فاتن فاروق عبد المنعم - القدس... ملتقى الأنبياء، الحرب المقدسة

منذ ظهور الإسلام وكل الحروب التي تقام ضده مقدسة، هكذا وقف البابا أوربان الثاني بكنيسة كليرمونت بفرنسا يستحث الأوروبيين على الزحف إلى فلسطين في حروب مقدسة لتخليص قبر المسيح من أيدي الكفرة الهمج البربر (المسلمون)، وعلى الفرسان الأوروبيين الذين يتصارعون فيما بينهم أن يكفوا عن هذا ويهبوا لمساعدة إخوتهم المسيحيين في الأناضول وفلسطين وبذلك يعم السلام في أوروبا وتندلع حروب الرب في الشرق الأدنى، وردد الجموع بحماسة «الرب يريد ذلك» وكانت الاستجابة فورية وسريعة.

(هذا هو التوصيف الصحيح للحرب الدائرة في فلسطين طبقا لما قالت كارين فلا تدعوا كائنا من كان يتلاعب بكم ويلحن في القول بمسميات تغيبكم عن الحق والحقيقة، لكي تنعم أوروبا بالسلام لابد أن يكون مرجل الحرب يغلي في بلادنا، ولا أقدر من إشعال فتيل الحمية الدينية على ديمومة الصراع فلا يتوقف ولا يهدأ، إنها الحرب المقدسة ضد الإسلام)

أورشاليم الجديدة:

تلك الجموع الهادرة من أوروبا من رجال دين وفرسان وأمراء ارتأوا في «القدس» شفرة الحلول لكل المشاكل التي يعانونها على مختلف دوافع كل فئة منهم، فرجال الدين يريدون استعادة تملك زمام الأمور في أوروبا وإعلاء شأن سطوة الكنيسة، حيث بدأت دعوات التمرد على سلطتهم التي تخنق الجموع هناك، أما فقراء العوام فقد ارتأوا فيها الحصول على الثراء المنشود، أما الأمراء فكانوا يسعون لتملك الأرض والسلطة معا ليبقوا في القمة دوما، تلك النوايا المتباينة جعلت كارين تسخر منهم بأن وضعت مفردة «الصليبية» بين قوسين والحقيقة أنني أراها كمستشرقة في موقف قوة وليس ضعف، ذلك أن الإقرار بالحقيقة من دواعي سلامة الفطرة والوقوف على موطن الداء كعالمة متحققة، لأنها بالطبع تعلم أكثر من غيرها أن الحق أبلج، ودائما الكاتب الذي يرغب في الترقي ويبقى على القمة في كل زمان ومكان يكون صادقا مع نفسه ومع من يقرأ له.

وفي ربيع 1069م زحفت خمس جيوش مكونة من ستين ألف جندي مصحوبة بجموع غفيرة من الفلاحين والحجاج وعوائلهم، توفي معظمهم في تلك الطرق المحفوفة بالمخاطر، تبعها في الخريف خمسة جيوش أخرى قوامها مائة ألف جندي مع حشد من القساوسة، أما كارين فقد وصفت هذا الزحف إلى الشرق هو خروج أوروبا من عصر «الظلمات»

(هل قرأ هذا التوصيف الذين رمونا بما ليس فينا مثل برنارد لويس، ورينان، ودينييه، وبروكلمان…….والقائمة طويلة)

بالطبع هي كعالمة عينها على رصيد الشرق الإسلامي من العلم والعلماء، أليست كارين ابنة الثقافة الهلينية والرومانية برصيدها الضخم؟! ولكنها تعلم أن العلم دون الدين يتحول إلى سلاح يدمر الإنسان نفسه، بينما الحضارة الإسلامية قوامها وعمودها الفقري هو الإسلام كدين يرسم الطريق ويرسخ المبادئ التي بها يهتدي المسلمون كي يبلغوا الثريا، فإذا ألتزموها سابقوا الريح وإن حادوا عنها فإنهم لا يتجاوزون نعال أعدائهم (كما قال بن خلدون العرب دون دين لا شيء)

معاداة السامية:

ذلك الاتهام الذي يبرز من آن لآخر، سببه الصليبين الذين كلما أطلق البابا الدعوة لحملة صليبية جديدة قاموا بمذبحة ضد اليهود المقيمين معهم في أوروبا وكانت حجتهم في ذلك أنه إن كان الزحف المقدس إلى فلسطين لمحاربة المسلمين من أجل جعل «أورشاليم مسيحية» فأولى بهذا الذبح هم اليهود المقيمون معهم في أوروبا (هكذا كانت عقولهم في ذلك الوقت)

الزحف المقدس إلى القدس:

ظل السجال العسكري بين الأوروبيين والأتراك السلاجقة ثلاث سنوات حتى انتصر الصليبيون واستولوا على الأناضول، رغم موت واحد من كل سبعة من الجنود فضلا عن من ماتوا جوعا، وفي 1099م وقفوا في مواجهة أسوار القدس، وكانوا قد أقاموا ولايتين هما إنطاكية والرها.

تقول كارين:

«سمعة هؤلاء المحاربين ذوي الدروع الحديدية المخيفة كانت قد سبقتهم، فسرت شائعة سوداء عن أكلهم لحوم البشر في إنطاكية، وكان يعرف عن مسيحي أوروبا القسوة المتحجرة المطلقة والتعصب في حماسهم الديني، ولذا فر كثير من الأرثوذوكس اليونانيين والمسيحيين ذوي الطبيعة الواحدة للمسيح إلى مصر، وطرد الحكام المسلمون من بقى منهم مع المسيحيين اللاتينين لأنهم شكوا عن حق في تعاطفهم مع الصليبيين»

مذبحة مجانية شهدها البرفنسالي ريمون الأجويلي فيقول:

«كان بالإمكان رؤية أكوام الرؤوس والأيدي والأرجل (وعنه تقول كارين لم يشعر هذا الشاهد بالخزي)، إنني وأن قلت الحقيقة فستتعدي جميع قدرتكم على التصديق، وعلى ذلك فيكفي هذا القدر، فقد ركب الرجال على الأقل في المعبد ورواق سليمان والدماء تصل إلى ركبهم وألجمة خيولهم، وكان ذلك حكما إلهيا عادلا رائعا قضى أن يمتلئ ذلك المكان الذي عانى طويلا من كفر الكفرة، بدمائهم، وتم تطهير المدينة المقدسة من المسلمين واليهود كما تطهر من الهوام، وفي النهاية لم يبقى هناك أحد يقتل، فاغتسل الصليبيون وساروا في اتجاه كنيسة القيامة وهم يرتلون التراتيل ودموع الفرح تنساب من أعينهم وتسيل على وجوههم وتوقفوا عند كنيسة المسيح وهم يرتلون قداس القيامة، وبدت طقوس القداس وكأنما تبشر بفجر جديد»

وعن هذا الحدث يقول ريمون:

«سيشتهر هذا اليوم في العصور المقبلة كلها، فقد حول جهودنا وأحزاننا إلى فرح وجذل، إن هذا اليوم دليل صدق المسيحية جمعاء، وهو مذلة للوثنية وتجديد للعقيدة، إنه اليوم الذي صنعه الرب، فلنبتهج ونفرح من الآن، لأن الرب قد كشف عن نفسه لشعبه وباركه»

وعن الجثث والأشلاء التي سارعوا بإحراقها لإيجاد ممرات يسيرون فيها ولكنهم عجزوا عن جمعها لكثرتها يقول ويليام من مدينة صور:

«تم إحراق الجثث بكفاءة عالية حتى يتسنى للصليبيين السير في طريقهم إلى الأماكن المقدسة بثقة أعظم دون أن يضايقهم تعثرهم في الأطراف والقطع المتناثرة، غير أن تلك المهمة في الواقع كانت تفوق مقدرتهم، إذ ظلت الجثث متناثرة في أنحاء المدينة خمسة أشهر وعندما وصل فوشيه الشارتري إلى أورشاليم ليحتفي بعيد ميلاد المسيح ذلك العام، تملكه الرعب وكتب قائلا:

“يا لها من رائحة نتنة تلك التي تمتلئ بها أسوار المدينة من الداخل والخارج والتي تنبعث من أجساد الكفار المتعفنة الذين قمنا بقتلهم وقت سقوط المدينة حيث ترقد جثثهم التي تم اقتناصها»

أما الجميلة كارين فقالت عن تلك الحادثة:

«وبين عشية وضحاها حول الصليبيون مدينة القدس المزدهرة الآهلة بالسكان إلى مستودع نتن لجثث القتلى، وحينما أقام الصليبيون سوقا بعد المذبحة بثلاثة أيام كانت هناك جثثا ما زالت في طريقها إلى التعفن، ووسط مظاهر الاحتفالات والحفاوة العظيمة قاموا ببيع ما نهبوه وهم في حالة من المرح وعدم الاكتراث إزاء المجزرة وأدلتها المادية تحت أرجلهم، وإذا نحن اعتبرنا احترام حقوق السلف المقدسة محكا لمصداقية أي فاتح ينتمي إلى العقيدة التوحيدية، فلابد وأن يأتي الصليبيون أسفل قائمة البشر»

ولنا هنا وقفة:

هذه اعترافاتهم عن أنفسهم من مؤلفاتهم ومن كتابتهم، فلماذا نستغرب أو نستهجن الحرب المسعورة على غزة، والموت والجوع المجاني هناك، وللتذكرة مذابح الأمس كانت لجعل «أورشاليم مسيحية» ورحل الصليبيون وبقى الإسلام، ومذابح اليوم لجعل «أورشاليم يهودية»، وسيرحل الصهاينة وأنوفهم راغمة، وسيسوس المسلمون العالم من جديد إن شاء الله لنشر العدل والأمن الذي غاب عن هذا العالم ردحا من الزمن، ودليلي في ذلك ماذكرته سابقا مما قالته كارين أن هذه المدينة لم تنعم بالهدوء إلا مع الفتح الإسلامي، الاستشراف من القرآن والسنة ينبئنا بعودة الخلافة على منهاج النبوة وعاصمتها القدس الشريف، أرض المحشروهذا أمر حتمي وجزء من صميم عقيدتنا ومن يشكك به فقد خرج من الدين والملة، فالأمن والسلام المنشود لن يعود للمدينة إلا بعودة الحكم الإسلامي لها.

إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) الإسراء

قبل هذه السلسلة تعرضت للفتوحات الإسلامية من مطبوعاتهم أيضا وكان المصدر الرئيس للمؤرخ المعاصر هيو كينيدي وهو المتعصب تعصبا أعمى، لم يذكر سطرا واحدا خلال مؤلفه عن سلوك المسلمين الفاتحين تجاه أصحاب المعتقدات الأخرى فيه من تجاوز الحد، ولم يذكر مجازر على غرار مجازر الصليبيين، بل على العكس من ذلك كانوا يتعمدون عدم استفزاز مشاعرهم الدينية ويبتنون لأنفسهم أماكن بعيدا عن سكناهم ويطلقون لهم الحرية الدينية يمارسون عقيدة الكفر البواح دون الإساءة لهم، بل إن سكان هذه البلاد لم يدخلوا هذا الدين إلا بعد الفتح بمائتي سنة على الأقل دون ضغوط تذكر، ومع ذلك لم يسمهم الفرس والروم بغير البدو الأجلاف الهمج البربر، وبالقياس ماذا يمكننا أن نسمي سلوك اليهود والنصارى تجاهنا؟!

قد يقول قائل إن المظاهرات الرافضة للحرب على غزة في أمريكا وأوروبا تفوق ما يحدث في بلادنا، بالطبع هذا يحدث ولا ننكره ونثمن هذا الموقف، ولكن هؤلاء قياداتهم تترك لهم مساحة للتنفيس فقط بينما هم يفعلون ما فعله أجدادهم لم يحيدوا عنهم قيد أنملة، فقط بالأمس كانت الحرب على المسلمين واليهود، أما اليوم فقد تحالفا معا ضد المسلمين.

إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) الممتحنة

وللحديث بقية إن شاء الله

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...