جحيم المعتقلات في العراق ج2
محكمة الثورة
اسس حزب البعث في العراق بعد تسلمه السلطة, محكمة خاصة تتولى البت بالقضايا الكبرى اسماها محكمة الثورة , وقد عقدت تلك المحكمة جلساتها بسرية تامة بعد أن أعلن أمر (مجلس قيادة الثورة) في شتاء عام 1969 بتشكيل تلك المحكمة العسكرية الخاصة برئاسة العقيد علي هادي وتولت محاكمة ماسمي بـ «شبكة التجسس لصالح العدو الصهيوني».
وعندما انتهت من أعمالها وأصدرت أحكامها النهائية غير الخاضعة للتمييز بثت وقائع جلساتها بحلقات يومية من الإذاعة والتلفزيون حرص الجميع على متابعتها باهتمام وشغف وعلى مدى ثلاثين يوما وشاهدنا حتى صدور أحكام الاعدام في نهاية جلساتها بين ( رميا بالرصاص او شنقا حتى الموت )..ثم علقت جثثهم في ساحة التحرير ببغداد وفي ساحة أم البروم في البصرة وتدفقت الجماهير وهي تطلق الهتافات منها (عاش قرار المحكمة بإعدام زلخة وجيته).).
وقد توالى على رئاسة محكمة الثورة العلاف و مسلم الجبوري و عواد حمد البندر.
ج ـ على أن الأشخاص الذين ثبتت أدانتهم من محكمة مختصة بجريمة التجسس لحساب الأجنبي أو التآمر على تقويض نظام الحكم التقدمي الاشتراكي وأساسه الاقتصادي والاجتماعي فيجوز مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وقيدها إيراداً للدولة بموجب قانون
الفصل الرابع: السلطة القضائية
المادة التاسعة والسبعون ( الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة وتنظم السلطة القضائية بقانون).
(بسم الله الرحمن الرحيم
إيمانا بحق هذا الشعب في الحياة الحرة الكريمة وثقته بقدرته على مواجهة الصعاب وإرادته التي لا تقهر وبعد الاتكال على الله وعلى المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة قامت فئة بارة من أبناء الشعب مؤمنة بربها وبأهداف الأمة العربية بتفجير ثورة السابع عشر من تموز 1968 وإنهاء الأوضاع الشاذة واستلام مقاليد الأمور بغية تأمين سيادة القانون وإيجاد تكافؤ الفرص للمواطنين والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية والقضاء على أسباب التمزق الداخلي وتحرير المواطن من الاستغلال والخوف والجهل والنعرات الطائفية والعنصرية والقبلية وكافة مظاهر الاستعباد وإقامة مجتمع تسوده الأخوة والمحبة والتآلف والشعور بالمسؤولية إزاء الأحداث المصيرية وذلك عن طريق توفير الحياة الديمقراطية للمواطنين في إطار التنظيمات الشعبية وصولاً إلى أقامة المجلس الوطني الذي يمثل كافة القطاعات الوطنية نعلن هذا الدستور المؤقت الذي ثبتت فيه قواعد الحكم ونظمت به علاقة الدولة بالفرد والمجتمع وليعمل به حتى يوضع دستور البلاد الدائم الذي ستكون فيه الكلمة الأخيرة للشعب مستعينين جميعاً بالله العلي القدير.
مجلس قيادة الثورة).
في السرداب حيث تعلوه محكمة الثورة رأيت هناك امرأة مكتزة الجسم بيضاء طويلة تحمل رضيعها بيديها ..واتى بعض الحراس وفصلوا الرضيع عنها .. ستقضي ثلاث سنوات في السجن , لانهم وجدوا في حساباتها اموالا زائدة.
وقال لي العلاف هل لديك محامي قلت لا , قال هل نوكل لك محامي قلت ( انا ادافع عن نفسي) .. وتلا ب(اني اتهمت السلطة بقتل الشاعر مهدي طه وبان السلطة الفعلية للبلد لصدام حسين وليس للبكر ..) وضحكوا ..استفزتني ضحكاتهم لكني لم اعلق ..كانوا يصغون وكأنهم يسمعون طرفة مثيرة .. فاما انهم كانوا جهلة حقا او انهم يتسترون .. فقد اكدت الوقائع والادلة بان صدام حسين كان الحاكم الفعلي للبلد وليس البكر .
فبعد القضاء على مدير الامن ناظم كزار عام 1974. أثر محاولة انقلاب فاشلة كان مخططا ان يتم اغتيال البكر فيها في المطار فيما حجز كزار وزيري الداخلية والدفاع .. فاصاب احدهما وقتل الاخر ...اصبح صدام الحاكم الفعلي للعراق وحجم دور الرئيس البكرشيئا فشيئا حتى وفاته او (تصفيته ).
بعد ذلك نودي على الشهود ,واستغربت وانا ارى ام صديقي الشاعر الغريق مهدي طه واباه يدليان بشهادة ضدي .. كنت اودهما وتعاطفت معهما بعد حادثة الغرق ولم اقطع زيارتي لمنزلهما في منطقة الجمهورية لفترة طويلة .... كل ما في الامر ان احد اقربائهما كان رجل امن و لم اكن اعرف بذلك وتحدثت من باب الثقة بما ادنت به : (قذف السلطة )..وكانا اثناء الادلاء مرتبكين ومتضاربين بالاراء فحكمني العلاف بالحبس لمدة سنة ..وتم نقلي الى سجن ابو غريب .
سجن ابو غريب : 1976
سجن أبو غريب يقع قرب قضاء أبو غريب( الذي يبعد 32 كم غرب بغداد و يعود تاريخ تأسيسه إلى العهد الملكي في عام 1944م) .. كان السجن يدار بعهدي البكر وصدام من قبل مديرية الأمن العام ووزارة الداخلية.
من اليوم الاول حجزوني في زنزانة منفردة تقع في نهاية ممر طويل ,على جانبيه انتشرت الزنزانات الانفرادية ,يبقونك هناك اياما قليلة .. ثم يزودونك بملابس السجن ..اذكر وصلتها وقت الظهيرة ورأيت حوالي خمسة محتجزين.. عصرا جذبنا حديث شيق لنزيل معتق : قال (اراكم في حزن وقلق لكنها مدة ستنقضي وسيفرج عنكم ... وان التفكير لا يطلق سراحكم .. فاسمعوا مني قصة العرب ...).. ولما وجدنا نصغي اخذ يقص قصة مشوقة من التراث الشعبي ..
بعد ايام تم نقلي الى ردهة (قاووش رقم 13) ( القاووش كلمة تركية الأصل معناها السجن ويستخدمها أهالي جدّة وهي عندهم بمعنى العنبر الذي يسكنه الجنود).
وهي ردهة واسعة وطويلة يقع في مقدمتها الحمامات, والمطبخ , وتمتد الاسرّة بنسق متواز بثلاثة صفوف : اثنان جوار الجدار والثالث في المنتصف ..ولها باب مشبك من القضبان .
شيئا فشيئا بدات اكتشف بان النزلاء هنا صغار السن , وان الشذوذ منتشر ..وبدأت فورا رحلة الاستكشاف لمواقع السجن ... كان من نظام السجن ان يستخدم النزلاء الجدد لمدة حوالي شهر في ثرم وتقشير المخضرات في المطبخ وهو قاعة واسعة تنتشر فيه المصطبات الحجرية الطويلة حيث يتناول السجناء وجباتهم هنا .. ورأيت ان كل عدد من الردهات (القواويش ) يتم حجزها بباب مشبك , وهو اسلوب يحفظ النظام , فان حدث تمرد او وباء مثلا يمكن حجز مجموعة عن اخرى لكن الابواب ابدا مشرعة ولا تغلق الا ليلا .
السجن الذي اصفه هنا هو سجن الاحكام الخفيفة المقدرة بخمس سنوات فنازلا , ولم ار سجن الاحكام الثقيلة .
ينقل بعض النزلاء لمعامل داخل السجن ليصنعوا او يتعلموا صنع الاثاث ... لم اطلع على تلك المعامل الا ان السجناء الملتحقين بها اخبروني عنها ,وهي خطة صائبة فالانسان ميال لعمل مثمر .
كنا نقصد كل يوم ساحة للرياضة واسعة وكنت اتدرب على الملاكمة ,وقد كان بردهتي شاب قوي الجسم ابيض البشرة يحب الملاكمة ايضا فقويت علاقتنا واخبرني مرة (بانه عصبي وان هذا الطبع يسبب له مشاكل كثيرة , في البيت مثلا كان يكسر الصحون والكؤوس والاثاث لاتفه سبب) وكان ابو زمن وهو سجين يساري من منطقتي .. لطيف الملامح مرن التعامل هاديء تجذبك فيه جمال عينيه السوداويين وبشرته التي تتحول في الوجه احيانا الى الحمرة , يدربنا ونحن مثله مزودون بقفازات الملاكمة .. الا ان صاحبي العصبي تلقى ضربة منه وأخذ انفه ينزف ..كان يقول (لن تكون ملاكما حتى يكسر انفك )..
في زيارتهم الاولى اتى الاهل ومعهم <ديوان المتنبي بجزئين للبرقوقي)..ما هيأ فرصة لي لدراسته ..ولا اعلم نوع وعدد الكتب التي قرأتها في السجن , ولا اتذكر نوع الكتابات .. تلك مشكلة الذاكرة , كنت ارى ان على الشاعر ان يظل شاعرا ولا يتوزع .. كانت فكرة خاطئة خسرت خلالها ربع قرن من الكتابة .. وكنت لا احتفظ بالاوراق والوثائق تماشيا مع نظرية نسيان الماضي , وتميزت بذاكرة لم تدّرب على حفظ الاسماء .
وانا اكتب هذه المذكرات بعد مرور حوالي نصف قرن عليها مع تسارع الاحداث وظروف العراق الصاخبة , لا احب الا ان اكون امينا لما علق بالذاكرة .
جوار سريري شاب صغير عيناها ضعيفتان تفتحان بجهد ..وكان احد النزلاء بعمره .. يصادقه لمصلحة (لما يوفره من مبلغ وطعام له ).. فلفت انظار الشاب الى صاحبه وبينت له علاقة المنفعة .. بعد ساعات استدعاني صاحبه القبيح الجشع واخرج موسى وحاول طعني .... لقد تسرب له الكلام .. وحل النزاع بسرعة .
كنت في السجن اقضي جل وقتي بتحليل الشخصيات واستكشاف اسرارها الخفية , ولقد التقيت بعدد كبير.
لقد كان يتقارب لدي الاهتمام بالاداب وسبر الشخصيات , واذكر اني صادفت ثلاثة نزلاء اعترفوا لي بانهم راودوا اخواتهم عن انفسهن .
محكمة الثورة
اسس حزب البعث في العراق بعد تسلمه السلطة, محكمة خاصة تتولى البت بالقضايا الكبرى اسماها محكمة الثورة , وقد عقدت تلك المحكمة جلساتها بسرية تامة بعد أن أعلن أمر (مجلس قيادة الثورة) في شتاء عام 1969 بتشكيل تلك المحكمة العسكرية الخاصة برئاسة العقيد علي هادي وتولت محاكمة ماسمي بـ «شبكة التجسس لصالح العدو الصهيوني».
وعندما انتهت من أعمالها وأصدرت أحكامها النهائية غير الخاضعة للتمييز بثت وقائع جلساتها بحلقات يومية من الإذاعة والتلفزيون حرص الجميع على متابعتها باهتمام وشغف وعلى مدى ثلاثين يوما وشاهدنا حتى صدور أحكام الاعدام في نهاية جلساتها بين ( رميا بالرصاص او شنقا حتى الموت )..ثم علقت جثثهم في ساحة التحرير ببغداد وفي ساحة أم البروم في البصرة وتدفقت الجماهير وهي تطلق الهتافات منها (عاش قرار المحكمة بإعدام زلخة وجيته).).
وقد توالى على رئاسة محكمة الثورة العلاف و مسلم الجبوري و عواد حمد البندر.
ج ـ على أن الأشخاص الذين ثبتت أدانتهم من محكمة مختصة بجريمة التجسس لحساب الأجنبي أو التآمر على تقويض نظام الحكم التقدمي الاشتراكي وأساسه الاقتصادي والاجتماعي فيجوز مصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة وقيدها إيراداً للدولة بموجب قانون
الفصل الرابع: السلطة القضائية
المادة التاسعة والسبعون ( الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء أو في شؤون العدالة وتنظم السلطة القضائية بقانون).
(بسم الله الرحمن الرحيم
إيمانا بحق هذا الشعب في الحياة الحرة الكريمة وثقته بقدرته على مواجهة الصعاب وإرادته التي لا تقهر وبعد الاتكال على الله وعلى المخلصين من أبناء الشعب والقوات المسلحة قامت فئة بارة من أبناء الشعب مؤمنة بربها وبأهداف الأمة العربية بتفجير ثورة السابع عشر من تموز 1968 وإنهاء الأوضاع الشاذة واستلام مقاليد الأمور بغية تأمين سيادة القانون وإيجاد تكافؤ الفرص للمواطنين والعمل على تحقيق الوحدة الوطنية والقضاء على أسباب التمزق الداخلي وتحرير المواطن من الاستغلال والخوف والجهل والنعرات الطائفية والعنصرية والقبلية وكافة مظاهر الاستعباد وإقامة مجتمع تسوده الأخوة والمحبة والتآلف والشعور بالمسؤولية إزاء الأحداث المصيرية وذلك عن طريق توفير الحياة الديمقراطية للمواطنين في إطار التنظيمات الشعبية وصولاً إلى أقامة المجلس الوطني الذي يمثل كافة القطاعات الوطنية نعلن هذا الدستور المؤقت الذي ثبتت فيه قواعد الحكم ونظمت به علاقة الدولة بالفرد والمجتمع وليعمل به حتى يوضع دستور البلاد الدائم الذي ستكون فيه الكلمة الأخيرة للشعب مستعينين جميعاً بالله العلي القدير.
مجلس قيادة الثورة).
في السرداب حيث تعلوه محكمة الثورة رأيت هناك امرأة مكتزة الجسم بيضاء طويلة تحمل رضيعها بيديها ..واتى بعض الحراس وفصلوا الرضيع عنها .. ستقضي ثلاث سنوات في السجن , لانهم وجدوا في حساباتها اموالا زائدة.
وقال لي العلاف هل لديك محامي قلت لا , قال هل نوكل لك محامي قلت ( انا ادافع عن نفسي) .. وتلا ب(اني اتهمت السلطة بقتل الشاعر مهدي طه وبان السلطة الفعلية للبلد لصدام حسين وليس للبكر ..) وضحكوا ..استفزتني ضحكاتهم لكني لم اعلق ..كانوا يصغون وكأنهم يسمعون طرفة مثيرة .. فاما انهم كانوا جهلة حقا او انهم يتسترون .. فقد اكدت الوقائع والادلة بان صدام حسين كان الحاكم الفعلي للبلد وليس البكر .
فبعد القضاء على مدير الامن ناظم كزار عام 1974. أثر محاولة انقلاب فاشلة كان مخططا ان يتم اغتيال البكر فيها في المطار فيما حجز كزار وزيري الداخلية والدفاع .. فاصاب احدهما وقتل الاخر ...اصبح صدام الحاكم الفعلي للعراق وحجم دور الرئيس البكرشيئا فشيئا حتى وفاته او (تصفيته ).
بعد ذلك نودي على الشهود ,واستغربت وانا ارى ام صديقي الشاعر الغريق مهدي طه واباه يدليان بشهادة ضدي .. كنت اودهما وتعاطفت معهما بعد حادثة الغرق ولم اقطع زيارتي لمنزلهما في منطقة الجمهورية لفترة طويلة .... كل ما في الامر ان احد اقربائهما كان رجل امن و لم اكن اعرف بذلك وتحدثت من باب الثقة بما ادنت به : (قذف السلطة )..وكانا اثناء الادلاء مرتبكين ومتضاربين بالاراء فحكمني العلاف بالحبس لمدة سنة ..وتم نقلي الى سجن ابو غريب .
سجن ابو غريب : 1976
سجن أبو غريب يقع قرب قضاء أبو غريب( الذي يبعد 32 كم غرب بغداد و يعود تاريخ تأسيسه إلى العهد الملكي في عام 1944م) .. كان السجن يدار بعهدي البكر وصدام من قبل مديرية الأمن العام ووزارة الداخلية.
من اليوم الاول حجزوني في زنزانة منفردة تقع في نهاية ممر طويل ,على جانبيه انتشرت الزنزانات الانفرادية ,يبقونك هناك اياما قليلة .. ثم يزودونك بملابس السجن ..اذكر وصلتها وقت الظهيرة ورأيت حوالي خمسة محتجزين.. عصرا جذبنا حديث شيق لنزيل معتق : قال (اراكم في حزن وقلق لكنها مدة ستنقضي وسيفرج عنكم ... وان التفكير لا يطلق سراحكم .. فاسمعوا مني قصة العرب ...).. ولما وجدنا نصغي اخذ يقص قصة مشوقة من التراث الشعبي ..
بعد ايام تم نقلي الى ردهة (قاووش رقم 13) ( القاووش كلمة تركية الأصل معناها السجن ويستخدمها أهالي جدّة وهي عندهم بمعنى العنبر الذي يسكنه الجنود).
وهي ردهة واسعة وطويلة يقع في مقدمتها الحمامات, والمطبخ , وتمتد الاسرّة بنسق متواز بثلاثة صفوف : اثنان جوار الجدار والثالث في المنتصف ..ولها باب مشبك من القضبان .
شيئا فشيئا بدات اكتشف بان النزلاء هنا صغار السن , وان الشذوذ منتشر ..وبدأت فورا رحلة الاستكشاف لمواقع السجن ... كان من نظام السجن ان يستخدم النزلاء الجدد لمدة حوالي شهر في ثرم وتقشير المخضرات في المطبخ وهو قاعة واسعة تنتشر فيه المصطبات الحجرية الطويلة حيث يتناول السجناء وجباتهم هنا .. ورأيت ان كل عدد من الردهات (القواويش ) يتم حجزها بباب مشبك , وهو اسلوب يحفظ النظام , فان حدث تمرد او وباء مثلا يمكن حجز مجموعة عن اخرى لكن الابواب ابدا مشرعة ولا تغلق الا ليلا .
السجن الذي اصفه هنا هو سجن الاحكام الخفيفة المقدرة بخمس سنوات فنازلا , ولم ار سجن الاحكام الثقيلة .
ينقل بعض النزلاء لمعامل داخل السجن ليصنعوا او يتعلموا صنع الاثاث ... لم اطلع على تلك المعامل الا ان السجناء الملتحقين بها اخبروني عنها ,وهي خطة صائبة فالانسان ميال لعمل مثمر .
كنا نقصد كل يوم ساحة للرياضة واسعة وكنت اتدرب على الملاكمة ,وقد كان بردهتي شاب قوي الجسم ابيض البشرة يحب الملاكمة ايضا فقويت علاقتنا واخبرني مرة (بانه عصبي وان هذا الطبع يسبب له مشاكل كثيرة , في البيت مثلا كان يكسر الصحون والكؤوس والاثاث لاتفه سبب) وكان ابو زمن وهو سجين يساري من منطقتي .. لطيف الملامح مرن التعامل هاديء تجذبك فيه جمال عينيه السوداويين وبشرته التي تتحول في الوجه احيانا الى الحمرة , يدربنا ونحن مثله مزودون بقفازات الملاكمة .. الا ان صاحبي العصبي تلقى ضربة منه وأخذ انفه ينزف ..كان يقول (لن تكون ملاكما حتى يكسر انفك )..
في زيارتهم الاولى اتى الاهل ومعهم <ديوان المتنبي بجزئين للبرقوقي)..ما هيأ فرصة لي لدراسته ..ولا اعلم نوع وعدد الكتب التي قرأتها في السجن , ولا اتذكر نوع الكتابات .. تلك مشكلة الذاكرة , كنت ارى ان على الشاعر ان يظل شاعرا ولا يتوزع .. كانت فكرة خاطئة خسرت خلالها ربع قرن من الكتابة .. وكنت لا احتفظ بالاوراق والوثائق تماشيا مع نظرية نسيان الماضي , وتميزت بذاكرة لم تدّرب على حفظ الاسماء .
وانا اكتب هذه المذكرات بعد مرور حوالي نصف قرن عليها مع تسارع الاحداث وظروف العراق الصاخبة , لا احب الا ان اكون امينا لما علق بالذاكرة .
جوار سريري شاب صغير عيناها ضعيفتان تفتحان بجهد ..وكان احد النزلاء بعمره .. يصادقه لمصلحة (لما يوفره من مبلغ وطعام له ).. فلفت انظار الشاب الى صاحبه وبينت له علاقة المنفعة .. بعد ساعات استدعاني صاحبه القبيح الجشع واخرج موسى وحاول طعني .... لقد تسرب له الكلام .. وحل النزاع بسرعة .
كنت في السجن اقضي جل وقتي بتحليل الشخصيات واستكشاف اسرارها الخفية , ولقد التقيت بعدد كبير.
لقد كان يتقارب لدي الاهتمام بالاداب وسبر الشخصيات , واذكر اني صادفت ثلاثة نزلاء اعترفوا لي بانهم راودوا اخواتهم عن انفسهن .