هذه ألجُملة "وعملوا الصالحات" واردةٌ بكثرة في آيات القرآن الكريم. وفيما يلي، هذه بعض الآيات الكريمة التي تتضمَّن جملةَ "وعملوا الصالحات" :
1.الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (الرعد، 29)
2.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف، 30)
3.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـٰنُ وُدًّا (مريم، 96)
4.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البينة، 7).
ورغم وُرودِ هذه الجملة بكثرة في آيات القرآن الكريم، قليلون هم الناس الذين يتوقّفون عندها لاستجلاء ما تحملُه من معاني. لماذا؟ لأن قراءةَ القرآن شيءٌ وتدبُّر آياته شيء آخر. والتدبُّرُ هو الوقوف عند الأمور وتقلِيبُها على مهل، بتفكُّر وتبصُّر للغوص في عمقها سعيا إلى إدراك ما تنقله من معاني وحِكَم وقيم ومبادئ.
وحتى يتمُّ هذا الاستجلاءُ والتَّدبر، دعونا نتعرَّف على معنى فعل "عمِلَ" ثمَّ على معنى كلمة "صالحات".
أولا، فعلُ "عمِلَ" يعني القيام بفِعلٍ من الأفعال أو بعملٍ من الأعمال أو بأمرٍ من الأمور أو بنشاطٍ من الأنشطة. وهذه الأفعال أو الأعمال أو الأمور أو الانشطة يمكن أن تكونَ مادية، أي ملموسة. كما يمكن أن تكونَ معنوية، أي تتمَّ على مستوى الفكر.
ثانيا، فعلُ "عَمِلَ" له مرادفاتٌ كثيرة. وحسب المعنى الذي جاء في الآيات الواردة في القرآن الكريم والتي تتضمَّن جملةَ "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، فإن هذه المرادفات هي : فعلَ، أتمَّ، أقبلَ على، أنجز، اهتمَّ، تعاطى، سعى، صنع، قام ب، مارس…وكل هذه المرادفات تدلُّ على القيام بعملٍ ما. لكن اللهَ، سبحانه وتعالى، استعملَ فعلَ "عمِلَ"، فقط، في آياته الكريمة المرتبطة ب"العمل الصالح". لماذا؟
أولا، لأن فعلَ "عَمِلَ" فعلٌ بسيطٌ ومعروف لدى شريحة عريضة من الناس. ثانيا، ترجمتُه إلى اللغات الأخرى سهلة. ثالثا، وهذا هو الأهم، وكما سبق أن وضَّحتُ ذلك في مقالة سابقة، القرآن الكريم ليس فيه مرادفات. لماذا؟ لأن كلام الله كلامٌ مطلق، أي غير قابل للنقد والنقاش والأخذ والرد… فلا يجوز أن تكونَ فيه كلماتٌ، أي المرادفات، نِسْبِيَةُ المعنى.
وفيما يخصُّ كلمة "صالحات"، ما تجب إثارةُ الانتباه إليه، هو أن الصالحات، لغويا، هي ضد الفساد. والفساد يتجلَّى في كل الأعمال الناتجة عن غياب الضمير والمسئولية والنزاهة والاستقامة… والأعمال الصالحة والفساد ظاهرتان اجتماعيتان رافقت الإنسانَ منذ وجوده على سطح الأرض.
و"صالحات"، مُفردُها "صالحةٌ" ولها علاقة وطيدة ب"صَالِح". والصالِح هو العمل الطيب أو العمل الحسن أو العمل المُستحبُّ أو العمل المرغوب فيه أو العمل النافع…، أي المقبول اجتماعيا وأخلاقيا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل، 97).
في هذه الآية وفي الآيات التي تتضمَّن "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، الله سبحانه وتعالى ربط العملَ الصالحَ بالإيمان. والإيمان ليس هو الإفراط في التَّديُّن. الإيمان، إن لم يحث صاحبَه على القيام بالأعمال (الصالحة) الدنيوية تحت رقابة الضمير والمسؤولية والنزاهة والاستقامة وكل القيم الإنسانية السامية، فهو ليس إيمانا، بل نفاقا يتسبَّبُ في تصدُّع تعايش الناس في المجتمعات.
وأكثر من هذا وذاك، في هذه الآية الكريمة، أي الآية رقم 97 من سورة النحل، الله، سبحانه وتعالى، يقول "مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ"، أي أنه، فيما يخص الأعمال الصالحة، لا يفرِّق بين الرجل والمرأة. وهذا دليللٌ قاطعٌ بأنه يُساوي بينهما.
أما الملاحظة التي لا يجب أن تغيبَ عن المتمعِّن الذي يتدبَّر آيات القرآن الكريم، هي أن فعلَ "عَمِلوا" يوجد في الآيات المتضمِّنة ل"وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، على صيغة الفعل الماضي. فهل هذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى يتحدَّث فقط عن الصالحات التي قام بها الناسُ الذين عاشوا في الماضي بينما الأعمال الصالحة وضدُّها، الفساد، كما سبق الذكرُ، مصاحبةٌ للبشر، منذ أن خلقهم اللهُ إلى يومنا هذا؟ لا أبدا! لماذا؟
لأن القرآنَ الكريم نزل على محمد (ص) بلغة العرب. وهذا دليلٌ على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، محيطٌ إحاطةً شاملةً بلغة العرب أكثر من العرب أنفسهم. وهو الذي يعرف خباياها ودُررها ومزاياها… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق، 12).
من بين هذه المزايا، تجدر الإشارةُ إلى أن المتضلِّعين، من قدماء العرب، في البيان والفصاحة وفي البلاغة، يُعبِّرون بالفعل الماضي عن المستقبل وبالفعل المضارع عن الماضي. وكون القرآن الكريم رسالة من الرسالات السماوية، فتبليغُه لمَن يهمُّهم الأمر، يجب أن يكونَ بلغتِهم، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (مريم، 97).
وهذا هو ما حدثَ في القرآن الكريم حيث أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لما قال "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، فالمقصود هو أن العملَ الصالحَ مرغوبٌ فيه في كل زمان ومكان ولا يجب أن يتوقَّفَ ما دام الإنسانُ مطالبا بأن يُعمِّرَ الأرضَ إلى يوم يُبعثون.
وخيرُ مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، قولُه، عزَّ وجلَّ : "وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل، 87). "فَفَزِعَ" فعل ماضٍ والساعة، أي يوم القيامة، وُقوعُها يحدث في المستقبل. فهل من المنطقي أن يفزِعََ الناسُ قبل وقوع يوم القيامة؟
لكن الله، سبحانه وتعالى، في آيات أخرى، استعمل فعل "عَمِلَ" في صيغة المضارع، والفعل المضارع، كما هو معروفٌ ومألوفٌ، يعبِّر عن شيءٍ يحدث في الحاضر وكذلك في المستقبل. من بين هذه الآيات، أذكر :
1.وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء، 124)
2.إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (الإسراء، 9)
3.يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التغابن، 9).
في هذه الآيات الثلاثة، فعل "عَمِلَ" مُصاغٌ بصيغة المضارع. وهذا دليل على أن العمل الصالح لا يتوقف ويجب أن لا يتوقَّفَ في كل زمان ومكان. كما أن اللهَ سبحانه وتعالى ربط، في الآيات الثلاثة، العملَ الصالحَ بالإيمان. وهذا يعني أن العملَ الصالحَ له قيمة عالية عند الله إذا اقترن بالإيمان. فيكون صادرا عن حسن نية، وبالتالي، يُجازى عليه صاحبُه أحسن الجزاء.
وما تجدر الإشارةُ إليه، سواءً تعلق الأمرُ بالآيات المُصاغُ فيها فعلُ "عَمِلَ" في الماضي أو بالآيات المصاغُ فيها فعلُ "عَمِلَ" في المضارع، هو أن كلمةَ "صالحات" لها معنى واسع، أي أنها تشمل كل الأعمال الصالحة التي، بأمر من الله، الإنسان مطالبٌ أن يقومَ بها طيلةَ حياته.
وهذه ميزةٌ أو حِكمة أراد اللهُ سبحانه وتعالى أن يتميَّز كتابُه العظيم، القرآن الكريم. وهذه الحِكمة تتجلَّى في كون عدد هائل من كلمات هذا القرآن هي عبارة عن أجناس genres يمكن أن تندرجَ فيها كثير من الأشياء تتقاسم صفاتٍ مشتركةً أو متشابهةً. مثلا الشجر، النحل، النخل، النبات، الخير، الشر، الذنب، الفاكهة…
والحِكمة من استعمال مثل هذه الكلمات (الأجناس)، هي أن يكونَ كلام الله، في قرآنه المجيد، صالحا لكل زمان ومكان. و"الصالحات" تدخل في هذا النطاق. ولهذا، قلتُ الأعمال الصالحة لا يجب أن تتوقَّفَ عبر الزمان والمكان.
وما دامت الأعمالُ الصالحة مطلوبة من الإنسان، في كل زمان ومكان، فما هي هذه الأعمال الصالِحة، المادية والمعنوية، التي، من المفروض، أن يقوم بها هذا الإنسانُ طيلةَ حياته؟
خارجَ العبادات، تتجلى هذه الأعمال في كل ما فيه خيرٌ للبلاد والعباد، أي كل ما يُسعِد الناس ويحمي البلادَ ليجعلَ منها وسطا يطيب فيه العيشُ. فيما يخص العبادَ، العمل الصالح يتمثَّل في توفير كل الشروط الضامنة لتعايشٍ سيمتُه الأساسية الوئام والسلام. فيما يخصُّ البلادَ، العمل الصالح هو توفير كل الشروط الضامنة لإحداث توازنٍ بين ما هو طبيعي وبين ما هو من صُنع الأنسان، أي دون الإضرار بكل ما من شأنه أن يُعرقلَ استمرارَ الحياة بجميع أنواعها.
وعندما أقول "خارج العبادات"، يجب أن لا يُفهمَ من كلامي أن العبادات ليست من الأعمال الصالحة. لا أبدا! الأعمال الصالحة هي قمَّة الصالحات. لكنها مفروضة على المسلم المؤمن. والهدف منها هو التَّقرُّب من الله. لكن التَّقرُّبَ من الله يبقى غير مكتمل بدون الأعمال الصالحة الدنيوية.
لكن وبكل أسف، ما نلاحظه ونشاهده اليوم، وفي جميع أنحاء العالم، هو طُغيان الفساد على العمل الصالح، وفي كل المجالات بدون استثناء.
وحتى الدين أصابه الفسادُ. وأكبر مُفسِدي الدين هم السلفيون المتطرِّفون الذين، عوض أن يكونَ القرآن الكريم نبراسَهم وموجِّهَهم في الدنيا، أصبحوا يعبدون البخاري وأمثالَه، إلى درجة أنهم جعلوا جزأً كبيرا من السُّنة متعارضا مع كلام الله في كتابه المجيد. إن هؤلاء السلفيين بعيدون كل البُعد عن الأعمال الصالحة، ظانين أن تطويلَ اللِّحية وارتداء العمائم أو الطرابيش، بمختلف ألوانها وأشكالها، هي أعمالٌ صالحة. فمن هو السلفي الذي، إلى جانب ما يُسمِّيه هو علما، ساهم في تقدُّم بلاده اجتماعيا، اقتصاديا، علميا (بالمعنى الواسع)، تكنولوجياً…؟ لا شيءَ من هذا حصل! ما حصل هو زرع الفتنة والتَّفرقة!
1.الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (الرعد، 29)
2.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (الكهف، 30)
3.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَـٰنُ وُدًّا (مريم، 96)
4.إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَـٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البينة، 7).
ورغم وُرودِ هذه الجملة بكثرة في آيات القرآن الكريم، قليلون هم الناس الذين يتوقّفون عندها لاستجلاء ما تحملُه من معاني. لماذا؟ لأن قراءةَ القرآن شيءٌ وتدبُّر آياته شيء آخر. والتدبُّرُ هو الوقوف عند الأمور وتقلِيبُها على مهل، بتفكُّر وتبصُّر للغوص في عمقها سعيا إلى إدراك ما تنقله من معاني وحِكَم وقيم ومبادئ.
وحتى يتمُّ هذا الاستجلاءُ والتَّدبر، دعونا نتعرَّف على معنى فعل "عمِلَ" ثمَّ على معنى كلمة "صالحات".
أولا، فعلُ "عمِلَ" يعني القيام بفِعلٍ من الأفعال أو بعملٍ من الأعمال أو بأمرٍ من الأمور أو بنشاطٍ من الأنشطة. وهذه الأفعال أو الأعمال أو الأمور أو الانشطة يمكن أن تكونَ مادية، أي ملموسة. كما يمكن أن تكونَ معنوية، أي تتمَّ على مستوى الفكر.
ثانيا، فعلُ "عَمِلَ" له مرادفاتٌ كثيرة. وحسب المعنى الذي جاء في الآيات الواردة في القرآن الكريم والتي تتضمَّن جملةَ "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، فإن هذه المرادفات هي : فعلَ، أتمَّ، أقبلَ على، أنجز، اهتمَّ، تعاطى، سعى، صنع، قام ب، مارس…وكل هذه المرادفات تدلُّ على القيام بعملٍ ما. لكن اللهَ، سبحانه وتعالى، استعملَ فعلَ "عمِلَ"، فقط، في آياته الكريمة المرتبطة ب"العمل الصالح". لماذا؟
أولا، لأن فعلَ "عَمِلَ" فعلٌ بسيطٌ ومعروف لدى شريحة عريضة من الناس. ثانيا، ترجمتُه إلى اللغات الأخرى سهلة. ثالثا، وهذا هو الأهم، وكما سبق أن وضَّحتُ ذلك في مقالة سابقة، القرآن الكريم ليس فيه مرادفات. لماذا؟ لأن كلام الله كلامٌ مطلق، أي غير قابل للنقد والنقاش والأخذ والرد… فلا يجوز أن تكونَ فيه كلماتٌ، أي المرادفات، نِسْبِيَةُ المعنى.
وفيما يخصُّ كلمة "صالحات"، ما تجب إثارةُ الانتباه إليه، هو أن الصالحات، لغويا، هي ضد الفساد. والفساد يتجلَّى في كل الأعمال الناتجة عن غياب الضمير والمسئولية والنزاهة والاستقامة… والأعمال الصالحة والفساد ظاهرتان اجتماعيتان رافقت الإنسانَ منذ وجوده على سطح الأرض.
و"صالحات"، مُفردُها "صالحةٌ" ولها علاقة وطيدة ب"صَالِح". والصالِح هو العمل الطيب أو العمل الحسن أو العمل المُستحبُّ أو العمل المرغوب فيه أو العمل النافع…، أي المقبول اجتماعيا وأخلاقيا مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (النحل، 97).
في هذه الآية وفي الآيات التي تتضمَّن "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، الله سبحانه وتعالى ربط العملَ الصالحَ بالإيمان. والإيمان ليس هو الإفراط في التَّديُّن. الإيمان، إن لم يحث صاحبَه على القيام بالأعمال (الصالحة) الدنيوية تحت رقابة الضمير والمسؤولية والنزاهة والاستقامة وكل القيم الإنسانية السامية، فهو ليس إيمانا، بل نفاقا يتسبَّبُ في تصدُّع تعايش الناس في المجتمعات.
وأكثر من هذا وذاك، في هذه الآية الكريمة، أي الآية رقم 97 من سورة النحل، الله، سبحانه وتعالى، يقول "مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ"، أي أنه، فيما يخص الأعمال الصالحة، لا يفرِّق بين الرجل والمرأة. وهذا دليللٌ قاطعٌ بأنه يُساوي بينهما.
أما الملاحظة التي لا يجب أن تغيبَ عن المتمعِّن الذي يتدبَّر آيات القرآن الكريم، هي أن فعلَ "عَمِلوا" يوجد في الآيات المتضمِّنة ل"وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، على صيغة الفعل الماضي. فهل هذا يعني أن اللهَ سبحانه وتعالى يتحدَّث فقط عن الصالحات التي قام بها الناسُ الذين عاشوا في الماضي بينما الأعمال الصالحة وضدُّها، الفساد، كما سبق الذكرُ، مصاحبةٌ للبشر، منذ أن خلقهم اللهُ إلى يومنا هذا؟ لا أبدا! لماذا؟
لأن القرآنَ الكريم نزل على محمد (ص) بلغة العرب. وهذا دليلٌ على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، محيطٌ إحاطةً شاملةً بلغة العرب أكثر من العرب أنفسهم. وهو الذي يعرف خباياها ودُررها ومزاياها… مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: "...وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (الطلاق، 12).
من بين هذه المزايا، تجدر الإشارةُ إلى أن المتضلِّعين، من قدماء العرب، في البيان والفصاحة وفي البلاغة، يُعبِّرون بالفعل الماضي عن المستقبل وبالفعل المضارع عن الماضي. وكون القرآن الكريم رسالة من الرسالات السماوية، فتبليغُه لمَن يهمُّهم الأمر، يجب أن يكونَ بلغتِهم، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (مريم، 97).
وهذا هو ما حدثَ في القرآن الكريم حيث أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لما قال "وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ"، فالمقصود هو أن العملَ الصالحَ مرغوبٌ فيه في كل زمان ومكان ولا يجب أن يتوقَّفَ ما دام الإنسانُ مطالبا بأن يُعمِّرَ الأرضَ إلى يوم يُبعثون.
وخيرُ مثالٍ يمكن سياقُه في هذا الصدد، قولُه، عزَّ وجلَّ : "وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (النمل، 87). "فَفَزِعَ" فعل ماضٍ والساعة، أي يوم القيامة، وُقوعُها يحدث في المستقبل. فهل من المنطقي أن يفزِعََ الناسُ قبل وقوع يوم القيامة؟
لكن الله، سبحانه وتعالى، في آيات أخرى، استعمل فعل "عَمِلَ" في صيغة المضارع، والفعل المضارع، كما هو معروفٌ ومألوفٌ، يعبِّر عن شيءٍ يحدث في الحاضر وكذلك في المستقبل. من بين هذه الآيات، أذكر :
1.وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (النساء، 124)
2.إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (الإسراء، 9)
3.يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَٰلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (التغابن، 9).
في هذه الآيات الثلاثة، فعل "عَمِلَ" مُصاغٌ بصيغة المضارع. وهذا دليل على أن العمل الصالح لا يتوقف ويجب أن لا يتوقَّفَ في كل زمان ومكان. كما أن اللهَ سبحانه وتعالى ربط، في الآيات الثلاثة، العملَ الصالحَ بالإيمان. وهذا يعني أن العملَ الصالحَ له قيمة عالية عند الله إذا اقترن بالإيمان. فيكون صادرا عن حسن نية، وبالتالي، يُجازى عليه صاحبُه أحسن الجزاء.
وما تجدر الإشارةُ إليه، سواءً تعلق الأمرُ بالآيات المُصاغُ فيها فعلُ "عَمِلَ" في الماضي أو بالآيات المصاغُ فيها فعلُ "عَمِلَ" في المضارع، هو أن كلمةَ "صالحات" لها معنى واسع، أي أنها تشمل كل الأعمال الصالحة التي، بأمر من الله، الإنسان مطالبٌ أن يقومَ بها طيلةَ حياته.
وهذه ميزةٌ أو حِكمة أراد اللهُ سبحانه وتعالى أن يتميَّز كتابُه العظيم، القرآن الكريم. وهذه الحِكمة تتجلَّى في كون عدد هائل من كلمات هذا القرآن هي عبارة عن أجناس genres يمكن أن تندرجَ فيها كثير من الأشياء تتقاسم صفاتٍ مشتركةً أو متشابهةً. مثلا الشجر، النحل، النخل، النبات، الخير، الشر، الذنب، الفاكهة…
والحِكمة من استعمال مثل هذه الكلمات (الأجناس)، هي أن يكونَ كلام الله، في قرآنه المجيد، صالحا لكل زمان ومكان. و"الصالحات" تدخل في هذا النطاق. ولهذا، قلتُ الأعمال الصالحة لا يجب أن تتوقَّفَ عبر الزمان والمكان.
وما دامت الأعمالُ الصالحة مطلوبة من الإنسان، في كل زمان ومكان، فما هي هذه الأعمال الصالِحة، المادية والمعنوية، التي، من المفروض، أن يقوم بها هذا الإنسانُ طيلةَ حياته؟
خارجَ العبادات، تتجلى هذه الأعمال في كل ما فيه خيرٌ للبلاد والعباد، أي كل ما يُسعِد الناس ويحمي البلادَ ليجعلَ منها وسطا يطيب فيه العيشُ. فيما يخص العبادَ، العمل الصالح يتمثَّل في توفير كل الشروط الضامنة لتعايشٍ سيمتُه الأساسية الوئام والسلام. فيما يخصُّ البلادَ، العمل الصالح هو توفير كل الشروط الضامنة لإحداث توازنٍ بين ما هو طبيعي وبين ما هو من صُنع الأنسان، أي دون الإضرار بكل ما من شأنه أن يُعرقلَ استمرارَ الحياة بجميع أنواعها.
وعندما أقول "خارج العبادات"، يجب أن لا يُفهمَ من كلامي أن العبادات ليست من الأعمال الصالحة. لا أبدا! الأعمال الصالحة هي قمَّة الصالحات. لكنها مفروضة على المسلم المؤمن. والهدف منها هو التَّقرُّب من الله. لكن التَّقرُّبَ من الله يبقى غير مكتمل بدون الأعمال الصالحة الدنيوية.
لكن وبكل أسف، ما نلاحظه ونشاهده اليوم، وفي جميع أنحاء العالم، هو طُغيان الفساد على العمل الصالح، وفي كل المجالات بدون استثناء.
وحتى الدين أصابه الفسادُ. وأكبر مُفسِدي الدين هم السلفيون المتطرِّفون الذين، عوض أن يكونَ القرآن الكريم نبراسَهم وموجِّهَهم في الدنيا، أصبحوا يعبدون البخاري وأمثالَه، إلى درجة أنهم جعلوا جزأً كبيرا من السُّنة متعارضا مع كلام الله في كتابه المجيد. إن هؤلاء السلفيين بعيدون كل البُعد عن الأعمال الصالحة، ظانين أن تطويلَ اللِّحية وارتداء العمائم أو الطرابيش، بمختلف ألوانها وأشكالها، هي أعمالٌ صالحة. فمن هو السلفي الذي، إلى جانب ما يُسمِّيه هو علما، ساهم في تقدُّم بلاده اجتماعيا، اقتصاديا، علميا (بالمعنى الواسع)، تكنولوجياً…؟ لا شيءَ من هذا حصل! ما حصل هو زرع الفتنة والتَّفرقة!