يعود مفهوم (المدينة الفاضلة- يوتوبيا) إلى فيلسوف الإغريق الخالد أفلاطون، حيث منّى النفس بمدينة مثالية يحكمها مجموعة من الفلاسفة الحكماء تقوم على إدارة شؤونها وتدبير أمورها وِفاقاً لمعايير العدالة المطلقة والمساواة التّامّة والخير العام.
أمّا مفهوم (المدينة الفاسدة-ديستوبيا) فإنّه يُنسَبُ إلى الفيلسوف والاقتصادي الإنجليزي (جون ستيوارت مِل) الذي استخدمه لأولّ مرّة في مساجلات مجلس العموم البريطاني في عام (١٨٦٨م) في معرِض رفضه لسياسات الحكومة البريطانية بشأن الأراضي الزراعية في أيرلندا، ثمّ شاع استخدام المصطلح في معظم الميادين الحيوية العامّة كالسياسة والاقتصاد والبيئة وغيرها، وذلك للإشارة إلى نقيض المفهوم الأفلاطونيّ الحالِم؛ حيث يتحكّم الشرّ والظلم والفساد في كلّ شؤون المدينة الفاسدة.
لم يتأخّر الأدباء عن استثمار هذا المصطلح في أعمالهم الأدبية المعنيّة بوصف المظالم الاجتماعية والاستبداد السياسي والتّخلّف والفقر وغير ذلك من مظاهر القمع والبؤس والخراب المستشري في المجتمع، بل لقد ظهر لون أدبيّ خاص غلبت عليه سمات هذا المفهوم حمل اسم أدب الديستوبيا.
تمثّل رواية (1984) للصحفي والكاتب البريطانيّ (إريك أرثر بلير-١٩٠٣-١٩٥٠م) المعروف باسمه الأدبي(جورج أورويل) مثالاً واضحاً على هذا النوع من الأدب.
بل لقد أصبح النقاد والباحثون يستخدمون مصطلح (الأورويلية) نسبة إلى جورج أوريل للإشارة إلى كلّ المظاهر المرتبطة بالإبداع ذي الصبغة الديستوبية.
أجد من المناسب قبل عرض بعض المختارات الدّالة من الرواية أنْ أُثبتَ هنا تعريف الناشر العربيّ بها كما ورد في صفحة الغلاف.
جاء في التعريف:
" على مدى سنوات طويلة، ظلّت رواية "1984" لجورج أورويل تُستعاد. يعود إليها الكتّاب الذين يتحدّثون عن الديكتاتورية والأنظمة الشمولية. وعلى مدى سنوات طويلة، ظلّت هذه الرواية حيّةً وتُقرأ بسبب جماليّتها الأدبية وبسبب الصورة السياسيةالتي قدّمتها.
اليوم، وفي ترجمة جديدة، نقدّم هذه الرواية التي صوّرت بطريقة تنبؤيّة، مجتمعاً شموليّاً يخضع لديكتاتورية فئة تحكم باسم "الأخ الكبير"الذي يمثّل الحزب الحاكم، ويبني سلطته على القمع والتعذيب وتزوير الوقائع والتاريخ، باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا. حزبٌ يحصي على الناس أنفاسهم ويحوّل العلاقات الإنسانية والحبّ والزواج والعمل والأسرة إلى علاقات مراقَبَة تجرِّدُ الناس من أيّ تفرّد وتُخضعهم لنظام واحد، لا ينطبق على مسؤولي الحزب."
تقع الرواية في ثلاثة أجزاء ينقسم كلّ جزء منها إلى عدد من الفصول يبلغ مجموعها ثلاثةٌ وعشرون فصلاً.
تنطوي هذه الفصول على وصف مسهَب وتحليل معمَّق في إطار سرد مفصّل للخراب النفسي والاجتماعي الذي يلفّ المجتمع وذلك من خلال رؤية ( ونستون سميث) بطل الرواية ذي التسعة والثلاثين عاماً والذي يعمل موظّفاً في إحدى الوزارات.
نقرأ في الجزء الأول من الرواية:
" ...مشى ونستون باتّجاه السلالم للصعود، فالمصعد نادراً ما كان يعمل، إمّا بسبب عطل وإمّا لانقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار، انسجاماً مع خطّة توفير الطّاقة استعداداً لفعاليات " أسبوع الكراهية"...وعند كلّ منعطف من منعطفات السلّم السبعة، وعند كلّ محطّة من محطّات المصعد وبمواجهة الباب، كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتحدّقَ في وجه كلّ قادم.....على نحو يجعل المرء يعتقد أنّ العينين تلاحقانه أينما تحرّك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول: "الأخ الكبير يراقبك" .
( الرواية، ص ص.٧-٨)
ومن طقوس التربية السياسية التي تحتشدُ بها الرواية ما يسمىّ بأسبوع الكراهية؛ حيث يتمّ جمعُ الموظّفين مقابل ( شاشات الرصد ) لمشاهدة عدد من المشاهد الدعائية المتعلّقة "بأعداء الشعب" للتعبير عن كراهيتهم وسخطهم عليها من خلال ردود أفعال طقوسية محدّدة.
جاء في الرواية:
" كانت الساعة قد قاربت الحاديةَ عشرةَ، وفي دائرة السجلّات حيث يعمل ونستون كان الموظّفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفّونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعداداً لبدء فعّاليات " دقيقتَي الكراهية " .......
..........وفي اللحظة التالية انبعث صوت مزعج ومخيف من شاشة الرصد في طرف القاعة، كما لو أنّه يصدر عن آلة قد جفَّ زيتُها. كان صوتاً تصطكُّ له الأسنان ويقف له شعرُ للرأس.
ولم يكن ذلك إلّا إيذاناً ببدء فعّاليات الكراهية.
وكما جرت العادة، ظهر على الشاشة وجه إيمانويل غولدشتاين عدو الشعب. فتعالت الصيحات من كلّ أنحاء القاعة، في حين صدر عن المرأة ذات الشعر الذهبيّ صرخة امتزج فيها الخوف بالاشمئزاز. كان غولدشتاين هو ذاك الخائن المرتدّ الذي كان في وقت ما (وليس من أحد يعرف متى كان ذلك) واحداً من رموز الحزب القيادية، وكانت مكانته تضاهي مكانة الأخ الكبير نفسه...."
(الرواية، ص ص ١٦-١٨)
ويستمرّ طقس الكراهية وتتوالى المشاهد على شاشة الرصد......
نقرأ في الرواية:
" ...وبلغت الكراهية ذروتها وأصبح صوت غولدشتاين ثغاء خروف، بل تحوّل وجهه للحظة إلى وجه خروف. ثمّ لم يلبث أنْ تلاشى ليحلّ محلّه وجه جندي من جنود أوراسيا كان يندفع كالعملاق فنشر الرعب وهو يحمل في يده بندقية آلية تهدر، ويبدو كأنّه سيثب من الشاشة....ولكن في اللحظة نفسها تنفّس الجميع الصّعداء إذ تلاشت هذه الصورة وحلّت محلّها صورة الأخ الكبير بشعر رأسه الأسود وشاربه الكثّ ورزانته الغامضة وقوّته الفيّاضة، وكان وجهه من الضخامة بحيث ملأ الشاشة كلّها...........ثمّ تلاشى وجه الأخ الكبير وظهرت شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة:
الحرب هي السلام
الحريّة هي العبوديّة
الجهل هو القوّة "
( الرواية، ص ص ٢٢-٢٣)
وللقمع والتعذيب طقوسه الخاصّة أيضاً.
نقرأ في الرواية:
" وجدَ ونستون نفسهُ ممدّداً فوق سرير يشبه أسرّة المعسكرات.............
كانت تلك الضربة التي تلقّاها فوق مرفقه إيذاناً ببداية الكابوس الذي سيخوض غماره، وقد أدرك فيما بعد أنّ كلّ ما مرَّ به حتى تلك الضربة لم يكن إلّا استجواباً اعتيادياً وتمهيدياً يخضع له كلّ السجناء تقريباً.............
وكانت تمرّ عليه أوقات يتدحرج فيها على الأرض وكأنّه حيوان مخزٍ، يتلوّى بجسده محاولاً دون جدوى تجنّبَ الضربات، لكنّ ذلك كان يدفعهم لمزيد من الضرب على ضلوعه وبطنه ومرفقيه وساقيه وخصيتيه وعموده الفقري................
وبعد ذلك قلت عمليات التعذيب التي يخضع لها حتى باتت مصدر تهديد أو رعب يتوعده المحقّقون بإعادته إليها في أي لحظة لا تروقهم أجوبته. ولم يعد المحقّقون هؤلاء الرجال المتوحّشين بثيابهم السوداء، وإنّما أصبحوا رجالاً من مثقّفي الحزب، وهم رجال ضئيلو الأجسام سريعو الحركة وذوو نظّارات لامعة كانوا يتناوبون العمل عليه في النوبة الواحدة عشر أو اثنتي عشرة ساعة.
............................................
وقال أوبران بلطف: " إنّك بطيء التعلّم يا ونستون"
فقال ونستون وهو ينتحب: " وماذا عسايَ أن أفعل؟ كيف يمكنني أن أتجنّبَ رؤية ما هو أمام عيني؟ إنّ اثنين واثنين يساويان أربعة؟ "
............................................
قال أوبراين: " هنالك مراحل ثلاث لا بدَّ أنْ تمرَّ بها حتّى تتمّ إعادة تأهيلك وخلقكَ من جديد، وهي التعلّم، ثمّ الفهم، ثمّ القبول. وقد آن أوان دخولك المرحلة الثانية"
( الرواية، ص ص ٢٨٣-٣٠٨ )
وتستمرّ أساليب وطقوس التعذيب وغسيل الدّماغ بمختلف فنونها وأشكالها إلى أن تتلاشى مقاومة الجسم البشري فينهار انهياراً تاماً مُفْسِحاً المجال أمام تشكّل عقل خاضع تماماً لا يرى إلّا ما يراه الجلّادون، حيث يولد الإنسان المِسخ على شاكلة ونستون، بطل الرواية:
" حدّقَ ونستون في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر منه أربعين سنة حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الكبير تحت شاربيه الأسودين، وقال في نفسه:
أيّ غشاوة قاسية لم يكن لها داعٍ تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العِناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وسالت دمعتان سخيّتان على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرتُ على نفسي وصرتُ أحبُّ الأخ الكبير."
( الرواية، ص ٣٥١ )
بهذه السطور المعبِّرة والبليغة تنتهي فصول رواية (1984) لتمثّلً بحقّ أيقونةً متألّقةً لأدب الهجاء السياسيّ المرير بما ينطوي عليه من سخرية سوداء تجاه كلّ الأنظمة المستبدّة الشمولية القمعية، وبما تتضمّنه من رفضٍ واستنكار لممارساتها الشّرّيرة بحق الإنسان الفرد والإنسانية جمعاء.
*- جورج أورويل، 1984، ترجمة أنور الشامي، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء، بيروت، ٢٠٠٦م، ط١.
دكتور زياد العوف
ّ
أمّا مفهوم (المدينة الفاسدة-ديستوبيا) فإنّه يُنسَبُ إلى الفيلسوف والاقتصادي الإنجليزي (جون ستيوارت مِل) الذي استخدمه لأولّ مرّة في مساجلات مجلس العموم البريطاني في عام (١٨٦٨م) في معرِض رفضه لسياسات الحكومة البريطانية بشأن الأراضي الزراعية في أيرلندا، ثمّ شاع استخدام المصطلح في معظم الميادين الحيوية العامّة كالسياسة والاقتصاد والبيئة وغيرها، وذلك للإشارة إلى نقيض المفهوم الأفلاطونيّ الحالِم؛ حيث يتحكّم الشرّ والظلم والفساد في كلّ شؤون المدينة الفاسدة.
لم يتأخّر الأدباء عن استثمار هذا المصطلح في أعمالهم الأدبية المعنيّة بوصف المظالم الاجتماعية والاستبداد السياسي والتّخلّف والفقر وغير ذلك من مظاهر القمع والبؤس والخراب المستشري في المجتمع، بل لقد ظهر لون أدبيّ خاص غلبت عليه سمات هذا المفهوم حمل اسم أدب الديستوبيا.
تمثّل رواية (1984) للصحفي والكاتب البريطانيّ (إريك أرثر بلير-١٩٠٣-١٩٥٠م) المعروف باسمه الأدبي(جورج أورويل) مثالاً واضحاً على هذا النوع من الأدب.
بل لقد أصبح النقاد والباحثون يستخدمون مصطلح (الأورويلية) نسبة إلى جورج أوريل للإشارة إلى كلّ المظاهر المرتبطة بالإبداع ذي الصبغة الديستوبية.
أجد من المناسب قبل عرض بعض المختارات الدّالة من الرواية أنْ أُثبتَ هنا تعريف الناشر العربيّ بها كما ورد في صفحة الغلاف.
جاء في التعريف:
" على مدى سنوات طويلة، ظلّت رواية "1984" لجورج أورويل تُستعاد. يعود إليها الكتّاب الذين يتحدّثون عن الديكتاتورية والأنظمة الشمولية. وعلى مدى سنوات طويلة، ظلّت هذه الرواية حيّةً وتُقرأ بسبب جماليّتها الأدبية وبسبب الصورة السياسيةالتي قدّمتها.
اليوم، وفي ترجمة جديدة، نقدّم هذه الرواية التي صوّرت بطريقة تنبؤيّة، مجتمعاً شموليّاً يخضع لديكتاتورية فئة تحكم باسم "الأخ الكبير"الذي يمثّل الحزب الحاكم، ويبني سلطته على القمع والتعذيب وتزوير الوقائع والتاريخ، باسم الدفاع عن الوطن والبروليتاريا. حزبٌ يحصي على الناس أنفاسهم ويحوّل العلاقات الإنسانية والحبّ والزواج والعمل والأسرة إلى علاقات مراقَبَة تجرِّدُ الناس من أيّ تفرّد وتُخضعهم لنظام واحد، لا ينطبق على مسؤولي الحزب."
تقع الرواية في ثلاثة أجزاء ينقسم كلّ جزء منها إلى عدد من الفصول يبلغ مجموعها ثلاثةٌ وعشرون فصلاً.
تنطوي هذه الفصول على وصف مسهَب وتحليل معمَّق في إطار سرد مفصّل للخراب النفسي والاجتماعي الذي يلفّ المجتمع وذلك من خلال رؤية ( ونستون سميث) بطل الرواية ذي التسعة والثلاثين عاماً والذي يعمل موظّفاً في إحدى الوزارات.
نقرأ في الجزء الأول من الرواية:
" ...مشى ونستون باتّجاه السلالم للصعود، فالمصعد نادراً ما كان يعمل، إمّا بسبب عطل وإمّا لانقطاع التيار الكهربائي معظم ساعات النهار، انسجاماً مع خطّة توفير الطّاقة استعداداً لفعاليات " أسبوع الكراهية"...وعند كلّ منعطف من منعطفات السلّم السبعة، وعند كلّ محطّة من محطّات المصعد وبمواجهة الباب، كانت تنتصب صورة الوجه الضخم لتحدّقَ في وجه كلّ قادم.....على نحو يجعل المرء يعتقد أنّ العينين تلاحقانه أينما تحرّك. وكان يوجد أسفل تلك الصورة عبارة بارزة تقول: "الأخ الكبير يراقبك" .
( الرواية، ص ص.٧-٨)
ومن طقوس التربية السياسية التي تحتشدُ بها الرواية ما يسمىّ بأسبوع الكراهية؛ حيث يتمّ جمعُ الموظّفين مقابل ( شاشات الرصد ) لمشاهدة عدد من المشاهد الدعائية المتعلّقة "بأعداء الشعب" للتعبير عن كراهيتهم وسخطهم عليها من خلال ردود أفعال طقوسية محدّدة.
جاء في الرواية:
" كانت الساعة قد قاربت الحاديةَ عشرةَ، وفي دائرة السجلّات حيث يعمل ونستون كان الموظّفون يجرّون المقاعد من مكاتبهم ويصفّونها في وسط القاعة المواجهة لشاشة الرصد استعداداً لبدء فعّاليات " دقيقتَي الكراهية " .......
..........وفي اللحظة التالية انبعث صوت مزعج ومخيف من شاشة الرصد في طرف القاعة، كما لو أنّه يصدر عن آلة قد جفَّ زيتُها. كان صوتاً تصطكُّ له الأسنان ويقف له شعرُ للرأس.
ولم يكن ذلك إلّا إيذاناً ببدء فعّاليات الكراهية.
وكما جرت العادة، ظهر على الشاشة وجه إيمانويل غولدشتاين عدو الشعب. فتعالت الصيحات من كلّ أنحاء القاعة، في حين صدر عن المرأة ذات الشعر الذهبيّ صرخة امتزج فيها الخوف بالاشمئزاز. كان غولدشتاين هو ذاك الخائن المرتدّ الذي كان في وقت ما (وليس من أحد يعرف متى كان ذلك) واحداً من رموز الحزب القيادية، وكانت مكانته تضاهي مكانة الأخ الكبير نفسه...."
(الرواية، ص ص ١٦-١٨)
ويستمرّ طقس الكراهية وتتوالى المشاهد على شاشة الرصد......
نقرأ في الرواية:
" ...وبلغت الكراهية ذروتها وأصبح صوت غولدشتاين ثغاء خروف، بل تحوّل وجهه للحظة إلى وجه خروف. ثمّ لم يلبث أنْ تلاشى ليحلّ محلّه وجه جندي من جنود أوراسيا كان يندفع كالعملاق فنشر الرعب وهو يحمل في يده بندقية آلية تهدر، ويبدو كأنّه سيثب من الشاشة....ولكن في اللحظة نفسها تنفّس الجميع الصّعداء إذ تلاشت هذه الصورة وحلّت محلّها صورة الأخ الكبير بشعر رأسه الأسود وشاربه الكثّ ورزانته الغامضة وقوّته الفيّاضة، وكان وجهه من الضخامة بحيث ملأ الشاشة كلّها...........ثمّ تلاشى وجه الأخ الكبير وظهرت شعارات الحزب الثلاثة بأحرف كبيرة بارزة:
الحرب هي السلام
الحريّة هي العبوديّة
الجهل هو القوّة "
( الرواية، ص ص ٢٢-٢٣)
وللقمع والتعذيب طقوسه الخاصّة أيضاً.
نقرأ في الرواية:
" وجدَ ونستون نفسهُ ممدّداً فوق سرير يشبه أسرّة المعسكرات.............
كانت تلك الضربة التي تلقّاها فوق مرفقه إيذاناً ببداية الكابوس الذي سيخوض غماره، وقد أدرك فيما بعد أنّ كلّ ما مرَّ به حتى تلك الضربة لم يكن إلّا استجواباً اعتيادياً وتمهيدياً يخضع له كلّ السجناء تقريباً.............
وكانت تمرّ عليه أوقات يتدحرج فيها على الأرض وكأنّه حيوان مخزٍ، يتلوّى بجسده محاولاً دون جدوى تجنّبَ الضربات، لكنّ ذلك كان يدفعهم لمزيد من الضرب على ضلوعه وبطنه ومرفقيه وساقيه وخصيتيه وعموده الفقري................
وبعد ذلك قلت عمليات التعذيب التي يخضع لها حتى باتت مصدر تهديد أو رعب يتوعده المحقّقون بإعادته إليها في أي لحظة لا تروقهم أجوبته. ولم يعد المحقّقون هؤلاء الرجال المتوحّشين بثيابهم السوداء، وإنّما أصبحوا رجالاً من مثقّفي الحزب، وهم رجال ضئيلو الأجسام سريعو الحركة وذوو نظّارات لامعة كانوا يتناوبون العمل عليه في النوبة الواحدة عشر أو اثنتي عشرة ساعة.
............................................
وقال أوبران بلطف: " إنّك بطيء التعلّم يا ونستون"
فقال ونستون وهو ينتحب: " وماذا عسايَ أن أفعل؟ كيف يمكنني أن أتجنّبَ رؤية ما هو أمام عيني؟ إنّ اثنين واثنين يساويان أربعة؟ "
............................................
قال أوبراين: " هنالك مراحل ثلاث لا بدَّ أنْ تمرَّ بها حتّى تتمّ إعادة تأهيلك وخلقكَ من جديد، وهي التعلّم، ثمّ الفهم، ثمّ القبول. وقد آن أوان دخولك المرحلة الثانية"
( الرواية، ص ص ٢٨٣-٣٠٨ )
وتستمرّ أساليب وطقوس التعذيب وغسيل الدّماغ بمختلف فنونها وأشكالها إلى أن تتلاشى مقاومة الجسم البشري فينهار انهياراً تاماً مُفْسِحاً المجال أمام تشكّل عقل خاضع تماماً لا يرى إلّا ما يراه الجلّادون، حيث يولد الإنسان المِسخ على شاكلة ونستون، بطل الرواية:
" حدّقَ ونستون في الوجه الضخم، لقد استغرق الأمر منه أربعين سنة حتى فهم معنى الابتسامة التي كان يخفيها الأخ الكبير تحت شاربيه الأسودين، وقال في نفسه:
أيّ غشاوة قاسية لم يكن لها داعٍ تلك التي رانت على فهمي، وعلام كان العِناد والنأي من جانبي عن هذا الصدر الحنون. وسالت دمعتان سخيّتان على جانبي أنفه. وكان لسان حاله يقول: لكن لا بأس فقد انتهى النضال، وها قد انتصرتُ على نفسي وصرتُ أحبُّ الأخ الكبير."
( الرواية، ص ٣٥١ )
بهذه السطور المعبِّرة والبليغة تنتهي فصول رواية (1984) لتمثّلً بحقّ أيقونةً متألّقةً لأدب الهجاء السياسيّ المرير بما ينطوي عليه من سخرية سوداء تجاه كلّ الأنظمة المستبدّة الشمولية القمعية، وبما تتضمّنه من رفضٍ واستنكار لممارساتها الشّرّيرة بحق الإنسان الفرد والإنسانية جمعاء.
*- جورج أورويل، 1984، ترجمة أنور الشامي، المركز الثقافيّ العربيّ، الدار البيضاء، بيروت، ٢٠٠٦م، ط١.
دكتور زياد العوف
ّ