أمررْ على الجدث الذي حلّتْ به أمُّ العلاءِ فحيّها لو تسمعُ
أنّى حللتِ وكنتِ جدّ فروقةٍ بَلَداً يمرّ به الشجاع فيفزعُ
صلّى عليك الله من مفقودةٍ إذْ لا يلائمكِ المكانُ البلقعُ
فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً لمْ تدرِ ما جزعُ عليكِ فتجزعُ
فقدتْ شمائلَ من لزامكِ حلوةً فتبيتُ تُسهِدُ أهلَها وتفجِّعُ
فإذا سمعتُ أنينَها في ليلها طفقتْ عليكِ شؤونُ عيني تدمعُ
ربّما ثمة قلةٌ من الشعراء الذين صوّروا الخوف، كما صوّره مويلك بن مزموم في مرثيته لزوجته، أعلاه. تتكوّن هذه المرثية من ستة أبيات، في ديوان الحماسة، شرح المرزوقي (ت.421 هـ)، ونشرة أحمد أمين وعبد السلام هارون، وتسعة أبيات برواية أبي منصور الجواليقي (ت.520 هـ) بتحقيق عبد المنعم أحمد صالح.لسنا معنيين هنا بالمفاضلة بين روايةٍ وأخرى، أو شرحٍ وآخر، بقدر ما نحن معنيون بالمحور المركزي الذي نسج حوله الشاعر عموم هذه القصيدة المفجعة الموهوبة، وكأن آلامها موصولٌ ليلها بنهارها. هي، لا ريب، من مغنج التأليف.
تتركّز بؤرة القصيدة في مادّة الخوف. هذاالخوف الذي يمزّق عادة، هو الذي يربط أجزاء القصيدة.
جعلها كتلة متواشجة، ووحدة عضوية متضامّة. تماماً مثلما تتكوّر أعضاء الإنسان على بعضها لدى مفاجأةِ شرٍّ داهم. تتداخل جوارح آبن مزموم على هذه المثابة. زوجته ميتة، وقبرها ما يزال رطباً وليّناً. كبرت المأساة أضعافاً بوجود فتاةٍ صغيرة لا تعرف ما اليتمُ بعدُ، ولا الموت. القصيدة ليلية حيثُ الخوفُ يتجسّم بأغرب الأشكال والمسوح عادة، وحيثُ يكون الإنسان وحيداً، وفرائصه نهبَ هواجس مرجفة.
ظهر الخوف، أوّل ما ظهر، في صيغةِ فعلِ أمرٍ، في اوّل الشطر الأوّل:
أمررْ على الجدث الذي حلّتْ به أمُّ العلاء فحيِّها لو تسمعُ مخاطبةُ الشاعر لنفسه، ولا سيّما بصيغة الأمر، نهْجٌ سلكه الشعرُ القديم، ربمّا حتى قبل "قفا نبكِ" وهي علامة على انقسام المتحّدث إلى شيئين مختلفيْن. متناقضيْن. لخلقِ نوعٍ من الشدّ والجذب.
قيل إنّ تي. أسْ أليوت استلف هذا النهج من الشعر العربي، في قصيدته النادرة:quot;أغنية حبّ جي. الفريد بروفروك
"دعْنا نذهب إذنْ أنتَ وأنا"
الاختلاف هنا، أنّ الصراع بين الأنتَ والأنا، قد حُسِم بدليل كلمة:إذنْ. على هذا سينزل بروفروك من غرفته لمقابلة النساء، اللواتيquot; كنّ يذرعْنَ الغرفة جيئة وذهوباً، وهنّ يتحدثْنَ عن "مايكل أنجيلو".
يقدّم لنا أليوت منذ البداية شخصية برفروك على أنها شخصيةٌ مترددة، لا ثقةَ لها بنفسها، لا سيّما إذا تعلّق الأمر بعلاقته الغزلية بالنساء.
مويلك بن مزموم متردد هو الآخر. أذهله الموتُ فبات وكأنّه شخصان متعارضان. بين شدّ وجذب. إنّه الآن أمام رهبة الموت شخصان: أحدهما يحثّه على المرور بالجدث، والآخر ممتنع كما يبدو. أو متردد. شدّ وجذب.
لماذا قال الشاعر:أمررْ، ولم يقُلْ: زرْ؟ هل لأنّ في الزيارة مكوثاً أطول؟ هل لأن زوجته حديثةُ الموت؟ وماتزال رهبتُه ملءَ حواسّه؟. تتفاقم هذه الرهبة أكثر، باستخدام الشاعر كلمة: الجدث، بدلاً من القبر، وكلاهما يصحّ وزناً. يبدو هنا أنّ الْجَدَث بحرفيْه المفتوحيْن: (الجيم والدال)، وحرف الثاء الذي فيه جزء من صوت يحثو التي تترافق عادة مع التراب، هو أقرب ما يكون إلى مثوىً حديثٍ أهيل عليه التراب. بالإضافة فإنّ في كلمة الجدث حرفين من حروف كلمة: الجثّة. بهذه الوسيلة الموسيقية أصبح الجدث شيئاً خاصّاً أو في الأقلّ معروفاً لدى الشاعر.
على عكس ذلك، فإن القبر، بات من كثرة الاستعمال والتداول، شيئاً عاماً لا خصوصية فيه، وكأنّ مَنْ يرقد فيه شخص مجهول. (فهذا كلّه قبْرُ مالك).
أطال الشاعر في فضول القارئ، بإطالة اللحظات، حينما ألحق بالجدث آسم الموصول: "الذي".
الذي، لا شكَّ، آسم موصول لغةً، ولكنّه فنّياُ وسّع الصمت والترقب. ما أمر الجدث؟
على الرغم من أنّ: أمّ العلاء مجرد آسمٍ أو كنية، إلاّ أنها هنا عنصرُ تباينٍ: بين حفرة أرضية موصودةٍ، وبين العلاء الشاهق المفتوح. راوية القصيدة ينظر إلى السماء وكأن روحَ زوجته تصعد عالياً. أو أنّه ترك أمره إلى السماء.
لذا يكون فعل الأمر: فحيّها، منسجماً، لأنها ما تزال حيّة ولو إلى حين، وتوقيته في الصورة الشعرية دقيقاً. تحية وداع قانطٍ أخير.
لكنّ الشاعر بجملة: "لو تسمع"، انتقل من حاسة البصر، إلى حاسّة السمع فجأة، أيْ من صورةٍ ماثلة، إلى وجودٍ غائبٍ. أيّة خيبة أكبر من الآنتقال من الوجود المرئيّ المرموز له بالبصر، إلى العدم الدالة عليه جملة "لوتسمعُ"
تخنلف النسخ في تحقيق "لو تسمع"، فتُروى "هل تسمع"؟ كيف؟ لا يمكن للشاعر أن تبلغ به السذاجة، إلى هذه الدرجة، فيتساءل: هل تسمع؟ إنها ميتة.
بالمقابل فإن في تعبير "لو تسمع"، معنى التمنّي المستحيل الذي يتحقّق فيه الخبال الشعري الخلاّق. ليتها تسمع.
حقّق الشاعرُ بـ "لو"، ضعفَهُ الإنسانيَّ كذلك، لأنّها أمنيةٌ لن تتحقّق، مع ذلك يتمنّاها.
في البيت الثاني:
أنّى حللتِ وكنتِ جدّ فروقةٍ بلداً يمرّ به الشجاع فيفزعُ
قبل كلّ شئ، تعني: "أنّى" هنا حيرةَ راويةِ القصيدة، وهي جانبٌ آخرُ من جوانبِ ضعفه الإنساني النبيل. وكأنّها: أين حللتِ، أيْ أينما حللتِ يثير الفزع. ثمّ إنّه يسمّي عالم الأموات: "بلداً". هل يعني راوية القصيدة بلداً مأهولاً بمخلوقات ميتة حيّة مخيفة؟. هل هذه بداية ما كان الراوية يشعر به من خوف؟ خوفه هو من عالم الأموات؟
مهما دار الأمر، فإنّ الشاعر في البيت الثاني هذا، ينتقل من صيغة الأمر، وصيغة الفعل المضارع: "لو تسمع"، إلى صيغة الفعل الماضي: "حللتِ" و"كنت" وكأنّه يئس من ملاقاتها، فراح يتحدّث عنها بالماضي.
أكثر من ذلك، وضع الشاعر كلمة "فروقة"، المؤنثة مقابل كلمة الشجاع العضلية الذكورية، ليكون التعاطف معها أشدّ. تبدو فروقة موسيقياً، وكأنها داجنة بيتيّة ضعيفة حتى في الدفاع عن نفسها".
( الغريب أنّ المحقّق عبد المنعم أحمد صالح يفسّر الجدّ بمعنى: الاجتهاد).
يقول المرزوقي: "وفروق بناء المبالغة، وازداد تناهياً بدخول هاء المبالغة" ثمّ يذكر: "وقوله "كنتِ جدّ فروقة، كقولك كنتِ فروقة جدّاً لا هزْلاًً، وحقّاً لا باطلاً.
صحّ قول المرزوقي لغةً ونحواً، ولكنْ، كما يبدو، فاتته الدلالة الفنّية والنفسيّة لكلمة: "فروقة". فهي في البيت أعمق مما تصوّره المرزوقي. الهاء زيادة في التأنيث، لأنّ كلمة: فروق، مؤنثة بحدّ ذاتها. هكذا ربط الشاعر بحذق، بين الأنثى والخوف، ليقابلهما بفزع حتى الرجل الشجاع في عجز البيت كما نوّهنا سابقاً.
ألا يشعر المرء، من جراء تصوير الخوف والضعف الإنساني، في هذا البيت، أنّ ذبذبات الراء في كلمة:فروقة، ما هي إلاّ آرتجاف!
كيف وظّف الشاعر هذا الخوف المرتعش، مع أنوثة القوارير في البيت الثالث؟
هنا ينتقل الشاعر، انتقالةً طبيعيةً. منطقيّةً:
صلّى عليكِ الله من مفقودةٍ إذْ لا يلائمك المكان البلقعُ
في هذه اللحظة، آستسلم الشاعر لضعفه. لم يعد في يده أية حيلة. قد يكون الترحّم عادةً آجتماعيةً، أو عرفاً، ولكنّه هنا أصبح ضرورة، فهذه الزوجة التي لها صفة الداجنة البيتية، ولها منها عدم القدرة على الدفاع عن نفسها، بحاجة إلى الرحمة في ذلك المكان البلقع.
في البيت كذلك جملةٌ موحيةٌ هي: "لا يلائمك"، وكأن الزوجة كانت شديدة الحرص على عشّها البيتي لجعله آمناً، فكيف بها الآن في تلك المتاهة؟
يعود الشاعر في البيت الرابع:
فلقدْ تركتِ صغيرةً مرحومةً لم تدرِ ما جزعُ عليكِ فتجزعُ
هنا ينتقل الشاعر من الْجَدَث، إلى البيت. الطفلة لاهية، لا تدري ما الموت بعدُ. إدخال عنصر الطفولة في هذه اللحظة، يوسّع من المأساة. كان الشاعر في حالةٍ نفسيةٍ ممضّة، يفتّش معها عن عزاء، فإذا بهذه الطفلة (وهي أكبادنا تمشي على الأرض)، تبات لا رمزاً للطمأنينة، بل للفزع.
ما الذي سيقوله الشاعر لها إن هي سألتْ عن أمّها؟ وهي لا تدري ما الموت بعدُ.
في البيت الخامس:
فَقَدَتْ شمائلَ من لزامكِ حلوةً فتبيتُ تُسْهِرُ أهلَها وتُفجِّعُ
عبّر الشاعر عن حبه لزوجته عن طريق آبنته. يبدو أنّ من أخصّ شمائل تلك الزوجة هو الحنان الأمومي الذي كانت تغمره به، كما تغمر به الطفلة.
جعل الشاعرُ، الهمّ في الشطر الثاني، موصولاً في الليل عن طريق بكاء الطفلة، لفقدانها ما تعوّدتْ عليه، من مناغاة وحنان ودفء. هذا البكاء العالي سيقابله في البيت التالي بكاءٌ مماثل ولكنّه، صامت:
فإذا سمعتُ أنينَها في ليلها طفقتْ عليكِ شؤونُ عيني تدمعُ
بكتْ عينُ الشاعر مرّتيْن، لبكاء طفلته المحرومة، وعلى زوجته المفقودة. كثّرالشاعرُ الدمع َباستعمال كلمة: "شؤون"، كنيةً عن المجاري الدمعيّة.
يأخذ البكاء هنا صيغة أكثر تفجّعاً، وأكثر صدقاً لأنّه صامت، ولأنّه تحت حاجب من الظلام.
أمرّ البكاء، إن كان صاحبه وحيداً ولا يراه أحد.
جعل الشاعر، بمهارة وحذْق، نهاية المقطوعة مفتوحة. فبعد أنْ تعطّلت حاسّة البصر، بفعل الليل، بات أنين الطفلة أكثر إيلاماً، لأنّه يفضح عجز الشاعر، عن مواساتها.
لا شكّ، إنّ الأنين الذي يُسمع ولا يُرى، والدموع التي تسحّ ولا تُرى لأغربُ مناحةٍ بين بنت وأب.
أنّى حللتِ وكنتِ جدّ فروقةٍ بَلَداً يمرّ به الشجاع فيفزعُ
صلّى عليك الله من مفقودةٍ إذْ لا يلائمكِ المكانُ البلقعُ
فلقد تركتِ صغيرةً مرحومةً لمْ تدرِ ما جزعُ عليكِ فتجزعُ
فقدتْ شمائلَ من لزامكِ حلوةً فتبيتُ تُسهِدُ أهلَها وتفجِّعُ
فإذا سمعتُ أنينَها في ليلها طفقتْ عليكِ شؤونُ عيني تدمعُ
ربّما ثمة قلةٌ من الشعراء الذين صوّروا الخوف، كما صوّره مويلك بن مزموم في مرثيته لزوجته، أعلاه. تتكوّن هذه المرثية من ستة أبيات، في ديوان الحماسة، شرح المرزوقي (ت.421 هـ)، ونشرة أحمد أمين وعبد السلام هارون، وتسعة أبيات برواية أبي منصور الجواليقي (ت.520 هـ) بتحقيق عبد المنعم أحمد صالح.لسنا معنيين هنا بالمفاضلة بين روايةٍ وأخرى، أو شرحٍ وآخر، بقدر ما نحن معنيون بالمحور المركزي الذي نسج حوله الشاعر عموم هذه القصيدة المفجعة الموهوبة، وكأن آلامها موصولٌ ليلها بنهارها. هي، لا ريب، من مغنج التأليف.
تتركّز بؤرة القصيدة في مادّة الخوف. هذاالخوف الذي يمزّق عادة، هو الذي يربط أجزاء القصيدة.
جعلها كتلة متواشجة، ووحدة عضوية متضامّة. تماماً مثلما تتكوّر أعضاء الإنسان على بعضها لدى مفاجأةِ شرٍّ داهم. تتداخل جوارح آبن مزموم على هذه المثابة. زوجته ميتة، وقبرها ما يزال رطباً وليّناً. كبرت المأساة أضعافاً بوجود فتاةٍ صغيرة لا تعرف ما اليتمُ بعدُ، ولا الموت. القصيدة ليلية حيثُ الخوفُ يتجسّم بأغرب الأشكال والمسوح عادة، وحيثُ يكون الإنسان وحيداً، وفرائصه نهبَ هواجس مرجفة.
ظهر الخوف، أوّل ما ظهر، في صيغةِ فعلِ أمرٍ، في اوّل الشطر الأوّل:
أمررْ على الجدث الذي حلّتْ به أمُّ العلاء فحيِّها لو تسمعُ مخاطبةُ الشاعر لنفسه، ولا سيّما بصيغة الأمر، نهْجٌ سلكه الشعرُ القديم، ربمّا حتى قبل "قفا نبكِ" وهي علامة على انقسام المتحّدث إلى شيئين مختلفيْن. متناقضيْن. لخلقِ نوعٍ من الشدّ والجذب.
قيل إنّ تي. أسْ أليوت استلف هذا النهج من الشعر العربي، في قصيدته النادرة:quot;أغنية حبّ جي. الفريد بروفروك
"دعْنا نذهب إذنْ أنتَ وأنا"
الاختلاف هنا، أنّ الصراع بين الأنتَ والأنا، قد حُسِم بدليل كلمة:إذنْ. على هذا سينزل بروفروك من غرفته لمقابلة النساء، اللواتيquot; كنّ يذرعْنَ الغرفة جيئة وذهوباً، وهنّ يتحدثْنَ عن "مايكل أنجيلو".
يقدّم لنا أليوت منذ البداية شخصية برفروك على أنها شخصيةٌ مترددة، لا ثقةَ لها بنفسها، لا سيّما إذا تعلّق الأمر بعلاقته الغزلية بالنساء.
مويلك بن مزموم متردد هو الآخر. أذهله الموتُ فبات وكأنّه شخصان متعارضان. بين شدّ وجذب. إنّه الآن أمام رهبة الموت شخصان: أحدهما يحثّه على المرور بالجدث، والآخر ممتنع كما يبدو. أو متردد. شدّ وجذب.
لماذا قال الشاعر:أمررْ، ولم يقُلْ: زرْ؟ هل لأنّ في الزيارة مكوثاً أطول؟ هل لأن زوجته حديثةُ الموت؟ وماتزال رهبتُه ملءَ حواسّه؟. تتفاقم هذه الرهبة أكثر، باستخدام الشاعر كلمة: الجدث، بدلاً من القبر، وكلاهما يصحّ وزناً. يبدو هنا أنّ الْجَدَث بحرفيْه المفتوحيْن: (الجيم والدال)، وحرف الثاء الذي فيه جزء من صوت يحثو التي تترافق عادة مع التراب، هو أقرب ما يكون إلى مثوىً حديثٍ أهيل عليه التراب. بالإضافة فإنّ في كلمة الجدث حرفين من حروف كلمة: الجثّة. بهذه الوسيلة الموسيقية أصبح الجدث شيئاً خاصّاً أو في الأقلّ معروفاً لدى الشاعر.
على عكس ذلك، فإن القبر، بات من كثرة الاستعمال والتداول، شيئاً عاماً لا خصوصية فيه، وكأنّ مَنْ يرقد فيه شخص مجهول. (فهذا كلّه قبْرُ مالك).
أطال الشاعر في فضول القارئ، بإطالة اللحظات، حينما ألحق بالجدث آسم الموصول: "الذي".
الذي، لا شكَّ، آسم موصول لغةً، ولكنّه فنّياُ وسّع الصمت والترقب. ما أمر الجدث؟
على الرغم من أنّ: أمّ العلاء مجرد آسمٍ أو كنية، إلاّ أنها هنا عنصرُ تباينٍ: بين حفرة أرضية موصودةٍ، وبين العلاء الشاهق المفتوح. راوية القصيدة ينظر إلى السماء وكأن روحَ زوجته تصعد عالياً. أو أنّه ترك أمره إلى السماء.
لذا يكون فعل الأمر: فحيّها، منسجماً، لأنها ما تزال حيّة ولو إلى حين، وتوقيته في الصورة الشعرية دقيقاً. تحية وداع قانطٍ أخير.
لكنّ الشاعر بجملة: "لو تسمع"، انتقل من حاسة البصر، إلى حاسّة السمع فجأة، أيْ من صورةٍ ماثلة، إلى وجودٍ غائبٍ. أيّة خيبة أكبر من الآنتقال من الوجود المرئيّ المرموز له بالبصر، إلى العدم الدالة عليه جملة "لوتسمعُ"
تخنلف النسخ في تحقيق "لو تسمع"، فتُروى "هل تسمع"؟ كيف؟ لا يمكن للشاعر أن تبلغ به السذاجة، إلى هذه الدرجة، فيتساءل: هل تسمع؟ إنها ميتة.
بالمقابل فإن في تعبير "لو تسمع"، معنى التمنّي المستحيل الذي يتحقّق فيه الخبال الشعري الخلاّق. ليتها تسمع.
حقّق الشاعرُ بـ "لو"، ضعفَهُ الإنسانيَّ كذلك، لأنّها أمنيةٌ لن تتحقّق، مع ذلك يتمنّاها.
في البيت الثاني:
أنّى حللتِ وكنتِ جدّ فروقةٍ بلداً يمرّ به الشجاع فيفزعُ
قبل كلّ شئ، تعني: "أنّى" هنا حيرةَ راويةِ القصيدة، وهي جانبٌ آخرُ من جوانبِ ضعفه الإنساني النبيل. وكأنّها: أين حللتِ، أيْ أينما حللتِ يثير الفزع. ثمّ إنّه يسمّي عالم الأموات: "بلداً". هل يعني راوية القصيدة بلداً مأهولاً بمخلوقات ميتة حيّة مخيفة؟. هل هذه بداية ما كان الراوية يشعر به من خوف؟ خوفه هو من عالم الأموات؟
مهما دار الأمر، فإنّ الشاعر في البيت الثاني هذا، ينتقل من صيغة الأمر، وصيغة الفعل المضارع: "لو تسمع"، إلى صيغة الفعل الماضي: "حللتِ" و"كنت" وكأنّه يئس من ملاقاتها، فراح يتحدّث عنها بالماضي.
أكثر من ذلك، وضع الشاعر كلمة "فروقة"، المؤنثة مقابل كلمة الشجاع العضلية الذكورية، ليكون التعاطف معها أشدّ. تبدو فروقة موسيقياً، وكأنها داجنة بيتيّة ضعيفة حتى في الدفاع عن نفسها".
( الغريب أنّ المحقّق عبد المنعم أحمد صالح يفسّر الجدّ بمعنى: الاجتهاد).
يقول المرزوقي: "وفروق بناء المبالغة، وازداد تناهياً بدخول هاء المبالغة" ثمّ يذكر: "وقوله "كنتِ جدّ فروقة، كقولك كنتِ فروقة جدّاً لا هزْلاًً، وحقّاً لا باطلاً.
صحّ قول المرزوقي لغةً ونحواً، ولكنْ، كما يبدو، فاتته الدلالة الفنّية والنفسيّة لكلمة: "فروقة". فهي في البيت أعمق مما تصوّره المرزوقي. الهاء زيادة في التأنيث، لأنّ كلمة: فروق، مؤنثة بحدّ ذاتها. هكذا ربط الشاعر بحذق، بين الأنثى والخوف، ليقابلهما بفزع حتى الرجل الشجاع في عجز البيت كما نوّهنا سابقاً.
ألا يشعر المرء، من جراء تصوير الخوف والضعف الإنساني، في هذا البيت، أنّ ذبذبات الراء في كلمة:فروقة، ما هي إلاّ آرتجاف!
كيف وظّف الشاعر هذا الخوف المرتعش، مع أنوثة القوارير في البيت الثالث؟
هنا ينتقل الشاعر، انتقالةً طبيعيةً. منطقيّةً:
صلّى عليكِ الله من مفقودةٍ إذْ لا يلائمك المكان البلقعُ
في هذه اللحظة، آستسلم الشاعر لضعفه. لم يعد في يده أية حيلة. قد يكون الترحّم عادةً آجتماعيةً، أو عرفاً، ولكنّه هنا أصبح ضرورة، فهذه الزوجة التي لها صفة الداجنة البيتية، ولها منها عدم القدرة على الدفاع عن نفسها، بحاجة إلى الرحمة في ذلك المكان البلقع.
في البيت كذلك جملةٌ موحيةٌ هي: "لا يلائمك"، وكأن الزوجة كانت شديدة الحرص على عشّها البيتي لجعله آمناً، فكيف بها الآن في تلك المتاهة؟
يعود الشاعر في البيت الرابع:
فلقدْ تركتِ صغيرةً مرحومةً لم تدرِ ما جزعُ عليكِ فتجزعُ
هنا ينتقل الشاعر من الْجَدَث، إلى البيت. الطفلة لاهية، لا تدري ما الموت بعدُ. إدخال عنصر الطفولة في هذه اللحظة، يوسّع من المأساة. كان الشاعر في حالةٍ نفسيةٍ ممضّة، يفتّش معها عن عزاء، فإذا بهذه الطفلة (وهي أكبادنا تمشي على الأرض)، تبات لا رمزاً للطمأنينة، بل للفزع.
ما الذي سيقوله الشاعر لها إن هي سألتْ عن أمّها؟ وهي لا تدري ما الموت بعدُ.
في البيت الخامس:
فَقَدَتْ شمائلَ من لزامكِ حلوةً فتبيتُ تُسْهِرُ أهلَها وتُفجِّعُ
عبّر الشاعر عن حبه لزوجته عن طريق آبنته. يبدو أنّ من أخصّ شمائل تلك الزوجة هو الحنان الأمومي الذي كانت تغمره به، كما تغمر به الطفلة.
جعل الشاعرُ، الهمّ في الشطر الثاني، موصولاً في الليل عن طريق بكاء الطفلة، لفقدانها ما تعوّدتْ عليه، من مناغاة وحنان ودفء. هذا البكاء العالي سيقابله في البيت التالي بكاءٌ مماثل ولكنّه، صامت:
فإذا سمعتُ أنينَها في ليلها طفقتْ عليكِ شؤونُ عيني تدمعُ
بكتْ عينُ الشاعر مرّتيْن، لبكاء طفلته المحرومة، وعلى زوجته المفقودة. كثّرالشاعرُ الدمع َباستعمال كلمة: "شؤون"، كنيةً عن المجاري الدمعيّة.
يأخذ البكاء هنا صيغة أكثر تفجّعاً، وأكثر صدقاً لأنّه صامت، ولأنّه تحت حاجب من الظلام.
أمرّ البكاء، إن كان صاحبه وحيداً ولا يراه أحد.
جعل الشاعر، بمهارة وحذْق، نهاية المقطوعة مفتوحة. فبعد أنْ تعطّلت حاسّة البصر، بفعل الليل، بات أنين الطفلة أكثر إيلاماً، لأنّه يفضح عجز الشاعر، عن مواساتها.
لا شكّ، إنّ الأنين الذي يُسمع ولا يُرى، والدموع التي تسحّ ولا تُرى لأغربُ مناحةٍ بين بنت وأب.