أحيانًا ـ بل في غالب الأحيان ـ لا أتحمل أن أُكملَ قصيدةً "عمودية/خليلية"، ليس بسبب، انضابطها (العروضي/الوزن/ البحر).. وإنما "الرصُّ الخرساني" الفقير في الجماليات "المبنى والمعني".. فيما أجد نفسي درويشا متبتلا في حضرة جمال قصيدة النثر "المتعوب" عليها، والمنضبطة بالقيود الداخلية للشاعر، حتي لا تستحيل إلى "فوضى".
في حوارٍ بيني وبين رائد قصيدة النثر في مصر الزميل الأستاذ جمال القصاص وردًا على قولي "لا يوجد بيني وبين قصيدة النثر ودٌ".. قال لي :" حتى أنا خاصمتها لسنوات طويلة. .برغم دفاعي عنها من باب حرية الإبداع. قصيدة صعبة فمن داخل هذه الحرية لا بد أن تبتكر قيودك .. وإلا أصبحت محض فوضى مطلقة".
وفي السياق قال لي الشاعر العربي التونسي الأستاذ فتحي مهذب : "لن يكتب أو يجترح قصيدة نثر أو نصًا نثريًا مفارقًا مَنْ لم يتشرب ويكرع من ينابيعنا الشعرية التالدة.".
ويبدو لي أن كبارَ كتاب هذا النمط الفني المثير للخلاف والجدل، على وعيٍّ من أنها ـ أي قصيدة النثر ـ تمشي حافية على الحافة: قد تسقط في أتون الفوضى وتتحول إلى "ثرثرة" هلامية مثل قناديل البحر.
تبين لي بتواتر القراءات، وجود هذا الوعي لدى الكبار، فيعمدون إلى "التكثيف" وقص "الورم" و"نتوءات الثرثرة" وتضفير الجماليات التي تسكرنا بـ" صدمة الدهشة" واختراع صور تحملك حملا على التمايل وكأنك في حلقة "ذِكْرٍ" وتغيب.. وتغيب عن كل تفاصيل اللحظة، كراقص "مولوي" في حضرة مولانا جلال الدين الرومي.
لا يمكن بحال أن أقرأ هذا النص ـ مثلا ـ للشاعر الكويتي الأستاذ دخيل الخليفة، من دون أن أدخل بلا استئدان في هذه "الحضرة" ـ رقصة الدراويش المولوية ـ بكل مكوناتها من سحر وإغراء فلا ترى من حولك إلا النص وحده.. وقد تحفظه ـ وهي خاصية نادرة جدا :الحفظ في قصيدة النثر.. يقول الخليفة:
"كنتُ أطفو..
على بُحيرةٍ من المرْمر
حينما كان طول عُنقكِ
خمسة قُبلات"
الصورة ـ هنا ـ على غير مثال، المسافات تقاس بوحدات معروفة حسابيا "السنتيمتر والميتر والكيلومتر".. ولأول مرة تقاس بـ"عدد القبلات":
"حينما كان طول عُنقكِ
خمسة قبلات" !!
لا تملك هنا عزيزي القارئ إلا أن تقول : "يا عين" !
من بين مشاكل الشعر العمودي "الحالي" توسعه في القصائد المنبرية "الوعظية" أو شعر "الحِكَم والأمثال".. وهو اجترار أو بناء على "سابق" أي تفتقد إلى التجديد والخيال الإبداع.. وهي ممارسة موغلة في "المحلية" العربية، ولم تطرق باب القيم الإنسانية المشتركة في عمومها، ما أضر بها فيما يتعلق بمخاطبة العالم.. ولعل من أسباب شهرة محمود درويش، أنه تحرر من هذا المنحى الكسول والغارق في تقليد القدماء.. وكتب قصائد صنعت منه شاعرا عالميا، وقرأنا لشعراء فرنسيين يرثونه بعد وفاته من بينهم الشاعر الفرنسي " برنار مازو" الذي كتب قصيدة "السيف والمزمار" أهداها إلى "محمود درويش" يقول فيها في مطلعها:
"مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلاً
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة
هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون"
في تقديري أن دخيل الخليفة، يقترب كثيرا ـ مثل درويش ـ من عبور البحر الأبيض المتوسط بالفحوى الإنساني لقصائده العابرة للحدود.. يقول في إحداها:
"مرَّ بي جائعاً
وعلى جرْفِ قلبي اتّكا
تصفّحَني
عندما لم يجدْ فيَّ نهراً
بكى!"
يقول "الخليفة" في نص آخر:
"نزعتُ أصابعي عن يدي،
ووضعتُ رأسي بين مشجَبَين
هكذا في الفراغ ....!
ليمرّ الضاحكونَ على سوادِهم
يهزأونَ من ظلٍّ بلا رأس
ويدٍ تبحثُ عن أصابعِها
في جيوبِ الجثة ..! "
مشهد "كابوسي".. كالحلم المُفزع المكتظ بالرموز والدلالات التي تحتاج إلى "مفسر أحلام" حاذق.. ليضيء المساحات المظلمة في النص ويستنطق الصوامت به ويملأ المسافات البينية بين فقراته.. وما نسيت هذا النص الجميل منذ قرأته من مدة طويلة.. يقول الخليفة :
"يا عاشقَ الرّملِ الذي لم يحتمِلْ قدميكَ
لحظةَ خطوِها،
صبرٌ جميلُ."
الشاعر هنا يكتب كما ـ يقول نزار قباني ـ بـ" "حد السكين".. فالوجع هنا مثل "إزميل" يحفر في الذاكرة "جدارية" تنزف دما ودموعا.. ولا يمكن بحال أن يغادر مثل هذا النص دفتر الحفظ في "متن" ذاكرة المتلقي. وكما أسلفت هي ظاهرة نادرة جدا ولا تكاد توجد في شعر النثر إلا عند أقلية يعدون على أصابع اليد من بينهم هذا الشاعر والمجدد العربي الكبير.
في حوارٍ بيني وبين رائد قصيدة النثر في مصر الزميل الأستاذ جمال القصاص وردًا على قولي "لا يوجد بيني وبين قصيدة النثر ودٌ".. قال لي :" حتى أنا خاصمتها لسنوات طويلة. .برغم دفاعي عنها من باب حرية الإبداع. قصيدة صعبة فمن داخل هذه الحرية لا بد أن تبتكر قيودك .. وإلا أصبحت محض فوضى مطلقة".
وفي السياق قال لي الشاعر العربي التونسي الأستاذ فتحي مهذب : "لن يكتب أو يجترح قصيدة نثر أو نصًا نثريًا مفارقًا مَنْ لم يتشرب ويكرع من ينابيعنا الشعرية التالدة.".
ويبدو لي أن كبارَ كتاب هذا النمط الفني المثير للخلاف والجدل، على وعيٍّ من أنها ـ أي قصيدة النثر ـ تمشي حافية على الحافة: قد تسقط في أتون الفوضى وتتحول إلى "ثرثرة" هلامية مثل قناديل البحر.
تبين لي بتواتر القراءات، وجود هذا الوعي لدى الكبار، فيعمدون إلى "التكثيف" وقص "الورم" و"نتوءات الثرثرة" وتضفير الجماليات التي تسكرنا بـ" صدمة الدهشة" واختراع صور تحملك حملا على التمايل وكأنك في حلقة "ذِكْرٍ" وتغيب.. وتغيب عن كل تفاصيل اللحظة، كراقص "مولوي" في حضرة مولانا جلال الدين الرومي.
لا يمكن بحال أن أقرأ هذا النص ـ مثلا ـ للشاعر الكويتي الأستاذ دخيل الخليفة، من دون أن أدخل بلا استئدان في هذه "الحضرة" ـ رقصة الدراويش المولوية ـ بكل مكوناتها من سحر وإغراء فلا ترى من حولك إلا النص وحده.. وقد تحفظه ـ وهي خاصية نادرة جدا :الحفظ في قصيدة النثر.. يقول الخليفة:
"كنتُ أطفو..
على بُحيرةٍ من المرْمر
حينما كان طول عُنقكِ
خمسة قُبلات"
الصورة ـ هنا ـ على غير مثال، المسافات تقاس بوحدات معروفة حسابيا "السنتيمتر والميتر والكيلومتر".. ولأول مرة تقاس بـ"عدد القبلات":
"حينما كان طول عُنقكِ
خمسة قبلات" !!
لا تملك هنا عزيزي القارئ إلا أن تقول : "يا عين" !
من بين مشاكل الشعر العمودي "الحالي" توسعه في القصائد المنبرية "الوعظية" أو شعر "الحِكَم والأمثال".. وهو اجترار أو بناء على "سابق" أي تفتقد إلى التجديد والخيال الإبداع.. وهي ممارسة موغلة في "المحلية" العربية، ولم تطرق باب القيم الإنسانية المشتركة في عمومها، ما أضر بها فيما يتعلق بمخاطبة العالم.. ولعل من أسباب شهرة محمود درويش، أنه تحرر من هذا المنحى الكسول والغارق في تقليد القدماء.. وكتب قصائد صنعت منه شاعرا عالميا، وقرأنا لشعراء فرنسيين يرثونه بعد وفاته من بينهم الشاعر الفرنسي " برنار مازو" الذي كتب قصيدة "السيف والمزمار" أهداها إلى "محمود درويش" يقول فيها في مطلعها:
"مِنْ غيْر أنْ ينتبِه لهُ فِعْلاً
هُنا كلّ شيْءٍ رماديٌّ
تحْت سَماءٍ واطِئة
هُنا وَسَط هذا الْحَقْل من الْخَراب
حيْثُ مزْمارُ الأَسْلاف لا يعْزف
ولا الرّيحُ الْخَرْساء تخْترقُ أشْجار الزّيْتون"
في تقديري أن دخيل الخليفة، يقترب كثيرا ـ مثل درويش ـ من عبور البحر الأبيض المتوسط بالفحوى الإنساني لقصائده العابرة للحدود.. يقول في إحداها:
"مرَّ بي جائعاً
وعلى جرْفِ قلبي اتّكا
تصفّحَني
عندما لم يجدْ فيَّ نهراً
بكى!"
يقول "الخليفة" في نص آخر:
"نزعتُ أصابعي عن يدي،
ووضعتُ رأسي بين مشجَبَين
هكذا في الفراغ ....!
ليمرّ الضاحكونَ على سوادِهم
يهزأونَ من ظلٍّ بلا رأس
ويدٍ تبحثُ عن أصابعِها
في جيوبِ الجثة ..! "
مشهد "كابوسي".. كالحلم المُفزع المكتظ بالرموز والدلالات التي تحتاج إلى "مفسر أحلام" حاذق.. ليضيء المساحات المظلمة في النص ويستنطق الصوامت به ويملأ المسافات البينية بين فقراته.. وما نسيت هذا النص الجميل منذ قرأته من مدة طويلة.. يقول الخليفة :
"يا عاشقَ الرّملِ الذي لم يحتمِلْ قدميكَ
لحظةَ خطوِها،
صبرٌ جميلُ."
الشاعر هنا يكتب كما ـ يقول نزار قباني ـ بـ" "حد السكين".. فالوجع هنا مثل "إزميل" يحفر في الذاكرة "جدارية" تنزف دما ودموعا.. ولا يمكن بحال أن يغادر مثل هذا النص دفتر الحفظ في "متن" ذاكرة المتلقي. وكما أسلفت هي ظاهرة نادرة جدا ولا تكاد توجد في شعر النثر إلا عند أقلية يعدون على أصابع اليد من بينهم هذا الشاعر والمجدد العربي الكبير.