قد يتساءل القراءُ لماذا خصَّصتُ لهذه المقالة عنوانا الذي هو، في الحقيقة، آية من آيات القرآن الكريم. وبالضبط، إنها الآية رقم 13 من سورة الحجرات. والآية كاملة هي كالتالي : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
اخترتُ هذه الآيةَ كعنوانٍ لهذه المقالة، ليس لتفسيرها أو تأويلها علما أنني لستُ مؤهلا للقيام بهذين التفسير والتَّأويل. لكن، ليس هناك شيءٌ يمنع كلَّ مَن أراد أن يتدبَّرَ آيات القرآن الكريم أن يقومَ بتحليل هذه الآيات ليستنبِطَ منها ما يمكن استنباطُه من دروسٍ وقِيمٍ وأخلاقٍ ومبادئ.
اخترتُها، كعنوان لهذه المقالة لأنني أعتبرها، إلى جانب كلِّ آيات القرآن الكريم، من أعظم وأسمى وأجمل وأرقى وأليق وأفيد ما جاء به كتابُ الله سبحانه وتعالة، المنزَّل على آخر الرسل والأنبياء، محمد (ص). اخترتُها كعنوانٍ لهذه المقالة لأنها آيةٌ تحمل في طياتها قِيماً إنسانيةً سامية.
بعد هذين التَّعليل والتَّوضيح، دعونا نحلِّل هذه الآية الكريمة لنستخرجَ منها القِيمَ الإنسانيةَ الراقية التي أراد اللهُ سبحانه وتعالى أن ينتفعَ بها عبادُه.
أولا وقبل كل شيء، إن هذه الآيةَ موجَّهةٌ من اللهِ، عزّ وجلَّ، للبشرية جمعاء. لماذا؟ لأن اللهَ سبحانه وتعالى، في هذه الآية، أورَد كلمةَ "الناس" بالألف والام، أي أوردها كإسم معرَّف. وهذا هو ما يجعلنا نقول إن اللهَ، في هذه الآية، يخاطب الناسَ جميعا. وهنا، لا بدَّ من التَّذكير ورفعاً لكل التباس، أن كلمة ،"ناس" تشمل الذَّكرَ والأنثى.
ثم إن اللهَ سبحانه وتعالى هو الذي خلق الناسَ جميعا وجعل بينهم اختلافاتٍ في اللغة (الألسُ) وفي لون بشرتهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم، 22).
ما هو مُثيرٌ للانتباه، في هذه الآية الكريمة، هو آخِرُها، أي "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". وكلمة "العالمين" موجودة في عدة آياتٍ قرآنية. معناها العام هو كل ما أوجد اللهُ سبحانه وتعالى من مخلوقات، سواءً كانت تنتمي إلى عالم الأحياء من حيوان ونبات وإنس (بشر) أو إلى عالم الغيب من جِن وملائكة أو جامدة من شمس وقمر وصخر وهواء وسماء وماء… فنقول مثلا عالم الجماد، عالم الحيوان، عالم النبات، عالم الإنسان… غير أنه، عزَّ وجلَّ، في هذه الآية، يُوجِّه كلامَه للبشرَ. في هذه الحالة، "العالمين" هي كلمةٌ تدلَّ على عالم البشر أو عالم يتعايش فيه الناسُ.
ورغم هذا الاختلاف في الألسُن ولون البشرة، فإن اللهَ سبحانه وتعالى أراد ويريد لعباده (للناس)، من خلال ما جاء في الآية رقم 13 من سورة الحجرات، أن يتعايشوا coexistent في مجتمعات يسود فيها الوئام والسلام. والدليل على ذلك أن كلمةَ "ناس" جاءت كما سبق الذكرُ، في الآية الكريمة مُعرَّفة بالألف والام. وهذا دليل آخر على أن كلامَ الله موجَّهٌ لجميع الناس بدون استثناء، أي بغض النظر عن لغاتِهم وألوانِ بشرتهم.
وهذا هو ما نلاحِظه في عالم اليوم إذ لا يوجد بلدٌ واحد يتساكن فيه فقط وحصريا السكَّانُ الأصليون. هناك خليطٌ من الأجناس البشرية، بل هناك إثنياتٌ ethnies يختلف بعضُها عن البعض الآخر لغَةً، ثقافةً، عاداتٍ، عقيدةً ولونَ بشرة… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر، 28).
فحينما يقول، سبحانه وتعالى، في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، دون أن يُشيرَ إلى نسبهم ولا إلى جاههم ولا إلى مكانتهم الاجتماعية، ولا إلى غِناهم…، فإنه يُساوي بين هؤلاء الناس. لكنه يُفضِّل، من بين هؤلاء الناس المتساوين إنسانيا، أولئك الذين هم أشدُّ تقوى، أي أشدُّ خشيةً من الله وامتثالا لأوامره، أي الذين اتَّبعوا ويتَّبعون صراطَه المستقيم.
فأول قيمة إنسانية يمكن استنباطُها من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، هي المساواة l'égalité بين الناس. وهذا يعني أن اختلافَ اللغات ولون البشرة لا يشكِّل، على الإطلاق، عائقا للتَّعايش coexistence داخلَ المجتمعات. واللغة، في هذه الحالة، ليست إلا وسيلة للتواصل ولا يمكن أن تكونَ عائقا في وجه تحقيق التعايش بين الناس لأن اللغةَ يمكن تعليمُها وتعلُّمُها وإيجاد ترجمة لها تسهِّل هذا التعايشَ.
أما لون البشرة، فهو، أولا وقبل كل شيءٍ، نوعٌ من التَّكيُف البيولوجي مع الظروف المناخية للأوساط التي يعيش فيها الإنسانُ، وفي نفس الوقت، لونُ البشرة يخضع لعوامل وراثية تنتقل من الوالدَين للأبناء والبنات. وفضلا عن كل هذه الاعتبارات، فإن الإنسانَ قاذرٌ على التَّأقلم مع جميع أنواع المناخات climats. فالإنسانُ المتعوِّد على العيش في مناخ جاف وحار قادرٌ على العيش في مناخ رطبٍ وبارد… وهكذا. فلماذا لون البشرة لا يشكِّل عائقا في وجه التَّعايش بين الناس؟
لأن الناسَ،أولا، قادرون على التَّأقلم مع جميع أنواع المناخات. ثانيا، وفوق هذا وذاك ورغم اختلاف لون بشرتِهم، أَصلُهم واحدٌ، كما جاء ذلك في الآية الكريمة : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ…"، أي من تزاوج رجل وامرأة. ورجوعا إلى الوراء، سنصل إلى آدم وحواء اللذان هما الأصلُ المشترك بين جميع الناس. وقد أكَّد هذا الأصلَ المشتركَ رسولُ الله (ص) في خطبة الوداع حين قال : "كلُّكم لآدم وآدم من تراب". والملاحظُ في هذا الجزء من الآية الكريمة التي هي عنوان هذه المقالة، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، قال "من ذكرٍ وأنثى" ولم يُعطِ أيَّ وصف لهذين الذكرَ والأنثى. بل لم يقُل شيئا عن عقيدتهما أو نسبِهما أو… وهذا دليل آخر وقاطع يبيِّن بأن اللهَ سبحانه وتعالى يساوي بين الناس سواءً كانوا ذكورا أو إناثا.
والتَّزاوج يُحيلُنا، في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، على كلمة "لتعارفوا" التي وردت في نفس الآية، والتي تختزل كلَّ ما له علاقة بالتَّعايش. والتعايشُ يقتضي أن يعرفَ الناسُ بعضُهم البعضَ الآخرَ. والتَّزاوج واحد من العوامل التي ينبني عليها التَّعايشُ، وبواسطتها، يتعرَّف الناسُ بعضُهم على البعض الآخر.
وإذا كانت المساواة بين الناس واحدةً من القيم التي تنقلها الآية رقم 13 من سورة الحجرات، فحين يقول سبحانه وتعالى: "...وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا…"، فإنه يقصد التعايش داخل المجتمعات، قديمةً كانت أم حديثة. والشعوب والقبائل لا يمكن أن تتجسَّدَ على أرض الواقع إلا من خلال التعايش. وهذا الأخيرُ لا يمكن أن يكونَ له وجودٌ إلا إذا توفَّرت له شروطٌ معينة التي، هي في الحقيقة، قِيَمُ إنسانية تساهم في تعزيز وترسيخ هذا التعايش.
من بين هذه القيم، أذكر وألحُّ على قيمة "قبول الآخر" accepter l'autre. فهل هناك تعايشٌ في المجتمعات إذا لم يقبل الناسُ بعضُهم البعضَ الآخرَ. وقبول الآخر يعني قبول الاختلاف. وقبول الاختلاف يعني الاختلاف في لون البشرة، في الرأي، في العقيدة، في العادات، في الثقافة… وقبول الآخر هو ما يُصطَلح عليه بالتسامح la tolérance.
والتسامحُ ليس هو القيمة الإنسانية الوحيدة التي تُتيحُ التعايشَ بين الناس. هناك كذلك العدلُ la justice بالمعنى الإنساني وليس بالمعنى القانوني. العدل هو أن يكونَ الناسُ متساوين في الحقوق والواجبات وأن يكونوا متساوين أمام القانون مصداقا لقوله له سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل، 90).
والتعايش داخلَ المجتمعات يتطلَّب كذلك وجود قيمة إنسانية أخرى تتمثَّل في الإنصاف l'équité. والإنصافُ ليس هو المساواة وليس هو العدل. الإنصافُ هو أن ينالَ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه. فإذا عمَّ العدلُ بين الناس ونالوا ما يستحقونه من حقوق، فهذا يعني صونَ كرامتهم.
يُضاف إلى كل هذه القيم الإنسانية التي، بدونها، ليس هناك تعايشٌ بين الناس، قيمٌ كثيرة، أذكرُ من بينها، على الخصوص، الاستقامة l'intégrité والنزاهة la probité… فهل هناك وجودٌ للمعاملات بين الناس في المجتمعات في غياب هاتين القيمتين؟
إن هذه الآية الكريمة، التي هي عنوانُ هذه المقالة، تحتضن بين سطورِها قِيما إنسانيةً سامية هي أساسُ التعايش بين الناس. وهذه القِيم الإنسانية السامية هي : المساواة، قبول الآخر أي التسامح، العدل، الإنصاف، الاستقامة والنزاهة… إضافةً إلى قِيمٍ أخرى، منها مثلا الاحترام المتبادل respect mutuel، حسن الخُلق bonne conduite، التواضع modestie، الإيثار altruisme، التعاون entraide، الصدق honnêteté، الإخلاص loyauté، التعاطف empathie، التضامن solidarité…
إن كلامَ الله، في قرآنه الكريم، غنيٌّ بهذا النوع من القيم. لكن الوصولَ إلى هذه القيم يتطلَّب من قارئ هذا القرآن أن يتدبَّرَ آياته ليُدركَ ما تحملُه بين طيَّاتها من نُبل وسموِّ القيم والأخلاق.
وما يثيرُ الانتباهَ، هو أن كلَّ هذه القيم مختزلةُ في كلمة "لتعارفوا" التي لا تعني فقط تعارفَ الناس بعضُهم على البعض الآخر. بل تعني كذلك ما تمَّ الاتفاقُ عليه اجتماعيا من أمورٍ تُيسِّر السَّيرَ العادي والعادل لأحوال الدنيا.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن اللهَ يريد الخير لعباده (للناس). وحتى ينعموا بهذا الخير، دعاهم أن يتدبَّروا آياتِ قرآنه الكريم ويتَّبعوا ما تبيِّنه لهم من أقوالٍ وسُبُلٍ تقود إلى التعايش والتساكن الطيِّبين في الجتمعات، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر، 18).
اخترتُ هذه الآيةَ كعنوانٍ لهذه المقالة، ليس لتفسيرها أو تأويلها علما أنني لستُ مؤهلا للقيام بهذين التفسير والتَّأويل. لكن، ليس هناك شيءٌ يمنع كلَّ مَن أراد أن يتدبَّرَ آيات القرآن الكريم أن يقومَ بتحليل هذه الآيات ليستنبِطَ منها ما يمكن استنباطُه من دروسٍ وقِيمٍ وأخلاقٍ ومبادئ.
اخترتُها، كعنوان لهذه المقالة لأنني أعتبرها، إلى جانب كلِّ آيات القرآن الكريم، من أعظم وأسمى وأجمل وأرقى وأليق وأفيد ما جاء به كتابُ الله سبحانه وتعالة، المنزَّل على آخر الرسل والأنبياء، محمد (ص). اخترتُها كعنوانٍ لهذه المقالة لأنها آيةٌ تحمل في طياتها قِيماً إنسانيةً سامية.
بعد هذين التَّعليل والتَّوضيح، دعونا نحلِّل هذه الآية الكريمة لنستخرجَ منها القِيمَ الإنسانيةَ الراقية التي أراد اللهُ سبحانه وتعالى أن ينتفعَ بها عبادُه.
أولا وقبل كل شيء، إن هذه الآيةَ موجَّهةٌ من اللهِ، عزّ وجلَّ، للبشرية جمعاء. لماذا؟ لأن اللهَ سبحانه وتعالى، في هذه الآية، أورَد كلمةَ "الناس" بالألف والام، أي أوردها كإسم معرَّف. وهذا هو ما يجعلنا نقول إن اللهَ، في هذه الآية، يخاطب الناسَ جميعا. وهنا، لا بدَّ من التَّذكير ورفعاً لكل التباس، أن كلمة ،"ناس" تشمل الذَّكرَ والأنثى.
ثم إن اللهَ سبحانه وتعالى هو الذي خلق الناسَ جميعا وجعل بينهم اختلافاتٍ في اللغة (الألسُ) وفي لون بشرتهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم، 22).
ما هو مُثيرٌ للانتباه، في هذه الآية الكريمة، هو آخِرُها، أي "إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ". وكلمة "العالمين" موجودة في عدة آياتٍ قرآنية. معناها العام هو كل ما أوجد اللهُ سبحانه وتعالى من مخلوقات، سواءً كانت تنتمي إلى عالم الأحياء من حيوان ونبات وإنس (بشر) أو إلى عالم الغيب من جِن وملائكة أو جامدة من شمس وقمر وصخر وهواء وسماء وماء… فنقول مثلا عالم الجماد، عالم الحيوان، عالم النبات، عالم الإنسان… غير أنه، عزَّ وجلَّ، في هذه الآية، يُوجِّه كلامَه للبشرَ. في هذه الحالة، "العالمين" هي كلمةٌ تدلَّ على عالم البشر أو عالم يتعايش فيه الناسُ.
ورغم هذا الاختلاف في الألسُن ولون البشرة، فإن اللهَ سبحانه وتعالى أراد ويريد لعباده (للناس)، من خلال ما جاء في الآية رقم 13 من سورة الحجرات، أن يتعايشوا coexistent في مجتمعات يسود فيها الوئام والسلام. والدليل على ذلك أن كلمةَ "ناس" جاءت كما سبق الذكرُ، في الآية الكريمة مُعرَّفة بالألف والام. وهذا دليل آخر على أن كلامَ الله موجَّهٌ لجميع الناس بدون استثناء، أي بغض النظر عن لغاتِهم وألوانِ بشرتهم.
وهذا هو ما نلاحِظه في عالم اليوم إذ لا يوجد بلدٌ واحد يتساكن فيه فقط وحصريا السكَّانُ الأصليون. هناك خليطٌ من الأجناس البشرية، بل هناك إثنياتٌ ethnies يختلف بعضُها عن البعض الآخر لغَةً، ثقافةً، عاداتٍ، عقيدةً ولونَ بشرة… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَٰلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر، 28).
فحينما يقول، سبحانه وتعالى، في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، دون أن يُشيرَ إلى نسبهم ولا إلى جاههم ولا إلى مكانتهم الاجتماعية، ولا إلى غِناهم…، فإنه يُساوي بين هؤلاء الناس. لكنه يُفضِّل، من بين هؤلاء الناس المتساوين إنسانيا، أولئك الذين هم أشدُّ تقوى، أي أشدُّ خشيةً من الله وامتثالا لأوامره، أي الذين اتَّبعوا ويتَّبعون صراطَه المستقيم.
فأول قيمة إنسانية يمكن استنباطُها من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، هي المساواة l'égalité بين الناس. وهذا يعني أن اختلافَ اللغات ولون البشرة لا يشكِّل، على الإطلاق، عائقا للتَّعايش coexistence داخلَ المجتمعات. واللغة، في هذه الحالة، ليست إلا وسيلة للتواصل ولا يمكن أن تكونَ عائقا في وجه تحقيق التعايش بين الناس لأن اللغةَ يمكن تعليمُها وتعلُّمُها وإيجاد ترجمة لها تسهِّل هذا التعايشَ.
أما لون البشرة، فهو، أولا وقبل كل شيءٍ، نوعٌ من التَّكيُف البيولوجي مع الظروف المناخية للأوساط التي يعيش فيها الإنسانُ، وفي نفس الوقت، لونُ البشرة يخضع لعوامل وراثية تنتقل من الوالدَين للأبناء والبنات. وفضلا عن كل هذه الاعتبارات، فإن الإنسانَ قاذرٌ على التَّأقلم مع جميع أنواع المناخات climats. فالإنسانُ المتعوِّد على العيش في مناخ جاف وحار قادرٌ على العيش في مناخ رطبٍ وبارد… وهكذا. فلماذا لون البشرة لا يشكِّل عائقا في وجه التَّعايش بين الناس؟
لأن الناسَ،أولا، قادرون على التَّأقلم مع جميع أنواع المناخات. ثانيا، وفوق هذا وذاك ورغم اختلاف لون بشرتِهم، أَصلُهم واحدٌ، كما جاء ذلك في الآية الكريمة : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ…"، أي من تزاوج رجل وامرأة. ورجوعا إلى الوراء، سنصل إلى آدم وحواء اللذان هما الأصلُ المشترك بين جميع الناس. وقد أكَّد هذا الأصلَ المشتركَ رسولُ الله (ص) في خطبة الوداع حين قال : "كلُّكم لآدم وآدم من تراب". والملاحظُ في هذا الجزء من الآية الكريمة التي هي عنوان هذه المقالة، أن اللهَ، سبحانه وتعالى، قال "من ذكرٍ وأنثى" ولم يُعطِ أيَّ وصف لهذين الذكرَ والأنثى. بل لم يقُل شيئا عن عقيدتهما أو نسبِهما أو… وهذا دليل آخر وقاطع يبيِّن بأن اللهَ سبحانه وتعالى يساوي بين الناس سواءً كانوا ذكورا أو إناثا.
والتَّزاوج يُحيلُنا، في الآية التي هي عنوان هذه المقالة، على كلمة "لتعارفوا" التي وردت في نفس الآية، والتي تختزل كلَّ ما له علاقة بالتَّعايش. والتعايشُ يقتضي أن يعرفَ الناسُ بعضُهم البعضَ الآخرَ. والتَّزاوج واحد من العوامل التي ينبني عليها التَّعايشُ، وبواسطتها، يتعرَّف الناسُ بعضُهم على البعض الآخر.
وإذا كانت المساواة بين الناس واحدةً من القيم التي تنقلها الآية رقم 13 من سورة الحجرات، فحين يقول سبحانه وتعالى: "...وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِل لِتَعَارَفُوا…"، فإنه يقصد التعايش داخل المجتمعات، قديمةً كانت أم حديثة. والشعوب والقبائل لا يمكن أن تتجسَّدَ على أرض الواقع إلا من خلال التعايش. وهذا الأخيرُ لا يمكن أن يكونَ له وجودٌ إلا إذا توفَّرت له شروطٌ معينة التي، هي في الحقيقة، قِيَمُ إنسانية تساهم في تعزيز وترسيخ هذا التعايش.
من بين هذه القيم، أذكر وألحُّ على قيمة "قبول الآخر" accepter l'autre. فهل هناك تعايشٌ في المجتمعات إذا لم يقبل الناسُ بعضُهم البعضَ الآخرَ. وقبول الآخر يعني قبول الاختلاف. وقبول الاختلاف يعني الاختلاف في لون البشرة، في الرأي، في العقيدة، في العادات، في الثقافة… وقبول الآخر هو ما يُصطَلح عليه بالتسامح la tolérance.
والتسامحُ ليس هو القيمة الإنسانية الوحيدة التي تُتيحُ التعايشَ بين الناس. هناك كذلك العدلُ la justice بالمعنى الإنساني وليس بالمعنى القانوني. العدل هو أن يكونَ الناسُ متساوين في الحقوق والواجبات وأن يكونوا متساوين أمام القانون مصداقا لقوله له سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (النحل، 90).
والتعايش داخلَ المجتمعات يتطلَّب كذلك وجود قيمة إنسانية أخرى تتمثَّل في الإنصاف l'équité. والإنصافُ ليس هو المساواة وليس هو العدل. الإنصافُ هو أن ينالَ كلُّ ذي حقٍّ حقَّه. فإذا عمَّ العدلُ بين الناس ونالوا ما يستحقونه من حقوق، فهذا يعني صونَ كرامتهم.
يُضاف إلى كل هذه القيم الإنسانية التي، بدونها، ليس هناك تعايشٌ بين الناس، قيمٌ كثيرة، أذكرُ من بينها، على الخصوص، الاستقامة l'intégrité والنزاهة la probité… فهل هناك وجودٌ للمعاملات بين الناس في المجتمعات في غياب هاتين القيمتين؟
إن هذه الآية الكريمة، التي هي عنوانُ هذه المقالة، تحتضن بين سطورِها قِيما إنسانيةً سامية هي أساسُ التعايش بين الناس. وهذه القِيم الإنسانية السامية هي : المساواة، قبول الآخر أي التسامح، العدل، الإنصاف، الاستقامة والنزاهة… إضافةً إلى قِيمٍ أخرى، منها مثلا الاحترام المتبادل respect mutuel، حسن الخُلق bonne conduite، التواضع modestie، الإيثار altruisme، التعاون entraide، الصدق honnêteté، الإخلاص loyauté، التعاطف empathie، التضامن solidarité…
إن كلامَ الله، في قرآنه الكريم، غنيٌّ بهذا النوع من القيم. لكن الوصولَ إلى هذه القيم يتطلَّب من قارئ هذا القرآن أن يتدبَّرَ آياته ليُدركَ ما تحملُه بين طيَّاتها من نُبل وسموِّ القيم والأخلاق.
وما يثيرُ الانتباهَ، هو أن كلَّ هذه القيم مختزلةُ في كلمة "لتعارفوا" التي لا تعني فقط تعارفَ الناس بعضُهم على البعض الآخر. بل تعني كذلك ما تمَّ الاتفاقُ عليه اجتماعيا من أمورٍ تُيسِّر السَّيرَ العادي والعادل لأحوال الدنيا.
ما أختم به هذه المقالة، هو أن اللهَ يريد الخير لعباده (للناس). وحتى ينعموا بهذا الخير، دعاهم أن يتدبَّروا آياتِ قرآنه الكريم ويتَّبعوا ما تبيِّنه لهم من أقوالٍ وسُبُلٍ تقود إلى التعايش والتساكن الطيِّبين في الجتمعات، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَـٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (الزمر، 18).