حرية الكاتب مسألة قديمة متجدّدة؛ إذ لطالما وجد فيها المجتمع المثقّف باختلاف فئاته فرصة سانحة لاستعادة القول في مفهوم الحريّة وضرورتها وحدودها والشروط أو القيود التي قد تلازمها.
على أنّ الباعث المباشر الذي حدا بي إلى تناول هذا الموضوع الشائك إنّما هو " النصوص الخارجية" من شهادة وتمهيد وتعريف التي شاركت متن رواية" أولاد حارتنا" في طبعتها المصرية الأولى الصادرة عن دار الشروق في القاهرة عامَ(٢٠٠٦م) وذلك بعد سنوات طويلة من صدور طبعتها الأولى عن دار الآداب اللبنانية عامَ(١٩٦٢م) .
هذا..ومن المعروف أنّها كانت قد صدرت مسلسلةً على صفحات صحيفة (الأهرام) القاهرية عامَ(١٩٥٩م) وذلك على الرغم من الّلغَط التي أُثير حولها آنذاك في الأوساط الثقافية والدينيّة بخاصّة؛ فكان ذلك بمثابة المخرج "الحلّ الوسط" الذي ارتأتْه أجهزة الدولة المصرية وإعلامها آنذاك للخروج من أزمة الفكر والنشر المركّبة التي مثّلتها هذه الرواية أوضح تمثيل.
تتضمن الرواية "افتتاحية" وخمسة فصول تحمل الأسماء التالية:
١- أدهم ٢- جبل ٣- رفاعة
٤-قاسم ٥- عرفة .
وهم جميعاً ينتسبون إلى" الجبلاوي"
الذي: " عمّرَ فوق ما يطمع إنسان..حتى ضُرِبَ المثلُ بطول عمره. واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يرهُ منذ اعتزاله أحد."
( الرواية، ص٧ ).
وقد رأى المستنكرون للرواية والمعترضون على نشرها أنّها تتطاول على الدين ورموزه، بل والذات الإلهية نفسها؛ كما تتمثّل في الجدّ المتجبّر " الجبلاوي".
في حين يرمز كلّ من" أدهم وجبل ورفاعة وقاسم " ،كما يرون، إلى كلّ من آدم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام.
إنّ " النصّ الخارجيّ " الأول الذي أودّ الإشارة إليه هو الذي أتى تحت عنوان " هذه الشهادة " التي ذكر صاحبها الدكتور ( أحمد كمال أبو المجد) أنّه يؤكّد عليها هنا (٢٠٠٦م) كما وردت في صحيفة الأهرام عندما نشرها للمرّة الأولى عامَ (١٩٩٤م).
ولعلّ أهمّ ما وردَ فيها النقاط التالية:
١-التمييز بين " الكتاب " الذي يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدّد مواقفه، ملتزماً - في ذلك - بالحقائق التاريخية، والوقائع الثابتة، دون افتئات عليها..... وبين "الرواية" التي قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، وقد يُدخِل فيها الخيال إلى جانب الحقيقة العلمية، ولا بأس عليه في شيء من ذلك...." (ص. ب)
٢- حرية التعبير والموقف منها، ذلك أنّه مع التسليم بأنّ الحريات جميعها إنّما تُمارَس في جماعة منظّمة، ولذلك لا يتأبّى منها على التنظيم والتعبير إلّا حرية واحدة هي حريّة "الفكر والاعتقاد" بحسبانهما أمراً داخلياً يُسأل عنه صاحبه أمام خالقه، دون تدخّل من أحد....أمّا حين يتحوّل الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره في الجماعة، فإنّ المجتمع يستردّ حقّه في تنظيم ذلك التعبير دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حدّ إهدار أصل الحقّ ومصادرة جوهر الحرية" (ص. ب-ج)
أمّا "النصّ الخارجيّ" الثاني فقد حمل عنوان "حول "أولاد حارتنا" وقد سجّل فيه الدكتور أحمد كمال أبو المجد وقائع اللقاء الذي جمعه بالأستاذ نجيب محفوظ صحبة عدد من المعنيين بالشأن الأدبي والثقافي
عامَ (١٩٩٤م).
ولعلّ أهم ما في هذا اللقاء هو ما ورد على لسان نجيب محفوظ عن الصلة بين الدين والعلم - على هامش الحديث عن رواية أولاد حارتنا- فقد نقل الدكتور أبو المجد عنه قوله:
"إنّ أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم ، والذين تحدّثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون الإسلام، ويمارسون قِيَمهُ العليا..دون ضحيج ولا كلام كثير...ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس، هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم..ولكنّي في كلمتي إلى الندوة أضفتُ ضرورة الأخذ بالعلم........وأحبّ أن أقولَ إنّه حتى رواية " أولاد حارتنا " التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزى الكبير الذي توّجتْ به أحداثُها..أنّ الناس حين تخلّوا عن الدين ممثّلاً في "الجبلاوي" ، وتصوّروا أنّهم يستطيعون بالعلم وحده ممثّلاً في
"عرفة" أن يديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا) ..اكتشفوا أنّ العلم بغير الدين قد تحوّل إلى شرّ، وأنّه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حرّيتهم..فعادوا من جديد يبحثون عن "الجبلاوي"
(الرواية، ص و-ز)
في حين أتى "النصّ الخارجي" الثالث على ظهر الغلاف تحت عنوان "هذه الرواية" حيث بيّن الدكتور (محمد سليم العوّا) بوصفه الأمين العام للاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين- آنذاك- رأي الدين فيما أثير حول الرواية، فكتب قائلاً:
" ثار حولها جدلٌ لم يثُر مثله حول رواية عربية معاصرة. أحد جوانب هذا الجدل كان يثور -ولا يزال- حول ما إذا كان نجيب محفوظ يرمز بشخصيات روايته إلى الله تبارك وتعالى وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومسألة الصراع المفتعَل بين العلم والدين، وهي مسألة أجنبية عن ثقافتنا العربية والإسلامية."
والرمز كلّه يحتمل التأويل، وما كان محتملاً للتأويل يجب حمله على أحسن وجوهه. وقد قال محفوظ نفسه إنّ الرواية تصوّر حارة مصرية تماماً، ووقفاً قديماً لصالح أبناء الحارة يتصارع عليه فريقان أحدهما شرّير والآخر طيّب. والسؤال الذي كان يحاول توجيهه إلى حكام مصر من رجال الثورة هو: " مع أي فريق أنتم؟"
ثمّ يختتم الدكتور العوّا كلامه بالإشارة إلى أنّ الرواية عمل أدبي يحتمل النقاش والنقد على هذا الأساس، ولا ضير في ذلك على الإطلاق، فيقول:
" وإذا كان هذا هو كلام محفوظ فلتمضِ المعركة الأدبية في طريقها إلى منتهاها، أو لتستمرّ إلى غير نهاية.........فليقرأ القارئ كيف يشاء، وليفهم كيف يشاء، ولكنّه مطالب ألّا يكذّبَ رجلاً مسلماً أفضى إلى الله تبارك وتعالى بما قدّم.
وقد قدّم للغته وثقافته خيراً كثيراً نرجو أنْ يجزِيَهُ الله به خيراً كثيراً."
ولعلّ أهمّ ما في هذا الرأي إنّما هو التأكيد على الطبيعة الخاصة للعمل الأدبي، ومن ثَمَّ التمييز المنهجي بين كلّ من الإنسان والأديب في شخص نجيب مخفوظ.
ما أريد لفتَ النظر إليه والتأكيد عليه هنا، فضلاً عمّا سبق، إنّما هو ضرورة التأكيد على الثقافة النقدية الأساسيّة التي يجب أنْ يتحلّى بها القارئ العربي وذلك لتجاوز هذا الَّلبْس القائم بين الكتب التي تتناول بشكل علميّ منهجيّ مباشر كلّاً من التاريخ والعقائد والأفكار من جهة، وبين الأعمال الأدبية التي تتناول حياة الناس والمجتمعات وما تشتمل عليه من عادات وتقاليد ومعتقدات وأفكار بصيغ فنية وقوالب أدبية، من جهة أخرى...فشتّان شتّان بين الأمرين.
دكتور زياد العوف
على أنّ الباعث المباشر الذي حدا بي إلى تناول هذا الموضوع الشائك إنّما هو " النصوص الخارجية" من شهادة وتمهيد وتعريف التي شاركت متن رواية" أولاد حارتنا" في طبعتها المصرية الأولى الصادرة عن دار الشروق في القاهرة عامَ(٢٠٠٦م) وذلك بعد سنوات طويلة من صدور طبعتها الأولى عن دار الآداب اللبنانية عامَ(١٩٦٢م) .
هذا..ومن المعروف أنّها كانت قد صدرت مسلسلةً على صفحات صحيفة (الأهرام) القاهرية عامَ(١٩٥٩م) وذلك على الرغم من الّلغَط التي أُثير حولها آنذاك في الأوساط الثقافية والدينيّة بخاصّة؛ فكان ذلك بمثابة المخرج "الحلّ الوسط" الذي ارتأتْه أجهزة الدولة المصرية وإعلامها آنذاك للخروج من أزمة الفكر والنشر المركّبة التي مثّلتها هذه الرواية أوضح تمثيل.
تتضمن الرواية "افتتاحية" وخمسة فصول تحمل الأسماء التالية:
١- أدهم ٢- جبل ٣- رفاعة
٤-قاسم ٥- عرفة .
وهم جميعاً ينتسبون إلى" الجبلاوي"
الذي: " عمّرَ فوق ما يطمع إنسان..حتى ضُرِبَ المثلُ بطول عمره. واعتزل في بيته لكبره منذ عهد بعيد، فلم يرهُ منذ اعتزاله أحد."
( الرواية، ص٧ ).
وقد رأى المستنكرون للرواية والمعترضون على نشرها أنّها تتطاول على الدين ورموزه، بل والذات الإلهية نفسها؛ كما تتمثّل في الجدّ المتجبّر " الجبلاوي".
في حين يرمز كلّ من" أدهم وجبل ورفاعة وقاسم " ،كما يرون، إلى كلّ من آدم وموسى وعيسى ومحمّد عليهم السلام.
إنّ " النصّ الخارجيّ " الأول الذي أودّ الإشارة إليه هو الذي أتى تحت عنوان " هذه الشهادة " التي ذكر صاحبها الدكتور ( أحمد كمال أبو المجد) أنّه يؤكّد عليها هنا (٢٠٠٦م) كما وردت في صحيفة الأهرام عندما نشرها للمرّة الأولى عامَ (١٩٩٤م).
ولعلّ أهمّ ما وردَ فيها النقاط التالية:
١-التمييز بين " الكتاب " الذي يعرض فيه الكاتب فكرته ويحدّد مواقفه، ملتزماً - في ذلك - بالحقائق التاريخية، والوقائع الثابتة، دون افتئات عليها..... وبين "الرواية" التي قد يلجأ صاحبها إلى الرمز والإشارة، وقد يُدخِل فيها الخيال إلى جانب الحقيقة العلمية، ولا بأس عليه في شيء من ذلك...." (ص. ب)
٢- حرية التعبير والموقف منها، ذلك أنّه مع التسليم بأنّ الحريات جميعها إنّما تُمارَس في جماعة منظّمة، ولذلك لا يتأبّى منها على التنظيم والتعبير إلّا حرية واحدة هي حريّة "الفكر والاعتقاد" بحسبانهما أمراً داخلياً يُسأل عنه صاحبه أمام خالقه، دون تدخّل من أحد....أمّا حين يتحوّل الفكر إلى تعبير يذيعه صاحبه وينشره في الجماعة، فإنّ المجتمع يستردّ حقّه في تنظيم ذلك التعبير دون أن يصل ذلك التنظيم إلى حدّ إهدار أصل الحقّ ومصادرة جوهر الحرية" (ص. ب-ج)
أمّا "النصّ الخارجيّ" الثاني فقد حمل عنوان "حول "أولاد حارتنا" وقد سجّل فيه الدكتور أحمد كمال أبو المجد وقائع اللقاء الذي جمعه بالأستاذ نجيب محفوظ صحبة عدد من المعنيين بالشأن الأدبي والثقافي
عامَ (١٩٩٤م).
ولعلّ أهم ما في هذا اللقاء هو ما ورد على لسان نجيب محفوظ عن الصلة بين الدين والعلم - على هامش الحديث عن رواية أولاد حارتنا- فقد نقل الدكتور أبو المجد عنه قوله:
"إنّ أهل مصر الذين أدركناهم وعشنا معهم ، والذين تحدّثت عنهم في كتاباتي كانوا يعيشون الإسلام، ويمارسون قِيَمهُ العليا..دون ضحيج ولا كلام كثير...ولقد كانت السماحة وصدق الكلمة وشجاعة الرأي وأمانة الموقف ودفء العلاقات بين الناس، هي تعبير أهل مصر الواضح عن إسلامهم..ولكنّي في كلمتي إلى الندوة أضفتُ ضرورة الأخذ بالعلم........وأحبّ أن أقولَ إنّه حتى رواية " أولاد حارتنا " التي أساء البعض فهمها لم تخرج عن هذه الرؤية. ولقد كان المغزى الكبير الذي توّجتْ به أحداثُها..أنّ الناس حين تخلّوا عن الدين ممثّلاً في "الجبلاوي" ، وتصوّروا أنّهم يستطيعون بالعلم وحده ممثّلاً في
"عرفة" أن يديروا حياتهم على أرضهم (التي هي حارتنا) ..اكتشفوا أنّ العلم بغير الدين قد تحوّل إلى شرّ، وأنّه قد أسلمهم إلى استبداد الحاكم وسلبهم حرّيتهم..فعادوا من جديد يبحثون عن "الجبلاوي"
(الرواية، ص و-ز)
في حين أتى "النصّ الخارجي" الثالث على ظهر الغلاف تحت عنوان "هذه الرواية" حيث بيّن الدكتور (محمد سليم العوّا) بوصفه الأمين العام للاتّحاد العالميّ لعلماء المسلمين- آنذاك- رأي الدين فيما أثير حول الرواية، فكتب قائلاً:
" ثار حولها جدلٌ لم يثُر مثله حول رواية عربية معاصرة. أحد جوانب هذا الجدل كان يثور -ولا يزال- حول ما إذا كان نجيب محفوظ يرمز بشخصيات روايته إلى الله تبارك وتعالى وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومسألة الصراع المفتعَل بين العلم والدين، وهي مسألة أجنبية عن ثقافتنا العربية والإسلامية."
والرمز كلّه يحتمل التأويل، وما كان محتملاً للتأويل يجب حمله على أحسن وجوهه. وقد قال محفوظ نفسه إنّ الرواية تصوّر حارة مصرية تماماً، ووقفاً قديماً لصالح أبناء الحارة يتصارع عليه فريقان أحدهما شرّير والآخر طيّب. والسؤال الذي كان يحاول توجيهه إلى حكام مصر من رجال الثورة هو: " مع أي فريق أنتم؟"
ثمّ يختتم الدكتور العوّا كلامه بالإشارة إلى أنّ الرواية عمل أدبي يحتمل النقاش والنقد على هذا الأساس، ولا ضير في ذلك على الإطلاق، فيقول:
" وإذا كان هذا هو كلام محفوظ فلتمضِ المعركة الأدبية في طريقها إلى منتهاها، أو لتستمرّ إلى غير نهاية.........فليقرأ القارئ كيف يشاء، وليفهم كيف يشاء، ولكنّه مطالب ألّا يكذّبَ رجلاً مسلماً أفضى إلى الله تبارك وتعالى بما قدّم.
وقد قدّم للغته وثقافته خيراً كثيراً نرجو أنْ يجزِيَهُ الله به خيراً كثيراً."
ولعلّ أهمّ ما في هذا الرأي إنّما هو التأكيد على الطبيعة الخاصة للعمل الأدبي، ومن ثَمَّ التمييز المنهجي بين كلّ من الإنسان والأديب في شخص نجيب مخفوظ.
ما أريد لفتَ النظر إليه والتأكيد عليه هنا، فضلاً عمّا سبق، إنّما هو ضرورة التأكيد على الثقافة النقدية الأساسيّة التي يجب أنْ يتحلّى بها القارئ العربي وذلك لتجاوز هذا الَّلبْس القائم بين الكتب التي تتناول بشكل علميّ منهجيّ مباشر كلّاً من التاريخ والعقائد والأفكار من جهة، وبين الأعمال الأدبية التي تتناول حياة الناس والمجتمعات وما تشتمل عليه من عادات وتقاليد ومعتقدات وأفكار بصيغ فنية وقوالب أدبية، من جهة أخرى...فشتّان شتّان بين الأمرين.
دكتور زياد العوف