مريم تسقط من يد الله: رواية المبدعة التونية فتحية الهاشمي، صدرت 2009 طبعة أولى بتونس تحصّلت على جائزة الكريديف لأحسن الكتابات النّسائيّة 2009 ثمّ طبعة ثانية سنة 2010 بمصر
استعارت الروائية فتحية الهاشي من زرقاء اليمامة عينيها لتقرأ تفاصيل الواقع العميق الذي يقبع تحت القشرة الخداعة. وقامت بنقده نقدا لاذعا مبينة أعطابه وبخاصة معضلة الحرية التي لم يتحقق بعد استنباتها في تربتنا العربية؛ وقد جاء ما يسمى بالربيع العربي الذي كان بمثابة حلم سرعان ما انزاح لصالح واقع القمع الأشنع والأفظع.
لقد عالجت هذا الموضوع الكثير من الأفلام والمسرحيات والروايات والقصص كما الرسم، دون أن يترسخ هذا المفهوم في حياتنا ويتجسد في سلوكاتنا وثقافتنا؛ لقد ظل بمنأى عنا، مستعصي الحضور والتحقق.
تاتي روايتها "مريم تسقط من يد الله" لترسم معالم هذا الواقع المزري من خلال إقامة مقابلة بين الداخل والخارج، حيث ترى أن الخارج ملوث وان الداخل رغم ما يعرفه من فسق أكثر نبلا منه وأسمى درجة.
استعارت المبدعة فتحية شخصيتيها المحوريتين من الواقع وخلعت عليها حلة جديدة تناسب حضورهما في العمل الروائي، تحملان رؤيتها وأفكارها، وزاوية نظرها دون أن يعني ذلك خضوع الشخصيتين لسلطة الساردة وبالتالي الروائية، فلهما حضورهما الخاص واستقلاليتهما وتميزهما عن الطرف الآخر.
فمن هي مريم أولا ومن هو يوسف ثانيا؟
هي امرأة تعيش في ماخور وتعاني أزمة هوية جعلتها تبحث عن الأب المفقود؛ فغيابه يجعلها تعيش لا توازنا نفسيا كونها تظل ملعونة لعهرها، فالمجتمع قاس ينبذ كل ملوث رغم أنه أشد تلوثا منها هي الطاهرة الباحثة عن أصل مفقود. مرة تخبرنا أن أباها مريض لكنه ذو خصوبة ص16، ومرة تحلم به يلاعبها ويحضنها ص 165. تقيم بين حدي الغياب والحضور بتوتر فادح.
تقول: كل العالم أبي وكل العالم أعمامي، مريم ملك مشاع مريم ابنه الكل من يرضى بي زوجة له من؟ ص 107، ويزداد شعورها بالنقص حين تنبذ بمنعها من اللعب مع الأطفال. ص 69.
هي ابنة جميع الرجال وجميع الرجال ينبذونها، كما خطيبها الذي تملص منها لما علم بقصتها، الأمر الذي دفعها إلى التمرد على قيم هذا المجتمع الذكوري المنافق، بأن توجهت إلى طبيب نساء لإزالة غشاء التعفف البليد رافضة الخضوع للرجل، حارمة إياه من افتضاضها.
لقد كانت الصدر الدافئ والمسكن الذي آوى إليه يوسف هربا من السلطة التي تلاحقه إثر مظاهرة شارك فيها. لقد كان خائفا من عنف البوليس ومن أساليب تعذيبه.
يعيش الطرفان في مجتمع منافق يعج بتناقضاته المستفحلة، ويرفضان معا قيمه المنحطة.
تمثل مريم كل امرأة يسعى هذا المجتمع "النبيل" إلى النيل منها ودفعها إلى السقوط ليتبرأ منها في الأخير.
وترفض كما يوسف هذا الماخور الكبير المسمى مجتمعا لأنه يعيش فسادا اقتصايديا وسياسيا وثقافيا وقيميا، ويفضلان عليه الماخور الصغير، يمارسان فيه حياتهما بشكل صريح من دون ماكياج أو أقنعة. ولا يخجلان من توظيف الألفاظ السوقية التي تناسبه ولا يتحرجان منها.
ولعلّ ما تُقدِم عليه "فتحية الهاشمي" من تمازج بين اللّغة الفصيحة واللهجة العاميّة هو ما أطلق عليه "ميخائيل باختين" مصطلح " التّهجين اللّغوي" ، غير أنّ هذا التّهجين ليس « المزج بين لغتين داخل ملفوظ واحد...والتقاء لسانين مفصولين بحِقبة زمنية وبفارق اجتماعي أو بهما معا داخل ذلك الملفوظ» وإنّما هو تأكيد على قدرة اللّغة الأصلية المعيارية الواحدة(La langue standard) أن تحيل على الطبقات والطّوائف والفئات والعروش عندما تنقسم إلى لهجات محليّة (Dialecteslocaux) ولهجات اجتماعية (Diaslectes sociaux).
وللتّوضيح، ليس ما تسعى إليه "الهاشمي" هو التنضيد اللّغوي الطبقي بل تؤسّس إلى تهجين لغوي جديد قائم على مبدأ التّوالد.
فالمقصود بالتّهجين اللّغوي داخل الرّواية إذن هو إقحام مفردات وحِكم وأمثال شعبية وأعلام من اللهجات الاجتماعية (Les sociolectes)بغرض التّشاكل والتّعالق النّصيّ مع الموروث وتقديم سرد بانورامي يؤَدْلِجُ الفكر ويبني الرّمز. 1_ الملامـح الفنّيـة للكتابة الرّوائيـة عند "فتحية الهاشمـي"
( تاتيانا/ منّه موّال: مثالا )
- دراسـة نقديّـة بقلم الأستاذة فتحية بن فرج -
الرواية داخل الرواية أو الميتاسرد:
اللعبة السردية حاضر في الرواية، إذ في قلب الرواية تحضر مرآتها، فالساردة تدخلنا إلى مطبخها السري للسرد، تبسط أمامنها لعبتها وشكل خطابها، تحاور شخصياتها، وتظهر مواقفها منها. ولا تتورع من إدراج اسمها بصفتها راوية الرواية لتصير بنفسها إحدى شخصيات العمل الروائي المتخيلة والواقعية معا. مؤكدة، بذلك، أن الرواية لعبة سردية تعتمد الخيال، وليست عملا واقعيا يعكس هذا الواقع بحرفيته.
تقيم الرواية حوارا خصبا مع العديد من أشكال الكتابة تفتح بها نافذة على آفاق جديدة ومنعشة تسمح لها بكسر الانغلاق؛ فالرراية جنس دائم التشكل يلتهم كل أنواع الكتابة الأدبية وغير الأدبية لكن ينبغي الاستفادة منها باعتدال حتى لا تفقد خصوصيتها فتصير أي شكل غير الرواية. والخيط الناظم والمرشد هو الحكاية ؛وهي بمثابة الطبقة السفلية غير المؤدلجة التي تستوعب كل الأشكال في حياتها بنسب متفاوتة ومحددة، بخلاف العليا التي تتأفف من بعض الأشكال السفلى فتطرحها جانبا وتبقي علي ما يخدم مصالحها وهي بذلك تحرم نفسها من الثراء الممكن والمتاح.
الأولى متسعة المجال أما الثانية فضيقته؛ وبذا يقوم الاختلاف بين التنوع والوحدة؛ التنوع بصفته حياة؛ والوحدة بصفتها دكتاتورية تنبذ الحياة حتي وهي تقبل عليها. فطرح باقي العناصر المشكلة للواقع هو بمثابة الاقتصار علي لون واحد من الطعام الذي يصير مع الوقت مملا وغير صحي. الطبقة السفلية تعتمد على الكرنفال باعتباره احتفالا أما الثانية فلكي تنخرط فيه فعليها التقنع وهو زيف. وليس بدعا أن تكون الرواية فنا كرنفاليا يؤمن بالتعدد ويحتفي بالتنوع؛ يلتهم كل ذلك في ذات واحدة تغنيه وتتثريه. وهكذا؛ نجد فتحية الهاشمي تصنع لنا رواية دسمة بتنوع مراجعها ومصادرهما المستلهمة من الشعر الفصيح والزجلي والأسطورة والثقافة الشعبية ومن الدينية والتراثية تقيم معها حوارا خصبا يغذيها ويسهم في استيعاب واقعها الظاهر والمضمر. وهو ما يمنحها فرصة قراءة الواقع من زوايا متعددة ويرفدها بزخم في الأصوات والتوجهات وتعدد زوايا النظر.
وهذا الاستلهام يظهر من البداية؛ أقصد من العنوان الذي يعد عتبة قد تغري بالدخول إلي عوالم النص أو إلي النفور منه؛ فالمبدع البارع هو الذي يعرف كيف ينصب فخاخه للإيقاع بالقارئ من خلال براعة النسج. بحيث يخرجه من عالمه الواقعي ويدخله إلى عوالم النص التخييلية. القدرة على صنع الدهشة تبدأ من العتبة الأولي التي تقيم اتصالا مع قرائها المحتملين. ووعيا من فتحية الهاشمي بما للعنوان من أهمية وفاعلية في تحريك آلية القراءة؛ فقد اعتمدت عنوانا مغريا يجمع بين المقدس والمدنس، إذ يتجلى المقدس في اسم الجلالة: الله، وفي اسم مريم مجردا، ويتجلى المدنس في لفظة السقوط، هته اللفظة التي التصقت بمريم فأخرجتها من المقدس إلى المدنس لأنها سقطت من يد الله بعد أن جاءت في النص المؤسس سامية. واللافت للانتباه أن السقوط، لا بمعناه السلبي، قد ارتبط بسيدنا يوسف، أما مريم فلم تسقط بل سقط عليها تمر؛ فضلا عن اشتمال العنوان على قصتين دينيتين؛ الأولى ترتبط بقصة مريم والثانية بقصة سيدنا يوسف عليه السلام. ولابد للقارئ من أن يقيم مقارنة بين القصتين والرواية منذ أول شهقة قرائية إلي آخر نفس فيها، ويبحث عن الاتلاف والاختلاف بين الطرفين.
ويسافر معه سؤال سبب سقوط مريم من يد الله، باحثا ومنقبا ومؤولا.
التداخل الأجناسي أو استلهام أجناس غير روائية في قلب النص الروائي للتحاور معها ومن أجل إغناء المتن الروائي حيث نجد الشعر بشكل كبير إلى جانب توظيف النص المقدس والتراثي والأسطوري والأغنية الشعبية..
الرواية والشعر:
تبدو الغاية من استخدام الشعر في الكتابات الروائية إثراءه وجعله نصا مفتوحا على الحياة بما تحفل به من غنى متعدد الأشكال والأبعاد، وبهذا تتقلص المسافة بين الشعر والرواية.
هكذا، نتقدم لنا فتحية الهاشمي تقدم رواية مفعمة بالشعر لإثراء دلالة النص الروائي، وبغاية خلخلة الأشكال التقليدية. التي سارت عليها الرواية التقليدية.
ويتجلى هذا الملمح الشعري حين تتحدث مريم عن معاناتها. ص 89.
وما يلفت الانتباه أن كل النصوص الشعرية الموظفة في المتن الروائي تعود إلى المبدعة نفسها. وهذا ليس بالأمر الغريب عن فتحية فهي شاعرة أيضا ولها إسهاماتها في هذا المحفل الفني. فهي تتفنن في هذا الجانب بتشغيل التكرار واللعب بالكلمات طباعيا إذ نجدها تقوم بتشتيت الكلمات أو تمديدها وتمطيطها، هذا اللعب هو أحد سمات الشعر وبعد من أبعاده، وقد انتقل إلى السرد الروائي ليمنحه طاقة جديدة، ويضخ في جسده دماء جديدة، ويكسر رتابته.
ولم تقتصر فتحية في عملها على الشعر بل وظفت إلى جانبه الأغنية الشعبية التي تعبر عن روح الشعب وتعبر عن ثقافته وبالتالي عن حضارته. ص 23. و38. ولقد كانت الأغاني الشعبية الموظفة خير دليل على حياة مريم وكاشفة عن نفسيتها وما يعتمل فيها.
وإلى جانب الأغنية الشعبية نجد الحكايات الشعبية والأسطورية من مثل حكاية زرقاء اليمامة في إطار قراءة الواقع العميق الذي يتجاوز السطح المضلل، وأسطورة عشتار وتموز؛ وهذه الأسطورة لها علاقة وطيدة بقصة مريم ويوسف. وإلى جانبها نجد أسطورة أفروديت.
كما أنها شغلت النص الديني بقصصه المتنوعة من مثل قصة مريم وقصة يوسف عليهما السلام.
على سبيل الختم:
تسعى الكاتبة "فتحية الهاشمي"، كما ذهبت إلى ذلك الباحثة فتحية فرج، وأكدتها قراءتنا، من خلال المتخيّل السّردي الّذي أنشأته إلى تنويع الأساليب الفنيّة وابتكار عوالم جديدة فيها ما فيها من الشّعرية والحواسّ وجماليّة اللّغة ما يزيد في طبقات المعنى ويعلّق القارئ فيها باحثا عنها بكلّ ما أوتي من وسائل. إنّها كتابة الهستيريا الموزّعة بين الواقع والخيال، بين اللّغة واللّهجة، بين الدّيني والإيديولوجي، إنّها نصوص متفرّدة يجوز لنا الزّعم أنّها بحاجة إلى قراءات عديدة إذ مازال فيها الكثير من المعاني البِكر الّتي لم تُعالج بَعْدُ ولم يتمّ الكشف عنها.
استعارت الروائية فتحية الهاشي من زرقاء اليمامة عينيها لتقرأ تفاصيل الواقع العميق الذي يقبع تحت القشرة الخداعة. وقامت بنقده نقدا لاذعا مبينة أعطابه وبخاصة معضلة الحرية التي لم يتحقق بعد استنباتها في تربتنا العربية؛ وقد جاء ما يسمى بالربيع العربي الذي كان بمثابة حلم سرعان ما انزاح لصالح واقع القمع الأشنع والأفظع.
لقد عالجت هذا الموضوع الكثير من الأفلام والمسرحيات والروايات والقصص كما الرسم، دون أن يترسخ هذا المفهوم في حياتنا ويتجسد في سلوكاتنا وثقافتنا؛ لقد ظل بمنأى عنا، مستعصي الحضور والتحقق.
تاتي روايتها "مريم تسقط من يد الله" لترسم معالم هذا الواقع المزري من خلال إقامة مقابلة بين الداخل والخارج، حيث ترى أن الخارج ملوث وان الداخل رغم ما يعرفه من فسق أكثر نبلا منه وأسمى درجة.
استعارت المبدعة فتحية شخصيتيها المحوريتين من الواقع وخلعت عليها حلة جديدة تناسب حضورهما في العمل الروائي، تحملان رؤيتها وأفكارها، وزاوية نظرها دون أن يعني ذلك خضوع الشخصيتين لسلطة الساردة وبالتالي الروائية، فلهما حضورهما الخاص واستقلاليتهما وتميزهما عن الطرف الآخر.
فمن هي مريم أولا ومن هو يوسف ثانيا؟
هي امرأة تعيش في ماخور وتعاني أزمة هوية جعلتها تبحث عن الأب المفقود؛ فغيابه يجعلها تعيش لا توازنا نفسيا كونها تظل ملعونة لعهرها، فالمجتمع قاس ينبذ كل ملوث رغم أنه أشد تلوثا منها هي الطاهرة الباحثة عن أصل مفقود. مرة تخبرنا أن أباها مريض لكنه ذو خصوبة ص16، ومرة تحلم به يلاعبها ويحضنها ص 165. تقيم بين حدي الغياب والحضور بتوتر فادح.
تقول: كل العالم أبي وكل العالم أعمامي، مريم ملك مشاع مريم ابنه الكل من يرضى بي زوجة له من؟ ص 107، ويزداد شعورها بالنقص حين تنبذ بمنعها من اللعب مع الأطفال. ص 69.
هي ابنة جميع الرجال وجميع الرجال ينبذونها، كما خطيبها الذي تملص منها لما علم بقصتها، الأمر الذي دفعها إلى التمرد على قيم هذا المجتمع الذكوري المنافق، بأن توجهت إلى طبيب نساء لإزالة غشاء التعفف البليد رافضة الخضوع للرجل، حارمة إياه من افتضاضها.
لقد كانت الصدر الدافئ والمسكن الذي آوى إليه يوسف هربا من السلطة التي تلاحقه إثر مظاهرة شارك فيها. لقد كان خائفا من عنف البوليس ومن أساليب تعذيبه.
يعيش الطرفان في مجتمع منافق يعج بتناقضاته المستفحلة، ويرفضان معا قيمه المنحطة.
تمثل مريم كل امرأة يسعى هذا المجتمع "النبيل" إلى النيل منها ودفعها إلى السقوط ليتبرأ منها في الأخير.
وترفض كما يوسف هذا الماخور الكبير المسمى مجتمعا لأنه يعيش فسادا اقتصايديا وسياسيا وثقافيا وقيميا، ويفضلان عليه الماخور الصغير، يمارسان فيه حياتهما بشكل صريح من دون ماكياج أو أقنعة. ولا يخجلان من توظيف الألفاظ السوقية التي تناسبه ولا يتحرجان منها.
ولعلّ ما تُقدِم عليه "فتحية الهاشمي" من تمازج بين اللّغة الفصيحة واللهجة العاميّة هو ما أطلق عليه "ميخائيل باختين" مصطلح " التّهجين اللّغوي" ، غير أنّ هذا التّهجين ليس « المزج بين لغتين داخل ملفوظ واحد...والتقاء لسانين مفصولين بحِقبة زمنية وبفارق اجتماعي أو بهما معا داخل ذلك الملفوظ» وإنّما هو تأكيد على قدرة اللّغة الأصلية المعيارية الواحدة(La langue standard) أن تحيل على الطبقات والطّوائف والفئات والعروش عندما تنقسم إلى لهجات محليّة (Dialecteslocaux) ولهجات اجتماعية (Diaslectes sociaux).
وللتّوضيح، ليس ما تسعى إليه "الهاشمي" هو التنضيد اللّغوي الطبقي بل تؤسّس إلى تهجين لغوي جديد قائم على مبدأ التّوالد.
فالمقصود بالتّهجين اللّغوي داخل الرّواية إذن هو إقحام مفردات وحِكم وأمثال شعبية وأعلام من اللهجات الاجتماعية (Les sociolectes)بغرض التّشاكل والتّعالق النّصيّ مع الموروث وتقديم سرد بانورامي يؤَدْلِجُ الفكر ويبني الرّمز. 1_ الملامـح الفنّيـة للكتابة الرّوائيـة عند "فتحية الهاشمـي"
( تاتيانا/ منّه موّال: مثالا )
- دراسـة نقديّـة بقلم الأستاذة فتحية بن فرج -
الرواية داخل الرواية أو الميتاسرد:
اللعبة السردية حاضر في الرواية، إذ في قلب الرواية تحضر مرآتها، فالساردة تدخلنا إلى مطبخها السري للسرد، تبسط أمامنها لعبتها وشكل خطابها، تحاور شخصياتها، وتظهر مواقفها منها. ولا تتورع من إدراج اسمها بصفتها راوية الرواية لتصير بنفسها إحدى شخصيات العمل الروائي المتخيلة والواقعية معا. مؤكدة، بذلك، أن الرواية لعبة سردية تعتمد الخيال، وليست عملا واقعيا يعكس هذا الواقع بحرفيته.
تقيم الرواية حوارا خصبا مع العديد من أشكال الكتابة تفتح بها نافذة على آفاق جديدة ومنعشة تسمح لها بكسر الانغلاق؛ فالرراية جنس دائم التشكل يلتهم كل أنواع الكتابة الأدبية وغير الأدبية لكن ينبغي الاستفادة منها باعتدال حتى لا تفقد خصوصيتها فتصير أي شكل غير الرواية. والخيط الناظم والمرشد هو الحكاية ؛وهي بمثابة الطبقة السفلية غير المؤدلجة التي تستوعب كل الأشكال في حياتها بنسب متفاوتة ومحددة، بخلاف العليا التي تتأفف من بعض الأشكال السفلى فتطرحها جانبا وتبقي علي ما يخدم مصالحها وهي بذلك تحرم نفسها من الثراء الممكن والمتاح.
الأولى متسعة المجال أما الثانية فضيقته؛ وبذا يقوم الاختلاف بين التنوع والوحدة؛ التنوع بصفته حياة؛ والوحدة بصفتها دكتاتورية تنبذ الحياة حتي وهي تقبل عليها. فطرح باقي العناصر المشكلة للواقع هو بمثابة الاقتصار علي لون واحد من الطعام الذي يصير مع الوقت مملا وغير صحي. الطبقة السفلية تعتمد على الكرنفال باعتباره احتفالا أما الثانية فلكي تنخرط فيه فعليها التقنع وهو زيف. وليس بدعا أن تكون الرواية فنا كرنفاليا يؤمن بالتعدد ويحتفي بالتنوع؛ يلتهم كل ذلك في ذات واحدة تغنيه وتتثريه. وهكذا؛ نجد فتحية الهاشمي تصنع لنا رواية دسمة بتنوع مراجعها ومصادرهما المستلهمة من الشعر الفصيح والزجلي والأسطورة والثقافة الشعبية ومن الدينية والتراثية تقيم معها حوارا خصبا يغذيها ويسهم في استيعاب واقعها الظاهر والمضمر. وهو ما يمنحها فرصة قراءة الواقع من زوايا متعددة ويرفدها بزخم في الأصوات والتوجهات وتعدد زوايا النظر.
وهذا الاستلهام يظهر من البداية؛ أقصد من العنوان الذي يعد عتبة قد تغري بالدخول إلي عوالم النص أو إلي النفور منه؛ فالمبدع البارع هو الذي يعرف كيف ينصب فخاخه للإيقاع بالقارئ من خلال براعة النسج. بحيث يخرجه من عالمه الواقعي ويدخله إلى عوالم النص التخييلية. القدرة على صنع الدهشة تبدأ من العتبة الأولي التي تقيم اتصالا مع قرائها المحتملين. ووعيا من فتحية الهاشمي بما للعنوان من أهمية وفاعلية في تحريك آلية القراءة؛ فقد اعتمدت عنوانا مغريا يجمع بين المقدس والمدنس، إذ يتجلى المقدس في اسم الجلالة: الله، وفي اسم مريم مجردا، ويتجلى المدنس في لفظة السقوط، هته اللفظة التي التصقت بمريم فأخرجتها من المقدس إلى المدنس لأنها سقطت من يد الله بعد أن جاءت في النص المؤسس سامية. واللافت للانتباه أن السقوط، لا بمعناه السلبي، قد ارتبط بسيدنا يوسف، أما مريم فلم تسقط بل سقط عليها تمر؛ فضلا عن اشتمال العنوان على قصتين دينيتين؛ الأولى ترتبط بقصة مريم والثانية بقصة سيدنا يوسف عليه السلام. ولابد للقارئ من أن يقيم مقارنة بين القصتين والرواية منذ أول شهقة قرائية إلي آخر نفس فيها، ويبحث عن الاتلاف والاختلاف بين الطرفين.
ويسافر معه سؤال سبب سقوط مريم من يد الله، باحثا ومنقبا ومؤولا.
التداخل الأجناسي أو استلهام أجناس غير روائية في قلب النص الروائي للتحاور معها ومن أجل إغناء المتن الروائي حيث نجد الشعر بشكل كبير إلى جانب توظيف النص المقدس والتراثي والأسطوري والأغنية الشعبية..
الرواية والشعر:
تبدو الغاية من استخدام الشعر في الكتابات الروائية إثراءه وجعله نصا مفتوحا على الحياة بما تحفل به من غنى متعدد الأشكال والأبعاد، وبهذا تتقلص المسافة بين الشعر والرواية.
هكذا، نتقدم لنا فتحية الهاشمي تقدم رواية مفعمة بالشعر لإثراء دلالة النص الروائي، وبغاية خلخلة الأشكال التقليدية. التي سارت عليها الرواية التقليدية.
ويتجلى هذا الملمح الشعري حين تتحدث مريم عن معاناتها. ص 89.
وما يلفت الانتباه أن كل النصوص الشعرية الموظفة في المتن الروائي تعود إلى المبدعة نفسها. وهذا ليس بالأمر الغريب عن فتحية فهي شاعرة أيضا ولها إسهاماتها في هذا المحفل الفني. فهي تتفنن في هذا الجانب بتشغيل التكرار واللعب بالكلمات طباعيا إذ نجدها تقوم بتشتيت الكلمات أو تمديدها وتمطيطها، هذا اللعب هو أحد سمات الشعر وبعد من أبعاده، وقد انتقل إلى السرد الروائي ليمنحه طاقة جديدة، ويضخ في جسده دماء جديدة، ويكسر رتابته.
ولم تقتصر فتحية في عملها على الشعر بل وظفت إلى جانبه الأغنية الشعبية التي تعبر عن روح الشعب وتعبر عن ثقافته وبالتالي عن حضارته. ص 23. و38. ولقد كانت الأغاني الشعبية الموظفة خير دليل على حياة مريم وكاشفة عن نفسيتها وما يعتمل فيها.
وإلى جانب الأغنية الشعبية نجد الحكايات الشعبية والأسطورية من مثل حكاية زرقاء اليمامة في إطار قراءة الواقع العميق الذي يتجاوز السطح المضلل، وأسطورة عشتار وتموز؛ وهذه الأسطورة لها علاقة وطيدة بقصة مريم ويوسف. وإلى جانبها نجد أسطورة أفروديت.
كما أنها شغلت النص الديني بقصصه المتنوعة من مثل قصة مريم وقصة يوسف عليهما السلام.
على سبيل الختم:
تسعى الكاتبة "فتحية الهاشمي"، كما ذهبت إلى ذلك الباحثة فتحية فرج، وأكدتها قراءتنا، من خلال المتخيّل السّردي الّذي أنشأته إلى تنويع الأساليب الفنيّة وابتكار عوالم جديدة فيها ما فيها من الشّعرية والحواسّ وجماليّة اللّغة ما يزيد في طبقات المعنى ويعلّق القارئ فيها باحثا عنها بكلّ ما أوتي من وسائل. إنّها كتابة الهستيريا الموزّعة بين الواقع والخيال، بين اللّغة واللّهجة، بين الدّيني والإيديولوجي، إنّها نصوص متفرّدة يجوز لنا الزّعم أنّها بحاجة إلى قراءات عديدة إذ مازال فيها الكثير من المعاني البِكر الّتي لم تُعالج بَعْدُ ولم يتمّ الكشف عنها.