أصدرت الباحثة الجادة، والمبدعة المتألقة، ناديه الأزمي، كتابا نقديا، يهتم بالقصة القصيرة جدا، وقد كان شغلا نقديا يهتم بالجانب المضموني أساسا، من دون أن يغفل الجانب الفني حيث وردت فيه مجموعة من الإشارات الذكية ذات الارتباط بهذا الجانب.
اشتمل الكتاب على متون متعددة، وكان من بين رهاناته، تغطية مساحة أكبر من خريطة الوطن العربي. وتعي الباحثة أن كتابها النقدي هذا اهتم بشكل أكبر بجانب المعنى، مؤكدة في تقديمها على عدم استرشادها بأي منهج نقدي كان. والحق أنها اعتمدت العديد من المناهج بحسب ما تقتضيه المادة المدروسة، وعيا منها بأن كل متن، بل كل نص، له خصوصيته، ويستدعي المنهج المناسب له.
والناظر للعمل النقدي سيجد ولا شك أنه قد بني على شكل هرمي، فإذا قمنا بجمع أطرافه، توضح لنا الأمر، فقد افتتح وأغلق باسمين كبيرين، كان لهما السبق في الاهتمام بهذا الجنس الأبداعي الجديد، تنظيرا ونقدا وإبداعا. وبالتالي، فقد شكلا رأس الهرم ، متبوعين بأسماء لها حضورها الوازن في المشهد الثقافي عموما وفي مجال القص الوجيز خصوصا، إبداعا ونقدا، وتدرجا سنجد كتابا لهم حضورهم على مستويي الكتابة والنقد وصولا إلى كتاب بدؤوا يعلنون عن أنفسهم، فما كان من الباحثة إلا أن أفردت لهم حيزا مهما من كتابها بهدف التعريف بهم. وهو تناول جدير بالاحترام في ظل نقد يهتم ، فقط ، بالأسماء الكبيرة. ومن مزايا الكتاب الأخرى، أنه كتاب شغله الأساس، القراءة التطبيقية، مبعدا، بذلك، الاهتمام بالمناهج، إيمانا من الناقدة، أن الساحة بحاجة لقراءات تطبيقية، وأن المكتبة تنقصها مثل هذه الدراسات. وبالرغم من أن مثل هذا العمل، يتطلب جهدا كبيرا، إلا أننا وجدنا الباحثة ترفع هذا التحدي بكثير من النجاح.
تم تخصيص الكتاب للقصة القصيرة جدا، تقول الباحثة في تقديمها، في هذه الإضمامة من الدراسات التطبيقية النقدية: سيجد المرء نفسه في مواجهة قراءات لمجموعة ارتضى فيها أصحابها القصة القصيرة جدا شكلا للتعبير عن مكنوناتهم. ص 5. ولعلنا نجد في هذا المقتبس إدراكا قويا لدى الباحثة بأن شغلها هو قراءات تطبيقية، ولا تقف عند هذا الحد، بل تذهب بعيدا في تعاملها مع المتون المدروسة بتبصر نقدي يجعلها تضع اليد على الكثير من الهفوات التي وقع فيها كتاب هذا اللون التعبيري الجديد. وهو ما سنشير إليه أثناء القادم من القول.
إن الدارسة تعي أن عملها هو : سعي لملاحقة كيفية الاشتغال على هذا الشكل من التعبير البرقي السريع المثير، وبحث عن دلالته التي قد ينجح المبدع أو يخفق في إيصالها إلى القارئ، فكأنما كل قصة برق، وكأنما كل حلم المطر مرهون بنجاحها. ص 5./
وفي هذا المقتطف نلمس قضيتين، وهما: أولا: الاهتمام بجانب الدلالة، وثانيا: مسألة النجاح أو الإخفاق في توصيل تلك الدلالة. وهذا يؤكد ما أشارنا له سابقا، من أن الباحثة لم تقف عند عتبة الدلالة، بل ذهبت، وبكل جرأة، إلى جانب نجاح النصوص أو إخفاقها، بالإشارة إلى مكامن هذا الفشل. ثم إننا نرى في المقطع إياه، إضاءة لعملية تحليل عنوان الكتاب، فالقصة حلم، قد يأتي بالمطر، وقد يأتي بالجفاف، أي: الفشل. مع إضافة العربية؛ لتدليل على أن المبدعين الذين تناولتهم الدراسة ينتمون إلى الأقطار العربية المختلفة، بمعنى، جعل الدراسة شاملة ، تقوم بمسح كل الخريطة العربية.
وقد أشارت الباحثة في تقديمها إلى كونها لم تكن شغوفة أبدا بحمى المناهج الأدبية، لأن غايتها تتبع ما تقوله النصوص ذاتها، أو ما تشي به، أو ما تلمح إليه في ضوء معرفتها الأدبية، وذائقتها النقدية. ولنا وقفة مع هذه النقطة.
عطفا على ما سبق، نؤكد أن الباحثة وهي تخبرنا بعدم اهتمامها بالمناهج، لا تريد اعتماد ذوقها الخاص في التعامل مع النصوص، بل تجعل ذلك الذوق هاديا للمنهج المناسب؛ فهي تعي أن النصوص هي التي تطلب منهاجها، لا المنهاج، وبذلك تتجنب مطبات عديدة، لعل من أهمها، جعل المنهج غاية لا وسيلة، تصيره كسرير بروكست، يتفاعل مع النصوص وفق ما يريد لا ما تريد، ثم إنها، لم تسع إلى التعريف بهذا المنهج أو ذاك، ولا تبغي تجريبه في أرض الإبداع، كل همها هو إنطاق النصوص، وتوليد دلالاتها، بالمنهج القادر على استجلاء المطلوب.
ثم إننا نرى أن الباحثة وإن لم تعلن عن المنهج الذي استعانت به لإضاءة النصوص، فليس معناه عدم الاستعانة بأي واحد، كلا، إننا نلاحظ أنها شغلت بعض المفاهيم من دون أن تتقيد بمنهج محدد، علما أنها استعانت بشكل كبير، بمنهج التيمات، الذي أسس له الباحث الفرنسي، ريشار، وكان أداتها في استنطاق النصوص والتعامل معها بذكاء يحترم خصوصيات كل مجموعة.
ومن الملاحظ أن الباحثة وهي تتخذ القصة القصيرة جدا شغلا لها، يؤكد أنها تنطلق من وعي معرفي عميق بالجنس التعبيري الجديد، وبخلفية معرفية عميقة به، وهي المعرفة التي ستمنكها من قراءة النصوص بوعي ورؤية نقدية تنطلق من الداخل، بمعنى: أنها تقرأ بوعي نقدي، وجرأة على وضع الإصبع على مكامن الضعف في بعض النصوص، سواء من حيث الطول، أم من حيث مستوى الحكاية، أم من حيث مستوى التكرار، بالخصوص على جهة الموضوعات المعالجة.
ويهدف النقد الموضوعاتي إلى استقراء التيمات الأساسية الواعية واللاواعية للنصوص الإبداعية المتميزة ، وتحديد محاورها الدلالية المتكررة والمتواترة ، واستخلاص بنياتها العنوانية المدارية تفكيكا وتشريحا وتحليلا عبر عمليات التجميع المعجمي والإحصاء الدلالي لكل القيم والسمات المعنوية المهيمنة التي تتحكم في البنى المضمونية للنصوص الإبداعية.
والكتاب النقدي ذو أهمية، جاء ليتسجيب لحاجة ما سة تتمثل في الافتقار للدراسات التطبيقية، والقراءات النصية، وإذا راقب المرء المشهد النقدي العربي أمكنه أن يجد أنواعا مختلفة من المعالجات النقدية التي تتأرجح بين أن تكون نقدا تنظيريا رفيعا يفيد من الثقافة والذائقة، وبين أن تكون انطباعات ساذجة حول إبدعات جديدة، تتلقفها الصحف التي تستهلك كل شيء..، كما لاحظ ذلك، الناقد، يوسف حطيني.
وأهمية الكتاب تظهر في ما ذهب إليه أحد النقاد بالقول: وهذا عمل محمود نقدره للناقدة، لأنه يسلط الضوء على نماذج عديدة، فلا يظل الأمر محصورا في بلد معين، ولهذا فوائد عديدة، منها: التعرف على مزيد من كتاب هذا النوع الادبي، والاطلاع على كيفية التناول من بلد عربي لآخر، ثم يكون مجال النقد اوسع عندما تتنوع اماكن الكتابة وأدباؤها.1
كما أن الناقد نفسه، قد لاحظ، على مستوى القراءة أن الناقدة قد اهتمت بالتحليل المضمونى للقصص فجعلته جل دراستها، وانشغلت به انشغالا كبيرا هيمن على كتابها من أوله الى آخره، ولعل طبيعة كتابة هذا النوع من القصص "المكثف" بشكل شديد، يجذب الدارس نحو ما يشتمل عليه من مواقف وآراء ودلائل ، فليس هناك مجال كبير للسرد وطرائقه ، وللشخصيات وأنواعها ، وللزمان والمكان ووظائفهما ، ولذا كان توجه الدراسة إلى ما احتوته القصص مباشرا نحو الدخول إلى المضامين التي حرص كتاب القصص على تناولها أحيانا بشكل واضح وأحيانا أخرى بشكل خفي دفع الناقدة الى قراءة ما بين السطور أو ما وراءها في عملية كشفية عما يريده القاص أو بعض ما يريده.
وقد لاحظت الكاتبة، وهي في معرض تحليلها للمجموعات، أن الهم السياسي والاجتماعي قد استحوذ على اهتمام الكتاب كلهم، فالمواطن العربي ذكرا كان أوأنثى صغيرا أوكبيرا يعاني من هموم اجتماعية كثيرة، ومن قضايا سياسية متعددة ، على المستويين الداخلي والخارجي ، النفسي والمكاني ، وإذا كان الأمر هكذا فمن الطبيعي ان يكون الاهتمام منصبا على هذه الهموم والقضايا التي تشغل بال العربي وتؤرقه وتعرقل حياته ، وتعطل نظامه اليومي. كما أن المرأة قد شغلت حيزا مهما من مساحات النص القصصي على اعتبار أنها تشكل نصف المجتمع، وأنها دينامو أي تنمية، فبها يرتفع المجتمع، وبها ينحط، ومن هنا الرهان عليها في تحقيق أي بعد.2
والكتاب النقدي، بحسب الناقد، يوسف حطيني يقف إلى جانب كتب نقدية أخرى لا يكاد عددها يبلغ أصابع اليدين، ويعالج بجرأة هموم القصة القصيرة جدا، من منطلق رؤية نقدية تمكن الباحثة من أن تقف كتفا بكتف إلى جانب نقاد قليلين تصدوا لهذا الفن، الذي بدأ يفرض حضوره على الجنس السردي العربي.
ومن مميزات الكتاب كونه يمتلك وعيا كبيرا بجنس القصة القصيرة جدا، ويحمل نظرة ثاقبة لنصوص هذا اللون التعبيري، ويحمل جرأة في التعامل معها من غير مهادنة ولا مجاملة، بحيث يحفل بالكثير من النقد البناء، يضع اليد على ضعف الكثير من النصوص كما لدى أهم متابعي هذا النوع الكتابي، نقصد، جاسم الموسوي، وغيرها من الملاحظات الدقيقة والتي تعبر عن وعي الناقدة بأهم شروط وتقنيات هذا الكتابة الإبداعية.
فلنلق نظرة تفصيلية على ما تم ذكره لتجليته بشكل ملموس، انطلاقا من أمثلة عيانية.
لقد قامت الدارسة بقراءة الأعمل القصصية بعين ناقدة معتمدة في ذلك على خلفية معرفية عميقة بالجنس الأدبي الذي تتعامل معه، وتقوم بتحليله، واستجلاء كوامنه؛ فقد كانت تسير في أحراش النصوص برؤية متبصرة، لا تجامل، ولا تهادن، فمتى أبصرت الخلل أشارت إليه، ومتى وجدت عيبا توقفت عنده، لإدراكها أن القص الوجيز ينبغي أن يكون بناء مرصوصا، تنسجم مفرداته المنتقاة بدقة، فيما بينها، فأي ترهل، أو حشو، أو زيادة، سيكون معيبا، ومضرا بنضارة القص وملاحته، إنها تضع إصبعها على الجرح، لتسيل صديده، وعلى القروح لإشفائها. نرى هذا ماثلا، مثلا، وهي بصدد قراءة عمل المبدع والناقد، جاسم، تشير إلى غياب التكثيف في الكثير من نصوصه، رغم أنه، وفي رأي المبدع نفسه، من ضرورات القصة القصيرة جدا، تقول الباحثة، بهذا الصدد: فقد غاب في رأيي عن كثير من القصص، فجاءت قصصه أطول من"قصص قصيرة جدا"، على الرغم من نضجها الفني، ومتانة أسلوبها، وجرأة طرحها، متدرجة من بداية نؤسس خلفية قصيرة للحدث، نحو عقدة يحلها الحدث" ص 17 ونرى أن هذا الطول معيب، ويزداد عيبا حين يصدر عن ناقد يؤمن بأهمية التكثيف والإيجاز.
ولا تقف الدارسة عند هذه النقطة مكتفية بها، بل نراها تواصل نقدها لعنصر آخر، تراه غير ضروري، يتعلق الأمر بأداة النداء {يا}، والتي يضيفها الكاتب إلى نهاية قصصه . فهي تراها لازمة إيقاعية أكثر من كونها ضرورة فنية، يمكن حذفها من دون أن يختل البناء، تقول: ويخيل إلى أنه كان ينهي قصته، فيطمئن إلى إبهارها، ثم يضيف هذه اللازمة، أو لعله كتب المجموعة كاملة، ثم قرر أن يضيف هذه اللازمة لقصصها، وربما كان من الأجدى أن يتم الاستغناء هن هذا التكرار، ذي الوظيفة الصوتية، لأن التركرارات تحتمل مثنى وثلاث ورباع، وليس فوق ذلك" ص 17، هنا نجد ملاحظة بانية من طرف الباحثة، تؤكد أنها على دراية بالقص الوجيز، وبخصوصياته، بحيث إنه لا يتحمل زوائد تثقل كاهله، وتصيبه بالترهل.
إن الدارسة تمتلك الجرأة للحديث عن الضعف الذي يعتري الكتابة بلباقة ودراية، ونلاحظ ذلك حين تتطرق لمجموعة "سيرة الخوف" للخطاب المزروعي، إذ اعتمدت الشعرية على حساب الحكاية مما أدى إلى ضمورها، علما، أنها من أسس القص الوجيز، لا يمكن أن يقوم من دونها: بقي أن نشير إلى أن الحكاية في بعض قصص المجموعة تختفي وراء ظلال الحالة السردية، أو شعرية اللغة، كما يظهر في قصة "ظلام" ص 61 التي تسير مطمئنة بلا عقدة ولا حل، وفي قصة "أمينة" ص 69 التي تطغى فيها الشعرية على الحكاية، وفي قصة "حلم" ص 33 التي تبدو حالة سردية أكثر من كونها قصة واضحة المعالم، إذ ثمة بناء في البداية يسعى لتشكيل حكاية، غير أن اللغة في النصف الثاني تجنح لتكوين حالة لا عقدة فيها، ولا حل تفضي إليه العقدة" ص 44.
وهناك الكثير من الإشارات النقدية المهمة في ثنايا الكتاب تؤكد مدى إلمام الباحثة بخصوصيات القص الوجيز. بيد أن ذلك لا يعني بالمطلق أنها تقف فقط عند نقط الضعف التي تعتري بعض النصوص، بل تشير إلى مواطن القوة فيها، بمعنى، أنها توازن بين الجانبين، بهدف بلوغ كتابة أكثر إشراقا وأحسن بناء، وهذه المزاوجة نلمسها على مستوى الدلالة والبناء الفني، فهي وإن رامت المضمون، وجعلته هدفها المعلن، فإنها قدمت إشارات ترتبط بالجانب الفني، من مثل المفارقة وأهميتها في بناء النصوص، والتكثيف ، والرمز، وغيرها.
إن الدارسة قد اعتمدت مداخل متنوعة ومختلفة في تناولها للمجموعات قيد البحث، صحيح أنها اعتمدت على العتبات النصية، وأشارت إلى أن الهم الاجتماعي والسياسي، فضلا عن قضية المرأة، هي القضايا التي شغلت الكتاب جميعهم، إلا أنها اختارت مداخل متباينة لتناول هذه القضايا لدى كل كاتب أو كاتبة.
وفي مثال آخر يدل على جرأة الكاتبة ولباقتها في لفتها النظر لسلبيات الكتابة الوجيزة ما نلاحظه في تناول مجموعة "سيرة الخوف" للخطاب المزروعي، فقد أكدت على أن بعض نصوصها قد اعتمدت الشعرية على حساب الحكاية مما أدى إلى ضمورها، علما، أنها من أسس القص الوجيز، لا يمكن أن يقوم من دونها: بقي أن نشير إلى أن الحكاية في بعض قصص المجموعة تختفي وراء ظلال الحالة السردية، أو شعرية اللغة، كما يظهر في قصة "ظلام" ص 61 التي تسير مطمئنة بلا عقدة ولا حل، وفي قصة "أمينة" ص 69 التي تطغى فيها الشعرية على الحكاية، وفي قصة "حلم" ص 33 التي تبدو حالة سردية أكثر من كونها قصة واضحة المعالم، إذ ثمة بناء في البداية يسعى لتشكيل حكاية، غير أن اللغة في النصف الثاني تجنح لتكوين حالة لا عقدة فيها، ولا حل تفضي إليه العقدة" ص 44.
إن الدارسة قد اعتمدت مداخل متنوعة ومختلفة في تناولها للمجموعات قيد البحث، صحيح أنها اعتمدت على العتبات النصية، وأشارت إلى أن الهم الاجتماعي والسياسي، فضلا عن قضية المرأة، هي القضايا التي شغلت الكتاب جميعهم، إلا أنها اختارت مداخل متباينة لتناول هذه القضايا لدى كل كاتب أو كاتبة. لهذا، لن نبالغ إذا قلنا: إن الكتاب النقدي ذو أهمية في مجال القص الوجيز، ولبنة مهمة في معماره، لا يمكن تخطيه، إنه إثراء للمكتبة العربية تروم إظهار قيمة القصة القصيرة جدا في مشهدنا الثقافي، وجعل القراء يستأنسون بها بدل رفضها، والإقبال عليها بدل النفور منها.
اشتمل الكتاب على متون متعددة، وكان من بين رهاناته، تغطية مساحة أكبر من خريطة الوطن العربي. وتعي الباحثة أن كتابها النقدي هذا اهتم بشكل أكبر بجانب المعنى، مؤكدة في تقديمها على عدم استرشادها بأي منهج نقدي كان. والحق أنها اعتمدت العديد من المناهج بحسب ما تقتضيه المادة المدروسة، وعيا منها بأن كل متن، بل كل نص، له خصوصيته، ويستدعي المنهج المناسب له.
والناظر للعمل النقدي سيجد ولا شك أنه قد بني على شكل هرمي، فإذا قمنا بجمع أطرافه، توضح لنا الأمر، فقد افتتح وأغلق باسمين كبيرين، كان لهما السبق في الاهتمام بهذا الجنس الأبداعي الجديد، تنظيرا ونقدا وإبداعا. وبالتالي، فقد شكلا رأس الهرم ، متبوعين بأسماء لها حضورها الوازن في المشهد الثقافي عموما وفي مجال القص الوجيز خصوصا، إبداعا ونقدا، وتدرجا سنجد كتابا لهم حضورهم على مستويي الكتابة والنقد وصولا إلى كتاب بدؤوا يعلنون عن أنفسهم، فما كان من الباحثة إلا أن أفردت لهم حيزا مهما من كتابها بهدف التعريف بهم. وهو تناول جدير بالاحترام في ظل نقد يهتم ، فقط ، بالأسماء الكبيرة. ومن مزايا الكتاب الأخرى، أنه كتاب شغله الأساس، القراءة التطبيقية، مبعدا، بذلك، الاهتمام بالمناهج، إيمانا من الناقدة، أن الساحة بحاجة لقراءات تطبيقية، وأن المكتبة تنقصها مثل هذه الدراسات. وبالرغم من أن مثل هذا العمل، يتطلب جهدا كبيرا، إلا أننا وجدنا الباحثة ترفع هذا التحدي بكثير من النجاح.
تم تخصيص الكتاب للقصة القصيرة جدا، تقول الباحثة في تقديمها، في هذه الإضمامة من الدراسات التطبيقية النقدية: سيجد المرء نفسه في مواجهة قراءات لمجموعة ارتضى فيها أصحابها القصة القصيرة جدا شكلا للتعبير عن مكنوناتهم. ص 5. ولعلنا نجد في هذا المقتبس إدراكا قويا لدى الباحثة بأن شغلها هو قراءات تطبيقية، ولا تقف عند هذا الحد، بل تذهب بعيدا في تعاملها مع المتون المدروسة بتبصر نقدي يجعلها تضع اليد على الكثير من الهفوات التي وقع فيها كتاب هذا اللون التعبيري الجديد. وهو ما سنشير إليه أثناء القادم من القول.
إن الدارسة تعي أن عملها هو : سعي لملاحقة كيفية الاشتغال على هذا الشكل من التعبير البرقي السريع المثير، وبحث عن دلالته التي قد ينجح المبدع أو يخفق في إيصالها إلى القارئ، فكأنما كل قصة برق، وكأنما كل حلم المطر مرهون بنجاحها. ص 5./
وفي هذا المقتطف نلمس قضيتين، وهما: أولا: الاهتمام بجانب الدلالة، وثانيا: مسألة النجاح أو الإخفاق في توصيل تلك الدلالة. وهذا يؤكد ما أشارنا له سابقا، من أن الباحثة لم تقف عند عتبة الدلالة، بل ذهبت، وبكل جرأة، إلى جانب نجاح النصوص أو إخفاقها، بالإشارة إلى مكامن هذا الفشل. ثم إننا نرى في المقطع إياه، إضاءة لعملية تحليل عنوان الكتاب، فالقصة حلم، قد يأتي بالمطر، وقد يأتي بالجفاف، أي: الفشل. مع إضافة العربية؛ لتدليل على أن المبدعين الذين تناولتهم الدراسة ينتمون إلى الأقطار العربية المختلفة، بمعنى، جعل الدراسة شاملة ، تقوم بمسح كل الخريطة العربية.
وقد أشارت الباحثة في تقديمها إلى كونها لم تكن شغوفة أبدا بحمى المناهج الأدبية، لأن غايتها تتبع ما تقوله النصوص ذاتها، أو ما تشي به، أو ما تلمح إليه في ضوء معرفتها الأدبية، وذائقتها النقدية. ولنا وقفة مع هذه النقطة.
عطفا على ما سبق، نؤكد أن الباحثة وهي تخبرنا بعدم اهتمامها بالمناهج، لا تريد اعتماد ذوقها الخاص في التعامل مع النصوص، بل تجعل ذلك الذوق هاديا للمنهج المناسب؛ فهي تعي أن النصوص هي التي تطلب منهاجها، لا المنهاج، وبذلك تتجنب مطبات عديدة، لعل من أهمها، جعل المنهج غاية لا وسيلة، تصيره كسرير بروكست، يتفاعل مع النصوص وفق ما يريد لا ما تريد، ثم إنها، لم تسع إلى التعريف بهذا المنهج أو ذاك، ولا تبغي تجريبه في أرض الإبداع، كل همها هو إنطاق النصوص، وتوليد دلالاتها، بالمنهج القادر على استجلاء المطلوب.
ثم إننا نرى أن الباحثة وإن لم تعلن عن المنهج الذي استعانت به لإضاءة النصوص، فليس معناه عدم الاستعانة بأي واحد، كلا، إننا نلاحظ أنها شغلت بعض المفاهيم من دون أن تتقيد بمنهج محدد، علما أنها استعانت بشكل كبير، بمنهج التيمات، الذي أسس له الباحث الفرنسي، ريشار، وكان أداتها في استنطاق النصوص والتعامل معها بذكاء يحترم خصوصيات كل مجموعة.
ومن الملاحظ أن الباحثة وهي تتخذ القصة القصيرة جدا شغلا لها، يؤكد أنها تنطلق من وعي معرفي عميق بالجنس التعبيري الجديد، وبخلفية معرفية عميقة به، وهي المعرفة التي ستمنكها من قراءة النصوص بوعي ورؤية نقدية تنطلق من الداخل، بمعنى: أنها تقرأ بوعي نقدي، وجرأة على وضع الإصبع على مكامن الضعف في بعض النصوص، سواء من حيث الطول، أم من حيث مستوى الحكاية، أم من حيث مستوى التكرار، بالخصوص على جهة الموضوعات المعالجة.
ويهدف النقد الموضوعاتي إلى استقراء التيمات الأساسية الواعية واللاواعية للنصوص الإبداعية المتميزة ، وتحديد محاورها الدلالية المتكررة والمتواترة ، واستخلاص بنياتها العنوانية المدارية تفكيكا وتشريحا وتحليلا عبر عمليات التجميع المعجمي والإحصاء الدلالي لكل القيم والسمات المعنوية المهيمنة التي تتحكم في البنى المضمونية للنصوص الإبداعية.
والكتاب النقدي ذو أهمية، جاء ليتسجيب لحاجة ما سة تتمثل في الافتقار للدراسات التطبيقية، والقراءات النصية، وإذا راقب المرء المشهد النقدي العربي أمكنه أن يجد أنواعا مختلفة من المعالجات النقدية التي تتأرجح بين أن تكون نقدا تنظيريا رفيعا يفيد من الثقافة والذائقة، وبين أن تكون انطباعات ساذجة حول إبدعات جديدة، تتلقفها الصحف التي تستهلك كل شيء..، كما لاحظ ذلك، الناقد، يوسف حطيني.
وأهمية الكتاب تظهر في ما ذهب إليه أحد النقاد بالقول: وهذا عمل محمود نقدره للناقدة، لأنه يسلط الضوء على نماذج عديدة، فلا يظل الأمر محصورا في بلد معين، ولهذا فوائد عديدة، منها: التعرف على مزيد من كتاب هذا النوع الادبي، والاطلاع على كيفية التناول من بلد عربي لآخر، ثم يكون مجال النقد اوسع عندما تتنوع اماكن الكتابة وأدباؤها.1
كما أن الناقد نفسه، قد لاحظ، على مستوى القراءة أن الناقدة قد اهتمت بالتحليل المضمونى للقصص فجعلته جل دراستها، وانشغلت به انشغالا كبيرا هيمن على كتابها من أوله الى آخره، ولعل طبيعة كتابة هذا النوع من القصص "المكثف" بشكل شديد، يجذب الدارس نحو ما يشتمل عليه من مواقف وآراء ودلائل ، فليس هناك مجال كبير للسرد وطرائقه ، وللشخصيات وأنواعها ، وللزمان والمكان ووظائفهما ، ولذا كان توجه الدراسة إلى ما احتوته القصص مباشرا نحو الدخول إلى المضامين التي حرص كتاب القصص على تناولها أحيانا بشكل واضح وأحيانا أخرى بشكل خفي دفع الناقدة الى قراءة ما بين السطور أو ما وراءها في عملية كشفية عما يريده القاص أو بعض ما يريده.
وقد لاحظت الكاتبة، وهي في معرض تحليلها للمجموعات، أن الهم السياسي والاجتماعي قد استحوذ على اهتمام الكتاب كلهم، فالمواطن العربي ذكرا كان أوأنثى صغيرا أوكبيرا يعاني من هموم اجتماعية كثيرة، ومن قضايا سياسية متعددة ، على المستويين الداخلي والخارجي ، النفسي والمكاني ، وإذا كان الأمر هكذا فمن الطبيعي ان يكون الاهتمام منصبا على هذه الهموم والقضايا التي تشغل بال العربي وتؤرقه وتعرقل حياته ، وتعطل نظامه اليومي. كما أن المرأة قد شغلت حيزا مهما من مساحات النص القصصي على اعتبار أنها تشكل نصف المجتمع، وأنها دينامو أي تنمية، فبها يرتفع المجتمع، وبها ينحط، ومن هنا الرهان عليها في تحقيق أي بعد.2
والكتاب النقدي، بحسب الناقد، يوسف حطيني يقف إلى جانب كتب نقدية أخرى لا يكاد عددها يبلغ أصابع اليدين، ويعالج بجرأة هموم القصة القصيرة جدا، من منطلق رؤية نقدية تمكن الباحثة من أن تقف كتفا بكتف إلى جانب نقاد قليلين تصدوا لهذا الفن، الذي بدأ يفرض حضوره على الجنس السردي العربي.
ومن مميزات الكتاب كونه يمتلك وعيا كبيرا بجنس القصة القصيرة جدا، ويحمل نظرة ثاقبة لنصوص هذا اللون التعبيري، ويحمل جرأة في التعامل معها من غير مهادنة ولا مجاملة، بحيث يحفل بالكثير من النقد البناء، يضع اليد على ضعف الكثير من النصوص كما لدى أهم متابعي هذا النوع الكتابي، نقصد، جاسم الموسوي، وغيرها من الملاحظات الدقيقة والتي تعبر عن وعي الناقدة بأهم شروط وتقنيات هذا الكتابة الإبداعية.
فلنلق نظرة تفصيلية على ما تم ذكره لتجليته بشكل ملموس، انطلاقا من أمثلة عيانية.
لقد قامت الدارسة بقراءة الأعمل القصصية بعين ناقدة معتمدة في ذلك على خلفية معرفية عميقة بالجنس الأدبي الذي تتعامل معه، وتقوم بتحليله، واستجلاء كوامنه؛ فقد كانت تسير في أحراش النصوص برؤية متبصرة، لا تجامل، ولا تهادن، فمتى أبصرت الخلل أشارت إليه، ومتى وجدت عيبا توقفت عنده، لإدراكها أن القص الوجيز ينبغي أن يكون بناء مرصوصا، تنسجم مفرداته المنتقاة بدقة، فيما بينها، فأي ترهل، أو حشو، أو زيادة، سيكون معيبا، ومضرا بنضارة القص وملاحته، إنها تضع إصبعها على الجرح، لتسيل صديده، وعلى القروح لإشفائها. نرى هذا ماثلا، مثلا، وهي بصدد قراءة عمل المبدع والناقد، جاسم، تشير إلى غياب التكثيف في الكثير من نصوصه، رغم أنه، وفي رأي المبدع نفسه، من ضرورات القصة القصيرة جدا، تقول الباحثة، بهذا الصدد: فقد غاب في رأيي عن كثير من القصص، فجاءت قصصه أطول من"قصص قصيرة جدا"، على الرغم من نضجها الفني، ومتانة أسلوبها، وجرأة طرحها، متدرجة من بداية نؤسس خلفية قصيرة للحدث، نحو عقدة يحلها الحدث" ص 17 ونرى أن هذا الطول معيب، ويزداد عيبا حين يصدر عن ناقد يؤمن بأهمية التكثيف والإيجاز.
ولا تقف الدارسة عند هذه النقطة مكتفية بها، بل نراها تواصل نقدها لعنصر آخر، تراه غير ضروري، يتعلق الأمر بأداة النداء {يا}، والتي يضيفها الكاتب إلى نهاية قصصه . فهي تراها لازمة إيقاعية أكثر من كونها ضرورة فنية، يمكن حذفها من دون أن يختل البناء، تقول: ويخيل إلى أنه كان ينهي قصته، فيطمئن إلى إبهارها، ثم يضيف هذه اللازمة، أو لعله كتب المجموعة كاملة، ثم قرر أن يضيف هذه اللازمة لقصصها، وربما كان من الأجدى أن يتم الاستغناء هن هذا التكرار، ذي الوظيفة الصوتية، لأن التركرارات تحتمل مثنى وثلاث ورباع، وليس فوق ذلك" ص 17، هنا نجد ملاحظة بانية من طرف الباحثة، تؤكد أنها على دراية بالقص الوجيز، وبخصوصياته، بحيث إنه لا يتحمل زوائد تثقل كاهله، وتصيبه بالترهل.
إن الدارسة تمتلك الجرأة للحديث عن الضعف الذي يعتري الكتابة بلباقة ودراية، ونلاحظ ذلك حين تتطرق لمجموعة "سيرة الخوف" للخطاب المزروعي، إذ اعتمدت الشعرية على حساب الحكاية مما أدى إلى ضمورها، علما، أنها من أسس القص الوجيز، لا يمكن أن يقوم من دونها: بقي أن نشير إلى أن الحكاية في بعض قصص المجموعة تختفي وراء ظلال الحالة السردية، أو شعرية اللغة، كما يظهر في قصة "ظلام" ص 61 التي تسير مطمئنة بلا عقدة ولا حل، وفي قصة "أمينة" ص 69 التي تطغى فيها الشعرية على الحكاية، وفي قصة "حلم" ص 33 التي تبدو حالة سردية أكثر من كونها قصة واضحة المعالم، إذ ثمة بناء في البداية يسعى لتشكيل حكاية، غير أن اللغة في النصف الثاني تجنح لتكوين حالة لا عقدة فيها، ولا حل تفضي إليه العقدة" ص 44.
وهناك الكثير من الإشارات النقدية المهمة في ثنايا الكتاب تؤكد مدى إلمام الباحثة بخصوصيات القص الوجيز. بيد أن ذلك لا يعني بالمطلق أنها تقف فقط عند نقط الضعف التي تعتري بعض النصوص، بل تشير إلى مواطن القوة فيها، بمعنى، أنها توازن بين الجانبين، بهدف بلوغ كتابة أكثر إشراقا وأحسن بناء، وهذه المزاوجة نلمسها على مستوى الدلالة والبناء الفني، فهي وإن رامت المضمون، وجعلته هدفها المعلن، فإنها قدمت إشارات ترتبط بالجانب الفني، من مثل المفارقة وأهميتها في بناء النصوص، والتكثيف ، والرمز، وغيرها.
إن الدارسة قد اعتمدت مداخل متنوعة ومختلفة في تناولها للمجموعات قيد البحث، صحيح أنها اعتمدت على العتبات النصية، وأشارت إلى أن الهم الاجتماعي والسياسي، فضلا عن قضية المرأة، هي القضايا التي شغلت الكتاب جميعهم، إلا أنها اختارت مداخل متباينة لتناول هذه القضايا لدى كل كاتب أو كاتبة.
وفي مثال آخر يدل على جرأة الكاتبة ولباقتها في لفتها النظر لسلبيات الكتابة الوجيزة ما نلاحظه في تناول مجموعة "سيرة الخوف" للخطاب المزروعي، فقد أكدت على أن بعض نصوصها قد اعتمدت الشعرية على حساب الحكاية مما أدى إلى ضمورها، علما، أنها من أسس القص الوجيز، لا يمكن أن يقوم من دونها: بقي أن نشير إلى أن الحكاية في بعض قصص المجموعة تختفي وراء ظلال الحالة السردية، أو شعرية اللغة، كما يظهر في قصة "ظلام" ص 61 التي تسير مطمئنة بلا عقدة ولا حل، وفي قصة "أمينة" ص 69 التي تطغى فيها الشعرية على الحكاية، وفي قصة "حلم" ص 33 التي تبدو حالة سردية أكثر من كونها قصة واضحة المعالم، إذ ثمة بناء في البداية يسعى لتشكيل حكاية، غير أن اللغة في النصف الثاني تجنح لتكوين حالة لا عقدة فيها، ولا حل تفضي إليه العقدة" ص 44.
إن الدارسة قد اعتمدت مداخل متنوعة ومختلفة في تناولها للمجموعات قيد البحث، صحيح أنها اعتمدت على العتبات النصية، وأشارت إلى أن الهم الاجتماعي والسياسي، فضلا عن قضية المرأة، هي القضايا التي شغلت الكتاب جميعهم، إلا أنها اختارت مداخل متباينة لتناول هذه القضايا لدى كل كاتب أو كاتبة. لهذا، لن نبالغ إذا قلنا: إن الكتاب النقدي ذو أهمية في مجال القص الوجيز، ولبنة مهمة في معماره، لا يمكن تخطيه، إنه إثراء للمكتبة العربية تروم إظهار قيمة القصة القصيرة جدا في مشهدنا الثقافي، وجعل القراء يستأنسون بها بدل رفضها، والإقبال عليها بدل النفور منها.