أُذيع جزءٌ من لقاءٍ هامشي لميشيل فوكو، مع التلفزيون الهولندي، في خريف 1971، لقاء مُعد بصفته مقدمةً للّقاءِ المركزي (مناظرة فوكو وتشومسكي)؛ بهدف أن يُعرِّف فوكو بـ (ذاته)، وأفكاره. ولأنَّ فعلَ النار -هنا- جزءٌ من تمثلات الخطاب المؤسسي، فلم يبقَ من اللقاءِ إلا جزء بمقدار ربع الساعة، أي أننا أمام لقاءٍ هامشي أكلت النارُ أكثره. إذن لا نملك إلا هامش الهامش.
هذا اللقاء تموضَعَ فيه فوكو بصفته ساخرا؛ إذ بعد أن تحدثَ عمَّا يشغله معرفيا، سأله المُحاور عن حياته الشخصية، فقال فوكو: «إذا كان كل ما قلتُه منذ ما يزيد عن نصف الساعة لا يتعلق بحياتي الشخصية فإني أتساءل: عَمّاذا -إذن- كنتُ أتحدث؟»
هنا تتجلى السخرية من الذات التي تغوّلت منذ ديكارت وحتى سارتر؛ إذ نوع الخطاب الذي يثير فوكو: «هو ذلك الخطاب القادر على هدم كل الأشكال الدائرية والمغلقة والنرجسية للفرد ذاته. وأعني بذلك اندثار الإنسان، واندثار كل أشكال الفردية واللاموضوعية، وحب الذات».
وهذا يُحيلني إلى محمود درويش، ذلك الذي قلتُ إنه شِعر يكتب شاعرا، وذاك الفرق العميق بينه وبين شعراء الذات، كأدونيس مثلا؛ إذ قد وضع كتابا بعنوان (سياسة الشعر) ليقول: «إنَّ كلامَ الشاعر على تجربته يعني الذات والآخر في آن، يعني بتعبير أدق أنه يتخذ من ذاته آخراً، ليس إلا هذه الذات نفسها».
مِن هُنا فإنَّ درويش يدع الشعرَ يُعَرّفه، أما أدونيس فيُعرِّف الشعرَ؛ ومن ثمَّ هو مُساهم في الإقصاء الذي أشار إليه فوكو في لقائه، من أنَّ النظريات العلمية بُنِيَت وحُصِّلت بعد سلسلة من الإقصاءات والرفض والموانع، كان ثمنها نوعا من الفواجع إزاء الواقع.
أدونيس -كنموذج ذاتي- لم تقم ذاته الشاعرية إلا بعد إقصاءات في معاني الشعر، فيأتي مَن يقول مثلا: إنَّ فلانا هو الشاعر العظيم؛ لأنَّ الشعر هو كذا وكذا. والمفارقة أن التعريف -الذي اعتمده المتلقي- للشاعر نفسه. ومثلها في تشكّلات اللاوعي للذائقة الشعرية، المعقودة بالنماذج التاريخية؛ إذ هي ترتبط في الأفق ذاته الذي أنشأ الفاعلية الدينية مع النصوص.
ومن هنا تتشكّل سلطة الشعر، فتقمع وتلغي وترفض معانٍ شعرية، فتأتي الأركيولوجيا المعرفية لتكشف المقموع. والأركيولوجيا المعرفية -بحسب فوكو- تعني الحفر؛ للبحث كيف بُنيت العلوم -مع اختلافها- وما جذورها في اللاوعي، ومظاهرها غير المرئية، التي لم تكن حاضرة -في فترةٍ ما- في أذهان العلماء.
إذن العلوم -على اختلافها- تخضع للقوانين غير الحسية ذاتها، أي أنَّ القوانين -في لاوعي أصحابها- تربط العلوم فيما بينها. ومن ثم تتشكل السلطة والرغبة وموضوعهما الخطاب المهيمن.
لقاء فوكو هذا يربطنا بــ (غورك المجنون) ذلك الذي جاء ذكره في رسالة (عقلاء المجانين) للحسن الضرّاب الذي عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، يقول فوكو في اللقاء: «لم نتمكن من فهم ظاهرة الجنون إلا بعد إخماد صوت المجانين...».
وذلك لأنَّ الذاتَ المتعالية -كما هي في المركزية- لا تعرف إلا من خلال عقلها الذاتي (أنا أفكر إذن أنا موجود)؛ ومن ثمّ فإنها أعطت مَن اختلف عن عقلانيتها، وصفَ الجنون، وأقصته.
ومن هنا جاء النص الذي أوردتُه لأدونيس أعلاه، إذ الذات أنانية ولا تفهم الآخر إلا من خلال مقولات الذات.
أما كيف رَبطنا اللقاء بغورك المجنون؛ فَمِن ثلاثة مسارات، الأول: اسم الكتاب الذي وردت فيه القصة، أي الجمع بين لفظي (عقل وجنون). والجمع هنا يعطينا دلالة على أن التمييز بين العقل والجنون لم يتضح، كتمييز ذاتي مركزي، وفي الآن نفسه، ثمة ذاتٌ تحاول التمييز، أي أنها صنفت المجانين، فمنهم من يقاربون العقلاء! وهذا ما يرجعنا لمقولة فوكو: «كان لابد من الانتظار حتى القرن التاسع عشر كي يصبح الجنون موضوعا للدراسة»
والثاني: أنَّ الزمنَ الذي وقعت فيه الحكاية؛ متزامنٌ مع ما قاله فوكو بأنَّ المجانين في الحضارة الغربية كانوا حاضرين في العروض المسرحية والأدب، وصوتهم مسموع، لكن بداية من القرن السابع عشر عُزل المجانين وحُوصروا.
والثالث: أنَّ حكاية غورك المجنون، فاضحة لكيفية تعريف الذات للجنون؛ إذ الحكاية تقول: «قال موسى بن زياد مررتُ بغورك المجنون يوما، وقد اجتمع عليه الناسُ، وأتوه بطبيبٍ، فوقفتُ عليه وقلتُ: يا أبا محمد، ما خبرك؟ أرى الناس قد اجتمعوا عليك. قال: لقلةِ عقولهم، ولو شَغلوا أنفسهم بغيري لكان أعود عليهم، يظنون أني مجنون، وأنهم يبتغون فيَّ الأجر، كذبوا والله، ما أنا بمجنون، ولكني عاشق. قال: فقلتُ: هل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم، ثم أنشدني:
أتوني بالطبيب يعالجوني/ على أن قيل: مجنون غريبُ.
وما بي جِنّة لكنَّ قلبي/ به داءٌ تموت به القلوبُ».
لدينا في الرواية ثلاثة أمور:
الأول: قوله: (لقلة عقولهم) فغورك -هنا- يصنع خطابا مضادا للعقلانية -كما تفهمها المركزية الذاتية- وذلك باتهام تصورهم الذاتي عنه أنه مجنون.
الثاني: أن غورك تمركز، وقال: (ما أنا بمجنون، أنا عاشق) إلا أنَّ تمركزه عبارة عن صناعةٍ مضادة؛ حيث بفضح طريقة الذات في انغلاقها على تعريفٍ لمنْ هو المجنون.
الثالث: ورود الشعر؛ بصفته دليلا على العقلانية، إذ قال الراوي: (هل قلتَ شيئا) ولم يقل: هل قلتَ شعرا. وكأنَّ القول -هنا- انحصر في معنى واحد، هو الشعر، وهنا تتجلى السلطة في صناعة خطاباتها، وهذا يحيلنا على شعراء الذاتية، حين يأتي شاعر حداثي كأدونيس فيلتمس سَلفا له كأبي تمام.
هذا الامتداد بين أبي تمام وأدونيس هو الواصل بين الذاتية في هذه الرواية التي لم تتضح معالمها كدراسة، وبين الذاتية التي برزت في الفلسفة الغربية، وتأثيراتها. ومن هنا قلتُ إن هذه الحكاية متوازية مع العصور التي ذكرها فوكو.
....
....
أنس الرشيد
مقالة نشرت في جريدة الوطن السعودية، بتاريخ
٢ كانون الأول ٢٠٢١م
هذا اللقاء تموضَعَ فيه فوكو بصفته ساخرا؛ إذ بعد أن تحدثَ عمَّا يشغله معرفيا، سأله المُحاور عن حياته الشخصية، فقال فوكو: «إذا كان كل ما قلتُه منذ ما يزيد عن نصف الساعة لا يتعلق بحياتي الشخصية فإني أتساءل: عَمّاذا -إذن- كنتُ أتحدث؟»
هنا تتجلى السخرية من الذات التي تغوّلت منذ ديكارت وحتى سارتر؛ إذ نوع الخطاب الذي يثير فوكو: «هو ذلك الخطاب القادر على هدم كل الأشكال الدائرية والمغلقة والنرجسية للفرد ذاته. وأعني بذلك اندثار الإنسان، واندثار كل أشكال الفردية واللاموضوعية، وحب الذات».
وهذا يُحيلني إلى محمود درويش، ذلك الذي قلتُ إنه شِعر يكتب شاعرا، وذاك الفرق العميق بينه وبين شعراء الذات، كأدونيس مثلا؛ إذ قد وضع كتابا بعنوان (سياسة الشعر) ليقول: «إنَّ كلامَ الشاعر على تجربته يعني الذات والآخر في آن، يعني بتعبير أدق أنه يتخذ من ذاته آخراً، ليس إلا هذه الذات نفسها».
مِن هُنا فإنَّ درويش يدع الشعرَ يُعَرّفه، أما أدونيس فيُعرِّف الشعرَ؛ ومن ثمَّ هو مُساهم في الإقصاء الذي أشار إليه فوكو في لقائه، من أنَّ النظريات العلمية بُنِيَت وحُصِّلت بعد سلسلة من الإقصاءات والرفض والموانع، كان ثمنها نوعا من الفواجع إزاء الواقع.
أدونيس -كنموذج ذاتي- لم تقم ذاته الشاعرية إلا بعد إقصاءات في معاني الشعر، فيأتي مَن يقول مثلا: إنَّ فلانا هو الشاعر العظيم؛ لأنَّ الشعر هو كذا وكذا. والمفارقة أن التعريف -الذي اعتمده المتلقي- للشاعر نفسه. ومثلها في تشكّلات اللاوعي للذائقة الشعرية، المعقودة بالنماذج التاريخية؛ إذ هي ترتبط في الأفق ذاته الذي أنشأ الفاعلية الدينية مع النصوص.
ومن هنا تتشكّل سلطة الشعر، فتقمع وتلغي وترفض معانٍ شعرية، فتأتي الأركيولوجيا المعرفية لتكشف المقموع. والأركيولوجيا المعرفية -بحسب فوكو- تعني الحفر؛ للبحث كيف بُنيت العلوم -مع اختلافها- وما جذورها في اللاوعي، ومظاهرها غير المرئية، التي لم تكن حاضرة -في فترةٍ ما- في أذهان العلماء.
إذن العلوم -على اختلافها- تخضع للقوانين غير الحسية ذاتها، أي أنَّ القوانين -في لاوعي أصحابها- تربط العلوم فيما بينها. ومن ثم تتشكل السلطة والرغبة وموضوعهما الخطاب المهيمن.
لقاء فوكو هذا يربطنا بــ (غورك المجنون) ذلك الذي جاء ذكره في رسالة (عقلاء المجانين) للحسن الضرّاب الذي عاش في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، يقول فوكو في اللقاء: «لم نتمكن من فهم ظاهرة الجنون إلا بعد إخماد صوت المجانين...».
وذلك لأنَّ الذاتَ المتعالية -كما هي في المركزية- لا تعرف إلا من خلال عقلها الذاتي (أنا أفكر إذن أنا موجود)؛ ومن ثمّ فإنها أعطت مَن اختلف عن عقلانيتها، وصفَ الجنون، وأقصته.
ومن هنا جاء النص الذي أوردتُه لأدونيس أعلاه، إذ الذات أنانية ولا تفهم الآخر إلا من خلال مقولات الذات.
أما كيف رَبطنا اللقاء بغورك المجنون؛ فَمِن ثلاثة مسارات، الأول: اسم الكتاب الذي وردت فيه القصة، أي الجمع بين لفظي (عقل وجنون). والجمع هنا يعطينا دلالة على أن التمييز بين العقل والجنون لم يتضح، كتمييز ذاتي مركزي، وفي الآن نفسه، ثمة ذاتٌ تحاول التمييز، أي أنها صنفت المجانين، فمنهم من يقاربون العقلاء! وهذا ما يرجعنا لمقولة فوكو: «كان لابد من الانتظار حتى القرن التاسع عشر كي يصبح الجنون موضوعا للدراسة»
والثاني: أنَّ الزمنَ الذي وقعت فيه الحكاية؛ متزامنٌ مع ما قاله فوكو بأنَّ المجانين في الحضارة الغربية كانوا حاضرين في العروض المسرحية والأدب، وصوتهم مسموع، لكن بداية من القرن السابع عشر عُزل المجانين وحُوصروا.
والثالث: أنَّ حكاية غورك المجنون، فاضحة لكيفية تعريف الذات للجنون؛ إذ الحكاية تقول: «قال موسى بن زياد مررتُ بغورك المجنون يوما، وقد اجتمع عليه الناسُ، وأتوه بطبيبٍ، فوقفتُ عليه وقلتُ: يا أبا محمد، ما خبرك؟ أرى الناس قد اجتمعوا عليك. قال: لقلةِ عقولهم، ولو شَغلوا أنفسهم بغيري لكان أعود عليهم، يظنون أني مجنون، وأنهم يبتغون فيَّ الأجر، كذبوا والله، ما أنا بمجنون، ولكني عاشق. قال: فقلتُ: هل قلت في ذلك شيئا؟ قال: نعم، ثم أنشدني:
أتوني بالطبيب يعالجوني/ على أن قيل: مجنون غريبُ.
وما بي جِنّة لكنَّ قلبي/ به داءٌ تموت به القلوبُ».
لدينا في الرواية ثلاثة أمور:
الأول: قوله: (لقلة عقولهم) فغورك -هنا- يصنع خطابا مضادا للعقلانية -كما تفهمها المركزية الذاتية- وذلك باتهام تصورهم الذاتي عنه أنه مجنون.
الثاني: أن غورك تمركز، وقال: (ما أنا بمجنون، أنا عاشق) إلا أنَّ تمركزه عبارة عن صناعةٍ مضادة؛ حيث بفضح طريقة الذات في انغلاقها على تعريفٍ لمنْ هو المجنون.
الثالث: ورود الشعر؛ بصفته دليلا على العقلانية، إذ قال الراوي: (هل قلتَ شيئا) ولم يقل: هل قلتَ شعرا. وكأنَّ القول -هنا- انحصر في معنى واحد، هو الشعر، وهنا تتجلى السلطة في صناعة خطاباتها، وهذا يحيلنا على شعراء الذاتية، حين يأتي شاعر حداثي كأدونيس فيلتمس سَلفا له كأبي تمام.
هذا الامتداد بين أبي تمام وأدونيس هو الواصل بين الذاتية في هذه الرواية التي لم تتضح معالمها كدراسة، وبين الذاتية التي برزت في الفلسفة الغربية، وتأثيراتها. ومن هنا قلتُ إن هذه الحكاية متوازية مع العصور التي ذكرها فوكو.
....
....
أنس الرشيد
مقالة نشرت في جريدة الوطن السعودية، بتاريخ
٢ كانون الأول ٢٠٢١م