(4)
يختار المعلّمون الكسالى مدارس البادية لأنها بعيدة عن رقابة المسئولين، ولأن العربان كانوا لا يشتكون قط من تقصير المعلّمين أو من غيابهم عن العمل ابتداءً.
وبالبناء على ذلك يستطيع الرفحي أن يحكم على ثلاث دفعات تخرجّت في مدرسة البادية الإعدادية في أعوام 85 و86 و1987، والحكم يقضي بأن أحدًا منهم لم يلتحق بكلية من كليّات القمة، هذا حكمه بما شهد، ولولا الاحتياط لقال إن أحدًا من تلاميذها – في تاريخها كله – لم يتجاوز الكليات التقليدية، كليات المستويات العلمية المتوسطة، وقد نستثني تلميذًا أو اثنين.
وليس هذا عيبًا في تلاميذ البادية، وإنما كان عيبًا في بيئتهم أشرنا إليه سابقًا، وعيبًا في المعلّمين أنفسهم، وفي المسئولين عن التعليم في دواوين الإدارات والمديريات.
ولو أخذ الرفحي في سرد الشواهد التي عاشها لرأيتَ مأساة يندى لها الجبين، ولو أنك رأيت ما رأى لفهمت كيف ضاعت أجيال، ولو أن هذه الأجيال وجدت العناية والاهتمام لما ساعدت الأشرار في سفك دماء غزيرة سوف ترتوي بها أرض رفح، وإنما سُفكت بسبب السذاجة والجهل والغباوة والنظر القصير.
ولا بأس من شواهد قليلة ودالّة، ففي الصف الأول الإعدادي كان التلاميذ يبدؤون درس الإنجليزية، وليس في المدرسة معلّم مختصّ؛ فنُدب حامل دبلوم لتدريس مادة كان لا يتقن فك طلاسم حروفها، بله أن يقرأ قراءة سويّة يتعلّم منها التلاميذ.
ومعلّم العربية يقرأ الآية الكريمة: "قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم"، فيقول: "حَرْقوه"؛ بفتح الراء المخففة! والرفحي يسمع ويعجب وتنفر أذنه من هذا اللفظ الغريب، لكنه لا يجد حلًّا لهذا الإلغاز الغامض.
وفي الصف الثاني والثالث أيضًا مآسٍ أخرى؛ فمعلّم الرياضيات يجعل وجهه إلى السبورة السوداء يتحدّث ويكتب، وكان من عادته أن يكتب حرف النون مقلوبًا إلى أسفل، ثم لا يلتفت إلى التلاميذ إلا وقد بيّض السبورة كلها بالطبشور، ولا باس أن يسأل بعد ذلك: "هل فهمتم"؟ والتلاميذ بين وجوم وصمت وضياع من ورائهم ومن أمامهم، فيعود يسأل: "من منكم عنده سؤال"؟ وكيف يسال من لم يعِ رقمًا ولا رمزًا!!
ومن المواقف الطريفة في هذا السياق أن تلميذًا ضعيفًا – وكلهم ضعاف – رفع يده يريد أن يسأل. ولعل المعلّم استبشر في نفسه خيرًا وأنس أن لشرحه الطويل أثرًا، قال التلميذ: "يا أستاذ، لماذا تكتب النون مقلوبة"؟! فردّ عليه: "الحمد لله أن فيكم من يعرف أن نقطة النون الصحيحة إلى أعلى"!
هذه إشارات مختصرة لعلها تكون كاشفة عن طبيعة التعليم في مدارس البادية آنذاك. أما الأحوال الاجتماعية داخل المدرسة فقد كانت عجيبة حقًّا؛ فإن المعلّمين الوافدين من المحافظات الأخرى، والمعلّمين أبناء البلد من الحضر والبادية، كل هؤلاء كانوا يسيرون إلى المدرسة النائية سيرًا على أقدامهم تحت الشمس أو تحت وأمام الريح، في حين أن الرجلين (العاملين) المكلّفين بالنظافة كان كل منهما يملك سيارة لا يملكها إلا صفوة الأثرياء؛ لذلك لم يكن غريبًا أن كانت دورات المياه مستنقعًا لا يخوض فيه إلا من فقد حاسة الشمّ!
أين كان الضمير؟ وأين الرقابة؟ وما المصير؟ بل أين كان المجتمع المحيط بالمدرسة من هذا الضياع؟ لا يذكر الرفحي أن أحدًا من أولياء أمور التلاميذ تدخّل وحاول الإصلاح إلا مرّة واحدة في أمر لا علاقة له بالدرس والتحصيل.
فقد كان في المدرسة فتيات بدويات بارعات الجمال طاغيات الأنوثة، كنّ يرتدين فوق ملابسهن لباسًا أسود يغطي من صُلبها حتى القدمين، يسمّونه (الداير)، ويغطين رؤوسهن وصدورهن بقناع أسود ما دُمن خارج المدرسة غاديات إليها ورائحات منها، فإذا ما دخلن حرم المدرسة الآمن طوين القناع وأودعنه الحقائب. يقفن في الطابور ويؤدين التمرينات التي يشير بها معلّم التربية الرياضية، "وفي البداوة حُسن غير مجلوبِ" لا يلبث أن يظهر مع حركات الجسد الغض الفائر؛ فتستشعر الفتيات الحرج، الحرج من المعلّمين أنفسهم ومن زملائهن الذين يرافقونهن ذهابًا وإيابًا يتبادلون الغرام ويتطارحون معهن الهوى. ولا بد أنهن تبادلن الرأي في هذا الإحراج، ولا بد أن بنت الشيخ حدّثت أمها، وهذه حدّثت الشيخ الذي جاء يعترض ويطالب بإعفاء الفتيات من التمرينات. فيما عدا هذه الحالة لم يسع أحد في إصلاح هذه الحال المزرية التي سيدفع الجميع ثمنها ثقيلًا وطويلًا.
قل عكس هذا كله في مدرسة المدينة التي سينتقل إليها الرفحي، ولك أن تقدّر كم سيكون متخلّفًا عن أقرانه الجدد، وهو الذي كان يُنظر إليه في بيئته تلك الفقيرة علميًّا بوصفه (الأول). الأول على مَن؟ ضائع يحاول الاجتهاد بين ضائعين!
بعد هذا العرض المؤسف، يجد الرفحي أن الإنصاف يقتضيه أن يذكر معلّمين اثنين تفانيا في دروس العلوم والإنجليزية، تفانيا وتركا أثرًا ولم يطل بقاؤهما، أولهما من الإسماعيلية والثاني من دلتا مصر. لن ينسى فضلهما أبدًا. ولن ينسى كلمة من معلّم ثالث وافد من الدلتا ايضا، وكان مرّة يشرح لهم ما هو مُقرّر في كتاب (التربية الوطنية) عن فضل الصحُف في نقل الحقيقة إلى الناس، فقال: "لا تصدّقوا هذا الكلام.. الجرائد كلها كذب"! كان ذلك عام 84 أو 1985!
يختار المعلّمون الكسالى مدارس البادية لأنها بعيدة عن رقابة المسئولين، ولأن العربان كانوا لا يشتكون قط من تقصير المعلّمين أو من غيابهم عن العمل ابتداءً.
وبالبناء على ذلك يستطيع الرفحي أن يحكم على ثلاث دفعات تخرجّت في مدرسة البادية الإعدادية في أعوام 85 و86 و1987، والحكم يقضي بأن أحدًا منهم لم يلتحق بكلية من كليّات القمة، هذا حكمه بما شهد، ولولا الاحتياط لقال إن أحدًا من تلاميذها – في تاريخها كله – لم يتجاوز الكليات التقليدية، كليات المستويات العلمية المتوسطة، وقد نستثني تلميذًا أو اثنين.
وليس هذا عيبًا في تلاميذ البادية، وإنما كان عيبًا في بيئتهم أشرنا إليه سابقًا، وعيبًا في المعلّمين أنفسهم، وفي المسئولين عن التعليم في دواوين الإدارات والمديريات.
ولو أخذ الرفحي في سرد الشواهد التي عاشها لرأيتَ مأساة يندى لها الجبين، ولو أنك رأيت ما رأى لفهمت كيف ضاعت أجيال، ولو أن هذه الأجيال وجدت العناية والاهتمام لما ساعدت الأشرار في سفك دماء غزيرة سوف ترتوي بها أرض رفح، وإنما سُفكت بسبب السذاجة والجهل والغباوة والنظر القصير.
ولا بأس من شواهد قليلة ودالّة، ففي الصف الأول الإعدادي كان التلاميذ يبدؤون درس الإنجليزية، وليس في المدرسة معلّم مختصّ؛ فنُدب حامل دبلوم لتدريس مادة كان لا يتقن فك طلاسم حروفها، بله أن يقرأ قراءة سويّة يتعلّم منها التلاميذ.
ومعلّم العربية يقرأ الآية الكريمة: "قالوا حرّقوه وانصروا آلهتكم"، فيقول: "حَرْقوه"؛ بفتح الراء المخففة! والرفحي يسمع ويعجب وتنفر أذنه من هذا اللفظ الغريب، لكنه لا يجد حلًّا لهذا الإلغاز الغامض.
وفي الصف الثاني والثالث أيضًا مآسٍ أخرى؛ فمعلّم الرياضيات يجعل وجهه إلى السبورة السوداء يتحدّث ويكتب، وكان من عادته أن يكتب حرف النون مقلوبًا إلى أسفل، ثم لا يلتفت إلى التلاميذ إلا وقد بيّض السبورة كلها بالطبشور، ولا باس أن يسأل بعد ذلك: "هل فهمتم"؟ والتلاميذ بين وجوم وصمت وضياع من ورائهم ومن أمامهم، فيعود يسأل: "من منكم عنده سؤال"؟ وكيف يسال من لم يعِ رقمًا ولا رمزًا!!
ومن المواقف الطريفة في هذا السياق أن تلميذًا ضعيفًا – وكلهم ضعاف – رفع يده يريد أن يسأل. ولعل المعلّم استبشر في نفسه خيرًا وأنس أن لشرحه الطويل أثرًا، قال التلميذ: "يا أستاذ، لماذا تكتب النون مقلوبة"؟! فردّ عليه: "الحمد لله أن فيكم من يعرف أن نقطة النون الصحيحة إلى أعلى"!
هذه إشارات مختصرة لعلها تكون كاشفة عن طبيعة التعليم في مدارس البادية آنذاك. أما الأحوال الاجتماعية داخل المدرسة فقد كانت عجيبة حقًّا؛ فإن المعلّمين الوافدين من المحافظات الأخرى، والمعلّمين أبناء البلد من الحضر والبادية، كل هؤلاء كانوا يسيرون إلى المدرسة النائية سيرًا على أقدامهم تحت الشمس أو تحت وأمام الريح، في حين أن الرجلين (العاملين) المكلّفين بالنظافة كان كل منهما يملك سيارة لا يملكها إلا صفوة الأثرياء؛ لذلك لم يكن غريبًا أن كانت دورات المياه مستنقعًا لا يخوض فيه إلا من فقد حاسة الشمّ!
أين كان الضمير؟ وأين الرقابة؟ وما المصير؟ بل أين كان المجتمع المحيط بالمدرسة من هذا الضياع؟ لا يذكر الرفحي أن أحدًا من أولياء أمور التلاميذ تدخّل وحاول الإصلاح إلا مرّة واحدة في أمر لا علاقة له بالدرس والتحصيل.
فقد كان في المدرسة فتيات بدويات بارعات الجمال طاغيات الأنوثة، كنّ يرتدين فوق ملابسهن لباسًا أسود يغطي من صُلبها حتى القدمين، يسمّونه (الداير)، ويغطين رؤوسهن وصدورهن بقناع أسود ما دُمن خارج المدرسة غاديات إليها ورائحات منها، فإذا ما دخلن حرم المدرسة الآمن طوين القناع وأودعنه الحقائب. يقفن في الطابور ويؤدين التمرينات التي يشير بها معلّم التربية الرياضية، "وفي البداوة حُسن غير مجلوبِ" لا يلبث أن يظهر مع حركات الجسد الغض الفائر؛ فتستشعر الفتيات الحرج، الحرج من المعلّمين أنفسهم ومن زملائهن الذين يرافقونهن ذهابًا وإيابًا يتبادلون الغرام ويتطارحون معهن الهوى. ولا بد أنهن تبادلن الرأي في هذا الإحراج، ولا بد أن بنت الشيخ حدّثت أمها، وهذه حدّثت الشيخ الذي جاء يعترض ويطالب بإعفاء الفتيات من التمرينات. فيما عدا هذه الحالة لم يسع أحد في إصلاح هذه الحال المزرية التي سيدفع الجميع ثمنها ثقيلًا وطويلًا.
قل عكس هذا كله في مدرسة المدينة التي سينتقل إليها الرفحي، ولك أن تقدّر كم سيكون متخلّفًا عن أقرانه الجدد، وهو الذي كان يُنظر إليه في بيئته تلك الفقيرة علميًّا بوصفه (الأول). الأول على مَن؟ ضائع يحاول الاجتهاد بين ضائعين!
بعد هذا العرض المؤسف، يجد الرفحي أن الإنصاف يقتضيه أن يذكر معلّمين اثنين تفانيا في دروس العلوم والإنجليزية، تفانيا وتركا أثرًا ولم يطل بقاؤهما، أولهما من الإسماعيلية والثاني من دلتا مصر. لن ينسى فضلهما أبدًا. ولن ينسى كلمة من معلّم ثالث وافد من الدلتا ايضا، وكان مرّة يشرح لهم ما هو مُقرّر في كتاب (التربية الوطنية) عن فضل الصحُف في نقل الحقيقة إلى الناس، فقال: "لا تصدّقوا هذا الكلام.. الجرائد كلها كذب"! كان ذلك عام 84 أو 1985!