من خلال عدة نصوص لستة من قصاصي المغرب، نحاول رسم خريطة لمشهد القصة المغربية، فهذه المختارات ــ محل الدراسة ــ تبدو كموزاييك قصصي، تشترك في مصطلح (قصّة) وتختلف في طرائق القصّ، وبنياته، وتيماته ولغاته. يوحّد بينها القص وتختلف بينها سبُله، كما وتتراوح حجما وشكلا بين حدود القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والأقصوصة. ذلك من خلال البنية والدلالة واللغة القصصية. وهذه النصوص بالترتيب هي «ثلاثة نصوص قصيرة جدا» لعبد الحميد الغرباوي، «شغف» لسعيد كفايتي، «دُمى الحرب» للحسن آيت ياسين، «الورد جميل» لعلي أزحاف، «الرحيل» لليلى عبدلاوي، و«الخارج والداخل» لعادل التّكفاوي.
ثلاثة نصوص قصيرة جدا
نبدأ بوليّ القصة المغربية الصالح والمُشاغب «عبد الحميد الغرباوي»، الذي اختار قالب القصة القصيرة جدا لقصّه وحكيه، وهذا اعتراف إبداعي من قاص مخضْرم، بحضور وشرعية هذا الجنس الأدبي الجديد ـ الوليد. علما أن القاص اختار كلمة نصوص بدل قصص، ليمارس شغبه القصصي على السجيّة. في «ثلاثة نصوص قصيرة جدا»، تبدو ثلاث تيمات قصصية منتزعة من أحوال الوقت في النص الأول، تهيمن تيمة المجازر الوحشية التي تسود العالم، وفي النص الثاني، تحضر العصافير بدل الناس الشرسين الأشقياء، لتقدم مثالا للتسامح والحنان والرّفق، وكأن هذه الطهرانية/الحيوانية المجسّدة في العصافير، جواب مُضاد للوحشية الآدمية التي تطحن الحياة والأحياء، لا تُبقي ولا تذر لوّاحة للبشر وفي النص الثالث، تحضر تيمة الطفولة البريئة، من خلال الطفل الذي يقلد المؤذن فتهوي به المخدّات على ذقنه ويسيل دمه. وكأنه جزاء وِفاق لمن يتجرّأ على حرمة الدين وينتهك التابوهات. هي أسئلة كبيرة إذن، في قصص قصيرة جدا، لكن نلاحظ أن ثمّة جملة طويلة تخرق أهم شروط القصة القصيرة جدا، وهو التكثيف والإيجاز. تقول الجملة «ألا يكون مصدر كل هذه البشاعات، كائنات شرسة، خارقة الذكاء، قدمت من كوكب آخر، تسلّلت خفية إلى كوكبنا تقمّصت شكلنا، وتغلغلت في أجهزتنا السياسية، صارت تتحكّم في مراكز قرارات جدّ حساسة ومصيرية»، وكأن الغرباوي مشاغب دوما على قواعد اللعب القصصي. إن أهم سمة في نصوص الغرباوي أنه يجمع بين جمالية القصّ وجمالية الشعر، وهو صنيع قريب من مُجايله أحمد بوزفور. ومن ثمّ تبدو جمله السردية مغموسة في ماء الشعر، حتى أنه يوزّعها توزيعا شعريا عبر بياض الصفحة.
دُمى الحرب
يندرج نص «دمى الحرب» لـ «آيت ياسين» في خانة الأقصوصة، حيث لا يتجاوز النص كمّا وحجما تسعة عشر سطرا. لكن هذه الأسطر المعدودة تبدو ملغومة بالدلالات والإيحاءات، وتلك بالضبط، هي بلاغة الإيجاز القصصي. والقاص آيت ياسين يوقّع على نفس الوتر الساخن ـ التراجيدي الذي وقّع عليه الغرباوي في نصه الأول (خيال علمي)، المجازر الوحشية للبشر وأقصوصته لذلك حربية بامتياز والحرب تيمة بِكر في القصة المغربية. وتجدر الإشارة إلى أن القاص آيت ياسين ابن زاكورة. وزاكورة على مقربة من المناطق الصحراوية التي كانت مسرحا لحرب رمال أخرى بين المغرب وجبهة البوليساريو خلال السبعينيات من القرن الفارط، فهي اذن وشم في الذاكرة، أحيته وأذكته هذه الحروب العربية الطاحنة. حروب داحس والغبراء في حلّتها الجديدة المزيدة هكذا نقرأ أحوال القصة في أحوال الوقت. لكن ياسين يكتب الحرب بلا جلبة أو ضوضاء، يكتبها من خلال رمزية قصصية وارفة الدلالة، رمزية الدمية المقطّعة الأوصال، التي تلوح عبر وحشية وفظاظة الحرب، ووحشية وفظاظة الجنرال. إنها أقصوصة حرب شاعرية، تذكّر بأقصوصة همنغواي ( تحت الجسر).
شغف
تبدو قصة «شغف» لسعيد كفايتي أطول نصوص هذه الباقة القصصية، وتتحرك على النقيض من القصة القصيرة جدا. علما بأن حدث هذه القصة، وهو الفراق من بعد وفاق، قابل لأن يُختزل في قالب القصة القصيرة جدا، لكن القاص شاء أن يلتزم الحجم التقليدي للقصة القصيرة، وذلك عبر خمس صفحات. وكانت لغته السردية، ذات إيقاع تقليدي أيضا، لغة بصرية مباشرة تُراوح بين الوصف والسرد، كما تراوح رؤية، بين الرؤية من خلف والرؤية مع، أي بين السرد الخارجي والمنولوج الداخلي. الشخصية الرئيسة في القصة هي (هاء) التي قررت في لحظة حسم مفاجئة أن تنسحب من حياة (فاء) وتغادره لا تلوي على شيء. لماذا؟ وكيف؟ ذاك بياض مسكوت عنه في القصة. بل إن (هاء) ذاتها كما نقرأ في آخر القصة (تريد أن تبحث عن تفسير معقول لكل ما حدث أو ما سيحدث، لا يسعفها ذهنها في جمع الخيوط، ولا في تثبيت أركان القصة). وربما كانت هذه العبارة ناطقة بلسان حال القصة وكاشفة عن أمرها. فعلى الرغم من أن القاص ينحو منحى تقليديا في قصته، إلا أنه لم يجمع الخيوط ولم يثبّت أركان القصة المألوفة والمعروفة في القصص التقليدية، وهي البداية، العقدة والتنوير، ولعل هذا الغائب المسكوت عنه في القصة، هو مكمن قصصيتها ومكمن دلالتها. لعل دلالتها كامنة في أن الّلا تواصل هو الذي يحكم التواصل في حياتنا الراهنة. وأن الّلا كتمال هو الذي يحكم نصوصنا الإبداعية.
الورد جميل
في سياق كوميدي ـ ساخر وماكر، يكتب «علي أزحاف» نصه «الورد جميل» عنوان جميل لنصّ مفخّخ، يشبه الذمّ بما يشبه المدح أو المدح بما يشبه الذمّ، كما يقول البلاغيون. والمفارقة القصصية في النص هي الثنائية الضدّية بين الحمار والورد الجميل الذي يلتهمه بأناة وشهية، غير آبه بما حوله. وكأن بالقاص/الشاعر علي أزحاف يسْتحمر العالم، أو يضحك على العالم ومخلوقاته العجيبة، من خلال هذه القصة الساخرة، حيث يبدو الحمار بامتياز، هو الشخصية الرئيسة وإن كان السارد في كثير من الحالات هو البطل الحقيقي أكثر من أيّ شخصياته. وحمار علي أزحاف شره جريء، خلافا لحمار بوريدان الكسول المتردّد والسؤال الذي يبادهنا.. ما هي الرسالة تُرى التي يريد القاص أن يمرّرها عبر هذه القصة ؟ هل هي سخرية من الورد الجميل، ذي الرمزية الرومانسية في الذاكرة، أم سخرية من الحمار ذي الرمزية الواقعية ـ الغبائية في الذاكرة، أم من كليهما معا ؟ أم هي سخرية مُرّة من واقعنا المرّ؟ يذكّرنا النص بسلالة عريقة من الحُمُر الإبداعية/الحكيمة، كان الحمار فيها ضيف شرف بامتياز.. الحمار الذهبي للوكيوس أبوليوس الأمازيغي، حمار بوريدان، حمار خوان رامون خيمينيث، حمار الحكيم لتوفيق الحكيم، وأخيرا وليس آخرا، حمار حسن أوريد سيرة حمار. كل هؤلاء امتطوا ظهر الحمار الصبور الحكيم، لتمرير رسائلهم المشفّرة الملغومة. والحمار غير آبه، لأنه منشغل بالتهام الورد الجميل في ضيافة علي أزحاف. هذه السخرية الإبداعية المشاغبة من بعد، سمة أساسية لعلي أزحاف سواء أكتب قصة أم قصيدة أم تغريدة فيسبوكية.
الخارج والداخل
هذه قصة تجريبية وعجائبية بامتياز، شكلا ومضمونا، لغة وبناء يتكوّن برنامجها السردي، من مقاطع سردية ثلاثة مُعنْونة، متصلة ومنفصلة في آن، وهي.. حياة الأكسجين القصيرة، الحياة المجهولة لثنائي أكسيد الكربون، وحوار الداخل والخارج. ولعل هذه العناوين كافية في حدّ ذاتها للدلالة على المناخ السوريالي/العجائبي الذي يكتنف النص. والمقاطع الثلاثة أشبه ما تكون بقصص قصيرة جدا، يلحمها خيط سريري ناظم. لكن خيوط الحبكة وخيوط المعنى، تظل باستمرار منفلتة وهاربة. وكأن النص يتحرك في متاهة كافكاوية وفي انفلاته بلا شك، دلالته ومغزاه إن مناخ هذا النص الكافكاوي أشبه ما يكون بمناخ الكوابيس وأضغاث الأحلام. ولعل لجوء التكفاوي، ومعه كثير من القاصّين، إلى مثل هذه المناخات، ضرب من التفاعل والتماهي مع كابوسية وسوريالية العالم.
الرحيل
حضور كاتبة في هذه الباقة، مؤشّر رمزي على الحضور النسوي في الكتابة القصصية وفي الكتابة عامة، وقصة «الرحيل» لـ «ليلى عبدلاوي»، مثال على ذلك. تُقارب القصة، بلغة مشهدية تتراوح بين السرد والمنولوج، تيمة قصصية أخرى بكرا في غاية الحساسية، وهي رصد الوجه الإنساني الآخر للشخصية اليهودية، انطلاقا من العلاقة الاجتماعية بين المغاربة واليهود المغاربة، علاقة التساكن والجوار، فتقتنص الكاتبة لحظة قصصية مفصلية لكشف العمق الإنساني العفوي لهذه العلاقة. وهي لحظة الوداع بين مُنى وصديقتها اليهودية أستر، الراحلة رفقة عائلتها إلى باريس. وبين الصديقتين وعائلتيهما علاقة حميمة في ذلك الحي الشعبي في وجدة، حسب سياق القصة. هي قصة مفعمة بالأحاسيس والتفاصيل الدالة والجمل الاسترجاعية، التي تعمّق لحظة الرحيل. وهنا يُثار من خلف سطور القصة شجن تاريخي دفين.
ذلك أن هجرات اليهود المغاربة إلى فرنسا كانت معبرا لهجرات أخـــــرى إلى إسرائيل. ولكن.. ما هي الرسالة الثاوية في أطواء القصـــة؟ لا أريد القيام بقراءة تأويلية تعسفية، لكن النص الإبداعي ليس بريئا، كما أن فعل القراءة أيضا ليس بريئا، وليبق السرّ كتيما بين الصديقتين الوجْديتين، مُنى وأستر.
ثلاثة نصوص قصيرة جدا
نبدأ بوليّ القصة المغربية الصالح والمُشاغب «عبد الحميد الغرباوي»، الذي اختار قالب القصة القصيرة جدا لقصّه وحكيه، وهذا اعتراف إبداعي من قاص مخضْرم، بحضور وشرعية هذا الجنس الأدبي الجديد ـ الوليد. علما أن القاص اختار كلمة نصوص بدل قصص، ليمارس شغبه القصصي على السجيّة. في «ثلاثة نصوص قصيرة جدا»، تبدو ثلاث تيمات قصصية منتزعة من أحوال الوقت في النص الأول، تهيمن تيمة المجازر الوحشية التي تسود العالم، وفي النص الثاني، تحضر العصافير بدل الناس الشرسين الأشقياء، لتقدم مثالا للتسامح والحنان والرّفق، وكأن هذه الطهرانية/الحيوانية المجسّدة في العصافير، جواب مُضاد للوحشية الآدمية التي تطحن الحياة والأحياء، لا تُبقي ولا تذر لوّاحة للبشر وفي النص الثالث، تحضر تيمة الطفولة البريئة، من خلال الطفل الذي يقلد المؤذن فتهوي به المخدّات على ذقنه ويسيل دمه. وكأنه جزاء وِفاق لمن يتجرّأ على حرمة الدين وينتهك التابوهات. هي أسئلة كبيرة إذن، في قصص قصيرة جدا، لكن نلاحظ أن ثمّة جملة طويلة تخرق أهم شروط القصة القصيرة جدا، وهو التكثيف والإيجاز. تقول الجملة «ألا يكون مصدر كل هذه البشاعات، كائنات شرسة، خارقة الذكاء، قدمت من كوكب آخر، تسلّلت خفية إلى كوكبنا تقمّصت شكلنا، وتغلغلت في أجهزتنا السياسية، صارت تتحكّم في مراكز قرارات جدّ حساسة ومصيرية»، وكأن الغرباوي مشاغب دوما على قواعد اللعب القصصي. إن أهم سمة في نصوص الغرباوي أنه يجمع بين جمالية القصّ وجمالية الشعر، وهو صنيع قريب من مُجايله أحمد بوزفور. ومن ثمّ تبدو جمله السردية مغموسة في ماء الشعر، حتى أنه يوزّعها توزيعا شعريا عبر بياض الصفحة.
دُمى الحرب
يندرج نص «دمى الحرب» لـ «آيت ياسين» في خانة الأقصوصة، حيث لا يتجاوز النص كمّا وحجما تسعة عشر سطرا. لكن هذه الأسطر المعدودة تبدو ملغومة بالدلالات والإيحاءات، وتلك بالضبط، هي بلاغة الإيجاز القصصي. والقاص آيت ياسين يوقّع على نفس الوتر الساخن ـ التراجيدي الذي وقّع عليه الغرباوي في نصه الأول (خيال علمي)، المجازر الوحشية للبشر وأقصوصته لذلك حربية بامتياز والحرب تيمة بِكر في القصة المغربية. وتجدر الإشارة إلى أن القاص آيت ياسين ابن زاكورة. وزاكورة على مقربة من المناطق الصحراوية التي كانت مسرحا لحرب رمال أخرى بين المغرب وجبهة البوليساريو خلال السبعينيات من القرن الفارط، فهي اذن وشم في الذاكرة، أحيته وأذكته هذه الحروب العربية الطاحنة. حروب داحس والغبراء في حلّتها الجديدة المزيدة هكذا نقرأ أحوال القصة في أحوال الوقت. لكن ياسين يكتب الحرب بلا جلبة أو ضوضاء، يكتبها من خلال رمزية قصصية وارفة الدلالة، رمزية الدمية المقطّعة الأوصال، التي تلوح عبر وحشية وفظاظة الحرب، ووحشية وفظاظة الجنرال. إنها أقصوصة حرب شاعرية، تذكّر بأقصوصة همنغواي ( تحت الجسر).
شغف
تبدو قصة «شغف» لسعيد كفايتي أطول نصوص هذه الباقة القصصية، وتتحرك على النقيض من القصة القصيرة جدا. علما بأن حدث هذه القصة، وهو الفراق من بعد وفاق، قابل لأن يُختزل في قالب القصة القصيرة جدا، لكن القاص شاء أن يلتزم الحجم التقليدي للقصة القصيرة، وذلك عبر خمس صفحات. وكانت لغته السردية، ذات إيقاع تقليدي أيضا، لغة بصرية مباشرة تُراوح بين الوصف والسرد، كما تراوح رؤية، بين الرؤية من خلف والرؤية مع، أي بين السرد الخارجي والمنولوج الداخلي. الشخصية الرئيسة في القصة هي (هاء) التي قررت في لحظة حسم مفاجئة أن تنسحب من حياة (فاء) وتغادره لا تلوي على شيء. لماذا؟ وكيف؟ ذاك بياض مسكوت عنه في القصة. بل إن (هاء) ذاتها كما نقرأ في آخر القصة (تريد أن تبحث عن تفسير معقول لكل ما حدث أو ما سيحدث، لا يسعفها ذهنها في جمع الخيوط، ولا في تثبيت أركان القصة). وربما كانت هذه العبارة ناطقة بلسان حال القصة وكاشفة عن أمرها. فعلى الرغم من أن القاص ينحو منحى تقليديا في قصته، إلا أنه لم يجمع الخيوط ولم يثبّت أركان القصة المألوفة والمعروفة في القصص التقليدية، وهي البداية، العقدة والتنوير، ولعل هذا الغائب المسكوت عنه في القصة، هو مكمن قصصيتها ومكمن دلالتها. لعل دلالتها كامنة في أن الّلا تواصل هو الذي يحكم التواصل في حياتنا الراهنة. وأن الّلا كتمال هو الذي يحكم نصوصنا الإبداعية.
الورد جميل
في سياق كوميدي ـ ساخر وماكر، يكتب «علي أزحاف» نصه «الورد جميل» عنوان جميل لنصّ مفخّخ، يشبه الذمّ بما يشبه المدح أو المدح بما يشبه الذمّ، كما يقول البلاغيون. والمفارقة القصصية في النص هي الثنائية الضدّية بين الحمار والورد الجميل الذي يلتهمه بأناة وشهية، غير آبه بما حوله. وكأن بالقاص/الشاعر علي أزحاف يسْتحمر العالم، أو يضحك على العالم ومخلوقاته العجيبة، من خلال هذه القصة الساخرة، حيث يبدو الحمار بامتياز، هو الشخصية الرئيسة وإن كان السارد في كثير من الحالات هو البطل الحقيقي أكثر من أيّ شخصياته. وحمار علي أزحاف شره جريء، خلافا لحمار بوريدان الكسول المتردّد والسؤال الذي يبادهنا.. ما هي الرسالة تُرى التي يريد القاص أن يمرّرها عبر هذه القصة ؟ هل هي سخرية من الورد الجميل، ذي الرمزية الرومانسية في الذاكرة، أم سخرية من الحمار ذي الرمزية الواقعية ـ الغبائية في الذاكرة، أم من كليهما معا ؟ أم هي سخرية مُرّة من واقعنا المرّ؟ يذكّرنا النص بسلالة عريقة من الحُمُر الإبداعية/الحكيمة، كان الحمار فيها ضيف شرف بامتياز.. الحمار الذهبي للوكيوس أبوليوس الأمازيغي، حمار بوريدان، حمار خوان رامون خيمينيث، حمار الحكيم لتوفيق الحكيم، وأخيرا وليس آخرا، حمار حسن أوريد سيرة حمار. كل هؤلاء امتطوا ظهر الحمار الصبور الحكيم، لتمرير رسائلهم المشفّرة الملغومة. والحمار غير آبه، لأنه منشغل بالتهام الورد الجميل في ضيافة علي أزحاف. هذه السخرية الإبداعية المشاغبة من بعد، سمة أساسية لعلي أزحاف سواء أكتب قصة أم قصيدة أم تغريدة فيسبوكية.
الخارج والداخل
هذه قصة تجريبية وعجائبية بامتياز، شكلا ومضمونا، لغة وبناء يتكوّن برنامجها السردي، من مقاطع سردية ثلاثة مُعنْونة، متصلة ومنفصلة في آن، وهي.. حياة الأكسجين القصيرة، الحياة المجهولة لثنائي أكسيد الكربون، وحوار الداخل والخارج. ولعل هذه العناوين كافية في حدّ ذاتها للدلالة على المناخ السوريالي/العجائبي الذي يكتنف النص. والمقاطع الثلاثة أشبه ما تكون بقصص قصيرة جدا، يلحمها خيط سريري ناظم. لكن خيوط الحبكة وخيوط المعنى، تظل باستمرار منفلتة وهاربة. وكأن النص يتحرك في متاهة كافكاوية وفي انفلاته بلا شك، دلالته ومغزاه إن مناخ هذا النص الكافكاوي أشبه ما يكون بمناخ الكوابيس وأضغاث الأحلام. ولعل لجوء التكفاوي، ومعه كثير من القاصّين، إلى مثل هذه المناخات، ضرب من التفاعل والتماهي مع كابوسية وسوريالية العالم.
الرحيل
حضور كاتبة في هذه الباقة، مؤشّر رمزي على الحضور النسوي في الكتابة القصصية وفي الكتابة عامة، وقصة «الرحيل» لـ «ليلى عبدلاوي»، مثال على ذلك. تُقارب القصة، بلغة مشهدية تتراوح بين السرد والمنولوج، تيمة قصصية أخرى بكرا في غاية الحساسية، وهي رصد الوجه الإنساني الآخر للشخصية اليهودية، انطلاقا من العلاقة الاجتماعية بين المغاربة واليهود المغاربة، علاقة التساكن والجوار، فتقتنص الكاتبة لحظة قصصية مفصلية لكشف العمق الإنساني العفوي لهذه العلاقة. وهي لحظة الوداع بين مُنى وصديقتها اليهودية أستر، الراحلة رفقة عائلتها إلى باريس. وبين الصديقتين وعائلتيهما علاقة حميمة في ذلك الحي الشعبي في وجدة، حسب سياق القصة. هي قصة مفعمة بالأحاسيس والتفاصيل الدالة والجمل الاسترجاعية، التي تعمّق لحظة الرحيل. وهنا يُثار من خلف سطور القصة شجن تاريخي دفين.
ذلك أن هجرات اليهود المغاربة إلى فرنسا كانت معبرا لهجرات أخـــــرى إلى إسرائيل. ولكن.. ما هي الرسالة الثاوية في أطواء القصـــة؟ لا أريد القيام بقراءة تأويلية تعسفية، لكن النص الإبداعي ليس بريئا، كما أن فعل القراءة أيضا ليس بريئا، وليبق السرّ كتيما بين الصديقتين الوجْديتين، مُنى وأستر.