(الجزء الأول)
عنوان هذه المقالة هو، في الحقيقة، الآية رقم 20 من سورة العنكبوت. والآية كاملة هي كالتالي: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
في هذه الآية، كلام الله، سبحانه وتعالى، موجَّهٌ لرسوله محمد (ص) طالباً منه أن يقولَ للذين لا يؤمنون لا بيوم البعث ولا بالرسالة التي كلفه الله بإبلاغها للناس : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…"
وكالعادة، اطَّلعتُ على تفاسير هذه الآية من طرف المفسرين المعروفين كالطبري وابن كثير والسعدي والبغوي والقرطبي…، فوجدت أنها تفاسير يطغى عليها الجانب الديني وتكاد تنحصر في خلق الإنسان. بينما الله، سبحانه وتعالى، يتحدَّث، في هذه الآية، عن الخلق، بصفة عامة، دون أن يُبيِّنَ هل الأمر يتعلَّق بالإنسان أو بجميع المخلوقات، حية وغير حية. كل هذه التفاسير ألحَّت على قدرة الله على الخلق وعلى قدرته على إحياء الموتى يوم القيامة. وهذا شيءٌ مفروغٌ منه.
انطلاقا من كون كثيرٍ من آيات القرآن الكريم صالحة لكل زمان ومكان، فتفسير هذه الآية، في عهد الرسول، ليس هو تفسيرها في الوقت الراهن لسببٍ بسيطٍ، ألا وهو تغيير الزمان والمكان. وهو ما سأقوم به، من خلال تحليل هذه الآية كلمةً تلو الأخرى وفعلا تلو الآخر، لاستخلاص ما أراد الله، جلَّ وعلا، أن يُبلِّغَه للناس على لسان رسوله (ص).
وأول ما يترتَّب عن هذا التحليل، ملاحظاتٌ أعتبرها، أنا شخصيا، مهمة للغاية.
وأول ملاحظة هي أن فعلَي "سِيرُوا" و "فَانظُرُوا" فعلان مُصرَّفان بصيغة الأمر. بينما فعل "بدأ" مصاغٌ في الماضي. وهذا يعني أن اللهَ، سبحانه وتعالى، عندما خاطب رسولَه (ص)، كان الخلقُ موجودا أو كانت المخلوقات موجودة. وهذا شيءٌ بديهي لأن عمرَ الأرض يحسب بملايير السنين، بينما الحياة ظهرت في الأرض منذ ما يزيد عن 3 مليار سنة. أما فعل "يُنشِئُ"، فهو مصاغٌ في المضارع. وهذا دليلٌ على أن "النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ"، أي إحياء الموتى يوم القيامة، ستتِمُّ في المستقبل.
الملاحظة الثانية هي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يحدِّد نوعيةَ الخلق. هل الأمرُ يتعلَّق بالمخلوقات الحية أم بالمخلوقات غير الحية أو هما معا.
الملاحظة الثالثة هي أن الناس الذين لا يؤمنون بيوم البعث كانوا موجودين قبل الإسلام، أثناءه وبعده. ولا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا. ولهذا، فتحليل هذه الآية الكريمة سيشمل عصرَ الرسول محمد (ص) وعصرَنا الحالي.
انطلاقا من هذه التَّوضيحات، سأبدأ تَّحليل الآية بالنسبة لعصر الرسول (ص)، ثم بعد ذلك، بالنسبة للعصر الحالي، علما أن هذا التَّحليلَ سيتطلَّب مني تخصيصَ مقالتين لهذا الموضوع : مقالةٌ أولى، وهي المقالة الحالية، سأتناول فيها تحليلَ الجزء الأول من الآية والذي هو : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، ومقالة ثانية سأتناول فيها تحليلَ الجزء الثاني من الآية الذي هو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". أما الجزء الأخير من الآية، لن أتطرَّقَ له لأنه يدخل في علم الغيب.
فيما يخصُّ تحليلَ الجزء الأول من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، أي "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، أذكِّر بأن كلام الله موجَّهٌ للناس الذين لا يٌؤمنون لا بيوم البعث ولا برسالة محمد (ص). قد وضَّحتُ أن هذا النوعَ من الناس كان موجودا قبل الإسلام وأثناءه وبعده. فما هو المقصود من "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" في عهد الرسول (ص)؟
المقصود هو انتشِروا في الأرض. لكن الله لم يوضِّح في هذه الآية هل الأمرُ يتعلَّق بالأرض كلها أو بجزء منها. وهنا، المنطق هو الذي سيحكم. لماذا؟
أولا، لأن وسائلَ النقل والتَّنقُّل كانت، في عهد الرسول (ص)، مقتضرةً على ركوب الدَّواب، من حمير وبِغال وخيل أو على المشي على الأقدام.
ثانيا، المساحة الإجمالية للكرة الأرضية تزيد عن 510 مليون كيلومتر مربَّع، أكثر من 70% منها مُغطَّى بالمحيطات والبحار. فكيف لوسائل النقل المتواضعة، التي كانت مُتوفِّرة في عهد الرسول أن تُتيح للناس الانتشارَ في هذه المساحة الهائلة علما أن البرَّ يشكِّل أقل من 30% منها؟
إذن، "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، هي عبارة عن صورة ذهنية une image mentale، المُراد منها الانتقال من مكان إلى آخر حسب ما تُتيحه وسائل النقل التي كانت متوفِّرةً في عهد الرسول (ص). وقد تكون، كذلك، عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، فقط صورة رمزية une image symbolique، يريد، من خلالِها، اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُدركَ الناسُ قدرتَه على الخلق وقدرتَه على إحياء الموتى يوم القيامة.
أما بالنسبة لعصرنا الحاضر، فعبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، تختلف تمامَ الاختلافِ، معنى ومضمونا. وهذا الاختلاف له عِدة أسباب، أذكر من بينها ما يلي :
أولا، كلنا سمعنا أو قرأنا أن الكرةَ الأرضية أصبحت عبارة عن "قرية صغيرة" un petit village أو "قرية كوكبية" village planétaire أو "قرية شمولية" أو village global. لماذا؟ لأن مفهوم المسافة distance أصبح نسبيا، أي يتغيَّر تدريجيا كلما تطوَّرت وسائل النقل والتَّنقُّل نوعاً وسُرعةً. وهذا يعني أن المسافات الطويلة التي كان قَطعُها، في الماضي، يتطلَّب وقتا طويلا (أيام وليالي)، لم يعد، اليوم، يتطلَّب إلا بضع ساعات. وهذا يعني أن تقدُّمَ وسائل النقل والتَّنقُّل، نوعا وسُرعةً، وبالأخص برّاً وجوّاً، قصَّرَ المسافات والوقت.
ثانيا، بفضل تقدُّم الوسائل السمعية البصرية والاتصال، أصبح من الممكن قطعُ المسافات الطويلة افتراضيا virtuellement، أي بدون تنقُّل. وهذا يعني أن السفرَ أصبح ممكنا بدون تنقُّلٍ.
ثالثا، عندما نقول إن الكرةَ الأرضيةَ أصبحت عبارة عن "قرية صغيرة"، فصِغرُ هذه الكرة الأرضية ليس راجعا، فقط، لتطوُّر وسائل النقل والتَّنقُّل. بل راجع كذلك للتطوُّر الضخم الذي عرفه العالمُ، علمياً وتكنولوجياً، منذ حدوث الثورة الصناعية révolution industrielle، وبالأخص، خلال القرن العشرين.
منطقِيا، المعنى المقصود من عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" يختلف عبر الزمان والمكان، أي أن هذا المعنى مرتبط ارتباطا وثيقا بالتقدُّم الذي يحصل في فكر الإنسان من حيث تنوُّع وسائل النقل والتَّنقُّل أنواعاً وسرعاتٍ. ولهذا، فالبُعد الذي كان مترتِّبا عنها، في عهد الرسول (ص)، ليس هو البُعد الذي أصبح يفرضه على الناس التَّقدُّم العلمي والتكنولوجيي.
ولهذا، فعبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" لم تعد مجرَّدَ "صورة ذهنية" أو "صورة رمزية". بل واقعٌ ملموس نشاهده أمامَ أعيننا، وبالتالي، هذه العبارة أصبح لها، اليوم، مدى مغاير لذلك الذي كانت عليه في عهد الرسول (ص). فما هو هذا المدى؟
لقد أصبح اليوم، بفضل التَّقدُّم الحاصل في مجال النقل، بإمكان الإنسان أن ينتقل من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، ومن مشارقها إلى مغاربها في بضعة ساعات. إذن، عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" تعني انتشروا في جميع بقاع الأرض، برّاً، بحراً وجوّاً.
فحينما يقول، سبحانه تعالى في الآية رقم 29 من سورة ص : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"، أو حينما يقول، عزَّ وجلَّ، في الآية رقم 24 من سورة محمد : "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (،محمد، 24)، فهاتان الآيتان تبيِّنان، بوضوح، أن نزولَ القرآن على الرسول (ص)، ليس لحفظه وتداوله، فحسب، بين الناس، أبا عن جد، لكن للتَّعمُّق في معاني آياته بتدبُّر وتمعُّنٍ وتبصُّر.
وما يثير الانتباهَ في الآية رقم 29 من سورة ص، هو أنها تنتهي ب"وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"، أي أصحاب العقول النيِّرة والمستنيرة. بل إن فعلَ "وَلِيَتَذَكَّرَ" مُصاغٌ في المضارع، بمعنى أن كلامَ الله موجَّهٌ للناس في حاضر عهد الرسول (ص) وللناس فيما سيأتي من الزمان، بعد وفاة الرسول، إلى يومنا هذا. "وَلِيَتَذَكَّرَ" تعني ليستحضر الناسُ ما استخلصوه من معاني عميقة من خلال التَّدبُّر.
أما الآية رقم 24 من سورة محمد، فإنها دعوةٌ مُلحَّةٌ من الله، سبحانه وتعالى، لتدبُّر آيات القرآن الكريم. وفعل "يَتَدَبَّرُونَ" مُصاغٌ في المضارع، بمعنى أن كلام الله مُوجَّهٌ للناس في حاضر عهد الرسول (ص،)، وكذلك، للناس لما سيأتي من الزمان، بعد وفاته.
والتَّدبُّرُ يجب ربطُه بالعقل وبظروف الزمان والمكان اللذان ينطلق منهما المتدبِّرُ. وهذا هو النهجُ الذي آتَّبعتُه لتحليل الجزء الأ ول من الآية التي هي عنوان هذه المقالة. وهذا الجزء الأول هو: "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ". وسأتَّبع، إن شاء الله، نفسَ النهج لتحليل الجزء الثاني من نفس الآية، ألا وهو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". وللتذكير، لن أحلِّلَ الجزء الثالث (ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) لأنه يدخل في علم الغيب.
عنوان هذه المقالة هو، في الحقيقة، الآية رقم 20 من سورة العنكبوت. والآية كاملة هي كالتالي: "قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
في هذه الآية، كلام الله، سبحانه وتعالى، موجَّهٌ لرسوله محمد (ص) طالباً منه أن يقولَ للذين لا يؤمنون لا بيوم البعث ولا بالرسالة التي كلفه الله بإبلاغها للناس : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ…"
وكالعادة، اطَّلعتُ على تفاسير هذه الآية من طرف المفسرين المعروفين كالطبري وابن كثير والسعدي والبغوي والقرطبي…، فوجدت أنها تفاسير يطغى عليها الجانب الديني وتكاد تنحصر في خلق الإنسان. بينما الله، سبحانه وتعالى، يتحدَّث، في هذه الآية، عن الخلق، بصفة عامة، دون أن يُبيِّنَ هل الأمر يتعلَّق بالإنسان أو بجميع المخلوقات، حية وغير حية. كل هذه التفاسير ألحَّت على قدرة الله على الخلق وعلى قدرته على إحياء الموتى يوم القيامة. وهذا شيءٌ مفروغٌ منه.
انطلاقا من كون كثيرٍ من آيات القرآن الكريم صالحة لكل زمان ومكان، فتفسير هذه الآية، في عهد الرسول، ليس هو تفسيرها في الوقت الراهن لسببٍ بسيطٍ، ألا وهو تغيير الزمان والمكان. وهو ما سأقوم به، من خلال تحليل هذه الآية كلمةً تلو الأخرى وفعلا تلو الآخر، لاستخلاص ما أراد الله، جلَّ وعلا، أن يُبلِّغَه للناس على لسان رسوله (ص).
وأول ما يترتَّب عن هذا التحليل، ملاحظاتٌ أعتبرها، أنا شخصيا، مهمة للغاية.
وأول ملاحظة هي أن فعلَي "سِيرُوا" و "فَانظُرُوا" فعلان مُصرَّفان بصيغة الأمر. بينما فعل "بدأ" مصاغٌ في الماضي. وهذا يعني أن اللهَ، سبحانه وتعالى، عندما خاطب رسولَه (ص)، كان الخلقُ موجودا أو كانت المخلوقات موجودة. وهذا شيءٌ بديهي لأن عمرَ الأرض يحسب بملايير السنين، بينما الحياة ظهرت في الأرض منذ ما يزيد عن 3 مليار سنة. أما فعل "يُنشِئُ"، فهو مصاغٌ في المضارع. وهذا دليلٌ على أن "النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ"، أي إحياء الموتى يوم القيامة، ستتِمُّ في المستقبل.
الملاحظة الثانية هي أن اللهَ، سبحانه وتعالى، لم يحدِّد نوعيةَ الخلق. هل الأمرُ يتعلَّق بالمخلوقات الحية أم بالمخلوقات غير الحية أو هما معا.
الملاحظة الثالثة هي أن الناس الذين لا يؤمنون بيوم البعث كانوا موجودين قبل الإسلام، أثناءه وبعده. ولا يزالوا موجودين إلى يومنا هذا. ولهذا، فتحليل هذه الآية الكريمة سيشمل عصرَ الرسول محمد (ص) وعصرَنا الحالي.
انطلاقا من هذه التَّوضيحات، سأبدأ تَّحليل الآية بالنسبة لعصر الرسول (ص)، ثم بعد ذلك، بالنسبة للعصر الحالي، علما أن هذا التَّحليلَ سيتطلَّب مني تخصيصَ مقالتين لهذا الموضوع : مقالةٌ أولى، وهي المقالة الحالية، سأتناول فيها تحليلَ الجزء الأول من الآية والذي هو : "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، ومقالة ثانية سأتناول فيها تحليلَ الجزء الثاني من الآية الذي هو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". أما الجزء الأخير من الآية، لن أتطرَّقَ له لأنه يدخل في علم الغيب.
فيما يخصُّ تحليلَ الجزء الأول من الآية التي هي عنوان هذه المقالة، أي "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، أذكِّر بأن كلام الله موجَّهٌ للناس الذين لا يٌؤمنون لا بيوم البعث ولا برسالة محمد (ص). قد وضَّحتُ أن هذا النوعَ من الناس كان موجودا قبل الإسلام وأثناءه وبعده. فما هو المقصود من "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" في عهد الرسول (ص)؟
المقصود هو انتشِروا في الأرض. لكن الله لم يوضِّح في هذه الآية هل الأمرُ يتعلَّق بالأرض كلها أو بجزء منها. وهنا، المنطق هو الذي سيحكم. لماذا؟
أولا، لأن وسائلَ النقل والتَّنقُّل كانت، في عهد الرسول (ص)، مقتضرةً على ركوب الدَّواب، من حمير وبِغال وخيل أو على المشي على الأقدام.
ثانيا، المساحة الإجمالية للكرة الأرضية تزيد عن 510 مليون كيلومتر مربَّع، أكثر من 70% منها مُغطَّى بالمحيطات والبحار. فكيف لوسائل النقل المتواضعة، التي كانت مُتوفِّرة في عهد الرسول أن تُتيح للناس الانتشارَ في هذه المساحة الهائلة علما أن البرَّ يشكِّل أقل من 30% منها؟
إذن، "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، هي عبارة عن صورة ذهنية une image mentale، المُراد منها الانتقال من مكان إلى آخر حسب ما تُتيحه وسائل النقل التي كانت متوفِّرةً في عهد الرسول (ص). وقد تكون، كذلك، عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، فقط صورة رمزية une image symbolique، يريد، من خلالِها، اللهُ، سبحانه وتعالى، أن يُدركَ الناسُ قدرتَه على الخلق وقدرتَه على إحياء الموتى يوم القيامة.
أما بالنسبة لعصرنا الحاضر، فعبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ"، تختلف تمامَ الاختلافِ، معنى ومضمونا. وهذا الاختلاف له عِدة أسباب، أذكر من بينها ما يلي :
أولا، كلنا سمعنا أو قرأنا أن الكرةَ الأرضية أصبحت عبارة عن "قرية صغيرة" un petit village أو "قرية كوكبية" village planétaire أو "قرية شمولية" أو village global. لماذا؟ لأن مفهوم المسافة distance أصبح نسبيا، أي يتغيَّر تدريجيا كلما تطوَّرت وسائل النقل والتَّنقُّل نوعاً وسُرعةً. وهذا يعني أن المسافات الطويلة التي كان قَطعُها، في الماضي، يتطلَّب وقتا طويلا (أيام وليالي)، لم يعد، اليوم، يتطلَّب إلا بضع ساعات. وهذا يعني أن تقدُّمَ وسائل النقل والتَّنقُّل، نوعا وسُرعةً، وبالأخص برّاً وجوّاً، قصَّرَ المسافات والوقت.
ثانيا، بفضل تقدُّم الوسائل السمعية البصرية والاتصال، أصبح من الممكن قطعُ المسافات الطويلة افتراضيا virtuellement، أي بدون تنقُّل. وهذا يعني أن السفرَ أصبح ممكنا بدون تنقُّلٍ.
ثالثا، عندما نقول إن الكرةَ الأرضيةَ أصبحت عبارة عن "قرية صغيرة"، فصِغرُ هذه الكرة الأرضية ليس راجعا، فقط، لتطوُّر وسائل النقل والتَّنقُّل. بل راجع كذلك للتطوُّر الضخم الذي عرفه العالمُ، علمياً وتكنولوجياً، منذ حدوث الثورة الصناعية révolution industrielle، وبالأخص، خلال القرن العشرين.
منطقِيا، المعنى المقصود من عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" يختلف عبر الزمان والمكان، أي أن هذا المعنى مرتبط ارتباطا وثيقا بالتقدُّم الذي يحصل في فكر الإنسان من حيث تنوُّع وسائل النقل والتَّنقُّل أنواعاً وسرعاتٍ. ولهذا، فالبُعد الذي كان مترتِّبا عنها، في عهد الرسول (ص)، ليس هو البُعد الذي أصبح يفرضه على الناس التَّقدُّم العلمي والتكنولوجيي.
ولهذا، فعبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" لم تعد مجرَّدَ "صورة ذهنية" أو "صورة رمزية". بل واقعٌ ملموس نشاهده أمامَ أعيننا، وبالتالي، هذه العبارة أصبح لها، اليوم، مدى مغاير لذلك الذي كانت عليه في عهد الرسول (ص). فما هو هذا المدى؟
لقد أصبح اليوم، بفضل التَّقدُّم الحاصل في مجال النقل، بإمكان الإنسان أن ينتقل من شمال الكرة الأرضية إلى جنوبها، ومن مشارقها إلى مغاربها في بضعة ساعات. إذن، عبارة "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ" تعني انتشروا في جميع بقاع الأرض، برّاً، بحراً وجوّاً.
فحينما يقول، سبحانه تعالى في الآية رقم 29 من سورة ص : "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"، أو حينما يقول، عزَّ وجلَّ، في الآية رقم 24 من سورة محمد : "أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (،محمد، 24)، فهاتان الآيتان تبيِّنان، بوضوح، أن نزولَ القرآن على الرسول (ص)، ليس لحفظه وتداوله، فحسب، بين الناس، أبا عن جد، لكن للتَّعمُّق في معاني آياته بتدبُّر وتمعُّنٍ وتبصُّر.
وما يثير الانتباهَ في الآية رقم 29 من سورة ص، هو أنها تنتهي ب"وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ"، أي أصحاب العقول النيِّرة والمستنيرة. بل إن فعلَ "وَلِيَتَذَكَّرَ" مُصاغٌ في المضارع، بمعنى أن كلامَ الله موجَّهٌ للناس في حاضر عهد الرسول (ص) وللناس فيما سيأتي من الزمان، بعد وفاة الرسول، إلى يومنا هذا. "وَلِيَتَذَكَّرَ" تعني ليستحضر الناسُ ما استخلصوه من معاني عميقة من خلال التَّدبُّر.
أما الآية رقم 24 من سورة محمد، فإنها دعوةٌ مُلحَّةٌ من الله، سبحانه وتعالى، لتدبُّر آيات القرآن الكريم. وفعل "يَتَدَبَّرُونَ" مُصاغٌ في المضارع، بمعنى أن كلام الله مُوجَّهٌ للناس في حاضر عهد الرسول (ص،)، وكذلك، للناس لما سيأتي من الزمان، بعد وفاته.
والتَّدبُّرُ يجب ربطُه بالعقل وبظروف الزمان والمكان اللذان ينطلق منهما المتدبِّرُ. وهذا هو النهجُ الذي آتَّبعتُه لتحليل الجزء الأ ول من الآية التي هي عنوان هذه المقالة. وهذا الجزء الأول هو: "سِيرُوا فِي الْأَرْضِ". وسأتَّبع، إن شاء الله، نفسَ النهج لتحليل الجزء الثاني من نفس الآية، ألا وهو : "فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ". وللتذكير، لن أحلِّلَ الجزء الثالث (ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) لأنه يدخل في علم الغيب.