في العالم العربي ـ تقريبا ـ تراجعت منزلة قصائد "الهم العام"، وتراجعت في المجمل القصيدة ذات الفحوى أوالمعني "الرسالي".. حتى الأغنية السياسية كانت ـ ولازالت ـ تقتات على "الكلأ" الذي تركه الشيخ إمام ورفيق عمره أحمد فؤاد نجم، حتى فتر وهجُها تماما في العشرية الأخيرة، ليس فقط للممارسات "الخشنة" للدولة السلطوية، وإنما أيضا بسبب دخول المال السياسي "الموجه" في إعادة هندسة المشهد الإبداعي العربي، بالرشاوى المتشحة بـ"الشياكة" وبالتعبير المهذب لها: "جوائز".
فالأخيرة لا تمر على فلاتر "بريئة" تنتصر للقصيدة لأسباب فنية محضة، وإنما تخضع لـ"فلاتر أمنية" والفرز "الأيديولوجي" وفحص السيرة الذاتية للمبدع من قبل صناع القرار الأمني.
ولذا باتت قصيدة "الهم العام"، مخاطرة قد تفضى إلى المس بحرية المُبدع من جهة وعلى فرصته في الفوز بجائزة من جهة أخرى، تعصمه من أن يتكفف الناس أو أن يسألهم "إلحافا". خاصة وأن غالبية المبدعين في الدول العربية غير النفطية "فقراء" ويكابدون مشقةً كبيرةً في توفير كسرة الخبز اليومي لأولادهم.
قد يقول قائل، توجد قصائد مشتبكة مع أوضاع داخلية "القمع، الفقر وسوء إدارة موارد الدولة " أو مع أخرى عربية، وهذا صحيح ولكنها أيضا مخاض يتلفت حوله، يدلف إلينا من رحم الخوف، فتكتظ بـ"الولولة والبكاء والنحيب والمسكنة والشحتفة" ولا تصوِّب فوهتها نحو "المتسبب" ذاته خوفا من بطشه أو الملاحقات المتعسفة والغير قانونية، وهذا كان علي غير سُنة الجيل السابق: نزار، درويش، دنقل، احمد مطر، ومظفر النواب.. الذين ـ حتى الآن ـ يعتبرون المصدر الوحيد لنا نستدعيهم للتعبير عن همومنا الحالية!
يعتبر الشاعر السكندري أسامة الخولي، الوحيد تقريبا الذي لا يستخدم مفردات "تحايلية/ مراوغة" إذا كتب عن أية قضية من قضايا "الهم العام"، ففي ميدان الرماية هدف واحد وواضح، تناله رماحُهُ بشجاعة وبلغة غير مرتعشة أو مترددة ، ويعلق "الديكتاتوريات" على أعواد قصائده، بل في بعضها يكون أوضح من فلق الصبح.
يقول الخولي في إحداها:
يقول لي صاحبي
ما حيلةُ الفقرا
وكل لصٍّ على أشلائهم عبرا
تلك الحكومةُ لم تأبهْ لصرختهم
فليبلعوا الصمتَ
أو
فليمضغوا الحجرا
لم يدرِ يوسفُ بالرؤيا ليعبُرها
وليس ثمةَ ناجٍ منهما ادَّكرا
القصيدة أعيد ترتيب كلماتها على طريقة شعر التفعيلة.. غير أنها قصيدة (عمودية /خليلية).. كتبها "الخولي" على بحر البسيط وتفعيلاته
(مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلا)
وهو من أجمل بحور الشعر الـ "15" التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفي عام 790 مـ في البصرة بالعراق ) وتعجبني جدا قافيته عندما تكون "فَعِلُنْ" ـ ثلاث حركات وسكون ـ إذ لها وقع طبول الحرب على الأذن.. حتى أن بعض منظمي المسابقات يفضلون القصائد التي على هذا البحر!
يقول "الخولي" في أخرى:
" ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم"
وبقيت وحدك شاهدًا للمهزلَه
فالموت أفضل ما يؤمله الفتى
لا عذر كي نحيا بتلك المرحله
القصيدة كتبها الخولي على بحر "الكامل التام" وتفعيلاته:
مُتَفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن
ويقال إن أحمد الفراهيدي أطلق عليه هذا الاسم " بحر الكامل" لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من البحور الشعرية.
والكامل من أرق وأعزب بحور الشعر والتي تليق بـ"العتاب" بعد الغضب كما فعل الخولي واختاره بعناية .. وكما فعل نزار قباني في قصيدته التي غنتها نجاة ولحنها عبد الوهاب .. قصيدة "أيظن" والتي كتبها قباني على بحر الكامل أيضا:
أيظن أني لعبة بيديه؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ويبدو لي ـ وبمعرفتي الشخصية (صداقتي) لهذ الشاعر الكبير ـ أن أسامة الخولي مثلما هو دافيء مثل رمل البحر.. فإنه مثل نوة "عيد الميلاد" التي تضرب شواطئ بحر الإسكندرية بغضب في شتاء كل عام (يناير).. هكذا يبدو لي حتى في علاقاته البينية مع الآخرين .. وأترككم الآن مع هذه القصيدة التي لامست ما قبل الخطوط الحمراء بقليل:
الموتُ أعمقُ منْ حديثِ المِسْبَحه
والماءُ في رئتِي بُكاءُ المشرَحه
ما كنتُ يا فِرعونُ أركُضُ هاربًا
مُوسَى نَبيٌ
رُغمَ هوْلِ المذبحه
موسى نبِيٌّ
رغم ما لفَّقْتَهُ
وبرغمِ ما قال الذبابُ
ومَسْرَحَهْ
الجوعُ يُحصي جندَهُ
متأهبًا
ودمي الوليمةُ
في بطونِ الأضرِحه
ما كانَ لي في حرْبِهِمْ منْ نَاقَةٍ
أوْ شِسْعِ نعلٍ
أوْ شظايا مصلحه
أو صحتُ يومًا يا بلادي ها أنا
حتى تشهَّرَ في وجوهي الأسلحه
أو صحتُ يا وطني إليك المشتكى
أو مالِهذا اليأسِ يأبى الزحزحه
تلك العروش العاهراتُ كرهتها
وكرهتُ ما نبشَ الحنينُ وجَرَّحه
عينُ اليمامةِ دمعتانِ وقاربٌ
والموجُ أغبى أنْ يُغادرَ مَطرَحَهْ!!
انتهى
فالأخيرة لا تمر على فلاتر "بريئة" تنتصر للقصيدة لأسباب فنية محضة، وإنما تخضع لـ"فلاتر أمنية" والفرز "الأيديولوجي" وفحص السيرة الذاتية للمبدع من قبل صناع القرار الأمني.
ولذا باتت قصيدة "الهم العام"، مخاطرة قد تفضى إلى المس بحرية المُبدع من جهة وعلى فرصته في الفوز بجائزة من جهة أخرى، تعصمه من أن يتكفف الناس أو أن يسألهم "إلحافا". خاصة وأن غالبية المبدعين في الدول العربية غير النفطية "فقراء" ويكابدون مشقةً كبيرةً في توفير كسرة الخبز اليومي لأولادهم.
قد يقول قائل، توجد قصائد مشتبكة مع أوضاع داخلية "القمع، الفقر وسوء إدارة موارد الدولة " أو مع أخرى عربية، وهذا صحيح ولكنها أيضا مخاض يتلفت حوله، يدلف إلينا من رحم الخوف، فتكتظ بـ"الولولة والبكاء والنحيب والمسكنة والشحتفة" ولا تصوِّب فوهتها نحو "المتسبب" ذاته خوفا من بطشه أو الملاحقات المتعسفة والغير قانونية، وهذا كان علي غير سُنة الجيل السابق: نزار، درويش، دنقل، احمد مطر، ومظفر النواب.. الذين ـ حتى الآن ـ يعتبرون المصدر الوحيد لنا نستدعيهم للتعبير عن همومنا الحالية!
يعتبر الشاعر السكندري أسامة الخولي، الوحيد تقريبا الذي لا يستخدم مفردات "تحايلية/ مراوغة" إذا كتب عن أية قضية من قضايا "الهم العام"، ففي ميدان الرماية هدف واحد وواضح، تناله رماحُهُ بشجاعة وبلغة غير مرتعشة أو مترددة ، ويعلق "الديكتاتوريات" على أعواد قصائده، بل في بعضها يكون أوضح من فلق الصبح.
يقول الخولي في إحداها:
يقول لي صاحبي
ما حيلةُ الفقرا
وكل لصٍّ على أشلائهم عبرا
تلك الحكومةُ لم تأبهْ لصرختهم
فليبلعوا الصمتَ
أو
فليمضغوا الحجرا
لم يدرِ يوسفُ بالرؤيا ليعبُرها
وليس ثمةَ ناجٍ منهما ادَّكرا
القصيدة أعيد ترتيب كلماتها على طريقة شعر التفعيلة.. غير أنها قصيدة (عمودية /خليلية).. كتبها "الخولي" على بحر البسيط وتفعيلاته
(مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلا)
وهو من أجمل بحور الشعر الـ "15" التي وضعها الخليل بن أحمد الفراهيدي (المتوفي عام 790 مـ في البصرة بالعراق ) وتعجبني جدا قافيته عندما تكون "فَعِلُنْ" ـ ثلاث حركات وسكون ـ إذ لها وقع طبول الحرب على الأذن.. حتى أن بعض منظمي المسابقات يفضلون القصائد التي على هذا البحر!
يقول "الخولي" في أخرى:
" ذهب الذين يُعاشُ في أكنافهم"
وبقيت وحدك شاهدًا للمهزلَه
فالموت أفضل ما يؤمله الفتى
لا عذر كي نحيا بتلك المرحله
القصيدة كتبها الخولي على بحر "الكامل التام" وتفعيلاته:
مُتَفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن متفاعلن
ويقال إن أحمد الفراهيدي أطلق عليه هذا الاسم " بحر الكامل" لأن فيه ثلاثين حركة لم تجتمع في غيره من البحور الشعرية.
والكامل من أرق وأعزب بحور الشعر والتي تليق بـ"العتاب" بعد الغضب كما فعل الخولي واختاره بعناية .. وكما فعل نزار قباني في قصيدته التي غنتها نجاة ولحنها عبد الوهاب .. قصيدة "أيظن" والتي كتبها قباني على بحر الكامل أيضا:
أيظن أني لعبة بيديه؟
أنا لا أفكر في الرجوع إليه
اليوم عاد كأن شيئا لم يكن
وبراءة الأطفال في عينيه
ويبدو لي ـ وبمعرفتي الشخصية (صداقتي) لهذ الشاعر الكبير ـ أن أسامة الخولي مثلما هو دافيء مثل رمل البحر.. فإنه مثل نوة "عيد الميلاد" التي تضرب شواطئ بحر الإسكندرية بغضب في شتاء كل عام (يناير).. هكذا يبدو لي حتى في علاقاته البينية مع الآخرين .. وأترككم الآن مع هذه القصيدة التي لامست ما قبل الخطوط الحمراء بقليل:
الموتُ أعمقُ منْ حديثِ المِسْبَحه
والماءُ في رئتِي بُكاءُ المشرَحه
ما كنتُ يا فِرعونُ أركُضُ هاربًا
مُوسَى نَبيٌ
رُغمَ هوْلِ المذبحه
موسى نبِيٌّ
رغم ما لفَّقْتَهُ
وبرغمِ ما قال الذبابُ
ومَسْرَحَهْ
الجوعُ يُحصي جندَهُ
متأهبًا
ودمي الوليمةُ
في بطونِ الأضرِحه
ما كانَ لي في حرْبِهِمْ منْ نَاقَةٍ
أوْ شِسْعِ نعلٍ
أوْ شظايا مصلحه
أو صحتُ يومًا يا بلادي ها أنا
حتى تشهَّرَ في وجوهي الأسلحه
أو صحتُ يا وطني إليك المشتكى
أو مالِهذا اليأسِ يأبى الزحزحه
تلك العروش العاهراتُ كرهتها
وكرهتُ ما نبشَ الحنينُ وجَرَّحه
عينُ اليمامةِ دمعتانِ وقاربٌ
والموجُ أغبى أنْ يُغادرَ مَطرَحَهْ!!
انتهى