مقدمة لنظرية الخبر عند الجاحظ
التعريف والتأسيس (3)
مقدمة:
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1.
التعريفات القديمة للخبر.
إن التعريف العام للخبر، كما نجده مسطرا بأقلام العلماء المسلمين لا يختلف عن التعريف المقترح من لدن الباقلاني الذي يرى أن الخبر هو كل كلام يصح فيه الصدق والكذب، وبهذا يفرق الخبر عما ليس بخبر في الكلام وفي الذوات الأخرى التي ليست خبرا.
و يتحدث القاضي عبد الجبار من خلال تلميذه أبي الحسين البصري عن الأخبار على النحو الآتي: الأخبار لا تخرج عن احتمال أن نعلم صدقها أو كذبها، أو لا نعلم ذلك.
ويرى عبد القاهر البغدادي أنه لا توجد إلا حالة واحدة تحتمل الصدق والكذب معا: إن رجلا لم يسبق أن كذب من قبل، عندما يتحدث عن نفسه، فإن ما يحكيه يعد كذبا بالتحديد. ولكونه صادقا، يصبح كذبه إذن حقيقة. وعلى هذا النحو يكون لدينا، كما يقول، خبر فريد من نوعه، يمثل الكذب والصدق معا. ويقدم الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية" بالضبط التعريف نفسه الذي نجده عند الباقلاني.
ومجمل القول، نستخلص من هذه التعريفات، على الرغم من الاختلافات الهامة القائمة بين هؤلاء المؤلفين، أن الخبر هو المعلومة التي يتم اعتبارها من حيث ملاءمتها للحقيقة أو عدم ملاءمتها لها.
الخبر والقرآن.
يجب أن نوضح هنا مبدئيا نقطتين:
تتمثل النقطة الأولى في علاقة النص القرآني بالخبر؛ فالقرآن خبر كما يؤكد الجاحظ في كتاب «العثمانية». يتعلق الأمر هنا بإسراء النبي محمد (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد أربك هذا الحدث عددا كبيرا من الصحابة، فهذا أبو بكر يجيب سكان مكة قائلا:" إنكم تكذبون عليه؛ فقالوا بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس؛ فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه". ثم قصد الرسول بعد ذلك ليستبين أمر هذا الإسراء.
وتتمثل النقطة الثانية في تعريف مصطلح الخبر. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى أن جذر «خبر» يوحي بالإخبار، والسرد، والقصة دون أن يكون ذا معنى مخصوص. والأمر نفسه نجده في كتب الحديث الصحيحة.
وإن لفظ الخبر لا يمنح أي معنى مخصوص باستثناء العبارة الآتية: «خبر من السماء». وإن السياق كما هو في هذه الحالة الخاصة، لا يوضح لنا المحتوى الدلالي للفظ الخبر.
إن مفسري القرآن الكريم لا يفيدوننا كثيرا حول لفظ الخبر ودلالته. وهكذا نجد الطبري لا يفسر الخبر في سورة النمل. مما يؤكد أن معنى هذا اللفظ كان واضحا لقرائه. وفي نفس النهج، يشرح الزمخشري في كتابه «الكشاف» السورة نفسها على النحو الآتي: «الخبر هو ما يخبر عن حالة الطريق لأن موسى كان قد ضل عنه».
وفي سورة أخرى لا يضيف كذلك شيئا في هذا الموضوع. ويعمد كتاب "أساس البلاغة" إلى تزويدنا بصيغة «خُبْرٌ» باعتبارها رديفة للعلم، وهو ما نجده أيضا في كتاب "البيان والتبيين" حيث يناظر لفظ «الخُبْر» لفظي «المعرفة» و«العلم». يقول: علباء بن الهيثم السدوسي: «لكلّ أناس في جُمَيْلهم خُبْرٌ». وهي عبارة صارت مثلا.
إن الاعتماد على مفسري القرآن غير مجد ما داموا لا يزودوننا بأي تفسير للفظ أو يأتي حديثهم على سبيل الحشو.
الخبر والسنة.
إن التقسيم الثلاثي للسنة إلى: قول وفعل وتقرير، يتيح التقريب بين الخبر والسنة من وجهة نظر الصنف الأول، وهو القول. فتطابق الخبر والسنة لا يحتاج هنا إلى تبرير مسهب، لأنه في مثل حالة القرآن، تعني السنة الخبر عند جميع المفسرين.
الخبر والمرادفات.
يوصل لفظ الخبر بسلسلة كاملة من الألفاظ المتقاربة في المعنى. ففي مؤلفات الجاحظ تتوارد ثنائيات الخبر/ الأثر، وكذلك الحديث/ الأثر، بكثرة. وتكثر مواضع ورودها مقترنة. وعلى هذا النحو نجد في كتاب «البيان والتبيين» استعمال الأثر مقترنا بالخبر: «ومن خطباء هذيل: أبو المليح الهذلي أسامة بن عمير، ومنهم أبو بكر الهذلي، كان خطيبا قاصا، وعالما بينا، وعالما بالأخبار والآثار»، وفي الصفحة السابقة يفضل الجاحظ أبا بكر الصديق: «ومن أصحاب الأخبار والنسب أبو بكر الصديق»
عند فحصنا لأعمال الجاحظ، استرعى انتباهنا أن لفظي الخبر والحديث غالبا ما يستعملان في معنى واحد حينما يتعلق الأمر بأقوال النبي، وحينما لا يكون هناك ما يشير إلى أن لفظ الخبر يعود على ما هو دنيوي أو تاريخي.
فلنعط بعض الأمثلة:
جاء في كتاب البيان والتبيين: »وأخذت هذا الحديث من رجل يضع الأخبار، فأنا أتهمه." وفي الحيوان يقول: «جاء في الحديث...» ولكنه يضيف ويحدد فيما بعد: » هكذا جاء في الأثر« عند كلامه عن نفس الحديث، مما يحملنا على الاعتقاد أن هاتين الكلمتين مترادفتان وغير قابلتين للمبادلة. ونقرأ في الحيوان: "ولابد للترجمان أن يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن»
واضح أن ثمة اختلافا بين الأثر والخبر، وعلى نحو أكثر دقة، هناك بعض الأخبار التي تعد آثارا، فما هو هذا الاختلاف؟ لا يقدم الجاحظ أية إجابة. ومن جهة ثانية يعد القرآن خبرا.
وتضاف إلى ذلك سلسلة من الألفاظ ذات المعنى القريب من معنى الخبر. وهكذا، فإذا استثنينا الأثر، نجد الرواية، والسماع أو السمعيات، والخبر السمعي، والنقل، وحتى الحكاية. ولكن على الرغم مما يبدو من تقارب في معنى هذه الألفاظ إلا أنه لا يوجد تساو مطلق بينها، وقد ظهر عبر القرون أن الاستعمال كان يربط هذا اللفظ عوض آخر بمجال محدد من مجالات العلوم الدينية أو الدنيوية؛ فلفظ الرواية مثلا، يدل على معنى »الوحي« في مجال الشعر والحديث النبوي. وينطبق هذا على الألفاظ الأخرى.
التعريف والتأسيس (3)
تسعى هذه الدراسة إلى تناول الخبر ونقده في فكر الجاحظ ومنظومته. لا يتعلق الأمر هنا بدراسة أفكار الجاحظ ونظرياته في كل مظاهرها وأشكال تطورها، بل إننا سنحدد هدفنا بشكل متواضع في النظرة الشاملة إلى الخبر، وتتبعه نحو المقصد الذي يقودنا إليه، ثم تحديد بعض النتائج النظرية والتطبيقية المترتبة على ذلك في منهج الجاحظ. إن هدفنا تحديدا هو فحص بعض الاقتراحات التي غالبا ما تسند إلى الجاحظ، وذلك من خلال دراستنا لمجال مخصوص هو مجال الأخبار حتى نتأكد من مدى وجود انسجام منطقي في فكر الجاحظ ووحدته.
هناك حكم متفق عليه قديما وحديثا يقر بافتقار الجاحظ إلى الانسجام، ولعل حكم رجيس بلاشير أن يكون أكثر وضوحا ودلالة في هذا السياق. يقول: " في كل الأحوال، يظهر لنا الجاحظ في كتاب ابن الفقيه جماعا للنوادر المزيفة والمزورة في الغالب، وجماعا للحكايات الغريبة، والقصص التافهة والسخيفة التي أتيح له جمعها كيفما اتفق، وبشكل عشوائي يفتقر إلى النظام. إن هذه الخطة في التأليف -إذا أمكننا قول ذلك- هي الخطة المتبعة عند الجاحظ"1.
التعريفات القديمة للخبر.
إن التعريف العام للخبر، كما نجده مسطرا بأقلام العلماء المسلمين لا يختلف عن التعريف المقترح من لدن الباقلاني الذي يرى أن الخبر هو كل كلام يصح فيه الصدق والكذب، وبهذا يفرق الخبر عما ليس بخبر في الكلام وفي الذوات الأخرى التي ليست خبرا.
و يتحدث القاضي عبد الجبار من خلال تلميذه أبي الحسين البصري عن الأخبار على النحو الآتي: الأخبار لا تخرج عن احتمال أن نعلم صدقها أو كذبها، أو لا نعلم ذلك.
ويرى عبد القاهر البغدادي أنه لا توجد إلا حالة واحدة تحتمل الصدق والكذب معا: إن رجلا لم يسبق أن كذب من قبل، عندما يتحدث عن نفسه، فإن ما يحكيه يعد كذبا بالتحديد. ولكونه صادقا، يصبح كذبه إذن حقيقة. وعلى هذا النحو يكون لدينا، كما يقول، خبر فريد من نوعه، يمثل الكذب والصدق معا. ويقدم الخطيب البغدادي في كتابه "الكفاية" بالضبط التعريف نفسه الذي نجده عند الباقلاني.
ومجمل القول، نستخلص من هذه التعريفات، على الرغم من الاختلافات الهامة القائمة بين هؤلاء المؤلفين، أن الخبر هو المعلومة التي يتم اعتبارها من حيث ملاءمتها للحقيقة أو عدم ملاءمتها لها.
الخبر والقرآن.
يجب أن نوضح هنا مبدئيا نقطتين:
تتمثل النقطة الأولى في علاقة النص القرآني بالخبر؛ فالقرآن خبر كما يؤكد الجاحظ في كتاب «العثمانية». يتعلق الأمر هنا بإسراء النبي محمد (ص) من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وقد أربك هذا الحدث عددا كبيرا من الصحابة، فهذا أبو بكر يجيب سكان مكة قائلا:" إنكم تكذبون عليه؛ فقالوا بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث به الناس؛ فقال أبو بكر: والله لئن كان قاله لقد صدق، فما يعجبكم من ذلك؟ فوالله إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه". ثم قصد الرسول بعد ذلك ليستبين أمر هذا الإسراء.
وتتمثل النقطة الثانية في تعريف مصطلح الخبر. وسنكتفي هنا بالإشارة إلى أن جذر «خبر» يوحي بالإخبار، والسرد، والقصة دون أن يكون ذا معنى مخصوص. والأمر نفسه نجده في كتب الحديث الصحيحة.
وإن لفظ الخبر لا يمنح أي معنى مخصوص باستثناء العبارة الآتية: «خبر من السماء». وإن السياق كما هو في هذه الحالة الخاصة، لا يوضح لنا المحتوى الدلالي للفظ الخبر.
إن مفسري القرآن الكريم لا يفيدوننا كثيرا حول لفظ الخبر ودلالته. وهكذا نجد الطبري لا يفسر الخبر في سورة النمل. مما يؤكد أن معنى هذا اللفظ كان واضحا لقرائه. وفي نفس النهج، يشرح الزمخشري في كتابه «الكشاف» السورة نفسها على النحو الآتي: «الخبر هو ما يخبر عن حالة الطريق لأن موسى كان قد ضل عنه».
وفي سورة أخرى لا يضيف كذلك شيئا في هذا الموضوع. ويعمد كتاب "أساس البلاغة" إلى تزويدنا بصيغة «خُبْرٌ» باعتبارها رديفة للعلم، وهو ما نجده أيضا في كتاب "البيان والتبيين" حيث يناظر لفظ «الخُبْر» لفظي «المعرفة» و«العلم». يقول: علباء بن الهيثم السدوسي: «لكلّ أناس في جُمَيْلهم خُبْرٌ». وهي عبارة صارت مثلا.
إن الاعتماد على مفسري القرآن غير مجد ما داموا لا يزودوننا بأي تفسير للفظ أو يأتي حديثهم على سبيل الحشو.
الخبر والسنة.
إن التقسيم الثلاثي للسنة إلى: قول وفعل وتقرير، يتيح التقريب بين الخبر والسنة من وجهة نظر الصنف الأول، وهو القول. فتطابق الخبر والسنة لا يحتاج هنا إلى تبرير مسهب، لأنه في مثل حالة القرآن، تعني السنة الخبر عند جميع المفسرين.
الخبر والمرادفات.
يوصل لفظ الخبر بسلسلة كاملة من الألفاظ المتقاربة في المعنى. ففي مؤلفات الجاحظ تتوارد ثنائيات الخبر/ الأثر، وكذلك الحديث/ الأثر، بكثرة. وتكثر مواضع ورودها مقترنة. وعلى هذا النحو نجد في كتاب «البيان والتبيين» استعمال الأثر مقترنا بالخبر: «ومن خطباء هذيل: أبو المليح الهذلي أسامة بن عمير، ومنهم أبو بكر الهذلي، كان خطيبا قاصا، وعالما بينا، وعالما بالأخبار والآثار»، وفي الصفحة السابقة يفضل الجاحظ أبا بكر الصديق: «ومن أصحاب الأخبار والنسب أبو بكر الصديق»
عند فحصنا لأعمال الجاحظ، استرعى انتباهنا أن لفظي الخبر والحديث غالبا ما يستعملان في معنى واحد حينما يتعلق الأمر بأقوال النبي، وحينما لا يكون هناك ما يشير إلى أن لفظ الخبر يعود على ما هو دنيوي أو تاريخي.
فلنعط بعض الأمثلة:
جاء في كتاب البيان والتبيين: »وأخذت هذا الحديث من رجل يضع الأخبار، فأنا أتهمه." وفي الحيوان يقول: «جاء في الحديث...» ولكنه يضيف ويحدد فيما بعد: » هكذا جاء في الأثر« عند كلامه عن نفس الحديث، مما يحملنا على الاعتقاد أن هاتين الكلمتين مترادفتان وغير قابلتين للمبادلة. ونقرأ في الحيوان: "ولابد للترجمان أن يعرف من الخبر ما يخصه الخبر الذي هو أثر، مما يخصه الخبر الذي هو قرآن»
واضح أن ثمة اختلافا بين الأثر والخبر، وعلى نحو أكثر دقة، هناك بعض الأخبار التي تعد آثارا، فما هو هذا الاختلاف؟ لا يقدم الجاحظ أية إجابة. ومن جهة ثانية يعد القرآن خبرا.
وتضاف إلى ذلك سلسلة من الألفاظ ذات المعنى القريب من معنى الخبر. وهكذا، فإذا استثنينا الأثر، نجد الرواية، والسماع أو السمعيات، والخبر السمعي، والنقل، وحتى الحكاية. ولكن على الرغم مما يبدو من تقارب في معنى هذه الألفاظ إلا أنه لا يوجد تساو مطلق بينها، وقد ظهر عبر القرون أن الاستعمال كان يربط هذا اللفظ عوض آخر بمجال محدد من مجالات العلوم الدينية أو الدنيوية؛ فلفظ الرواية مثلا، يدل على معنى »الوحي« في مجال الشعر والحديث النبوي. وينطبق هذا على الألفاظ الأخرى.