ما أشبه ما نَكْتبهُ اليوم بما دبّجْناه بحُرقة في الأمْس القريب أو البعيد، لا شيء يتغيّر ويسْتبدِل هذا اليأس العارم ولو ببارقة أمل، فكأننا والمأساة تتكرّر كل دقيقة نصُبّ الماء في الرمل، نحن نكتبُ وشعوب العالم تموج أفواجا إلى الشارع تشْجُبُ، وذلك لا يزيد إسرائيل إلا إيصاداً لكل المنافذ تحت وابل النيران، اللهم منفذٌ واحد ذلك التي تخرج من حلقومه الروح إلى بارئها، أمَا مِنْ قُوّة في العالم توقِفُ هذا الحيوان الأهوج، فها هو الجُرح يتَّسع اليوم بالإبادة في رفَحْ !
وما زلتُ كلَّما فتحتُ الصَّفحة بيضاء في هاتفي، أهُمُّ بالكتابة عن فلسطين، أرْتعش وينْتابني ذات الشُّعور الحانق باللاجدوى، وأنِّي إذا كتبتُ سأكذبُ على نفسي وعلى فلسطين التي لم تعُد بحاجةٍ لكتاباتنا غير المُجْدِية قراراً، أو ليس ما يُستَلبُ بالقوة لا يُسْتَردُّ إلا بالقوة، ولا أعْجب إلا مِمّن سيوفهم في أغمادها كيف لا تنتعظ، بينما تُغتصب في كل امرأة في غزّة، أخواتهم وزوجاتهم وأمهاتهم وخالاتهم وعمّاتهم، أو تُوأد في كلِّ طفل هناك جائع أو جريح أو غيّبتهُ الأنقاض، بناتهم وأبناؤهم ولو كانوا بمنأى عن الجحيم، فيا للعار ما أمْسَيْنا وما طلع النهار !
إذا كتبتُ عن فلسطين لن أُصدِّقَني في كل ما سأكتبُ فكيف سيُصدِّقني غيري، حاولت فَتْح الصفحة بيدي المشلولة من جديد وبَصَمْتُ أول حرف فشعرتُ أن كل الأحرف التي ستحمل بصماتي دليلٌ دامغ على خذلاني وضعفي، وأنَّ ما سأكتبه ولو أكْمَلتُ بالكلمات سطرا لن ينفع فلسطين و يعيد من أرضها المغتصبة شبرا، كما لن يضر إسرائيل و لكنه سيضرني كثيرا لمَّا يتضح أنني العربي الأخير الذي لم يعد يملك من قواه الواهنة غير الكتابة عكازا، يا إلهي دُلُّوني ما أكتب الجميع يكتبون عن فلسطين وهم لا يكذبون إلا عند كل قصفٍ، عِلماً أنها محتلة دائما منذ وعَينا وهي في عمر نكبتها السبعين تجاوزتْ أعمارنا لمن طال بنكبته في العمر الزمن!
يا للعار يجب أن أكتب شيئا، ربما أصلِّي أفْضَل، هل يُفيد الدعاء لصالح فلسطين ولطالح إسرائيل بعد أن أصبحنا غير صالحين، ويعجبك المرء بعد أن ينتهي من الصلاة يرفع رأسه شامخا في خروجه من المسجد وكأنه قد ضَمَن الجنة، يُهرول مستبشر الأسارير بعد أن أرسل بالدُّعاء إلى تل أبيب كل الصواريخ التي يختزنها في ترسانة إيمانه الضعيف، بينما في كل سلوكه اليومي لا يدخل إلا منَ الباب الذي يسع الجميع، وهو باب أضعف الإيمان الذي أصبح مِشْجباً قصيرا تُعلِّق عليه كل الشعوب الإسلامية ضُعفها التاريخي، لا تَسْتهنْ بفوائد أضعف الإيمان، فبواسطته نُندِّد نصرخ نغضب نقْلب على العالم كل طاولات المفاوضات التي لم تفض لشيء مُهدِّدين بالويل والثبور، بأضعف الإيمان نُصْدر البلاغات من أكبر منظماتنا السياسية والدينية والثقافية، رَاغين مُزبدين رافضين جرائم الحرب التي تُلطِّخ بدمائها إسرائيل أيادي الإنسانية جمعاء، يا لَخِطابنا الأجوف من قعر أنفسنا السحيق، بأضعف الإيمان الذي موضعُه القلب نحمل السلاح ونخوض أشد الحروب فتكا، لا أعرف مع الهزائم المتوالية هل على إسرائيل أو ضد أنفسنا ننتصر!
ماذا أصنع، حاولتُ أن أغلق الصفحة البيضاء، ولكن يدي سبقتني إليها لتكتب ما أحدِّثُ به نفسي الآن ولا يعني أحدا سواي، علما أن فلسطين ترامت بأطرافها على امتداد العالم، وأصبحت تعني الجميع، فهل حقّاً أكتب عن أرض المَقْدِس أم أنني واهِمٌ وهو الوَهْمُ الذي ما زلنا نعيشه منذ سبعين سنة في الشعارات التي لا تُجدي شِعراً، أنا لا أكتب عن فلسطين سطراً بل هي التي تكتب كل يوم وثيقة جبننا بالشهداء الذين يتساقطون قبرا ..قبرا ونتفرجُ يا إلهي نتفرج وثمة من بصَره ضعيفٌ يمدُّ يدَه للنظارة ليتفرج بأعينٍ أقوى فبصره اليوم حديد !
أنا لا أكتب عن فلسطين يكفي الديوان الملحمي الذي دبَّجه شعراء الأرض المحتلة منذ ابراهيم طوقان إلى درويش وزِدْ عليهم ادوارد سعيد فكراً، أكره وضعية الكتابة التي تجعلني أنحني بحُنوٍّ ورِقَّة على الورقة وأحني معها ظهري لعدوي يثخنه طعناً، ومن بين أصابعي وأنا أكتب للتاريخ يسلبُ العَدو المستقبل أمام أنظارنا فكأننا نُبصر أعمى، كان بِودي بدَل أن أشهر قلما أبعث لإسرائيل صاروخا، ولكن في بلدي لا يعطون للأفراد ترخيصا بالأسلحة الثقيلة ولو دفاعا عن دمنا الرخيص!
لا أصدِّقُ أنِّي أكتبُ عن فلسطين، اعتبروني مجنونا اذا قلتُ إن ما تقرأونه الآن أحدِّث به نفسي فقط، بل ما عُدْتُ أصدِّق حتى نفسي لكثرة ما كتَبتْ وكذَبتْ عَليَّ، ولا أصدِّق أيضا كل النُّواح الذي تكتبونه في فيسبوك أو غيره من وسائل الانفصال الاجتماعي، ففلسطين صارتْ للجميع مجرَّد لحظةٍ للبكاء، كلما اسْتجدَّت على أرضها المذبحة، أو راجتْ تِجارة القنوات التلفزيونية بأضخم العناوين، لا تكذبوا علينا وعلى أنفسكم وأنتم تكتبون عن فلسطين، ففي كل فاجعة تحضرون باكين مُعزِّين آكلين العشاء الأخير للميت، وفي باقي الأيام حيث فلسطين تستمر في عيش باقي موتها إلى حياتكم تنصرفون، وذلك تجاوز أضعف الإيمان إلى أفظع خذلان !
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" 15 فبراير 2024
وما زلتُ كلَّما فتحتُ الصَّفحة بيضاء في هاتفي، أهُمُّ بالكتابة عن فلسطين، أرْتعش وينْتابني ذات الشُّعور الحانق باللاجدوى، وأنِّي إذا كتبتُ سأكذبُ على نفسي وعلى فلسطين التي لم تعُد بحاجةٍ لكتاباتنا غير المُجْدِية قراراً، أو ليس ما يُستَلبُ بالقوة لا يُسْتَردُّ إلا بالقوة، ولا أعْجب إلا مِمّن سيوفهم في أغمادها كيف لا تنتعظ، بينما تُغتصب في كل امرأة في غزّة، أخواتهم وزوجاتهم وأمهاتهم وخالاتهم وعمّاتهم، أو تُوأد في كلِّ طفل هناك جائع أو جريح أو غيّبتهُ الأنقاض، بناتهم وأبناؤهم ولو كانوا بمنأى عن الجحيم، فيا للعار ما أمْسَيْنا وما طلع النهار !
إذا كتبتُ عن فلسطين لن أُصدِّقَني في كل ما سأكتبُ فكيف سيُصدِّقني غيري، حاولت فَتْح الصفحة بيدي المشلولة من جديد وبَصَمْتُ أول حرف فشعرتُ أن كل الأحرف التي ستحمل بصماتي دليلٌ دامغ على خذلاني وضعفي، وأنَّ ما سأكتبه ولو أكْمَلتُ بالكلمات سطرا لن ينفع فلسطين و يعيد من أرضها المغتصبة شبرا، كما لن يضر إسرائيل و لكنه سيضرني كثيرا لمَّا يتضح أنني العربي الأخير الذي لم يعد يملك من قواه الواهنة غير الكتابة عكازا، يا إلهي دُلُّوني ما أكتب الجميع يكتبون عن فلسطين وهم لا يكذبون إلا عند كل قصفٍ، عِلماً أنها محتلة دائما منذ وعَينا وهي في عمر نكبتها السبعين تجاوزتْ أعمارنا لمن طال بنكبته في العمر الزمن!
يا للعار يجب أن أكتب شيئا، ربما أصلِّي أفْضَل، هل يُفيد الدعاء لصالح فلسطين ولطالح إسرائيل بعد أن أصبحنا غير صالحين، ويعجبك المرء بعد أن ينتهي من الصلاة يرفع رأسه شامخا في خروجه من المسجد وكأنه قد ضَمَن الجنة، يُهرول مستبشر الأسارير بعد أن أرسل بالدُّعاء إلى تل أبيب كل الصواريخ التي يختزنها في ترسانة إيمانه الضعيف، بينما في كل سلوكه اليومي لا يدخل إلا منَ الباب الذي يسع الجميع، وهو باب أضعف الإيمان الذي أصبح مِشْجباً قصيرا تُعلِّق عليه كل الشعوب الإسلامية ضُعفها التاريخي، لا تَسْتهنْ بفوائد أضعف الإيمان، فبواسطته نُندِّد نصرخ نغضب نقْلب على العالم كل طاولات المفاوضات التي لم تفض لشيء مُهدِّدين بالويل والثبور، بأضعف الإيمان نُصْدر البلاغات من أكبر منظماتنا السياسية والدينية والثقافية، رَاغين مُزبدين رافضين جرائم الحرب التي تُلطِّخ بدمائها إسرائيل أيادي الإنسانية جمعاء، يا لَخِطابنا الأجوف من قعر أنفسنا السحيق، بأضعف الإيمان الذي موضعُه القلب نحمل السلاح ونخوض أشد الحروب فتكا، لا أعرف مع الهزائم المتوالية هل على إسرائيل أو ضد أنفسنا ننتصر!
ماذا أصنع، حاولتُ أن أغلق الصفحة البيضاء، ولكن يدي سبقتني إليها لتكتب ما أحدِّثُ به نفسي الآن ولا يعني أحدا سواي، علما أن فلسطين ترامت بأطرافها على امتداد العالم، وأصبحت تعني الجميع، فهل حقّاً أكتب عن أرض المَقْدِس أم أنني واهِمٌ وهو الوَهْمُ الذي ما زلنا نعيشه منذ سبعين سنة في الشعارات التي لا تُجدي شِعراً، أنا لا أكتب عن فلسطين سطراً بل هي التي تكتب كل يوم وثيقة جبننا بالشهداء الذين يتساقطون قبرا ..قبرا ونتفرجُ يا إلهي نتفرج وثمة من بصَره ضعيفٌ يمدُّ يدَه للنظارة ليتفرج بأعينٍ أقوى فبصره اليوم حديد !
أنا لا أكتب عن فلسطين يكفي الديوان الملحمي الذي دبَّجه شعراء الأرض المحتلة منذ ابراهيم طوقان إلى درويش وزِدْ عليهم ادوارد سعيد فكراً، أكره وضعية الكتابة التي تجعلني أنحني بحُنوٍّ ورِقَّة على الورقة وأحني معها ظهري لعدوي يثخنه طعناً، ومن بين أصابعي وأنا أكتب للتاريخ يسلبُ العَدو المستقبل أمام أنظارنا فكأننا نُبصر أعمى، كان بِودي بدَل أن أشهر قلما أبعث لإسرائيل صاروخا، ولكن في بلدي لا يعطون للأفراد ترخيصا بالأسلحة الثقيلة ولو دفاعا عن دمنا الرخيص!
لا أصدِّقُ أنِّي أكتبُ عن فلسطين، اعتبروني مجنونا اذا قلتُ إن ما تقرأونه الآن أحدِّث به نفسي فقط، بل ما عُدْتُ أصدِّق حتى نفسي لكثرة ما كتَبتْ وكذَبتْ عَليَّ، ولا أصدِّق أيضا كل النُّواح الذي تكتبونه في فيسبوك أو غيره من وسائل الانفصال الاجتماعي، ففلسطين صارتْ للجميع مجرَّد لحظةٍ للبكاء، كلما اسْتجدَّت على أرضها المذبحة، أو راجتْ تِجارة القنوات التلفزيونية بأضخم العناوين، لا تكذبوا علينا وعلى أنفسكم وأنتم تكتبون عن فلسطين، ففي كل فاجعة تحضرون باكين مُعزِّين آكلين العشاء الأخير للميت، وفي باقي الأيام حيث فلسطين تستمر في عيش باقي موتها إلى حياتكم تنصرفون، وذلك تجاوز أضعف الإيمان إلى أفظع خذلان !
................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" 15 فبراير 2024