المصطفى اجماهري - الجديدة في ظل التحولات الثقافية

تختلف مدينة الجديدة اليوم عن مدينة الجديدة-مازغان بالأمس. فقد تطورت هذه الحاضرة، منذ بداية الاستقلال إلى الآن، بشكل لافت للعيان بشريا وعمرانيا واقتصاديا. ومع ملاحظتنا لهذا الاختلاف الكمي والنوعي، إلا أن المدينة ظلت وفية لتقاليد الانفتاح الجغرافي والثقافي التي أبدعها الإنسان الدكالي المغربي في هذه الرقعة من الوطن العزيز. هذا التحول لم يكن وليد الصدفة بل كان ثمرة مخاض سنين طويلة من السياسات العمومية وتطور الممارسات الاجتماعية. فالجديدة كانت في نهاية القرن التاسع عشر من أهم الموانئ المغربية، بل كانت الميناء الثاني بعد طنجة والمزود الرئيسي لمدينة مراكش بالسلع والبضائع الأوروبية. وعلى المستوى السياحي لعبت مازغان دور المتنفس للمدن الداخلية. وهي أولا وأخيرا إقليم فلاحي وبحري متعدد الطاقات والمقدرات.

وغني عن التأكيد أن تضافر هذه العوامل مجتمعة مكّن المدينة من استقطاب رؤوس أموال وبرامج استثمارية ضخمة جعلت الإقليم يحظى بأولوية استراتيجية. كما رشحته ليحتل، في السنين القريبة القادمة، الموقع الأول في مجال الصناعة على المستوى الوطني.

ولا مناص من التنويه بأهمية البنية التحتية التي شيدت سواء بالجديدة أو بإقليمها، خاصة ميناء الجرف الأصفر والطريق السيار، ثم ما نتج عن ذلك من رواج اقتصادي وتجاري وكذا على مستوى التشغيل وتأهيل الموارد البشرية. فمنشآت الجرف الأصفر العملاقة هي ضرورية لبلادنا من جنوبها إلى شمالها ولا يمكن الاستغناء عنها. وهي تتيح لبلدنا، وقد أتاحت له بالفعل، أن يعقد علاقات استراتيجية مع كثير من دول المعمور. وبطبيعة الحال، فكل تطور في الحياة يحمل من الإيجابيات ما قد يحجب بعض السلبيات التي تصاحبه، ومنها الجانب البيئي الذي يستعجل التصدي. وقد سبق أن تحدثتْ عن ذلك بعض الصحف وأيضا القناة الثانية في إحدى نشراتها الإخبارية.

إلى جانب ذلك ينبغي الانكباب على مشكل تشغيل الشباب، خاصة وأن مدينة الجديدة أصبحت محور استقطاب خارجي لشريحة كبيرة من أبناء بادية الإقليم وشباب بعض المدن المجاورة وهذا ما قد يشكل ضغطا على الإمكانات المتاحة أو التي يمكن إتاحتها مستقبلا.

أما الضغط الآخر فيتأتى من كون توالي سنوات الجفاف وتراجع الموارد المائية في منطقة دكالة (كما في باقي مناطق المغرب) قد بات يشكل تحديا أمام مدينة الجديدة كحاضرة أصبحت تفقد، شيئا فشيئا، بعض ملامح تمدنها بسبب ظاهرة الترييف المتزايدة.

وبطبيعة الحال فإن مجموع التغيرات الطارئة على المدينة كان وسيكون لها انعكاس على مستوى التحولات الثقافية، والتي يمكن تلخيصها في ثلاثة:



التحول الأول، يتجلى في أن الاتساع العمراني والنمو البشري لم ينعكسا لا على اقتناء الكتاب الثقافي بالمدينة، وهذا بشهادة من يعنون بترويج الكتاب، ولا على توسيع قاعدة الجمهور الثقافي. هذا يعني، وبشكل صريح، أن المشكل ليس مشكل برمجة ثقافية، ما دامت الفعاليات الجمعوية والفنية والمؤسسات الجامعية وتجتهد في تنظيم أنشطة ثقافية وفكرية على مدار السنة، وإنما هو مشكل محدودية الإقبال على المنتوج الثقافي. وتبقى أسباب ذلك متعددة منها ما يتعلق بمسألة المواصلات أو بتوقيت الأنشطة أو بضيق وقت المتلقي أو تفضيل النقاشات الشفوية التي شجعها تناسل المقاهي بشكل كبير، فضلا عن التعرض المستمر لوسائط التواصل الاجتماعي السهلة الولوج والاستعمال،

التحول الثاني، يتجلى في انقراض مفهوم “أولاد البلاد” الذي كان جد متداول في المدينة في خمسينات وستينات القرن الماضي. فهذا المفهوم الذي شكّل، في الماضي، وجها من ثقافة الاعتزاز للعائلات القديمة، سرعان ما تبخّر بدوره بسبب النمو الديمغرافي الملحوظ، وانفتاح سوق الشغل على طاقات جامعية ومهنية من خارج المدينة و الإقليم،

التحول الثالث، يتجلى في غياب قناة تواصلية بين المدينة ومثقفيها، فمثلا لا يحصل الكُتاب والمؤلفون الذين يهتمون بمجال المدينة وتاريخها، رغم عددهم المحدود، على أي دعم أو منحة لنشر أعمالهم أو اقتناء نسخ منها. ولعل ذلك راجع في جزء منه إلى عدم اهتمام الساهرين على الشأن المحلي بالمجال الثقافي الذي يأتي –كما هو واضح- في آخر قائمة أولويات التسيير المحلي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...