الأستاذة الدكتورة سليمة مسعودي - بيان للشعر في يومه العالمي لعام 2024 : عن بيت الشعر الجزائري

من داخل الطبيعة الإنسانية الأكثر حساسية وإرهافا، من قلب الشاعر يصاعد الشعر ليقدم للبشرية نوعا من المعرفة التي تتراوح بين عالم الإلهي وعالم الطبيعة، فتقدم لنا عوالم الكائن الإنساني الذي ينتمي إليهما معا، ليحقق خصوصيته ككائن مرهف الإحساس، عالي الشعور، متقدة البصيرة، قوي الإرادة، لذلك كان النص الشعري تجربة داخلية خارجية في آن، واقعية وحالمة، معرفة ونبوءة، عاطفة ممتزجة بقدرة العقل على التناغم مع الحواس والقلب والروح. والشاعر هو هذا الكائن الأرضي الذي يستعيد باستمرار نبل الإنسان، ويحذره من السقوط والتلاشي في مهاوي العدمية المادية. بل يمتلك حتى قدرة السفر عبر الزمن ليقول الحقيقة فائضة بالرهبة والرغبة، والدهشة والرعشة، وهي تحيط بمكوناتها الجوهرانية ومساراتها الأصيلة، وهو ما يجعل الشعر طريق التواصل مع روح العالم البشري في مشكلاته الكبرى، ولهذا ذاته احترمت الأمم العظيمة شعراءها، وعظمت شعرها.




إن الشعر اندغام في الللحظات التاريخية الكبرى للكائن البشري، إنه ليس لحظة عرفانية وحسب، يصاعد فيها منسوب الروح والمشاعر الإنسانية ــ على أهميته في هذا الوقت بالذات، وليس لحظة واقعية عابرة، تتغير ألوانها بتغير أطياف ما يمر عليها من أحداث عابرة، وفق نسق التحول المهول الذي نشهده في عالم سائل، إن الشعر لحظة مفهومية تفتحنا على السؤالات الكبرى للكائن الإنساني والعالم وعلاقاتهما بمختلف الأحداث والسياقات التي تؤثث للوجود في شتى تحولاته ولحظاته ومنعرجاته الحاسمة .
فالألفة والحميمية هي التي تربط الذات الإنسانية بالشعر، وتجعل من الحاجة إليه حاجة ملحة ومطلبا ضروريا، لا يقل أهمية عن مطالب الإنسان الأساسية في الوجود والبقاء على قيد الحياة. ففي هذه اللحظة التاريخية الوجدانية العرفانية الكينونية المختلفة ــ لحظة الشعرــ تتمثل الذات الشاعرة الأشياء ومكوناتها الجوهرية ومكنوناتها الروحية، وتتمكن من رصد التحولات الظاهرة والخفية في علاقة هذا الكائن بمختلف عناصر الوجود، وتتمثل بحساسيتها المرهفة ما يترصد الإنسان من أخطار وجودية، ومنها تؤسس لمختلف علاقاتها بين عالمها الخاص وبين عالم الواقع، لتؤكد أن الشعر ظاهرة توليدية تحويلية تولد لنا باستمرار أنساق تحولاتنا وعلاقاتها بالعالم والوجود.



ولأن الشعر ابن لحظته التاريخية، وابن ميراث من العصور، ولأنه التمظهر المرآوي للكائن الإنساني في كينونته الشاملة واقعا وحلما، ذاتا وآخر، حضورا وغيابا، تاريخا وجغرافيا، ولأنه الفن الواسع الذي تندغم فيه الفنون المرئية والسمعية، وتنصهر فيه شتى أفكار الفلسفات والعلوم الاجتماعية والإنسانية في بحثها الدؤوب عن حقيقة الكائن الإنساني في جوهره الكينوني وعلاقاته مع العالم وأشراط الكون، ولأنه التجاوز المستمر لمنجزاته الروحية والجمالية والفكرية عبر الصيروارات والتحولات البشرية لعالم الأفكار والعواطف، فإنه المعرفة التي تتجاوز ذاتها باستمرار، متشبثة بجذورها، مرتبطة كأوثق ما يكون الارتباط بلحظتها التاريخية، محاولة فتح أفق إنساني جديد، يجبر تصدعات الراهن، ويتطلع إلى واقع أجمل.
كلما دار حول على الإنسان كان حاملا لحدث جديد، أو على الأقل لخصوصيات جديدة من هذه المرحلة الخطيرة التي تشهد تسارعا وسيولة في كل شيء، في الحياة والثقافات والمنجزات والصناعات المادية والمتغيرات الفكرية السياسية، لتدل على تغيرات كبرى في معمار كينونة الكائن البشري، وكلما دار حول عاد اليوم العالمي للشعر ليطرح بإلحاح ما الجديد الذي استوقف الشعر فوقف عليه وساءله واستشكله، لأن الشعر سؤال قبل كل شيء، ولأن المعرفة هي روح هذا السؤال الذي تنبثق له الإجابات عن واقعها، وقد تتوارى خلف طبقات من القلق المعرفي والاضطراب الوجودي في المنعرجات الإنسانية الكبرى كهذا الذي نحيا فيه؛ الوضع العولمي المشحون بطاقات سلبية من المآسي، المحفوف بأهوال المخاطر الكبرى، وعلى رأسها تراجع إنسانية البشر، والعبث بمصائر الشعوب.
يأتي الشعر هذا العام ليواسي البشر في محنتهم الكبرى التي كثيرا ما استشعرها وحذر منها في الأعوام السابقة، وهي تداعي إنسانية الكائن البشري في مجتمعات الحداثة ذات التكوين المادي ذي الأصل الاستعماري، وما فرضته من أنساقها الاستهلاكية على بقية مجتمعات العالم، ، فتغيرت الكثير من ملامح الهويات الثقافية للمجتمعات، وفقدت القيمة الأخلاقية والروحية جدواها، وأصاب الانغماس المادي مجتمعات الإنسان المعاصر بنوع من العجز العاطفي، وفقدان الإحساس الإنساني، والقدرة على التأمل وتعمق الحقائق، وعبث هذا الوضع بالمفاهيم الإنسانية الأصيلة، وسقطت أوهام الحرية والأخلاق الإنسانية التي كانت شعارات عالمية جعلتها الدول الكبرى متاريس تواجدها العسكري في بقاع المعمورة، ووجدنا أنفسنا محاصرين بإرغامات العجز، حيث فرضت علينا كشعوب استهلاكية الطابوهات الجديدة من أنماط العيش، وبتنا نردد السؤالات التكوينية الأولى عن التاريخ الأصلي لثقافاتتنا الهوياتية، أو بالأحرى بتنا نبحث في هذا الشتات الكبير عن حدود هوياتنا الثقافية لنتمترس حولها دفاعا عن الوجود، ضد التلاشي والذوبان في مجتمع أريد له أن يكون واحدا بطبقات اجتماعية تذكرنا بالعصر الكولونيالي.
يأتي اليوم العالمي للشعر وجرح كبير كبير يسكن قلوب البشر الإنسانيين في كل بقاع العالم، إثر ما يرونه صباحا ومساء من مظاهر الإبادة التي يتعرض لها إخواننا الفلسطينيون، فالحرب لم تطل غزة وحدها، بل طالتنا جميعا كبشر، وجعلتنا نتآكل جميعا يوما بعد يوم، وهنا في هذا الموقف الكبير انطلق الشعر في كل بقاع العالم يدافع عن ملحمة الصمود التي خطها هذا الشعب العظيم، ليؤكد أن الشعر طائر حر لا يمكنه أن يكون إلا ملاحم الشعوب الحرة في الدفاع عن وجودها المشروع ضد مختلف آلات الهيمنة والصهيونية.
إن الشعر في المواقف الكبرى ليس مجرد إمتاع ومؤانسة، بل يصبح قضية حياة أو موت حين يتعلق الأمر بقضايا الحياة والموت، وإذا كانت هذه الآلة المميتة نفسها هي التي أماتت الأخلاق والقيمة وجماليات الإنسان والفن والمرويات الكبرى، وأرادت إيصال التاريخ إلى نهايته، فإن الشعر من عناصر التفكير البشري الأولى التي تنبهت إلى هذه الإماتات المؤدلجة تحضيرا لموت الكائن الإنساني ذاته، ودافعت عن جدوى وجودها ضد كل من كان يحاول طرح لاجدوى الشعر وعدم الحاجة إليه.
لأجل هذا كله وإيمانا بدور الشعر في استعادة إنسانية البشر المهدورة، واستعادة حق الشعوب في الحياة والحرية رفع بيت الشعر الجزائري شعار المقاومة، عبر نصوص شعراء الجزائر التي لم تتخلف لحظة واحدة عن نصرة الإنسان وقضاياه العادلة، بروح صادقة حرة تخترق جدالات الثقافات الكبرى، لتؤسس لنص أصلي أصلاني ينبثق من عمق حيوات الشعوب، ليكون صوتا طباقيا يرد على تضخم الصوت الإمبراطوري الصهيوني، إن النص الشعري الجزائري صياغة شعرية للحظة التاريخية من داخلها، ومن عمق تجربة حقيقية محايثة لها، وإذا كانت إرادة الفعل هي ما تؤكد مصداقية الوجود، فإن الثقافة الجزائرية ومنها الشعر قدمت صورة ناصعة عن جماليات مؤازرة القضية التي لم تعد قضية إخواننا الفلسطينيين وحدهم، بل قضية الكينونة الإنسانية التي أصبحت على المحك، مما يجعل البشر جميعا في مواجهة امتحان وجودهم في ذاته، ككائنات عاقلة، تدرك معنى الحق في الحياة والحرية ، وكائنات حساسة تمتلك مشاعر الإحساس ببني جنسها، وتدافع عنهم.
نأمل أن يأتي اليوم العالم للشعر في العام المقبل بجديد جميل، تستعيد فيه الشعوب حقوقها وأوطانها، ويرتاح فيه البشر من هذه الظروف الحادة التي أرهقتنا جميعا، ونأمل أن ينبجس الشعر عن أجمل منابع الحياة والمحبة والخير والسلام.

باتنة/ الجزائر في :
20 مارس 2024


الأستاذة الدكتورة سليمة مسعودي
شاعرة وناقدة، ورئيس المكتب الولائي باتنة لجمعية بيت الشعر الجزائري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...