العلماء الحقيقيون هم الذين يُغلِّبون المنطقَ على الظن ويشكون في حقيقة الأشياء المحيطة بهم من أحداث وظواهر. وكل ما ينتجونه من معارف تكون قد تمَّ تمريرُها من مصفاة العقل وما يتطلَّبُه هذا العقل من نقد وأخذٍ وردٍّ لتستجيبَ للمنطق الذي هو أساس ما يُنتجونه من معارف. ويعرفون، حقَّ المعرفة، أن ما توصلوا إليه من معارف ليس إلا محاولات تفسير قابلة للتَّغيير، إن عاجلا أو آجلا.
غير أن هناك نوعا آخر ممَّن أطلقوا على أنفسهم لقب علماء وهم لا يتوفَّرون على أية ميزةٍ من الميزات التي ينفرد بها العلماء الحقيقيون. وكل ما ينتجونه من معارف يعتمد، فقط وحصريا على الأقوال وليست أية أقوال. أقوال السلف الذين، كلهم أصبحوا من عِداد الموتي. وحتى السلف، هو الآخر اعتمد على ما قاله الأولون وهكذا. وحتى إن قاموا ببحثٍ، فإن هذا البحثَ يعتمد على أقوال السلف بحيث أن ما يترتَّب عنه من إنتاج معرفي ليس إلا تكرارٌ لما قاله السلفُ تمَّ تقديمُه للناس بأسلوب وقالب جديدين. إنه بحثٌ يعتمد على النقل وليس، إطلاقا، على التَّجديد والابتكار والإبداع.
فعلا، إن العديدَ مِمَّن يٌطلقون على أنفسهم لقبَ "علماء" (ليس هذا تعميم – هذا النوع من العلماء موجود ويعث في الأرض ظلما)، ظلموا العالم الإسلامي والعربي بفتاواهم التخويفية وبنرجسيتهم المبالغ فيها. يدّعون أنهم يملكون الحقيقة (في عالم البشر، كل شيء نسبي) ويعرفون الدين أكثر من غيرهم ناسين أنهم بشرٌ وأن تفاسيرَهم ليست إلا محاولات تفسيرٍ إن صلحت بالأمس قد لا تصلح غدا و بعد غد...
يا مَن يدَّعون أنهم علماء، ألم تروا أو ألم تُنبئكم عقولُكم أن الإنسان، منذ أن خلقه الله في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه، تطوَّر ويتطور فكريا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا؟ إن كنتم علماء، كما تدَّعون، فلماذا جعلتم من الدين وسيلةَ تخويف وترهيب وتَهْدِيد وتَوَعُّد و وَعِيد وتَفْزِيع…؟ والله، سبحانه وتعالى، يقول : "...إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر، 28).
صحيحٌ أنهم متبحِّرون فيما يُسمونه علومَ الدين ومتضلِّعون في الفقه، لكن ألم يقل سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…(النحل، 125).
في هذه الآية الكريمة، الله، جل جلالُه، يتوجَّه إلى رسولِه محمد (ص) طالباً منه أن يتصرَّفَ مع الناس "بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"، أي ليدعوَهم إلى الطريق المستقيم لكن دون تخويفهم وزرع الهلع في نفوسهم. بل يدعو رسولَه إلى التَّحلِّي "بِالْحِكْمَةِ"، أي النزول عند المستوى الفكري والاجتماعي لهؤلاء الناس، أي بدون استعلاءٍ وترفُّع. فلماذا بعضُ العلماء يتركون كلامَ الله جانبا ويُحوِّلون الموعظةَ إلى توعُّدٍ بالعذاب والنار و الكفر...؟
ولنتذكر هنا كذلك ما قاله سبحانه وتعالى في سورة طه، الآية 44 : "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ". والأمر موجَّهٌ هنا إلى الرسول موسى وإلى أخيه هارون حيث يوصيهما، سبحانه وتعالى بمقابلة فرعون بكلام ليِّن ولطيف وغير جارح… علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يعلم أن فرعون طاغية، مستبد، مشرك، كافر… ورغم هذا الطغيان والاستبداد والشرك والكفر، أمر، سبحانه وتعالى، موسى وأخاه هارون أن يتصرفا معه باللين واللطف. ثم لماذا الله، سبحانه وتعالى، ألحَّ على موسى وأخيه هارون أن يكونا ليِّنين مع فرعون، علما أنه، عزَّ وجلَّ، قادر على أن ينتقم من فرعون بشتى الوسائل؟ لأن الله أراد أن يُدخلَ فرعون الجنةَ وهذا الأخير اختار أهواءَه والادِّعاء بالألوهية.
وللتَّذكير، إن كلمةَ "فقه" ليست حكرا على مَن يُلمُّ بعلوم الدين. بل كل مَن له درايةٌ واسعة في مجالٍ من مجالات المعرفة المتعدِّدة المشارب، نقول إنه متفقِّهٌ أو فقيه في علم كذا أو علم كذا.
واللهِ إنه لعجبُ عجابٌ أن يتجاهلَ بعضُ علمائنا وفقهائنا كلامَ الله الذي يريد لعباده الخيرَ ولا شيءَ غير الخير وينهجون نهجَ التَّخويف والتَّرْهِيب والتَّفْزِيع والتَّهْدِيد والتَّهْوِيل والتَّوعُّد...
لماذا أطلقتم على أنفسكم لقب "علماء" وأنتم تدرون أن "العَالِمَ" هو المتضلِّع في العلم والمعرفة بشتى مشاربها؟
والمعرفة لم تقتصر في يوم ما ولا تقتصر ولن تقتصر فقط على أمور الدين!
إنكم تعرفون، حقَّ المعرفة، أن مجال المعرفة واسع و لا حدود له. إنكم تعرفون، تمام المعرفة، أن العالِم في العصر الذهبي للإسلام كان في نفس الوقت فقيها وفيلسوفا وطبيبا وصيدليا وفيزيائيا وكيميائيا وفلكيا ورياضيا، أي كان يجمع بين علوم الدين والعلوم الدنيوية الأخرى بشتى مشاربها... كما كان الشأن عند البيزنطيين واليونانيين والرومان... مفهوم العلم كان شاملا.
و هذا هو ما نلاحظه في القرآن الكريم الذي جاءت فيه كلمة "علم" على صيغة المفرد ولا يوجد فيه أثر لجمعها (علوم). أليس هذا دليل على أن العِلم لا يمكن حصره في العلوم الدينية؟ بل العِلم هو مجموع كل ما توصل إليه الإنسان من معرفة، من خلال البحث، مند ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا.
وقد بينت الأبحاث أن بعضَ ما توصل إليه الإنسان من معارف مُشار إليها، بكيفية أو أخرى، في القرآن الكريم. أقول مُشار إليها ولا أقول موجودة فيه جملةً وتفصيلا. لأن القرآن ليس كتابَ علم بالمفهوم الحديث لهذا المصطلح. إنه بالأحرى، وأنتم تعرفون هذا حق المعرفة، كتاب هداية وموعظة وتشريع يحثُّ على مكارم الأخلاق وعلى حسن المعاملات ويرسم للناس الطريقَ المستقيمَ…
وحتي الدين الذي فكَّكتموه إلى مذاهب متناحرة فيما بينها، كمصطلح، ورد في القرآن الكريم على صيغة المفرد. فلماذا صعَّبتم وعسَّرتم هذا الدين الذي هو، بالنسبة لله، دينٌ واحد مُيسَّرٌ ومفتوحةٌ أبوابُه لمَن أراد أن يعتنقَه. لماذا صعَّبتم الدين الواحد واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه المنزَّل على محمد (ص) : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة، 256).
الدين عند الله، سبحانه وتعالى، دينٌ واحدٌ أراده لعباده أجمعين، ألا هو الإسلام. وقد كلَّف رسلَه بنشره بين الناس، بدأً بنوح عليه السلام وانتهاءً بمحمد (ص). ومرورا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب… وموسى وعيسى، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة، 133).
فكيف تُطلِقون على أنفسكم لقب "علماء" والعِلم شاسع الأطراف؟ ألم يقل، سبحانه وتعالى، في كتابه الكريم : "... وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة، 231).
ثم لماذا استعمل اللهُ كلمةَ "شيء" في هذه الآية؟ استعملها لأنها، لُغويا، تشير إلى كل ما هو موجودُ في الكون، بما في ذلك الأرض. وكم هي عديدة الأشياء التي يتكوَّن منها الكون والأرض. وكم هي عديدة العلوم التي تُشرِّح هذه الأشياء وجعلت وتجعل العديدَ منها منفعةً للناس. فهل العلوم الدينية هي التي تقوم بهذا التَّشريح؟ لا، أبدا! العلوم الدنيوية التي أنتجها العقل البشري، هي التي قامت وتقوم وستقوم بهذا التشريح. والعلوم الدينية، هي الأخرى، من إنتاج بشري. وما دامت من إنتاج بشري، فإنها، كالعلوم الدنيوية، نسبية، أي قابلة للتَّغيير حسب الزمان والمكان، إلا ما كان ثابتة منها إلى يوم يُبعثون.
لكن فقهاءَ الدين وعلماءَه اختاروا تجميدَ الحياة والمجتمعَ بربط الدين الذي هو الإسلام بما قاله السلف الذي عاش في القرون التي تَلَت وفاة الرسول محمد (ص)، وخصوصا، ما قاله هذا السلف في عصر الأمويين والعباسيين، حيث أصبح الدينُ يستغلُّ لصالح السياسة. بينما العلمُ الحديث، بجميع فروعه، يبيِّن أن المجتمع والحياة، بمعناها الواسع، يتطوران اجتماعيا، اقتصاديا و ثقافيا؟
فإذا أرادوا أن يستحقوا هذا اللقب (علماء)، فعليهم أن يجمعوا بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية إسوةً بالفارابي وابن رشد وجابر بن حيان وابن زهر…
وهذا هو ما كان جاري به العملُ في القرون الأولى بعد الميلاد حيث كان بعض رجال الديانتين، اليهودية والمسيحية، يساهمون في تطوُّر العلوم الدنيوية بأبحاث ودراسات في شتى مجالات المعرفة من ترجمة وتعدين ونبات ورياضيات وطب وميكانيك وفلك و وراثة… بل عليهم أن يتخلوا عن نرجسيتهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"(فاطر، 28).
فلماذا لا تستوقفهم آياتٌِ كثيرة من القرآن الكريم والتي يدعو، من خلالِها، عبادَه إلى معرفة الكون وسَبْرِ أسراره والاستفادة منها في حياتهم العامة واليومية. من بين هذه الآيات، أذكر على سبيل المثال : "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" (الغاشية، 17) و "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء، 30).
أليست هذه الآيات عبارة عن دعوةٍ صريحة موجَّهة للإنسان ليتعرَّفَ على الكون و مخلوقاته؟ وما يثير الانتباهَ، هو أن اللهَ، سبحانه و تعالى، تحدَّث عن الإبل وليس عن حيوانات أخرى. لماذا؟
لأن الابلَ لها خاصيات مورفولوجية وفيزيولوجية تجعل منها حيوانات قادرة على مقاومة العطش والجوع طيلةَ أيام. فكانت الوسيلة المفضلة للتَّنقُّل عبر الصحراء. وما يثير الانتباهَ كذلك هو أن اللهَ سبحانه وتعالى قال "وجعلنا" ولم يقل وخلقنا من الماء كل شيء حي. لماذا؟
أولا، لأن الماء مادة معدنية جامدة لا يمكن أن تُعطيَ الحياةَ. لكن الماءَ ضروري وأساسي وإجباري للحياة. أدوارُه في الكون، وبالأخص عند الكائنات الحية، لا حصر لها. هذا هو سر استعمال "وجعلنا"، أي مكَّن الماءَ من لعب أدوار كثيرة وخصوصا في عالم الأحياء.
فلماذا يترك بعضُ علمائنا وفقهائنا هذا السيلَ الهائلَ من الآيات القرآنية التي هي، في الحقيقة، إشاراتٌ تبيِّن بوضوح ما وصلت وتصل وستصل إليه العلوم الحديثة من تقدُّم وازدهار؟
بينما هؤلاء العلماء والفقهاء يُصرُّون على حصر هذا العلم في ما له علاقة بالدين والفقه علما أن الدين عبادات وأكثره معاملات. بل ويصرون على إطلاق العِنان لأهوائهم ليتفنَّنوا في نهجِ أساليب التخويف والتَّرهيب والتَّهديد… علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، أوصى باللين واللطف عند تقديم الموعظة. فلماذا هذا الإصرارُ أمام واقعٍ يثقب العيون؟
إذا كان هذا الإصرارُ متعمَّدا، فإن وراءه حاجاتٍ في نفس يعقوب. وإذا لم يكن متعمَّدا، فإنه عجزٌ متعمَّدٌ عن رؤية الأشياء كما يفرضها الواقع. طال الزمان أم قصُرَ، سيأتي يوم يتغلَّب فيه الفكر التَّنويري على فكر فقهاء الدين وعلمائه الذين أرادوا أن يُجمِّدوا، ليس فقط، الحياةَ والمجتمعَ، لكن، في نفس الوقت، عقولَ ملايين البشر!
غير أن هناك نوعا آخر ممَّن أطلقوا على أنفسهم لقب علماء وهم لا يتوفَّرون على أية ميزةٍ من الميزات التي ينفرد بها العلماء الحقيقيون. وكل ما ينتجونه من معارف يعتمد، فقط وحصريا على الأقوال وليست أية أقوال. أقوال السلف الذين، كلهم أصبحوا من عِداد الموتي. وحتى السلف، هو الآخر اعتمد على ما قاله الأولون وهكذا. وحتى إن قاموا ببحثٍ، فإن هذا البحثَ يعتمد على أقوال السلف بحيث أن ما يترتَّب عنه من إنتاج معرفي ليس إلا تكرارٌ لما قاله السلفُ تمَّ تقديمُه للناس بأسلوب وقالب جديدين. إنه بحثٌ يعتمد على النقل وليس، إطلاقا، على التَّجديد والابتكار والإبداع.
فعلا، إن العديدَ مِمَّن يٌطلقون على أنفسهم لقبَ "علماء" (ليس هذا تعميم – هذا النوع من العلماء موجود ويعث في الأرض ظلما)، ظلموا العالم الإسلامي والعربي بفتاواهم التخويفية وبنرجسيتهم المبالغ فيها. يدّعون أنهم يملكون الحقيقة (في عالم البشر، كل شيء نسبي) ويعرفون الدين أكثر من غيرهم ناسين أنهم بشرٌ وأن تفاسيرَهم ليست إلا محاولات تفسيرٍ إن صلحت بالأمس قد لا تصلح غدا و بعد غد...
يا مَن يدَّعون أنهم علماء، ألم تروا أو ألم تُنبئكم عقولُكم أن الإنسان، منذ أن خلقه الله في أحسن تقويم ونفخ فيه من روحه، تطوَّر ويتطور فكريا، ثقافيا، اجتماعيا واقتصاديا؟ إن كنتم علماء، كما تدَّعون، فلماذا جعلتم من الدين وسيلةَ تخويف وترهيب وتَهْدِيد وتَوَعُّد و وَعِيد وتَفْزِيع…؟ والله، سبحانه وتعالى، يقول : "...إنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (فاطر، 28).
صحيحٌ أنهم متبحِّرون فيما يُسمونه علومَ الدين ومتضلِّعون في الفقه، لكن ألم يقل سبحانه وتعالى في كتابه الكريم : "ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ…(النحل، 125).
في هذه الآية الكريمة، الله، جل جلالُه، يتوجَّه إلى رسولِه محمد (ص) طالباً منه أن يتصرَّفَ مع الناس "بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ"، أي ليدعوَهم إلى الطريق المستقيم لكن دون تخويفهم وزرع الهلع في نفوسهم. بل يدعو رسولَه إلى التَّحلِّي "بِالْحِكْمَةِ"، أي النزول عند المستوى الفكري والاجتماعي لهؤلاء الناس، أي بدون استعلاءٍ وترفُّع. فلماذا بعضُ العلماء يتركون كلامَ الله جانبا ويُحوِّلون الموعظةَ إلى توعُّدٍ بالعذاب والنار و الكفر...؟
ولنتذكر هنا كذلك ما قاله سبحانه وتعالى في سورة طه، الآية 44 : "فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُۥ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ". والأمر موجَّهٌ هنا إلى الرسول موسى وإلى أخيه هارون حيث يوصيهما، سبحانه وتعالى بمقابلة فرعون بكلام ليِّن ولطيف وغير جارح… علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يعلم أن فرعون طاغية، مستبد، مشرك، كافر… ورغم هذا الطغيان والاستبداد والشرك والكفر، أمر، سبحانه وتعالى، موسى وأخاه هارون أن يتصرفا معه باللين واللطف. ثم لماذا الله، سبحانه وتعالى، ألحَّ على موسى وأخيه هارون أن يكونا ليِّنين مع فرعون، علما أنه، عزَّ وجلَّ، قادر على أن ينتقم من فرعون بشتى الوسائل؟ لأن الله أراد أن يُدخلَ فرعون الجنةَ وهذا الأخير اختار أهواءَه والادِّعاء بالألوهية.
وللتَّذكير، إن كلمةَ "فقه" ليست حكرا على مَن يُلمُّ بعلوم الدين. بل كل مَن له درايةٌ واسعة في مجالٍ من مجالات المعرفة المتعدِّدة المشارب، نقول إنه متفقِّهٌ أو فقيه في علم كذا أو علم كذا.
واللهِ إنه لعجبُ عجابٌ أن يتجاهلَ بعضُ علمائنا وفقهائنا كلامَ الله الذي يريد لعباده الخيرَ ولا شيءَ غير الخير وينهجون نهجَ التَّخويف والتَّرْهِيب والتَّفْزِيع والتَّهْدِيد والتَّهْوِيل والتَّوعُّد...
لماذا أطلقتم على أنفسكم لقب "علماء" وأنتم تدرون أن "العَالِمَ" هو المتضلِّع في العلم والمعرفة بشتى مشاربها؟
والمعرفة لم تقتصر في يوم ما ولا تقتصر ولن تقتصر فقط على أمور الدين!
إنكم تعرفون، حقَّ المعرفة، أن مجال المعرفة واسع و لا حدود له. إنكم تعرفون، تمام المعرفة، أن العالِم في العصر الذهبي للإسلام كان في نفس الوقت فقيها وفيلسوفا وطبيبا وصيدليا وفيزيائيا وكيميائيا وفلكيا ورياضيا، أي كان يجمع بين علوم الدين والعلوم الدنيوية الأخرى بشتى مشاربها... كما كان الشأن عند البيزنطيين واليونانيين والرومان... مفهوم العلم كان شاملا.
و هذا هو ما نلاحظه في القرآن الكريم الذي جاءت فيه كلمة "علم" على صيغة المفرد ولا يوجد فيه أثر لجمعها (علوم). أليس هذا دليل على أن العِلم لا يمكن حصره في العلوم الدينية؟ بل العِلم هو مجموع كل ما توصل إليه الإنسان من معرفة، من خلال البحث، مند ظهوره على وجه الأرض إلى يومنا هذا.
وقد بينت الأبحاث أن بعضَ ما توصل إليه الإنسان من معارف مُشار إليها، بكيفية أو أخرى، في القرآن الكريم. أقول مُشار إليها ولا أقول موجودة فيه جملةً وتفصيلا. لأن القرآن ليس كتابَ علم بالمفهوم الحديث لهذا المصطلح. إنه بالأحرى، وأنتم تعرفون هذا حق المعرفة، كتاب هداية وموعظة وتشريع يحثُّ على مكارم الأخلاق وعلى حسن المعاملات ويرسم للناس الطريقَ المستقيمَ…
وحتي الدين الذي فكَّكتموه إلى مذاهب متناحرة فيما بينها، كمصطلح، ورد في القرآن الكريم على صيغة المفرد. فلماذا صعَّبتم وعسَّرتم هذا الدين الذي هو، بالنسبة لله، دينٌ واحد مُيسَّرٌ ومفتوحةٌ أبوابُه لمَن أراد أن يعتنقَه. لماذا صعَّبتم الدين الواحد واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه المنزَّل على محمد (ص) : "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (البقرة، 256).
الدين عند الله، سبحانه وتعالى، دينٌ واحدٌ أراده لعباده أجمعين، ألا هو الإسلام. وقد كلَّف رسلَه بنشره بين الناس، بدأً بنوح عليه السلام وانتهاءً بمحمد (ص). ومرورا بإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب… وموسى وعيسى، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَـٰهَكَ وَإِلَـٰهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَـٰهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ" (البقرة، 133).
فكيف تُطلِقون على أنفسكم لقب "علماء" والعِلم شاسع الأطراف؟ ألم يقل، سبحانه وتعالى، في كتابه الكريم : "... وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (البقرة، 231).
ثم لماذا استعمل اللهُ كلمةَ "شيء" في هذه الآية؟ استعملها لأنها، لُغويا، تشير إلى كل ما هو موجودُ في الكون، بما في ذلك الأرض. وكم هي عديدة الأشياء التي يتكوَّن منها الكون والأرض. وكم هي عديدة العلوم التي تُشرِّح هذه الأشياء وجعلت وتجعل العديدَ منها منفعةً للناس. فهل العلوم الدينية هي التي تقوم بهذا التَّشريح؟ لا، أبدا! العلوم الدنيوية التي أنتجها العقل البشري، هي التي قامت وتقوم وستقوم بهذا التشريح. والعلوم الدينية، هي الأخرى، من إنتاج بشري. وما دامت من إنتاج بشري، فإنها، كالعلوم الدنيوية، نسبية، أي قابلة للتَّغيير حسب الزمان والمكان، إلا ما كان ثابتة منها إلى يوم يُبعثون.
لكن فقهاءَ الدين وعلماءَه اختاروا تجميدَ الحياة والمجتمعَ بربط الدين الذي هو الإسلام بما قاله السلف الذي عاش في القرون التي تَلَت وفاة الرسول محمد (ص)، وخصوصا، ما قاله هذا السلف في عصر الأمويين والعباسيين، حيث أصبح الدينُ يستغلُّ لصالح السياسة. بينما العلمُ الحديث، بجميع فروعه، يبيِّن أن المجتمع والحياة، بمعناها الواسع، يتطوران اجتماعيا، اقتصاديا و ثقافيا؟
فإذا أرادوا أن يستحقوا هذا اللقب (علماء)، فعليهم أن يجمعوا بين العلوم الدينية والعلوم الدنيوية إسوةً بالفارابي وابن رشد وجابر بن حيان وابن زهر…
وهذا هو ما كان جاري به العملُ في القرون الأولى بعد الميلاد حيث كان بعض رجال الديانتين، اليهودية والمسيحية، يساهمون في تطوُّر العلوم الدنيوية بأبحاث ودراسات في شتى مجالات المعرفة من ترجمة وتعدين ونبات ورياضيات وطب وميكانيك وفلك و وراثة… بل عليهم أن يتخلوا عن نرجسيتهم مصداقا لقوله سبحانه وتعالى : "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ"(فاطر، 28).
فلماذا لا تستوقفهم آياتٌِ كثيرة من القرآن الكريم والتي يدعو، من خلالِها، عبادَه إلى معرفة الكون وسَبْرِ أسراره والاستفادة منها في حياتهم العامة واليومية. من بين هذه الآيات، أذكر على سبيل المثال : "أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ" (الغاشية، 17) و "أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" (الأنبياء، 30).
أليست هذه الآيات عبارة عن دعوةٍ صريحة موجَّهة للإنسان ليتعرَّفَ على الكون و مخلوقاته؟ وما يثير الانتباهَ، هو أن اللهَ، سبحانه و تعالى، تحدَّث عن الإبل وليس عن حيوانات أخرى. لماذا؟
لأن الابلَ لها خاصيات مورفولوجية وفيزيولوجية تجعل منها حيوانات قادرة على مقاومة العطش والجوع طيلةَ أيام. فكانت الوسيلة المفضلة للتَّنقُّل عبر الصحراء. وما يثير الانتباهَ كذلك هو أن اللهَ سبحانه وتعالى قال "وجعلنا" ولم يقل وخلقنا من الماء كل شيء حي. لماذا؟
أولا، لأن الماء مادة معدنية جامدة لا يمكن أن تُعطيَ الحياةَ. لكن الماءَ ضروري وأساسي وإجباري للحياة. أدوارُه في الكون، وبالأخص عند الكائنات الحية، لا حصر لها. هذا هو سر استعمال "وجعلنا"، أي مكَّن الماءَ من لعب أدوار كثيرة وخصوصا في عالم الأحياء.
فلماذا يترك بعضُ علمائنا وفقهائنا هذا السيلَ الهائلَ من الآيات القرآنية التي هي، في الحقيقة، إشاراتٌ تبيِّن بوضوح ما وصلت وتصل وستصل إليه العلوم الحديثة من تقدُّم وازدهار؟
بينما هؤلاء العلماء والفقهاء يُصرُّون على حصر هذا العلم في ما له علاقة بالدين والفقه علما أن الدين عبادات وأكثره معاملات. بل ويصرون على إطلاق العِنان لأهوائهم ليتفنَّنوا في نهجِ أساليب التخويف والتَّرهيب والتَّهديد… علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، أوصى باللين واللطف عند تقديم الموعظة. فلماذا هذا الإصرارُ أمام واقعٍ يثقب العيون؟
إذا كان هذا الإصرارُ متعمَّدا، فإن وراءه حاجاتٍ في نفس يعقوب. وإذا لم يكن متعمَّدا، فإنه عجزٌ متعمَّدٌ عن رؤية الأشياء كما يفرضها الواقع. طال الزمان أم قصُرَ، سيأتي يوم يتغلَّب فيه الفكر التَّنويري على فكر فقهاء الدين وعلمائه الذين أرادوا أن يُجمِّدوا، ليس فقط، الحياةَ والمجتمعَ، لكن، في نفس الوقت، عقولَ ملايين البشر!