د. مديح الصادق - الأركانُ الأساسيَّة في كتابة القصَّة الفنيَّة.

من دواعي سرورنا أن نقرأ هنا وهناك محاولات كتابة القصة من قبل بعض الزملاء المبتدئين لا تخلو من نماذج موفقة؛ ما يؤشر أن النشاط الثقافي يسير بالاتجاه الصحيح، تأسيساً على دور القصة المبنية بناء فنياً محكماً في عملية التغييرالاجتماعي كجزء من البنية الفوقية للمجتمعات الإنسانية؛ وذلك ما دفعنا إلى إيضاح الأسس التي لا يستغني عنها أي قاص، أو مَنْ يحاول الولوج في هذا المضمار، إنها أركان القصة الأساسية التي تعين الكاتب على بناء نموذج قصصي فني مقبول.
...........................
أولا- الفكرة: ما من عمل إبداعي إلا وقد بني على فكرة، تعكس وجهة نظر صاحبها ومدى تصوره لما يدور حوله، وماهية الحلول التي يعتقدها ملائمة لمعالجة المشاكل الإنسانية المطروحة، وإن مدى نجاحها مرهون بواقعيتها وعلمية تحليلها لكل ما يدور من أحداث، وبديهي في هذا المجال أن لكل كاتب نظرة وفلسفة، تختلف أو تتفق مع غيره من الكتاب أو القراء؛ لكن الأفكار التي تقترب من مشاكل وهموم أغلبية الناس، وتتعاطف مع الطبقات الفقيرة الكادحة؛ تلقى قبولا أكثر من غيرها، وهذا ما نلمسه يومياً في شتى المجالات، ومنها الإقبال على القصص ذات المضامين الاجتماعية، المتضامنة مع هموم الجمع الغفير.
.................................
ثانيا- الحوادث: إن واقعية الأحداث وانسجامها مع الهدف العام الذي يسعى إلى إيصاله الكاتب للمتلقين؛ عنصر أساسي في بناء القصة، كما يجب أن تنسجم مع بعضها كي تخدم الهدف العام الذي يروم الكاتب ايصاله للقراء، ومعلوم أن بعضاً من الحوادث يستقيها الكاتب من معايشته للواقع، وبعضاً منها يصورها من خياله؛ لكنها تلقى قبولا واسعا كلما كانت قابلة للتصديق؛ باقترابها من الواقع وعدم تناقضها مع عناصر القصة الأخرى ومنها الأشخاص، كذلك فإن لطريقة معالجة الكاتب للحوادث أثر في تقديم نموذج قصصي فني مستساغ.
........................................
ثالثا- الأشخاص: الأشخاص هم صانعو الحوادث؛ فلكل منهم دوره في الواقع الذي يجب أن يكون منسجما مع دوره في الأحداث التي يسردها القاص، ومع غيره من الأشخاص في إطار البناء القصصي؛ وهذا يستند إلى وعي الكاتب لدور كل شخصية- سلباً أو إيجاباً- في المجتمع، ودرجة وعيها، وأهم الصفات التي تميزها عن غيرها من الشخصيات في المجتمع، وهنا يبرز دور الكاتب في الغوص في أعماق تلك الشخصيات؛ كما يفعل عالم النفس وعالم الاجتماع؛ ليضع كلاً في موقعه الذي لا يتناقض مع واقعه بين الناس، وهنا لابد من تمتع الكاتب بدرجة مقبولة من الثقافة العامة، في كل مجالات الحياة؛ ليكون على دراية بخفايا كل شخصية ومقوماتها، وإلاَ فإنَّ العمل القصصي سيكون معالجة غير موفقة للفكرة المبتغاة، ويكون بناؤه مشوشاً ينقصه الإحكام.
........................................
رابعا- البيئة: هي الساحة التي يتحرك عليها الأشخاص ليصنعوا الحوادث، فهي الزمان والمكان الذي تدور فيه تلك الأحداث، والحلبة التي تشهد الصراع الأزلي بين الخير والشر، فقد تكون زقاقاً، أو حياً، أو مدرسة، أو مصنعاً، أو حقلاً، أو ثكنة عسكرية، أو بلداً، وقد تستغرق الأحداث زمنا طويلا وقد يقصر زمنها تبعا لرؤية الكاتب أو لطبيعة تلك الأحداث، وكلما كانت البيئة متلائمة مع الأحداث والشخصيات من حيث واقعيتها كلما كانت موفقة القصة التي يطرحها الكاتب للمتلقين.
......................................
خامسا- الحبكة: هي طريقة الكاتب الخاصة في تحريك الحوادث والأشخاص، وهو حر في هذا الباب من حيث تحريكه للحوادث؛ من أين يبدأ، وأين ينتهي، بحيث يحقق الفائدة مع المتعة للقارئ، مثل فنان اكتملت صورة اللوحة في ذهنه فكانت أدواته الريشة والألوان، وهذا الدور مختلف من كاتب لآخر، تبرز فيه قدرة القاص، وقابليته على تحريك الأشخاص، والأحداث، في البيئة التي حددها لذلك الصراع؛ بما يحقق عنصر المتابعة، ويفرض على المتلقي التشويق والاهتمام الدقيق؛ وهنا تبرز أهمية الإبداع، والتجديد؛ بعيداً عن المحاكاة والتقليد.
...........................................
سادسا- العقدة: عندما تتشابك الحوادث، ويحتدم الصراع الذي أداره القاص؛ عليه أن يوجه دفته نحو التدرج في حل رموزه، ابتداء من منتصف القصة وصولا للنهاية، مستدرجا القارئ، مسيطرا على أحاسيسه؛ وهنا يختلف الكتاب في تناول موضوع العقدة في القصة باختلاف أفكارهم، ودرجات مهنيتهم في إنضاج قصة فنية تكتمل فيها العناصر والمواصفات، ويكمن وراء تصرف الكاتب في عقدة قصته شدّ القارئ إلى متابعة أحداثها حتى النهاية؛ باحثا عن حل للعقدة التي أوقعه فيها الكاتب، فتضيف عنصراً آخر للقصة يضفي عليها جاذبية يتمسك بها القارئ حتى نهايتها.
....................................
سابعا- الأسلوب: لا يخفى على أحد أنَّ للّغة التي يستخدمها القاص أثراً بالغ الأهمية؛ لأنها المادة التي تربط كل العناصر ببعضها، وهي الوسيلة التي يوصل بها كل جهوده، ومقياس رقي النص، فالمفردات العذبة غير المعقدة، وتوظيف أساليب البلاغة؛ خبراً، وإنشاء، وفنون البيان والبديع، والتفنن في اختيار الرموز أو الأساطير، والقابلية على تفجير المفردة لاستخلاص أكثر من معنى، والإلمام بقواعد النحو والصرف، وأصول الكتابة الصحيحة، ووضع علامات الترقيم في محلاتها المناسبة، مع توظيف الخيال والموسيقا؛ كلها أدواته التي يجب أن يكون بها على دراية وإلمام، وهي تنبع من ثقافته وخبرته بأسرار اللغة وأصولها؛ ذلك لأن الأسلوب الأدبي جواز سفر يدخل النص في قلوب المتلقين دون محطات.
......................................
ثامنا- الخاتمة: تكاد تكون الخاتمة عند بعض النقاد مقياسا للحكم على النص القصصي، وجهد القاص؛ لذا فإن عليه أن يختار النهاية المنسجمة مع فلسفته التي على أساسها أقام بناءه القصصي، وأن يبتعد عن أسلوب المباشرة في رسم النهايات؛ بل عليه أن يشرك القارئ في عملية التفكير والتحليل للخروج من المأزق الذي استدرجه إليه، ونهاية كل قصة محكومة بالفلسفة التي على أساسها أقام الكاتب بناءه القصصي، وحين تأتي بشكل يخدم الفكرة التي اعتمدها؛ يتحقق عندها نجاح ذلك الجهد؛ وهذا الأمر مختلف من كاتب لآخر؛ لكن على القاص ألاّ يخضع لرغبة المتلقي في اختيار النهاية؛ وإن أشركه معه في التحليل والاستنتاج.


مديح الصادق... من كندا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...