يروي المحلل النفسي د. مصطفى صفوان أن اتجاهه لدراسة التحليل النفسي، وخاصة انتمائه لمدرسة جاك لاكان النفسية – اللغوية، إنما تعود أصوله لما كان يسمعه من ظرفاء عصره، وهو طفل صغير، من أصدقاء والده المشايخ الأزاهرة، في الربع الأول وبداية الربع الثاني من القرن العشرين.
ويحكي صفوان، عدة وقائع لغوية فكاهية كانت قد شكلت توجهه اللاحق فيما بعد، عندما ذهب للدراسة والاقامة في فرنسا تقريبا طوال عمره من بعد التخرج إلى الرحيل، أي قرابة ما يزيد عن 70 عاما.
ومن ثم، تعد الدراسة السيكولوجية للضحك وتأثيره على حياة الإنسان مهمة جدا، فقد اعتبر إرنست كريس أن استجابة الضحك ترجع بالإنسان لعمليات العودة أو النكوص الخاصة التي يقوم بها الضاحك إلى مناطق معينة من النشاط النفسي، شبيهة بما كان يحدث خلال الطفولة من نشاطات وأفكار مرحة، ترتبط بالبهجة والمتعة والضحك.
ونظر سيجموند فرويد للفكاهة باعتبارها واحدة من أرقى الانجازات النفسية للإنسان، وأنها تصدر عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات وتقوم على تحويل حالة الضيق أو عدم الشعور بالمتعة إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة واللذة.
وقدم فرويد في هذا الصدد كتابين هما النكات وعلاقتها باللاشعور والفكاهة، وأثبت أن الضحك يؤثر في مواجهة الضغوط النفسية وتنشيط الجهاز المناعي والحد من آثار الشيخوخة والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، وتحسين الوضع النفسي والجسمي بوجه عام للإنسان، مما يجعله أكثر تفاؤلا وإقبالا على العمل والحياة.
ويعد كتاب "الضحك" لهنري برجسون وتصوره من أهم التصورات في تفسير وفهم عملية الضحك وعليه سارت معظم الجهود التالية له، وقدم صلاح مخيمر دراسته وتحليله النفسي لسلوك الضحك في الحياة العسكرية، وانتهى إلى أن المجتمع العسكري أغزر منبع يفيض بشتى صور المضحك، فهو من هذه الوجهة دعوة متصلة لكل ملتحق وملحق أن يضحك. كما أن الحياة العسكرية الدامية تيارا فريدا من العمل يتصل حينا فيتعب ويجهد ويتمهل حينا فيمل ويسأم ويتهدده الخطر دوما، فيخاف ويقلق، فهو من هذه الوجهة دفع بكل محارب إلى طلب الضحك، ومعنى هذا أن المجتمع العسكري باعث لا يطاوله على الضحك باعث ومفتقر لا يدانيه إلى الضحك مفتقر.
كما نشر د. زكريا إبراهيم كتابه "سيكولوجية الفكاهة والضحك. وقامت عزيزة السيد بدراسة العدوانية واستجابة الضحك من خلال استخدام مجموعة من رسوم الكاريكاتير.
من جانبه، قدم الباحث سيد أحمد عثمان، تحليلا عميقا للدعابة السياسية لدى المصريين وربطها بمكونات الشخصية القادرة على المواجهة والصمود والنجاح والإيجابية ودورها في زيادة المناعة النفسية الدافعة للمقاومة، والتي لا تفرط في حق الشعب في الحرية.
ولا تختلف الفكاهة السياسية من وجهته، عن الفكاهة في عمومها إلا في موضوعها المتصل بالسلطة من بعيد أو من قريب. ويؤكد أن الفكاهة السياسية لها عديد من الوظائف أهمها التفريج الانفعالي واستشراف المستقبل وتوجيه السلطة.
النكتة "مستصغر ثورة"
يُعد كتاب "جمهورية الضحك الأولى: سيرة التنكيت السياسي في مصر" للكاتب طايع الديب (2019). مُكملا لسيرة الدعابة السياسية في مصر، فهو يعرض سيرة النكت السياسية بدءًا من عهد عبد الناصر مرورا بعصر السادات، وصولا إلى أيام مبارك، وحتى ما بعد ثورة 25 يناير 2011.
ويلقي الكتاب الضوء على أهم النكت المتداولة في عهود الرؤساء الثلاثة، مع التركيز على الإطار الاجتماعي والسياسي العام لهذه النكات، والظروف التي تم إطلاق النكات فيها.
ويتفق الكاتب مع التراث السيكولوجي حول وظيفة النكتة من حيث الدلالة النفسية كوسيلة شعبية لمعارضة الأنظمة الحاكمة، أو تفريجا انفعاليا عن مشاعر المعاناة الظلم والقهر، حسب مبدأ "شر البلية ما يضحك"، باعتبار أن النكتة "مستصغر ثورة"، أو هي "نزهة المقهورين". فالمصريون من أكثر الأمم ميلاً إلى الفكاهة والضحك، من هنا كان أدبهم غنيا بألوانها، خاصةً ما اتصلَ بالنُّكت وخفّة الدم والروح حيث النكتة وسيلتهم للتعبير عن الآلام والهموم.
ويقدم الكاتب طايع الديب تأصيلا وتوثيقا تاريخيا مهما لمسار النكتة السياسية فى مصر. يبدأ الكتاب بمقدمة تطرح بدايات خروج النكتة السياسية، وازدهارها فى بداية عصر عبد الناصر، مشيرا إلى «قهوة عبدالله» التى كان يجتمع فيها الثلاثى كامل الشناوى ومحمود السعدنى وعبد الرحمن الخميسى، ويتبارون فى تأليف النكات والسخرية من التغيرات التى طرأت على المجتمع بعد ثورة 23 يوليو.
ويبدأ الكتاب فى المزج بين الجلسات الخاصة والتعاملات الرسمية، مازجا بين التاريخ والوقائع المشهورة فى مذكرات أو كتابات سابقة، إلا أنه يتناول النكتة ومدى تأثيرها على القرار السياسى فى بعض الأوقات، وكذلك مدى التعرض للاضطهاد أو التنكيل بسبب نكات بعينها تمس النظام ورجالاته.
التنكيت على "عبد الناصر"
يؤكد الكتاب على حقيقة تاريخية، وهى أن عبد الناصر فى وقت ما أصبح «يملك ولا يحكم» ولا يعرف شيئا عن شؤون الدولة، بعد أن سلمها لعبدالحكيم عامر ورجاله، إلا أن مسار النكتة تراجع كثيرا بين عامى 1957 و1967 بسبب الخطب الحماسية التى كان يطلقها عبدالناصر وتلهب مشاعر الملايين فى مصر والوطن العربى كله.
ويضيف الكاتب إلى مسار النكتة السياسية ما ورد فى كتاب «الحرب النفسية: معركة الكلمة والمعتقد» لصلاح نصر رئيس جهاز المخابرات الأسبق، الذى ذكر فى كتابه أن السفارة الأمريكية كانت تعقد مجلسا أسبوعيا للنكت، للنيل من عبدالناصر وهيبة الضباط الأحرار وهو ما أكده عبدالناصر نفسه فى أحد لقاءاته مع أحد المسؤولين السوريين.
ووفق الكتاب، كان عبد الناصر يتعاملُ مع النّكات المتداولة بجدية تامة، بتكليف أجهزة الرئاسة بجمع تقاريرَ يوميةٍ وأسبوعية وشهرية، أيضاً كانت تأتيه من مصادر أخرى، هيئة الاستعلامات والمخابرات العامة وخطابات البريد التي يرسلها المواطنون إلى الرئيس، بعضها كان يصل مرفقاً ببيانات المرسل وبعضها من مجهول.
وبحسب طايع الديب، ذات ليلةٍ سمع الزعيم الراحل نكتةً عبر برنامج إذاعي، حول أزمة الأرز، ما دفعه لمهاتفة وزير التموين في تلك الساعة المتأخرة وسؤاله عمّا يجري، تبع ذلك اجتماعٌ طارئ لوزراء المجموعة الاقتصادية صباح اليوم التالي.
تقول النكتة إن رجلاً من سكان القاهرة علِمَ أن الأرز متوفر بكثرة في الإسكندرية، فسافر كي يشتريه من هناك، في القطار دردشَ مع الكُمساري الذي سأله:
-انت مسافر إسكندرية ليه؟
-رايح اشتري رز
واصل الرجلان الكلام في أمور أخرى حتى دخل القطار محطة طنطا، فقال له الكمساري:
-استعد عشان تنزل هنا.
-بس احنا لسا قدامنا ساعة على إسكندرية
-مش عايز تشتري رز؟
-أيوه؟
-انزل.. الطابور بيبدأ من هنا!
ويؤكد الديب أن أصواتاً فكاهيةً عديدة برزت وقتها، منهم فكري أباظة وإحسان بعد القدوس والشاعر الهزلي كامل الشناوي الذي كانت هوايته الأثيرة هي التشنيع وتدبير المقالب وتأليف النكت بلا هدف سوى السخرية من السياسيين ونجوم مجتمع ماقبل ثورة يوليو، من باب "الضحك للضحك". فقد استمر الشناوي في خلق النّكات في مجتمع ما بعد ثورة يوليو، مسؤولين ووزراء من نساء ورجال الحكم، بمعاونة الكاتبَين محمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي. فقد كانوا يبيعون النُّكت البريئة لفناني المونولوجات المعروفين وقتها.
ضجَّ قادةُ الثورة من ذلك بالشكوى لعبد الناصر، فصدر قرارٌ بنقل الخميسي ضمنَ صحفيين آخرين من عملهم بجريدة الجمهورية إلى شركة "باتا" للأحذية، بدعوى أنهم من أعداء الثورة. فقال له الشناوي مواسياً بعد نقله: ماتزعلش ياخميسي.. مكسيم جوركي بدأ حياته جزمجي وانتهى كاتب عظيم، وانت بدأت حياتك كاتب وانتهيت "جزمجي"!
وعادت النكتة السياسية إلى الازدهار مرة أخرى فى عصر السادات، كما شهدت ازدهارا كبيرا فى عهد مبارك، ويورد الكاتب العديد من النكات ذات التأثير الكبير على القرار السياسى أو التى تمس السياسة مباشرة. مثل أزمة الأرز فى عهد عبد الناصر. أو أزمة الكيروسين، ثم بعد ذلك الانفتاح فى عصر السادات، إلى أن يصل إلى عصر مبارك والنكات التى أطلقت خلال عصره سواء عليه مباشرة أو على الأوضاع فى عهده.
فمثلا يذكر النكتة التالية : بعد صدور "الميثاق الوطني" الذى كتبه محمد حسنين هيكل، وكان بمثابة دستور الحكم وقتها، أراد عبد الناصر أن يعرف رأى الناس فى "الميثاق"، فخرج لوحده متخفيا إلى أقرب قهوة. وهناك رأى أحد أولاد البلد جالسا بمفرده فحيّاه واستأذنه ثم جلس بجانبه، وطلب 2 شاى له ولجليسه، وعزم عليه بسيجارة فأخذها الرجل شاكرا، وراحا يدخنان بشغف وتبادل الرجلان حديثا وديا مستفيضا فى أحوال الدنيا وتكاليف الحياة. ولمّا أحس عبد الناصر أن الرجل اطمأن له، ولا يظنه مخبرا فى المباحث العامة، سأله: إلّا قل لى صحيح.. إيه رأيك فى "الميثاق"؟ قال الرجل بحماس: أنضف من "الكليوباترا"!
كما أورد المؤلف هذه النكتة عن السادات يقول فيها: خرج السادات في بداية حكمه من بيته في الجيزة ليتمشى ليلا على غير هدى، فقادته قدماه إلى غُرزة شاي مقامة على الكورنيش، فدخل، وهناك وجد المزاجنجية الغلابة جالسين محلقين في الدخان الأزرق، طلب شيشة فجئ له بها، وبعد أن شد منها نفسا، أخذ يستكشف القعدة من حوله.. وجد السادات رجلا بشارب ضخم إلى جانبه، فقال له الرجل في ود بالغ: نورتنا يا أفندي، محسوبك المعلم برعي أبوشفطورة إمبراطور "داير الناحية".. اسم الكريم إيه بقى؟ فرد السادات: أنا رئيس الجمهورية، فقال المعلم "برعي": "كدة من أول نفس؟ ليلتنا فُل بالصلاة على النبي!".
وهناك نكتة أخرى: استدعى السادات الكاتب الراحل محمود السعدني الذي نُسب له تأليفُ عشرات النكات منذ عهد عبد الناصر وحتى عصر السادات، فلما جاء سأله: كيف تؤلف النكت ضدي يا ولد يا سعدني وأنا رئيس مصر، اختاره الشعب عبر الاستفتاء العام أمام سمع وبصر العالم بنسبة 90.04%؟ قال السعدني: والله يا ريس النكتة دي مش من تأليفي!
كان السادات – بحكم طبيعته الشخصية الانبساطية- حريصاً على سماع النُّكت المتداولة خلال فترة حكمه، خصوصاً السياسية منها ليعرف ما يقوله الشارع المصري عن رجال الحكم.
وفي أوقات الأزمات السياسية كان يستدعي أنيس منصور وفايز حلاوة، كل على حدة، ليحكي له النكت المتداولة، فضلاً عن نمائم وطرائف الأوساط الراقية، التي سحرت السادات منذ شبابه الفقير قي قرية "ميت أبو الكوم".
وفي عهد مبارك يذكر النكتة التالية أيضا: وذات ليلة من عام 1983، ردد الكوميديان الراحل سعيد صالح على خشبة مسرحية "لعبة اسمها الفلوس" عبارة شعبية كانت متداولة في الشارع المصري آنذاك، تختصر سير حياة الرؤساء الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، على التوالي، فقال سعيد صالح: "أمي اتجوزت 3 مرات، الأولاني وكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش"، فحُكم عليه بالحبس 6 شهور مع الشغل والنفاذ بتهمة تعاطي الحشيش!
المانيفستو الضاحك
مع سقوط مبارك وقيام ثورة يناير عام 2011، عادت النكتة السياسية بقوة، لكن بغير شكلها القديم القائم على مقدمة ووسط ونهاية، حول ذلك يقول المؤلف: "في العالم الافتراضي ظهر شكل مبتكر من التنكيت السياسي، أصبح بمثابة مانيفستو ضاحك يتكون من عبارة واحدة طويلة. رسالة من تلميذ مصري.. إلى أعزائي المتظاهرين في ميدان التحرير، بخصوص الثورة اللي شغالة عندكم دلوقت ماتنسوش إنها هتدخل في مادة التاريخ واحنا اللي بنحفظ، اختصروا من فضلكم!
فالضحك بعد ثورة يناير أخذ شكلاً مغايراً عما كان قبلها، "الضحك قبل الثورة كان للتنفيس ومن أجل تجنب المواجهة السياسية المباشرة، لذلك اختفت النكتة نهائياً قبل الثورة بعدة شهور، بينما يأتي الضحك بعد الثورة كنوع من التذكير بما حدث، وللتعبير عن الكبت، وليس تنفيسه، مما يهدد بانفجار في أي وقت". ولهذا كانت النكتة تعبيرا عن التفريج الانفعالي عن الكبت السياسي، طول الوقت، في حياة المصريين
ويحكي صفوان، عدة وقائع لغوية فكاهية كانت قد شكلت توجهه اللاحق فيما بعد، عندما ذهب للدراسة والاقامة في فرنسا تقريبا طوال عمره من بعد التخرج إلى الرحيل، أي قرابة ما يزيد عن 70 عاما.
ومن ثم، تعد الدراسة السيكولوجية للضحك وتأثيره على حياة الإنسان مهمة جدا، فقد اعتبر إرنست كريس أن استجابة الضحك ترجع بالإنسان لعمليات العودة أو النكوص الخاصة التي يقوم بها الضاحك إلى مناطق معينة من النشاط النفسي، شبيهة بما كان يحدث خلال الطفولة من نشاطات وأفكار مرحة، ترتبط بالبهجة والمتعة والضحك.
ونظر سيجموند فرويد للفكاهة باعتبارها واحدة من أرقى الانجازات النفسية للإنسان، وأنها تصدر عن آلية نفسية دفاعية في مواجهة العالم الخارجي المهدد للذات وتقوم على تحويل حالة الضيق أو عدم الشعور بالمتعة إلى حالة من الشعور الخاص بالمتعة واللذة.
وقدم فرويد في هذا الصدد كتابين هما النكات وعلاقتها باللاشعور والفكاهة، وأثبت أن الضحك يؤثر في مواجهة الضغوط النفسية وتنشيط الجهاز المناعي والحد من آثار الشيخوخة والتقليل من احتمالات الإصابة بالأزمات القلبية، وتحسين الوضع النفسي والجسمي بوجه عام للإنسان، مما يجعله أكثر تفاؤلا وإقبالا على العمل والحياة.
ويعد كتاب "الضحك" لهنري برجسون وتصوره من أهم التصورات في تفسير وفهم عملية الضحك وعليه سارت معظم الجهود التالية له، وقدم صلاح مخيمر دراسته وتحليله النفسي لسلوك الضحك في الحياة العسكرية، وانتهى إلى أن المجتمع العسكري أغزر منبع يفيض بشتى صور المضحك، فهو من هذه الوجهة دعوة متصلة لكل ملتحق وملحق أن يضحك. كما أن الحياة العسكرية الدامية تيارا فريدا من العمل يتصل حينا فيتعب ويجهد ويتمهل حينا فيمل ويسأم ويتهدده الخطر دوما، فيخاف ويقلق، فهو من هذه الوجهة دفع بكل محارب إلى طلب الضحك، ومعنى هذا أن المجتمع العسكري باعث لا يطاوله على الضحك باعث ومفتقر لا يدانيه إلى الضحك مفتقر.
كما نشر د. زكريا إبراهيم كتابه "سيكولوجية الفكاهة والضحك. وقامت عزيزة السيد بدراسة العدوانية واستجابة الضحك من خلال استخدام مجموعة من رسوم الكاريكاتير.
من جانبه، قدم الباحث سيد أحمد عثمان، تحليلا عميقا للدعابة السياسية لدى المصريين وربطها بمكونات الشخصية القادرة على المواجهة والصمود والنجاح والإيجابية ودورها في زيادة المناعة النفسية الدافعة للمقاومة، والتي لا تفرط في حق الشعب في الحرية.
ولا تختلف الفكاهة السياسية من وجهته، عن الفكاهة في عمومها إلا في موضوعها المتصل بالسلطة من بعيد أو من قريب. ويؤكد أن الفكاهة السياسية لها عديد من الوظائف أهمها التفريج الانفعالي واستشراف المستقبل وتوجيه السلطة.
النكتة "مستصغر ثورة"
يُعد كتاب "جمهورية الضحك الأولى: سيرة التنكيت السياسي في مصر" للكاتب طايع الديب (2019). مُكملا لسيرة الدعابة السياسية في مصر، فهو يعرض سيرة النكت السياسية بدءًا من عهد عبد الناصر مرورا بعصر السادات، وصولا إلى أيام مبارك، وحتى ما بعد ثورة 25 يناير 2011.
ويلقي الكتاب الضوء على أهم النكت المتداولة في عهود الرؤساء الثلاثة، مع التركيز على الإطار الاجتماعي والسياسي العام لهذه النكات، والظروف التي تم إطلاق النكات فيها.
ويتفق الكاتب مع التراث السيكولوجي حول وظيفة النكتة من حيث الدلالة النفسية كوسيلة شعبية لمعارضة الأنظمة الحاكمة، أو تفريجا انفعاليا عن مشاعر المعاناة الظلم والقهر، حسب مبدأ "شر البلية ما يضحك"، باعتبار أن النكتة "مستصغر ثورة"، أو هي "نزهة المقهورين". فالمصريون من أكثر الأمم ميلاً إلى الفكاهة والضحك، من هنا كان أدبهم غنيا بألوانها، خاصةً ما اتصلَ بالنُّكت وخفّة الدم والروح حيث النكتة وسيلتهم للتعبير عن الآلام والهموم.
ويقدم الكاتب طايع الديب تأصيلا وتوثيقا تاريخيا مهما لمسار النكتة السياسية فى مصر. يبدأ الكتاب بمقدمة تطرح بدايات خروج النكتة السياسية، وازدهارها فى بداية عصر عبد الناصر، مشيرا إلى «قهوة عبدالله» التى كان يجتمع فيها الثلاثى كامل الشناوى ومحمود السعدنى وعبد الرحمن الخميسى، ويتبارون فى تأليف النكات والسخرية من التغيرات التى طرأت على المجتمع بعد ثورة 23 يوليو.
ويبدأ الكتاب فى المزج بين الجلسات الخاصة والتعاملات الرسمية، مازجا بين التاريخ والوقائع المشهورة فى مذكرات أو كتابات سابقة، إلا أنه يتناول النكتة ومدى تأثيرها على القرار السياسى فى بعض الأوقات، وكذلك مدى التعرض للاضطهاد أو التنكيل بسبب نكات بعينها تمس النظام ورجالاته.
التنكيت على "عبد الناصر"
يؤكد الكتاب على حقيقة تاريخية، وهى أن عبد الناصر فى وقت ما أصبح «يملك ولا يحكم» ولا يعرف شيئا عن شؤون الدولة، بعد أن سلمها لعبدالحكيم عامر ورجاله، إلا أن مسار النكتة تراجع كثيرا بين عامى 1957 و1967 بسبب الخطب الحماسية التى كان يطلقها عبدالناصر وتلهب مشاعر الملايين فى مصر والوطن العربى كله.
ويضيف الكاتب إلى مسار النكتة السياسية ما ورد فى كتاب «الحرب النفسية: معركة الكلمة والمعتقد» لصلاح نصر رئيس جهاز المخابرات الأسبق، الذى ذكر فى كتابه أن السفارة الأمريكية كانت تعقد مجلسا أسبوعيا للنكت، للنيل من عبدالناصر وهيبة الضباط الأحرار وهو ما أكده عبدالناصر نفسه فى أحد لقاءاته مع أحد المسؤولين السوريين.
ووفق الكتاب، كان عبد الناصر يتعاملُ مع النّكات المتداولة بجدية تامة، بتكليف أجهزة الرئاسة بجمع تقاريرَ يوميةٍ وأسبوعية وشهرية، أيضاً كانت تأتيه من مصادر أخرى، هيئة الاستعلامات والمخابرات العامة وخطابات البريد التي يرسلها المواطنون إلى الرئيس، بعضها كان يصل مرفقاً ببيانات المرسل وبعضها من مجهول.
وبحسب طايع الديب، ذات ليلةٍ سمع الزعيم الراحل نكتةً عبر برنامج إذاعي، حول أزمة الأرز، ما دفعه لمهاتفة وزير التموين في تلك الساعة المتأخرة وسؤاله عمّا يجري، تبع ذلك اجتماعٌ طارئ لوزراء المجموعة الاقتصادية صباح اليوم التالي.
تقول النكتة إن رجلاً من سكان القاهرة علِمَ أن الأرز متوفر بكثرة في الإسكندرية، فسافر كي يشتريه من هناك، في القطار دردشَ مع الكُمساري الذي سأله:
-انت مسافر إسكندرية ليه؟
-رايح اشتري رز
واصل الرجلان الكلام في أمور أخرى حتى دخل القطار محطة طنطا، فقال له الكمساري:
-استعد عشان تنزل هنا.
-بس احنا لسا قدامنا ساعة على إسكندرية
-مش عايز تشتري رز؟
-أيوه؟
-انزل.. الطابور بيبدأ من هنا!
ويؤكد الديب أن أصواتاً فكاهيةً عديدة برزت وقتها، منهم فكري أباظة وإحسان بعد القدوس والشاعر الهزلي كامل الشناوي الذي كانت هوايته الأثيرة هي التشنيع وتدبير المقالب وتأليف النكت بلا هدف سوى السخرية من السياسيين ونجوم مجتمع ماقبل ثورة يوليو، من باب "الضحك للضحك". فقد استمر الشناوي في خلق النّكات في مجتمع ما بعد ثورة يوليو، مسؤولين ووزراء من نساء ورجال الحكم، بمعاونة الكاتبَين محمود السعدني وعبد الرحمن الخميسي. فقد كانوا يبيعون النُّكت البريئة لفناني المونولوجات المعروفين وقتها.
ضجَّ قادةُ الثورة من ذلك بالشكوى لعبد الناصر، فصدر قرارٌ بنقل الخميسي ضمنَ صحفيين آخرين من عملهم بجريدة الجمهورية إلى شركة "باتا" للأحذية، بدعوى أنهم من أعداء الثورة. فقال له الشناوي مواسياً بعد نقله: ماتزعلش ياخميسي.. مكسيم جوركي بدأ حياته جزمجي وانتهى كاتب عظيم، وانت بدأت حياتك كاتب وانتهيت "جزمجي"!
وعادت النكتة السياسية إلى الازدهار مرة أخرى فى عصر السادات، كما شهدت ازدهارا كبيرا فى عهد مبارك، ويورد الكاتب العديد من النكات ذات التأثير الكبير على القرار السياسى أو التى تمس السياسة مباشرة. مثل أزمة الأرز فى عهد عبد الناصر. أو أزمة الكيروسين، ثم بعد ذلك الانفتاح فى عصر السادات، إلى أن يصل إلى عصر مبارك والنكات التى أطلقت خلال عصره سواء عليه مباشرة أو على الأوضاع فى عهده.
فمثلا يذكر النكتة التالية : بعد صدور "الميثاق الوطني" الذى كتبه محمد حسنين هيكل، وكان بمثابة دستور الحكم وقتها، أراد عبد الناصر أن يعرف رأى الناس فى "الميثاق"، فخرج لوحده متخفيا إلى أقرب قهوة. وهناك رأى أحد أولاد البلد جالسا بمفرده فحيّاه واستأذنه ثم جلس بجانبه، وطلب 2 شاى له ولجليسه، وعزم عليه بسيجارة فأخذها الرجل شاكرا، وراحا يدخنان بشغف وتبادل الرجلان حديثا وديا مستفيضا فى أحوال الدنيا وتكاليف الحياة. ولمّا أحس عبد الناصر أن الرجل اطمأن له، ولا يظنه مخبرا فى المباحث العامة، سأله: إلّا قل لى صحيح.. إيه رأيك فى "الميثاق"؟ قال الرجل بحماس: أنضف من "الكليوباترا"!
كما أورد المؤلف هذه النكتة عن السادات يقول فيها: خرج السادات في بداية حكمه من بيته في الجيزة ليتمشى ليلا على غير هدى، فقادته قدماه إلى غُرزة شاي مقامة على الكورنيش، فدخل، وهناك وجد المزاجنجية الغلابة جالسين محلقين في الدخان الأزرق، طلب شيشة فجئ له بها، وبعد أن شد منها نفسا، أخذ يستكشف القعدة من حوله.. وجد السادات رجلا بشارب ضخم إلى جانبه، فقال له الرجل في ود بالغ: نورتنا يا أفندي، محسوبك المعلم برعي أبوشفطورة إمبراطور "داير الناحية".. اسم الكريم إيه بقى؟ فرد السادات: أنا رئيس الجمهورية، فقال المعلم "برعي": "كدة من أول نفس؟ ليلتنا فُل بالصلاة على النبي!".
وهناك نكتة أخرى: استدعى السادات الكاتب الراحل محمود السعدني الذي نُسب له تأليفُ عشرات النكات منذ عهد عبد الناصر وحتى عصر السادات، فلما جاء سأله: كيف تؤلف النكت ضدي يا ولد يا سعدني وأنا رئيس مصر، اختاره الشعب عبر الاستفتاء العام أمام سمع وبصر العالم بنسبة 90.04%؟ قال السعدني: والله يا ريس النكتة دي مش من تأليفي!
كان السادات – بحكم طبيعته الشخصية الانبساطية- حريصاً على سماع النُّكت المتداولة خلال فترة حكمه، خصوصاً السياسية منها ليعرف ما يقوله الشارع المصري عن رجال الحكم.
وفي أوقات الأزمات السياسية كان يستدعي أنيس منصور وفايز حلاوة، كل على حدة، ليحكي له النكت المتداولة، فضلاً عن نمائم وطرائف الأوساط الراقية، التي سحرت السادات منذ شبابه الفقير قي قرية "ميت أبو الكوم".
وفي عهد مبارك يذكر النكتة التالية أيضا: وذات ليلة من عام 1983، ردد الكوميديان الراحل سعيد صالح على خشبة مسرحية "لعبة اسمها الفلوس" عبارة شعبية كانت متداولة في الشارع المصري آنذاك، تختصر سير حياة الرؤساء الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، على التوالي، فقال سعيد صالح: "أمي اتجوزت 3 مرات، الأولاني وكلنا المش، والتاني علمنا الغش، والتالت لا بيهش ولا بينش"، فحُكم عليه بالحبس 6 شهور مع الشغل والنفاذ بتهمة تعاطي الحشيش!
المانيفستو الضاحك
مع سقوط مبارك وقيام ثورة يناير عام 2011، عادت النكتة السياسية بقوة، لكن بغير شكلها القديم القائم على مقدمة ووسط ونهاية، حول ذلك يقول المؤلف: "في العالم الافتراضي ظهر شكل مبتكر من التنكيت السياسي، أصبح بمثابة مانيفستو ضاحك يتكون من عبارة واحدة طويلة. رسالة من تلميذ مصري.. إلى أعزائي المتظاهرين في ميدان التحرير، بخصوص الثورة اللي شغالة عندكم دلوقت ماتنسوش إنها هتدخل في مادة التاريخ واحنا اللي بنحفظ، اختصروا من فضلكم!
فالضحك بعد ثورة يناير أخذ شكلاً مغايراً عما كان قبلها، "الضحك قبل الثورة كان للتنفيس ومن أجل تجنب المواجهة السياسية المباشرة، لذلك اختفت النكتة نهائياً قبل الثورة بعدة شهور، بينما يأتي الضحك بعد الثورة كنوع من التذكير بما حدث، وللتعبير عن الكبت، وليس تنفيسه، مما يهدد بانفجار في أي وقت". ولهذا كانت النكتة تعبيرا عن التفريج الانفعالي عن الكبت السياسي، طول الوقت، في حياة المصريين