صدر للشاعر محمد بلمو ديوانه الثالث بعد ديوانين سابقين، الأول بعنوان "صوت التراب" سنة 2000، والثاني باشتراك مع الشاعر عبد العاطي جميل سنة ،2007 بعنوان "حماقات السلمون" عن منشورا وزارة الثقافة سنة 2013، ويشتمل على عشرة نصوص مختلف الطول والحجم في مساحة نصية بلغت 75 صفحة مصدرة بتقديم مهم بقلم د عبد الجليل بن محمد الأزدي.
عتبة العنوان:
وقد حمل ديوان "رماد اليقين" على منوال "رماد هيسبريس" للمرحوم النوني، عنوانا مثيرا للمتلقي يستفزه ويدهشه ويحثه على طرح الأسئلة والبحث عن يقين جديد، إذ جمع بين لفظتين تبدوان متعارضتين، الأولى هي رماد، والثانية هي يقين. ولعل اليقين يضاد الرماد أو هو أحد عناصره النهاية التي تشي بعودة لليقين بصفته انبعاثا لكن بشكل مختلف، وبحلة جديدة ودلالة مغايرة.
فالرماد يعبر عن النهاية، وعن العدم والفناء، أما اليقين فيدل على الثبات والرسوخ. فقد يكون الرماد من اليقين، ويكون اليقين العنصر الذي يتم إحراقه للحصول على رماده. وإذا علمنا أن الشاعر يسير باتجاه الشك ورفض الراسخ والثابت، فيمكن القول إن الرماد هو العنصر الإيجابي، وأن اليقين هو العنصر السلبي الذي ينبغي تجاوزه بإحراقه، وعبر رماده يؤسس لحقائق جديدة ومختلفة. إن القارئ، ومن خلال العنوان وعبره وعبر اللوحة الفنية، مدعو لاستنطاق هذه العتبات والكشف عن خبايا رماد اليقين.
من داخل الديوان:
يمارس الشاعر بلمو في ديوانه "رماد اليقين" التلفسف ويمنح لنفسه حرية التفكير في موضوعات متعددة، وقضايا معينة، ويقلب النظر في مفاهيم كثيرة وبخاصة في نصوصه القصيرة التي تقترب من الشذرة إن لم تكن هي نفسها باعتماد الاستفهام كأسلوب بنائي أساسي يعلن عن القلق والمعاناة. ومعلوم أن الشذرة كانت قبسات فكرية ذات انهمار فلسلفي عبرها مرر ويمرر الفلاسفة أفكارهم وتصوراتهم للإنسان والحياة. فقد استعملوا أسلوباً مقطعياً ينم عن حرية في الكتابة، ورغبة في الإفلات من الإكراهات التي يفرضها كل فكر فلسفي نسقي صارم. بمعنى أن الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد، وبالتالي الاقتضاب والتكثيف. ظاهرة كتابة الشذرة من نيتشه إلى كانيتى، مجلة نزوى الالكترونية، بتاريخ 1 يناير 2014
فالكتابة الشذرية أضحت من الفنون الأدبية الرائجة في السنوات الأخيرة؛ وقد اهتم بها جل الشعراء لأنها أكثر قدرة على خلق الدهشة ومن ثم تحقيق اللذة والمتعة الأدبيتين. وما التجاؤهم إليها إلا لأنها تقول أفكاراً كثيرة من خلال مقاطع قليلة وقصيرة.
لهذا اختار الشاعر بلمو هذا الجنس الأدبي أسلوباً في الكتابة، متأثرا بكتابات نيتشه الفلسفية التي رأت في الشذرة أسولبا دقيقا لقوله الفلسفي. وسار على نهج إميل سيوران في كتابه "توقيعات".
وإذا كان الفكر يتخذ من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، وبأن الشعر يخدم الفلسفة، فإن الفلسفة بنفسها تخدم الشعر. إذ خناك خيط رابط بينهما. ثم إننا نجد في الشعر فوائد ومنافع ومتعة كما انه يحث على الفضائل الإنسانية. وعليه، فالفلسفة باعتبارها بحثًا عن الحقيقة تتوسل باللغة، والأدب يبني عالمه على اللغة أيضًا؛ فاللغة هي القاسم المشترك بين المجالين، ولكن ليست اللغة فقط وإنما هناك علاقة أخرى تجمع بينهما، وهي علاقة معرفية فما تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصة ورواية ومسرح. فراس حمية، عن العلاقة بين الفلسفة والشعر، ألترا صوت، بتاريخ 22 مارس 2020.
فالشاعر بلمو يمتح رموزه من رحم الفلسفة، سواء تعلق الأمر بالعنونة أو في معمارية القصائد، فبها يثري البياض ويطرب العالم، حيث تأخذ اللغة الشعرية براعتها الفلسفية بكل أبعادها الأنطلوجية، لأنه يسكن اللغة قبل أن تسكنه، وعبرها يؤسس برمجية لفظية توطد دعائم الرؤيا وترفض كل تجربة لا تتأسس على المعاناة. د أبو علي لغزيوي، البعد الفلسفي في شعر محمد بلمو، جريدة الحدث الإفريقي الالكترونية.
وقد توقف الناقد محمد الديهاجي عند هذا البعد الفلسفي في الديوان وبخاصة عند المدونة الأولى، معتمدا في قراءته على مجموعة من العناوين ، باعتبارها تشكل صكّ اتهام، لطهرانية حقائق مُفلسة، عبر السّؤال الاستنكاري، وتؤسّسُ، بالمقابل، لمُعادلات جديدة، سرعان ما تتخطى نفسها، استنادا إلى مرجعيات فلسفية ما بعد حداثية.
وقد وجد في تضاعيف بنية العنونة ما يلي:
*غياب (ص9) في مقابل حضور، كإحالة على الوجود والعدم عند سارتر
* حلم (ص17)، في مقابل الماصدق، أو المتخيل والرمزي، في مقابل الواقعي، أفكر هنا، في فرويد ومصنفه (علم الأحلام).
*هل أنا الريح أيها المداد (ص19) يحضر هنا، كنص غائب، قول المتنبي في بيته الشهير (كأن الريح تحتي)، بما يفيد اللااستقرار واللايقين، إذ تصبح الذات في مهب الريح.
*تعريفات بدائية جدا (ص50)، هنا إشارة إلى البدايات الأولى للوجود، حيث التردُّد والارتباك والارتعاش، وهي عطفا، إشارة ضمنية، إلى فتنة الديونيزية، عند نيتشه، في مقابل، الوثوقية الأبولونية، كروحٍ للنظام والقيم.
* رماد اليقين (ص72). الرماد، في هذه التجربة، ما هو إلا صورة للنهاية، وأفول علم الميتافيزيقا، ذاك الذي»يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، كما لو كانت هي الحقائق الأساسية»(نيتشه). محمد الديهاجي، شعرية الضرير في ديوان "رماد اليقين" جريدة القدس العربي الإلكترونية، الجمعة 1 ديسمبر 2023.
فالشاعر من خلال تلك العناوين يحتكم، كما قال الناقد نفسه، إلى رؤية، ديدنها الهدم والتقويض، هدم القيم والنظام، وتقويض كل معطى أنالوجي، وكل نزعة وثوقية، إن شئتم، إنها رؤية كارثية، بالمعنى الذي تجلت به، في تنظيرات روني توم. وبولوجنا عوالم نصوص الديوان، وارتباطا دائما، بعقدة الحقيقة، يُعرّفها صاحبُنا قائلا، في ومضة هي أقرب إلى الهايكو:
الحقيقة
تضيع دائما
هذه الشذرة الأقصر في هذا الديوان تؤكد اختفاء اليقين حيث صار صنو الغياب.
كما تؤكد أن الحقيقة ذات دوائر متعددة.
وتغلب على الديوان موضوعة الشك في القيم، والأفكار، والأيديولوجيات، والذات نفسها، فلا وجود لحقائق ثابتة، وما كان سائدا سيصير رمادا، يقول في ومضة «اليسار»:
مُستقبلٌ نائمٌ
عندما كان يحبُو
خاصم عظامه الرّخوة
نسي أزهاره
غرقى في محبرة
هو أيضا
نحت آلهة لدينه
ومقبرة
لنتوقف قليلا عند تعريفاته الفلسفية لبعض المفاهيم والمصطلحات الواردة بالقسم الذي وسمه ب"تعريفات بدائية جدا" والممتدة من ص 50 إلى ص 67، حيث نجده يقدم تعريفات فكرية بلغة شعرية دقيقة ومركزة سمتها الانزياح والمقابلة والتضاد، مستعينا بالصور المعبرة والمفتوحة على تعدد القراءة.
ففي شذرته "الحمام" نجده يستغل هذا الرمز الدال على السلم للتعبير عن يأسه من عدم اتعاظ الإنسان من ويلات الحروب إذ ما زال مستمرا في إشعالها. فحفلت الشذرة بمعجم يرتبط بهذا اليأس من مثل: انكفأ، انطفأ، أضرب، يئس، فبدل أن يزدهر السلم من وقف الحرب، نراها تشتعل واقفة بذلك ضد الرغبة المختلفة مما يجعل الحمام يضرب عن رمزيته، وينعزل في صومعته. وقد وظف التضاد في هذه الشذرة للتعبير عن اليأس والإحباط، في قوله: ومض نوره وانطفأ.
وفي تعريفه للشعر يقدم صورة له ترفض المعنى الأحادي كونه يحتفل بالتعدد عبر ملء بياضه وفجواته. فالمعنى الأحادي ديكتاتوري ومستبد يقوم على غرس اليقينيات، والشاعر لا يعبأ بتلك اليقينيات لأنه مشحون بالشك، كما أن بيده مطرقة نيتشه يحطم بها الأوثان بكل أنواعها.
وفي شذرة المرأة، نجده يقدم تعريفا مغايرا للسائد والمألوف عنها كما ترسخ ذلك في ذهنية الذكوريين الذين لا يرون فيها سوى جسد يمنح اللذة، فهو، بخلافهم، يراها مهد العالم وفجر الغد. ولن يتحقق هذا الغد المأمول إلا بهدم ما ترسب في ذهن الذكور من ثوابت معرقلة تضاد حركة التاريخ؛ هذا التاريخ الذي يطلب في شذرة أخرى تحرره من جموده ليحقق انطلاقته المؤجلة. ولا يمكن أن يتحقق إلا برجال يتشوفون إلى المستقبل ولا يسكنون الماضي الذي يسكنهم بدوره. رجال يصنعون حاضرهم ولا يعيشون على الذكريات. ولعل من بين أسباب الهزيمة ذلك التطبيع المشؤوم الذي يعبر عن الهزيمة.
هكذا، نجد ترابطا بين التعريفات وموضوعاتها، ترابطا يؤكد على أن الشاعر يضع تحت مجهر فكره الإنسان والمجتمع والحياة، وينظر إليها بمنظار التفكير الفلسفي الذي يناهض السائد ويعمل على هدمه بغاية استنبات المخالف والحيوي.
أنه شاعر يمارس الفكر الفلسفي دون أن يتخلى عن عناصر الشعر ومقوماته، وليس هذا بغريب عنه، لأمرين أولهما أنه مجاز في شعبة الفلسفة، وثانيهما أن الشعر بيت الحكمة ومقر التأمل والتفكير لكنه بوسائله الخاصة.
وفي شذرة "الإنترنيت" نجده يحذرنا من مغبة هذه التقنية الحديثة التي تجعلنا في خطر داهم ما لم نكن متنبهين ويقظين.
وفي شذرة "الزهرة"" نتابع مشهد القبح وهو يدك الجمال بحوافره، والصورة المرسومة ستحدث رجة في ذهن المتلقي تجعله ينفر منها ويقبل على ضدها المتمثل في محبة الجمال ومحبة الحكمة أيضا؛ فالحكمة تساؤل ورفض للمعتاد، ومناهضة للقبح.
وفي شذرة "العدل" يعبر على أنه المدينة الفاضلة التي لم تتحقق بعد كون أركانها غير تامة.
مجموع هذه الشذرات معطرة بالشك واليأس لكنها تستضمر أملا في المستقبل يكون أفضل من الماضي والحاضر معا.
وتظهر نزعة الشك لدى الشاعر في نص «رماد اليقين»، وتتجلى، كما قال الناقد الديهاجي في:
* الشكّ في الذات (أمُتيقّنٌ|أنك أنت)
*الشك في رابطة الانتماء (أمتيقن|أنك أنت وأن البلاد بلادٌ)
* الشك في الوجود (أمتيقن|أنك أنت وأن البلاد بلاد وأن الأرض تدور كما كانت وأن الشمس طالعةٌ كل صباح؟)
الكتابة الشعرية عند الشاعر المغربي محمد بلمو، وبخاصة في شذراته ونصوصه القصيرة جدا، تتأسس على تكثيف الدلالة وتركيب الأسلوب التصويري الفني والمراهنة على الانزياح المفارق المتاخم لعوالم القلق والمعاناة والحنين. كما تقوم الصورة الشعرية المركبة عنده على استحضار الذاكرة، بما تحيل إليه من بساطة وأمل وعفوية وبراءة؛ ما يجعل تلك الصورة حافلة بمميزات الدهشة الجمالية لانسجام عناصرها التركيبية، على الرغم من اختلافها ومفارقاتها أحيانا. جريدة القدس العربي الإلكترونية، بتاريخ 3 ديسمبر 2014.
على سبيل الختم:
يمكن أن نستعير قول صلاح بوسريف للحديث عن خلاصة مؤقتة للديوان بالقول:
ولعل الشاعر محمد بامو، من خلال هذه التجربة، كان بوسعه ذلك، مستقويا بشعرية جديدة، هي شعرية المُفارقة والقلب، لقد وضعنا الشاعر أمام نظام آخر للرؤية والكتابة، وهو ما ترتب عنه «قلبٌ في نظام القيم».
يحاكم الشاعر في ديوانه الواقع العربي بلغة فلسفية تتجاوز حدود الذاكرة، لتحيل على مفهوم التفلسف القصيدي في بعده العلائقي والتفاعلي وأيضا على المستوى البناء الهيكلي النظمي. نفسه. مرجع سابق.
فمن نص المبتدأ "غياب" إلى نص المنتهى" رماد اليقين" نحس بأنفسنا وأننا في سفرة فكرية شعرية، أو سفرة شعرية فلسفية تعتمد المتعة والدهشة، وتحث على طرح الأسئلة والبحث بين السطور عن الدلالات الثاوية كون العمل لا يرسو على يقين؛ لأنه مجرد سراب أو مجرد احتمال من بين احتمالات عدة. ولعل تلك الأسئلة المتعدد في القصيدة الأخيرة خير معبر عن الألغام الذي زرعها الشاعر تحت أقدام المتلقي؛ ألغام تدعوه للحذر منها وتجنبها بتفجير يقينيتها. فالديوان يعمل بمطرقة هدم اليقينيات لتأسيس حقائق جديدة تتماشى والواقع/الوقائع الجديدة.
عتبة العنوان:
وقد حمل ديوان "رماد اليقين" على منوال "رماد هيسبريس" للمرحوم النوني، عنوانا مثيرا للمتلقي يستفزه ويدهشه ويحثه على طرح الأسئلة والبحث عن يقين جديد، إذ جمع بين لفظتين تبدوان متعارضتين، الأولى هي رماد، والثانية هي يقين. ولعل اليقين يضاد الرماد أو هو أحد عناصره النهاية التي تشي بعودة لليقين بصفته انبعاثا لكن بشكل مختلف، وبحلة جديدة ودلالة مغايرة.
فالرماد يعبر عن النهاية، وعن العدم والفناء، أما اليقين فيدل على الثبات والرسوخ. فقد يكون الرماد من اليقين، ويكون اليقين العنصر الذي يتم إحراقه للحصول على رماده. وإذا علمنا أن الشاعر يسير باتجاه الشك ورفض الراسخ والثابت، فيمكن القول إن الرماد هو العنصر الإيجابي، وأن اليقين هو العنصر السلبي الذي ينبغي تجاوزه بإحراقه، وعبر رماده يؤسس لحقائق جديدة ومختلفة. إن القارئ، ومن خلال العنوان وعبره وعبر اللوحة الفنية، مدعو لاستنطاق هذه العتبات والكشف عن خبايا رماد اليقين.
من داخل الديوان:
يمارس الشاعر بلمو في ديوانه "رماد اليقين" التلفسف ويمنح لنفسه حرية التفكير في موضوعات متعددة، وقضايا معينة، ويقلب النظر في مفاهيم كثيرة وبخاصة في نصوصه القصيرة التي تقترب من الشذرة إن لم تكن هي نفسها باعتماد الاستفهام كأسلوب بنائي أساسي يعلن عن القلق والمعاناة. ومعلوم أن الشذرة كانت قبسات فكرية ذات انهمار فلسلفي عبرها مرر ويمرر الفلاسفة أفكارهم وتصوراتهم للإنسان والحياة. فقد استعملوا أسلوباً مقطعياً ينم عن حرية في الكتابة، ورغبة في الإفلات من الإكراهات التي يفرضها كل فكر فلسفي نسقي صارم. بمعنى أن الكتابة الشذرية هي كتابة التفسخ، والتفكك، والاختلاف، والثورة على المقاييس المنطقية الصارمة، والتحلل من قواعد النسق الفلسفي المحدد، وبالتالي الاقتضاب والتكثيف. ظاهرة كتابة الشذرة من نيتشه إلى كانيتى، مجلة نزوى الالكترونية، بتاريخ 1 يناير 2014
فالكتابة الشذرية أضحت من الفنون الأدبية الرائجة في السنوات الأخيرة؛ وقد اهتم بها جل الشعراء لأنها أكثر قدرة على خلق الدهشة ومن ثم تحقيق اللذة والمتعة الأدبيتين. وما التجاؤهم إليها إلا لأنها تقول أفكاراً كثيرة من خلال مقاطع قليلة وقصيرة.
لهذا اختار الشاعر بلمو هذا الجنس الأدبي أسلوباً في الكتابة، متأثرا بكتابات نيتشه الفلسفية التي رأت في الشذرة أسولبا دقيقا لقوله الفلسفي. وسار على نهج إميل سيوران في كتابه "توقيعات".
وإذا كان الفكر يتخذ من الصياغة الشعرية وسيلة للتعبير عن حقائقه ومضامينه، وبأن الشعر يخدم الفلسفة، فإن الفلسفة بنفسها تخدم الشعر. إذ خناك خيط رابط بينهما. ثم إننا نجد في الشعر فوائد ومنافع ومتعة كما انه يحث على الفضائل الإنسانية. وعليه، فالفلسفة باعتبارها بحثًا عن الحقيقة تتوسل باللغة، والأدب يبني عالمه على اللغة أيضًا؛ فاللغة هي القاسم المشترك بين المجالين، ولكن ليست اللغة فقط وإنما هناك علاقة أخرى تجمع بينهما، وهي علاقة معرفية فما تتوصل إليه الفلسفة يجسده الأدب بأجناسه المختلفة من شعر وقصة ورواية ومسرح. فراس حمية، عن العلاقة بين الفلسفة والشعر، ألترا صوت، بتاريخ 22 مارس 2020.
فالشاعر بلمو يمتح رموزه من رحم الفلسفة، سواء تعلق الأمر بالعنونة أو في معمارية القصائد، فبها يثري البياض ويطرب العالم، حيث تأخذ اللغة الشعرية براعتها الفلسفية بكل أبعادها الأنطلوجية، لأنه يسكن اللغة قبل أن تسكنه، وعبرها يؤسس برمجية لفظية توطد دعائم الرؤيا وترفض كل تجربة لا تتأسس على المعاناة. د أبو علي لغزيوي، البعد الفلسفي في شعر محمد بلمو، جريدة الحدث الإفريقي الالكترونية.
وقد توقف الناقد محمد الديهاجي عند هذا البعد الفلسفي في الديوان وبخاصة عند المدونة الأولى، معتمدا في قراءته على مجموعة من العناوين ، باعتبارها تشكل صكّ اتهام، لطهرانية حقائق مُفلسة، عبر السّؤال الاستنكاري، وتؤسّسُ، بالمقابل، لمُعادلات جديدة، سرعان ما تتخطى نفسها، استنادا إلى مرجعيات فلسفية ما بعد حداثية.
وقد وجد في تضاعيف بنية العنونة ما يلي:
*غياب (ص9) في مقابل حضور، كإحالة على الوجود والعدم عند سارتر
* حلم (ص17)، في مقابل الماصدق، أو المتخيل والرمزي، في مقابل الواقعي، أفكر هنا، في فرويد ومصنفه (علم الأحلام).
*هل أنا الريح أيها المداد (ص19) يحضر هنا، كنص غائب، قول المتنبي في بيته الشهير (كأن الريح تحتي)، بما يفيد اللااستقرار واللايقين، إذ تصبح الذات في مهب الريح.
*تعريفات بدائية جدا (ص50)، هنا إشارة إلى البدايات الأولى للوجود، حيث التردُّد والارتباك والارتعاش، وهي عطفا، إشارة ضمنية، إلى فتنة الديونيزية، عند نيتشه، في مقابل، الوثوقية الأبولونية، كروحٍ للنظام والقيم.
* رماد اليقين (ص72). الرماد، في هذه التجربة، ما هو إلا صورة للنهاية، وأفول علم الميتافيزيقا، ذاك الذي»يبحث في الأخطاء الأساسية للإنسان، كما لو كانت هي الحقائق الأساسية»(نيتشه). محمد الديهاجي، شعرية الضرير في ديوان "رماد اليقين" جريدة القدس العربي الإلكترونية، الجمعة 1 ديسمبر 2023.
فالشاعر من خلال تلك العناوين يحتكم، كما قال الناقد نفسه، إلى رؤية، ديدنها الهدم والتقويض، هدم القيم والنظام، وتقويض كل معطى أنالوجي، وكل نزعة وثوقية، إن شئتم، إنها رؤية كارثية، بالمعنى الذي تجلت به، في تنظيرات روني توم. وبولوجنا عوالم نصوص الديوان، وارتباطا دائما، بعقدة الحقيقة، يُعرّفها صاحبُنا قائلا، في ومضة هي أقرب إلى الهايكو:
الحقيقة
تضيع دائما
هذه الشذرة الأقصر في هذا الديوان تؤكد اختفاء اليقين حيث صار صنو الغياب.
كما تؤكد أن الحقيقة ذات دوائر متعددة.
وتغلب على الديوان موضوعة الشك في القيم، والأفكار، والأيديولوجيات، والذات نفسها، فلا وجود لحقائق ثابتة، وما كان سائدا سيصير رمادا، يقول في ومضة «اليسار»:
مُستقبلٌ نائمٌ
عندما كان يحبُو
خاصم عظامه الرّخوة
نسي أزهاره
غرقى في محبرة
هو أيضا
نحت آلهة لدينه
ومقبرة
لنتوقف قليلا عند تعريفاته الفلسفية لبعض المفاهيم والمصطلحات الواردة بالقسم الذي وسمه ب"تعريفات بدائية جدا" والممتدة من ص 50 إلى ص 67، حيث نجده يقدم تعريفات فكرية بلغة شعرية دقيقة ومركزة سمتها الانزياح والمقابلة والتضاد، مستعينا بالصور المعبرة والمفتوحة على تعدد القراءة.
ففي شذرته "الحمام" نجده يستغل هذا الرمز الدال على السلم للتعبير عن يأسه من عدم اتعاظ الإنسان من ويلات الحروب إذ ما زال مستمرا في إشعالها. فحفلت الشذرة بمعجم يرتبط بهذا اليأس من مثل: انكفأ، انطفأ، أضرب، يئس، فبدل أن يزدهر السلم من وقف الحرب، نراها تشتعل واقفة بذلك ضد الرغبة المختلفة مما يجعل الحمام يضرب عن رمزيته، وينعزل في صومعته. وقد وظف التضاد في هذه الشذرة للتعبير عن اليأس والإحباط، في قوله: ومض نوره وانطفأ.
وفي تعريفه للشعر يقدم صورة له ترفض المعنى الأحادي كونه يحتفل بالتعدد عبر ملء بياضه وفجواته. فالمعنى الأحادي ديكتاتوري ومستبد يقوم على غرس اليقينيات، والشاعر لا يعبأ بتلك اليقينيات لأنه مشحون بالشك، كما أن بيده مطرقة نيتشه يحطم بها الأوثان بكل أنواعها.
وفي شذرة المرأة، نجده يقدم تعريفا مغايرا للسائد والمألوف عنها كما ترسخ ذلك في ذهنية الذكوريين الذين لا يرون فيها سوى جسد يمنح اللذة، فهو، بخلافهم، يراها مهد العالم وفجر الغد. ولن يتحقق هذا الغد المأمول إلا بهدم ما ترسب في ذهن الذكور من ثوابت معرقلة تضاد حركة التاريخ؛ هذا التاريخ الذي يطلب في شذرة أخرى تحرره من جموده ليحقق انطلاقته المؤجلة. ولا يمكن أن يتحقق إلا برجال يتشوفون إلى المستقبل ولا يسكنون الماضي الذي يسكنهم بدوره. رجال يصنعون حاضرهم ولا يعيشون على الذكريات. ولعل من بين أسباب الهزيمة ذلك التطبيع المشؤوم الذي يعبر عن الهزيمة.
هكذا، نجد ترابطا بين التعريفات وموضوعاتها، ترابطا يؤكد على أن الشاعر يضع تحت مجهر فكره الإنسان والمجتمع والحياة، وينظر إليها بمنظار التفكير الفلسفي الذي يناهض السائد ويعمل على هدمه بغاية استنبات المخالف والحيوي.
أنه شاعر يمارس الفكر الفلسفي دون أن يتخلى عن عناصر الشعر ومقوماته، وليس هذا بغريب عنه، لأمرين أولهما أنه مجاز في شعبة الفلسفة، وثانيهما أن الشعر بيت الحكمة ومقر التأمل والتفكير لكنه بوسائله الخاصة.
وفي شذرة "الإنترنيت" نجده يحذرنا من مغبة هذه التقنية الحديثة التي تجعلنا في خطر داهم ما لم نكن متنبهين ويقظين.
وفي شذرة "الزهرة"" نتابع مشهد القبح وهو يدك الجمال بحوافره، والصورة المرسومة ستحدث رجة في ذهن المتلقي تجعله ينفر منها ويقبل على ضدها المتمثل في محبة الجمال ومحبة الحكمة أيضا؛ فالحكمة تساؤل ورفض للمعتاد، ومناهضة للقبح.
وفي شذرة "العدل" يعبر على أنه المدينة الفاضلة التي لم تتحقق بعد كون أركانها غير تامة.
مجموع هذه الشذرات معطرة بالشك واليأس لكنها تستضمر أملا في المستقبل يكون أفضل من الماضي والحاضر معا.
وتظهر نزعة الشك لدى الشاعر في نص «رماد اليقين»، وتتجلى، كما قال الناقد الديهاجي في:
* الشكّ في الذات (أمُتيقّنٌ|أنك أنت)
*الشك في رابطة الانتماء (أمتيقن|أنك أنت وأن البلاد بلادٌ)
* الشك في الوجود (أمتيقن|أنك أنت وأن البلاد بلاد وأن الأرض تدور كما كانت وأن الشمس طالعةٌ كل صباح؟)
الكتابة الشعرية عند الشاعر المغربي محمد بلمو، وبخاصة في شذراته ونصوصه القصيرة جدا، تتأسس على تكثيف الدلالة وتركيب الأسلوب التصويري الفني والمراهنة على الانزياح المفارق المتاخم لعوالم القلق والمعاناة والحنين. كما تقوم الصورة الشعرية المركبة عنده على استحضار الذاكرة، بما تحيل إليه من بساطة وأمل وعفوية وبراءة؛ ما يجعل تلك الصورة حافلة بمميزات الدهشة الجمالية لانسجام عناصرها التركيبية، على الرغم من اختلافها ومفارقاتها أحيانا. جريدة القدس العربي الإلكترونية، بتاريخ 3 ديسمبر 2014.
على سبيل الختم:
يمكن أن نستعير قول صلاح بوسريف للحديث عن خلاصة مؤقتة للديوان بالقول:
ولعل الشاعر محمد بامو، من خلال هذه التجربة، كان بوسعه ذلك، مستقويا بشعرية جديدة، هي شعرية المُفارقة والقلب، لقد وضعنا الشاعر أمام نظام آخر للرؤية والكتابة، وهو ما ترتب عنه «قلبٌ في نظام القيم».
يحاكم الشاعر في ديوانه الواقع العربي بلغة فلسفية تتجاوز حدود الذاكرة، لتحيل على مفهوم التفلسف القصيدي في بعده العلائقي والتفاعلي وأيضا على المستوى البناء الهيكلي النظمي. نفسه. مرجع سابق.
فمن نص المبتدأ "غياب" إلى نص المنتهى" رماد اليقين" نحس بأنفسنا وأننا في سفرة فكرية شعرية، أو سفرة شعرية فلسفية تعتمد المتعة والدهشة، وتحث على طرح الأسئلة والبحث بين السطور عن الدلالات الثاوية كون العمل لا يرسو على يقين؛ لأنه مجرد سراب أو مجرد احتمال من بين احتمالات عدة. ولعل تلك الأسئلة المتعدد في القصيدة الأخيرة خير معبر عن الألغام الذي زرعها الشاعر تحت أقدام المتلقي؛ ألغام تدعوه للحذر منها وتجنبها بتفجير يقينيتها. فالديوان يعمل بمطرقة هدم اليقينيات لتأسيس حقائق جديدة تتماشى والواقع/الوقائع الجديدة.