(5)
والإنصاف يقتضي أيضًا أن يُذكر بالخير معلّمو مدرسة البادية جميعًا، المجتهدون والمقصّرون، وأن يُشهد لهم بالأخلاق الرفيعة والإنسانية. فلم يكن أحد منهم يدّخن مع التلاميذ أو يتبادل معهم السجائر، وأن يمازحهم مزاحًا سمِجًا باردًا كما يفعل بعضهم اليوم. وباستثناء معلّم واحد لم يكن منهم مَن يُجبر التلاميذ على دروس خاصة مقابل أجر، كانوا متعفّفين حقًّا نبلاء كما ينبغي لوظيفتهم السامية.
ومن الحق أن المعلّمين بشر كسائر البشر، وأن لهم هفوات ونزوات غريزية. ومن الحق أن بعضهم كان يتقرّب إلى تلك المعلّمة ويخضع لها في الخطاب، رغم أنه يعلم – أو بسبب أنه يعلم – فضيحتها الأخلاقية الكبرى التي أدّت إلى نقلها من مدرسة المدينة إلى مدرسة البادية.
أما علاقتهم مع التلميذات المراهقات فكانت شفافة لا تشوبها شائبة ولا تحوم حولها شُبهة إطلاقًا، على عكس بضع حالات نادرة شهدهما الرفحي في مدرستي المدينة الإعدادية والثانوية.
كان التلاميذ في المدينة يتهامسون في ذهول وحذر وهم يرون تلك الفتاة السمراء الفاتنة تدخل غرفة المدرس الضيقة ثم يُغلق الباب من دونهما. ثم استحال الهمس جهرًا حين دخلت فتاة أخرى (قبيحة) الغرفة نفسها وخرجت منها مضطربة تبكي والمعلّم في إثرها يهدئ روعها ويحاول إرضاءها.
سمع الرفحي حالات أخرى نادرة وشاذّة، ونشأت له علاقة خاصة مع تلك السمراء الفاتنة وهو في الثانوية؛ فباحت له بما لا يريد أن يعرف. ومع ذلك لم تهتزّ في ذهنه منزلة معلّميه، بل لعله عدّ هذه الهفوات من قبيل الضعف الإنساني الطارئ، ولم يتخيّله انحرافًا خُلقيًّا لازمًا.
كذلك وتسامح الرفحي وزملاؤه مع طائفة من المعلّمين كانوا ينظرون إلى ما في أيدي الدارسين قبل النظر إلى ما في عقولهم، إذ كانوا يسيئون معاملتهم إساءة تنتهي بهذه الدروس الخاصة مقابل المال. لا بأس؛ فضغط الحاجة قد يهزم بعض النفوس.
أما الذي ظل يحزّ في نفسه ويؤلمها فهو ما يسمّونه (الضرب للتأديب والتعليم)، وقد كان في الحقيقة عقابًا وتعذيبًا صريحين لا مراء فيهما.
وأقل هؤلاء سوءًا ذاك الذي كان يضرب على المذاكرة ضربًا مؤلمًا بعصا جافة صلبة – والعصيّ صنوف شتّى – فإذا عرف أن الضرب لن يفيد فلانًا من التلاميذ؛ كفّ عنه قائلًا: "الضرب في الميت حرام". وإذا قصّر الرفحي عاقبه عقابًا مضاعفًا، حين كانوا يعدّونه الأول على الضائعين.
ومعلّم الحساب يأمر الرفحي بانتقاء عصا من كرْم اللوز المجاور؛ فيتفنّن هذا في الانتقاء طاعةً للمعلم وأمانًا من الضرب. تدخل العصا وتلاميذ يصطفّون على السبورة ينتظرون المصير، يمسكها المعلّم بيمينه، وينخرط الصغار في بكاء حارّ لا تصنّع فيه، يتخفّي بعضهم وراء بعض، يُحجمون أن يُقبلوا على البلاء، يشدّ المعلم أحدهم، يستحيل البكاء صراخًا، وتفيض العيون دموعًا، والجسد كله يرتعش، تمتدّ يد مرتجفة من برد الشتاء ورعب الموقف الرهيب، وتنزل العصا كالصاعقة، فلستَ تسمع إلا صراخًا يخالطه صوت التقاء أداة التعذيب بالكفّ المعذّبة. ثم لا تنتهي الحصة إلا وقد تكسّرت عصا، وتعذّبت أجساد، وتحطّمت نفوس.
ومعلّم ثالث يحتاط لنفسه أن تنكسر عصاه؛ فيعمد إلى كرباج لدِن مرِن مؤذٍ أو خيزرنة تشوي الكفوف شيًّا. وقد تلهب المؤخرة إذا جاءت أمٌّ تشكو إلى المعلّمين مشاغبة ابنها في البيت؛ فيُعاقب هذا في طابور الصباح، ليشهد عذابه طائفة من المشاغبين وجمع المسالمين، وفي ذلك عِبرة وردع. وتعود الأم إلى بيتها وقد رضيت عن أداء المدرسة.
وكان من نتيجة هذا التعذيب أن جيل الابتدائية ذاك فشل جميعه في التعليم، إلا الرفحي التحق بكلية متوسطة المستوى، وآخر التحق بمعهد متواضع بعد لأي ومشقة.
وقد يتجاوز (التأديب) حدّ التعذيب ويصل إلى الإهانة والإذلال. وإذا برئت ألام الحسد فمتى تبرأ آلام الروح! وإذا كان العقل مغلقًا لا يفتح لطرق العصا وصفع الكف وركل القدم، وإذا كانت الروح ممتهنة، وإذا كانت كرامة الإنسان تحت أقدام المعلّم؛ فأي مجتمع سوف يكون إلا مجتمعنا هذا الجاهل الفقير المطحون!
يُؤمر التلميذ بأن يتمدّد على الأرض، يضع المعلمّ الكرسي فوقه ويجلس، تغوص أرجل الكرسي في الرمال شيئًا فشيئًا، يضغط الكرسي على التلميذ الصغير الباكي، يحرّك رأسه يمينًا فيصافح وجهه حذاء المعلّم، ويسارًا الحذاء الآخر، والصغار الأبرياء، رجال الغد، يرقبون في هلع رأس إنسان ملتصقًا بالأرض بين حذاءين!
ومعلّم آخر لا ترضي العصا رغبته، ولا تُشبع شهوته؛ فهو يفي حاجة نفسه بالصفع الصاعق على الوجوه، كأنه محقق بوليسي في عصور الظلام. وما حيلة المعذّبين في مراكز التأديب والتعليم – لا في مراكز التحقيق – ما حيلتهم إلا أن يُحكموا شدّ طواققهم على صدوغهم يتّقون بها صفع الكفوف.
رأى الرفحي وجيله وأجيال وأجيال كثيرة، رأوا كل هذه المشاهد الفظيعة التي زرعت في نفوسهم الخوف والجبن والمهانة والعجز عن التفكير الحر والتعبير الصريح؛ فكان التلميذ إذا رأى معلّمًا يسير في الطريق؛ اختبأ كأنه مذنب يختبئ من البوليس. ولسوف يأتي جيل من الناس يفخر بهيبة المعلّم آنذاك، وهو يفرّ إذا رأى رجل الأمن يسير عَرَضًا في الطريق.
فإذا خلا بعض أولئك التلاميذ إلى بعض؛ فإنهم لا يناقشون مسألة وردت في درس، ولا يتبارون في حل إشكال علمي، وإنما حُماداهم أن يتنافسوا أيهم يملك حيلة أنجع في اتقاء ألم الضرب، ثم لا يتناصحون بالدرس والتحصيل، بل يتنافسون في وسائل المراوغة التي تخفف عليهم ألم العصا والركلة بالقدم أو الصفعة بالكف أو اللكمة بجمع اليد. ويح أولئك الصعار، ما أشد سذاجتهم! لقد كان مكر المعذِّب أكبر من مكر المعذَب. ولقد حدث فعلا أن هبّ أطفال من نومهم مذعورين من استعادة ما رأوه نهارًا وعاودهم ليلًا في صورة كوابيس شنيعة.
وكذلك نشأ الرفحي وأقرانه، وغيره وغيرهم كثيرون، أجيال تعاقبت تترى. وكذلك نشأ مجتمع في ظلام السلبيات، فتحلّف عن سباق الإنسانية نحو النور..
مسعد بدر – شمال سيناء
والإنصاف يقتضي أيضًا أن يُذكر بالخير معلّمو مدرسة البادية جميعًا، المجتهدون والمقصّرون، وأن يُشهد لهم بالأخلاق الرفيعة والإنسانية. فلم يكن أحد منهم يدّخن مع التلاميذ أو يتبادل معهم السجائر، وأن يمازحهم مزاحًا سمِجًا باردًا كما يفعل بعضهم اليوم. وباستثناء معلّم واحد لم يكن منهم مَن يُجبر التلاميذ على دروس خاصة مقابل أجر، كانوا متعفّفين حقًّا نبلاء كما ينبغي لوظيفتهم السامية.
ومن الحق أن المعلّمين بشر كسائر البشر، وأن لهم هفوات ونزوات غريزية. ومن الحق أن بعضهم كان يتقرّب إلى تلك المعلّمة ويخضع لها في الخطاب، رغم أنه يعلم – أو بسبب أنه يعلم – فضيحتها الأخلاقية الكبرى التي أدّت إلى نقلها من مدرسة المدينة إلى مدرسة البادية.
أما علاقتهم مع التلميذات المراهقات فكانت شفافة لا تشوبها شائبة ولا تحوم حولها شُبهة إطلاقًا، على عكس بضع حالات نادرة شهدهما الرفحي في مدرستي المدينة الإعدادية والثانوية.
كان التلاميذ في المدينة يتهامسون في ذهول وحذر وهم يرون تلك الفتاة السمراء الفاتنة تدخل غرفة المدرس الضيقة ثم يُغلق الباب من دونهما. ثم استحال الهمس جهرًا حين دخلت فتاة أخرى (قبيحة) الغرفة نفسها وخرجت منها مضطربة تبكي والمعلّم في إثرها يهدئ روعها ويحاول إرضاءها.
سمع الرفحي حالات أخرى نادرة وشاذّة، ونشأت له علاقة خاصة مع تلك السمراء الفاتنة وهو في الثانوية؛ فباحت له بما لا يريد أن يعرف. ومع ذلك لم تهتزّ في ذهنه منزلة معلّميه، بل لعله عدّ هذه الهفوات من قبيل الضعف الإنساني الطارئ، ولم يتخيّله انحرافًا خُلقيًّا لازمًا.
كذلك وتسامح الرفحي وزملاؤه مع طائفة من المعلّمين كانوا ينظرون إلى ما في أيدي الدارسين قبل النظر إلى ما في عقولهم، إذ كانوا يسيئون معاملتهم إساءة تنتهي بهذه الدروس الخاصة مقابل المال. لا بأس؛ فضغط الحاجة قد يهزم بعض النفوس.
أما الذي ظل يحزّ في نفسه ويؤلمها فهو ما يسمّونه (الضرب للتأديب والتعليم)، وقد كان في الحقيقة عقابًا وتعذيبًا صريحين لا مراء فيهما.
وأقل هؤلاء سوءًا ذاك الذي كان يضرب على المذاكرة ضربًا مؤلمًا بعصا جافة صلبة – والعصيّ صنوف شتّى – فإذا عرف أن الضرب لن يفيد فلانًا من التلاميذ؛ كفّ عنه قائلًا: "الضرب في الميت حرام". وإذا قصّر الرفحي عاقبه عقابًا مضاعفًا، حين كانوا يعدّونه الأول على الضائعين.
ومعلّم الحساب يأمر الرفحي بانتقاء عصا من كرْم اللوز المجاور؛ فيتفنّن هذا في الانتقاء طاعةً للمعلم وأمانًا من الضرب. تدخل العصا وتلاميذ يصطفّون على السبورة ينتظرون المصير، يمسكها المعلّم بيمينه، وينخرط الصغار في بكاء حارّ لا تصنّع فيه، يتخفّي بعضهم وراء بعض، يُحجمون أن يُقبلوا على البلاء، يشدّ المعلم أحدهم، يستحيل البكاء صراخًا، وتفيض العيون دموعًا، والجسد كله يرتعش، تمتدّ يد مرتجفة من برد الشتاء ورعب الموقف الرهيب، وتنزل العصا كالصاعقة، فلستَ تسمع إلا صراخًا يخالطه صوت التقاء أداة التعذيب بالكفّ المعذّبة. ثم لا تنتهي الحصة إلا وقد تكسّرت عصا، وتعذّبت أجساد، وتحطّمت نفوس.
ومعلّم ثالث يحتاط لنفسه أن تنكسر عصاه؛ فيعمد إلى كرباج لدِن مرِن مؤذٍ أو خيزرنة تشوي الكفوف شيًّا. وقد تلهب المؤخرة إذا جاءت أمٌّ تشكو إلى المعلّمين مشاغبة ابنها في البيت؛ فيُعاقب هذا في طابور الصباح، ليشهد عذابه طائفة من المشاغبين وجمع المسالمين، وفي ذلك عِبرة وردع. وتعود الأم إلى بيتها وقد رضيت عن أداء المدرسة.
وكان من نتيجة هذا التعذيب أن جيل الابتدائية ذاك فشل جميعه في التعليم، إلا الرفحي التحق بكلية متوسطة المستوى، وآخر التحق بمعهد متواضع بعد لأي ومشقة.
وقد يتجاوز (التأديب) حدّ التعذيب ويصل إلى الإهانة والإذلال. وإذا برئت ألام الحسد فمتى تبرأ آلام الروح! وإذا كان العقل مغلقًا لا يفتح لطرق العصا وصفع الكف وركل القدم، وإذا كانت الروح ممتهنة، وإذا كانت كرامة الإنسان تحت أقدام المعلّم؛ فأي مجتمع سوف يكون إلا مجتمعنا هذا الجاهل الفقير المطحون!
يُؤمر التلميذ بأن يتمدّد على الأرض، يضع المعلمّ الكرسي فوقه ويجلس، تغوص أرجل الكرسي في الرمال شيئًا فشيئًا، يضغط الكرسي على التلميذ الصغير الباكي، يحرّك رأسه يمينًا فيصافح وجهه حذاء المعلّم، ويسارًا الحذاء الآخر، والصغار الأبرياء، رجال الغد، يرقبون في هلع رأس إنسان ملتصقًا بالأرض بين حذاءين!
ومعلّم آخر لا ترضي العصا رغبته، ولا تُشبع شهوته؛ فهو يفي حاجة نفسه بالصفع الصاعق على الوجوه، كأنه محقق بوليسي في عصور الظلام. وما حيلة المعذّبين في مراكز التأديب والتعليم – لا في مراكز التحقيق – ما حيلتهم إلا أن يُحكموا شدّ طواققهم على صدوغهم يتّقون بها صفع الكفوف.
رأى الرفحي وجيله وأجيال وأجيال كثيرة، رأوا كل هذه المشاهد الفظيعة التي زرعت في نفوسهم الخوف والجبن والمهانة والعجز عن التفكير الحر والتعبير الصريح؛ فكان التلميذ إذا رأى معلّمًا يسير في الطريق؛ اختبأ كأنه مذنب يختبئ من البوليس. ولسوف يأتي جيل من الناس يفخر بهيبة المعلّم آنذاك، وهو يفرّ إذا رأى رجل الأمن يسير عَرَضًا في الطريق.
فإذا خلا بعض أولئك التلاميذ إلى بعض؛ فإنهم لا يناقشون مسألة وردت في درس، ولا يتبارون في حل إشكال علمي، وإنما حُماداهم أن يتنافسوا أيهم يملك حيلة أنجع في اتقاء ألم الضرب، ثم لا يتناصحون بالدرس والتحصيل، بل يتنافسون في وسائل المراوغة التي تخفف عليهم ألم العصا والركلة بالقدم أو الصفعة بالكف أو اللكمة بجمع اليد. ويح أولئك الصعار، ما أشد سذاجتهم! لقد كان مكر المعذِّب أكبر من مكر المعذَب. ولقد حدث فعلا أن هبّ أطفال من نومهم مذعورين من استعادة ما رأوه نهارًا وعاودهم ليلًا في صورة كوابيس شنيعة.
وكذلك نشأ الرفحي وأقرانه، وغيره وغيرهم كثيرون، أجيال تعاقبت تترى. وكذلك نشأ مجتمع في ظلام السلبيات، فتحلّف عن سباق الإنسانية نحو النور..
مسعد بدر – شمال سيناء