جمعي شايبي - قراءة في رواية المرث لرشيد بوجدرة.

لكأن شخوص أبطال بوجدرة المختلقون أرواح تتناسخ عبر نصوصه المبهرة.
إنها المأساة المكرورة دونما رتابة ولا ملل المتجددة بعذابات ضافية وتساؤلات حارقة وتيهان مشبع بشغف الإرتحال والبحث .



من الإنبهار إلى الإنكار إلى الإراثة فالمرث.. إنها متعة الإبحار في بحور التاريخ اللازوردية والتحليق في سماءات الفلسفة المتمادية الآفاق والسفر عبر دروب الواقعية المتشعبة ..حيث لا أخرج من مداراتها إلا سكرانا ثملا بنبيذ سردها المعتق .. مدججا بالرغبة والشغف في قراءة المزيد من نصوص هذا الكاتب العملاق.
وتلك حالي مع الرواية الأخطبوطية المرث .
_ رشيد إنه الشخصية العالقة بذاكرتي مذ قراءتي لرواية الإنبهار ثم الإنكار فالإراثة وهاهو يحضر بكثافة في رواية المرث كونه بطلها المحوري ولسان راويها.
لم يجد رشيد له من ملجئ ولا مأوى يخلصه من الآلام والأشجان غير الكتابة في خلوة طويلة مع الذاكرة عميقة من النفس.
باحثا عن هوية ضائعة داخل سراديب الدم المتشابكة دون أن يقطع صلة الرحم بطفولته البائسة.
ليروي لنا قصة الأمومة الملتهمة والأبوة المغيبة والمصائر المبهمة لأرواح بريئة معلقة بين الحياة والموت .. بين الحقيقة والممكن والمستحيل ..بين الواقع والمجهول.
يجهد بطل المرث في تحليل شخصية الأب الغامضة من خلال ما توافر لديه من بطاقات بريدية كان الأب يبرق بها من عواصم الدنيا وأصقاعها.
متخذا من تلك البطاقات علامات لإعادة تركيب ماض متفكك واستقراء دلالاته المبهمة وفك ألغازه المخبوءة في صدور الأجداد والآباء والأعمام والعمات والإخوة والأخوات والأمهات والزوجات والضرات والعشيقات .
كان حسان الجزائري أب الراوي رجلا مسفارا مجوالا يجوب العالم ويكنسه جيئة وذهابا يكدس الأموال وينجب الأطفال مبرقا لزوجاته الثلاث ونصف الزوجة ( بايا. قمر . شجرة الدر . حسيبة غزلان .) ببطاقات بريدية بدل الرسائل ممهورة باسمه الموقع وإسم المكان كتعبير عن دوام حضوره كسيد في عز الغياب .
كانت حياته مبعثرة بين عواصم الدنيا وأفخاذ النساءونهود العشيقات يبذل ماله للثورة ويبذره على العاهرات الأندلسيات والتايلنديات يخطط للتجارات ويعقد عقود العقارات ويبرم الصفقات المالية فكون ثروة طائلة في خمس سنوات .



ظل يكاثر من تنقلاته بين المدن والنساء تتقاذفه الدول والزوجات والعشيقات والصفقات دون أن يتخلى عن عنجهيته الأسطورية حتى في حالة الإحتضار بعد أن قفل راجعا من سنون تيهه إلى بيت العائلة العتيق وقد ناهز الثمانين عاما يترقب الموت في هدأة وسكون رفقة حسيبة غزلان اليهودية وقد تآكل حلقها من السرطان حيث انكشف امر انخداعها من قبل الأب الذي ادعى إستخراج عقد زواج يربطهما بعد أن أشهرت إسلامها في حضرة شاهدي عدل فارقا بعد مدة الحياة .
فلم تكن هذه المرأة اليهودية التي انجبت له ولدا وبنتا طوال تلك العشرة الطويلة غير عشيقة لا رابع الزوجات .
لتطرح معضلة مكان دفنها بعد الوفاة . أتقبر في مقابر المسلمين في ظل انعدام توافر أبسط وثيقة مدنية او حجة شرعية تثبت شرعية زواجها واعتناقها لدين الإسلام الحنيف .. أم تدفن في مقابر اليهود ! .
إنها ذات المأساة بالنسبة لعشيقة رشيد التي قاسمته فترة استرجاع سيرته الطفولية المحرومة من أبوة غائبة السيدة ماريا إمرأة من أم جزائرية وأب فرنسي .
يسمعنا الكاتب الكبير رشيد بوجدرة صرخة وعذابات تلك الأرواح ذوات الأصول المتشققة المفصومة المنشطرة .
المرث قصة الهوية الناشئة في مرث الأصول والعطانة الفكرية والمستنقعات الإجتماعية الآسنة .
إذ يظل مصير أصحابها معلقا على مشانق المجهول حيث لا مكان لهم يبقى بين المجتمعات المتحجرة إلا مكانا على حافة الإندثار والإنطفاء والموت .
تخلت السيدة هانريات غزلان عن دين يهوديتها وإسمها ووهبت حياتها للرجل الذي احبته _ حسان .
ماريا تخلت عن زوجها وتعلقد برشيد .
لم يتخلى حسان عن عنجهيته حتى لأجل توثيق ورقة عقد قران .
لم يتخلى رشيد عن زوجته .
يقول بوجدرة في نص المرث على لسان ماريا : ( المرأة ياحبيبي لا ترضيها الحلول الوسطى أما الرجل فلا ينتعش إلا بها بل ينتعش منها ) .
وإذ تكلمت عن فروق التضحية بين الرجل والمرأة أختم مراجعتي المتواضعة بحكمة تقول :
إذا كان الحب في حياة الرجل حدثا . فإن الحب في حياة المرأة تاريخ .

جمعي شايبي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...