ الحياةُ اليوميةُ والعمليةُ، وخصوصا أن المعرفةَ تتطوَّر وتتغيَّر بسرعة فائقة يصعبُ على المدرسة مواكبتُها.

إذن، المجتمع، بحُكم التَّغييرات المتسارعة التي يعرفها، في حاجة إلى متعلِّمين قادرين على التَّأقلُم والتكيُّف مع هذه التَّغييرات. وأحسن طريقة للوصول لهذا النوع من المتعلِّمين، هو أن تُكرِّسَ المدرسة جهودَها لتمكين المتعلِّمِ من "أن يتعلَّمَ كيف يتعلَّم".

ومن هنا، يظهر، بكل وضوحٍ، الدَّورُ، التَّعليمي والتَّربوي، المُلقى على عاتق المدرس. وهو الدور الذي، إلى حدِّ الآن، لا تريد، وأقول وأعِيد، لا تريد أيَّةُ حكومةٍ من الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وبالأخص، الوزارة الوصية، أن تستوعبه وتكرِّسَ جهودَها لترسيخه وجعله واحدا من ثوابت المنظومة التَّعلمية والتَّربوية للبلاد. ومن هنا، يظهر كذلك فشلُ الإصلاحات التي خضعت لها المنظومة التَّعلمية والتَّربوية بدون جدوى. من هنا، تظهر كذلك المرتبة المُتأخِّرة التي تحتلها منظومتُنا التَّعلمية والتَّربوية في التصنيفات العالمية. ومن هنا، نقف كذلك على نقائص هذه المنظومة من خلال اختبار مكتسبات المتعلِّمين التي يُظهرُها برنامج PISA.

وعِوضَ أن تجعل الحكومات المتعاقِبة على تدبير الشأن العام، هيئةَ التَّدريسِ في قلب الإصلاحات المتتالية، فإنها تصدَّت لهذه الهيئة بإخضاعِها لنظام أساسي خاص بها دون التفكير في وضعِها المادي الذي لا يبعث على الارتياح. إنه، فعلا وفي الحقيقة، أمرٌ مثيرٌ لشيءٍ من الغرابة والتساؤل!

فإذا لم تُدرك الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، وخصوصا الوزارة الوصية، أن هيئةَ التَّدريس هي حجرُ الزاوية لنجاح أية منظومة تربوية في أداء مهامها، فإن أي إصلاح لهذه المنظومة هو بمثابة "صَبِّ الماء في الرَّمل".

وحتى نتفادى "صَبَّ الماء في الرَّمل"، هناك، في نظري، شرطان أساسيان، لا محيدَ عنهما، يضمنان، كما سبق الذِّكرُ، نجاحَ المنظومة التَّعلمية والتَّربوية في أداء مهامها. هذان الشرطان الأساسيان يتمثلان في تكوينٍ رفيعِ المستوى للمدرسين والاعتناء بوضعهم الاجتماعي والمادي.

مما لا شكَّ فيه أن تكويناً ذا جودة عالية للمدرسين، سينعكس إيجابيا على جودة تَعَلُّمات المتعلِّمين. لأنه، كما يُقال، فاقد الشيء لا يُعطيه. والمقصود بتكوينٍ عالي الجودة، هو تكوين يجعل من المدرس، ليس فقط مبلِّغاً ماهرأً للمعرفة، ولكن كذلك مُساهِماً، من خلال هذا التبليغ وإلى حدٍّ بعيدٍ، في تكوين أو بناء شخصية المتعلِّمين. لأنه، كلما كان تكوين المدرس ذا جودة عالية، كلما استفاد المتعلِّمون من هذه الجودة. وكلما كان تكوين المدرس ذا جودةٍ عاليةٍ، كلما تحسنت العلاقةُ البيداغوجية بين هذا الأخير والمتعلٍّمين. علاقةٌ مفيدةً ولها وقعٌ إيجابي على تكوين أو بناء شخصية هِؤلاء المتعلِّمين…

وباختصارٍ شديدٍ، جودة التَّعليم والتَّربية أو، بالأحرى، جودةُ ما يقدٍّمه المدرِّسُ من خدمات داخلَ الأقسام رهينةٌ بجودة تكوين المدرسين. وهنا، لا بدَّ من الإشارة إلى أن أباءَ وأولياء المتعلمين لا يتصوَّرون المدرسةَ إلا من خلال جودة أداء مهامها اجتماعيا، تعليميا وتربويا. وتجدر الإشارةُ كذلك إلى أن المدرسَ هو المحرِّك الأساسي لما يجري داخلَ الأقسام. فهو الذي يُترجِم البرامج التَّعليمية إلى أنشطةٍ بيداغوجية. وهو الذي يُكيِّف تدخُّلاتِه داخلَ الأقسام مع تطلُّعات المتعلِّمين. وهو الذي يؤثِّر على شخصية المتعلِّمين ويُسانهم في بناء قدراتهم أو نموّهم المعرفي développement cognitif. وهو الذي يقودهم نحو التَّفتُّح والتَّحرُّر الفكريين. وفضلا عن كل هذه الأشياء، المدرس هو الذي يفكِّر في تحسين تواصله مع المتعلمين ويسعى إلى تهذيبهم وتعليمهم وتبليغ المعارف لهم وتربيتهم وتسيهيل تعلُّماتِهم…

وليقومَ المدرِّسُ بهذه المهام المتعدِّدة والمختلفة، من الصعب عليه أن يعتمِدَ فقط على موهبتِه sa vocation. إن هذه الأخيرة، رغم أهمِّيتِها، غير كافية. بالفعل، عندما يتدخَّل المدرسُ داخلَ القسم، فإنه في حاجةٍ إلى نظريات وممارسات وطرقٍ… تنتمي إلى العديد من حقول المعرفة كالبيداغوجيا pédagogie والديداكتيك didactique وعلمُ النفس psychologie وعلم النفس التَّربوي psychopédagogie والإبستيمولوجيا épistémologie ونطريات التَّعلُّم théories d'apprentissage وعلم التَّواصل communication ومَلَكَةُ التَّعرُّف cognition… الموهبة وحدها لا تكفي لامتلاك كل هذه المعارف. من هنا تظهر أهمِّيةُ تكوين المدرسين تكوينا رفيعَ المستمى وعاليَ الجودة، علما أن هذا التَّكوين هو مُكمِّلٌ للموهبة…

إلى جانب تكوين المدرسين تكوينا عاليَ الجودة، يجب الاعتناء بوضعهم الاجتماعي والمادي.

من الناحية الاجتماعية، يجب أن تحظى مهنة التَّدريس أو مهنةُ المدرٍّس بالمكانة التي كانت تحظى بها خلال الأربعينيات والخمسينيات والستينيات. كان المدرس عنصرا يحظى بالاحترام والتَّقدير من طرف المجتمع. كما كان يساهم، بمعِية الأسرة، في تهذيب المتعلِّمين، سواءً داخلَ المدرسة أوحارجها.

من الناحية المادية، كان على الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام، أن تُدركَ أن المنظومة التَّعليمية والتَّربوية هي التي تبني مستقبلَ البلاد، من خلال ما تُنتِجه من أجيال حاملة لفكرٍ نقدي وللقيمات المضافة التي تمكِّنها من المساهمة، مساهمةً فعالة، في تقدُّم البلاد وازدهارها. بل تُساهم في خلق الثروة الكفيلة بضمان كرامة عيش المواطنين. وتتجلَّى هذه القيم المضافة، أولا وقبل كل شيءٍ، في المواطنة citoyenneté وحبِّ الوطن patriotisme.

وما لم تُردْ الحكومات السابقة إدراكَه، فعلى الحكومة الحالية واجبُ إدراكه لأن الأمرَ يتعلَّق بمصير بلادٍ بأكملها. وأول ما يجب عليها أن تُدركَه (ولا شكَّ أنها، هي وسابقاتُها، يدركون كل الأشياء) هو أن الراتبَ الشهري الذي يتقاضاه المدرِّسُ، إضافةً إلى تكوينه تكوينا عالي الجودة، هو بمثابة محفِّزٍ قوي لهذا المدرس ليكونَ في مستوى المهام التّعليمية والتَّربوية الملقاة على عاتِقه.

وعليه، فمن واجب الحكومة الحالية، إن هي أرادت وتريد الخيرَ للبلاد، أن تكونَ الرواتب الشهرية للمدرسين متساوية مع الرواتب الشهرية المخصَّصة للأطر العليا cadres supérieurs للبلاد. في هذه الحالة، فإن مهنةَ التَّعليم ستستقطِب أحسن العناصر المتخرٍّجة من المدارس والمعاهد العليا وأحسن العناصر المتخرِّجين من الكلِّيات. وهدا ليس كلامٌ أتٍ من فراغ! لقد بيَّنت الدراسات، وخصوصا تالك التي تقوم بها منظمة التَّعاون والتنمية الاقتصادية OCDE، أن أحسنَ وأنجعَ وأجودَ المنظومات التَّربوية هي تلك التي تُخصِّص لمدرِّسيها أعلى الرواتب.

فمن واجب الحكومة، كيفما كانت توجُّخاتُها السياسية، أن تختارَإما تقدُّم البلاد وازدهارَها اجتماعيا، ثقافيا، اقتصاديا، علميا، تكنولوجياً، صناعيا، زراعيا… وإما أن تستمر في تمويل منظومة تعليمية وتربوية مُدخلاتُها جَشِعة ومُخرجاتُها ضعيفة جدا. والاستمرارُ في تمويل غولٍ جَشِعٍ هو بمثابة الاستمرار في إضعافِ هذه المنظومة، وفي نفس الوقت، الاستمرار في هدرِ المال والزمن المدرسي، التَّعليمي، التَّربوي والتًّنموي للبلاد! لأذُنٍ دقيقةِ الاستماعِ، تحيةٌ A bon entendeur salut.
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...