نُشر في جريدة الدستور يوم الجمعة 5 نيسان / أبريل 2024. مقال حول بيت من الشعر لعروة بن الورد هو (أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد)
سنبدي رأينا في المقال؛ لأنه مثال لما يكتب من مقالات ومؤلفات تتناول التراث العربي القديم برؤية ما يسمى ما بعد الحداثة.
نلاحظ في البدء أن عنوان المقال حمل تغييرًا مهمًا في بيت الشعر بقوله" هل يمكن للمثقّف أن يقسّم نفسه في نفوس كثيرة؟!" والحقيقة أنه يقسم جسمه وليس نفسه، وكلمة "نفس" لا تستقيم والمعاني التي تطرحها كلمة" جسم"، أو المعاني التي يريدها الشاعر. فمن الواضح أن مضافًا قد سقط، وهو القوت أو الطعام، ولا يصح مع كلمة "نفس".
ويرى المقال أن عروة بن الورد "شخصية ثقافية عامة"، فمن الغرابة أن يوصف شاعر في العصر الجاهلي بمصطلح حديث، حتى ولو كان أمير الصعاليك، فهو ليس معروفًا حتى في عصره الجاهلي، مثل شعراء المعلقات على سبيل المثال، وليس معروفًا على مستوى الثقافة العربية، مثل المتنبي على سبيل المثال أيضًا.
ويرى المقال بأن بيت عروة الشعري هو" تجسيد المشهد الملحمي الذي سطّره عروة بن الورد، في بيته العابر لكل حدود الزمان والمكان" وفي موضع آخر هو "البيت الشعري الخالد" وفي آخر هو "البيت الشعري الأسطوري". والحقيقة أن خلود هذا البيت ليس كخلود حِكم زهير بن أبي سلمى في معلقته التي أشاد بها الرسول(صلى الله عليه وسلم) وعمر بن الخطاب، ولا أكثر خلودًا من بعض شعر عنترة العبسي ابن قبيلة عروة بن الورد، ثم إن وصفه بأنه أسطوري تارة وتارة بأنه عابر للزمان والمكان، وتارة بأنه ملحمي يربك المتلقي، ويعطي صورة مضطربة، ومتناقضة، ومبالغ فيها، وغير دقيقة عن قيمة هذا البيت ومعناه.
وفي قول المقال:" كلّهم(المثقفون) أجمعوا على أن (ألدّ) منافسي مشروع الكاتب أو برنامجه، هم أحبّهم للكاتب وأقربهم إليه، دون قصد منه ودون قصد منهم." تعميم مخل، والحكاية عن ذلك المثقف وزوجته عندما غارت من الكلمات التي كتبها في إهدائه كتابه إلى الكاتب لا علاقة لها ببيت عروة، الذي كان يتسامح مع من تنكر لمعروفه من أصحابه عندما أصبح فقيرًا.
ثم من الخطأ الواضح القول "إن عروة بن الورد قد لخّص فيه(البيت)، مأساة المثقف العام المعطاء الملتزم؛ المثقف الذي يجد نفسه موزّعًا على الدوام، وربما على مدار الساعة" فمع تجاوز المبالغة والحشو في هذا القول فإن عروة بن الورد ليس فيلسوفًا، وليس عنده القلق الوجودي مثل نيتشه، أو بالمثقف الملتزم مثل غرامشي أو سارتر. إنه شاعر من البادية، له رؤية للحياة والناس مثل الشنفرى وغيره من صعاليك العرب.
ثم القول: " لقد ظلّت مقولة عروة بن الورد تتدحرج من عصر إلى عصر، حتى التقطها الشاعر الكوني محمود درويش، فأعاد إنتاجها من وجهة نظره الإبداعية والشخصية في قصيدته المذهلة (أنا لست لي)" والصحيح أن "أنا لست لي" ليست قصيدة، بل هي الجزء الأخير من قصيدة "جدارية" للشاعر درويش، تتحدث عن رؤيته للوجود والموت، ولا علاقة لها بما يوحي به بيت عروة.
ولا شك أن قول عروة: (أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد) فيه صورة جميلة، وفكرة عميقة، ويحمل صفة إنسانية محببة للناس جميعًا، وهي صفة الإيثار ضمن البيئة الصحراوية وقيمها. لكنه ليس جديدًا على الشعر العربي، وبخاصة الشعر الجاهلي، وفي مقدمتها إكرام الضيف وتفضيله على النفس، حتى إن الشاعر الجاهلي الطفيل الغنوي له بيتان، يقترب معناهما مما أراده عروة في بيته المذكور. يقول:
ففي هذين البتين يقول الغنوي إنه يؤثر الضيف بأفضل مكان من بيته، ويوفر له أحسن الفراش، ويخدمه ويؤنسه بأطيب الأحاديث، ولا ينشغل عنه بأهل أو ولد. كما أنه يحس بضيفه فإن رأى حاجته للنوم تركه وحرص على راحته. والعربي - كما يرى الأصمعي - إذا نزل ضيفًا على قوم فإنه إن رأى منهم بشاشة أقام عندهم، وإن لم ير تركهم، ولهذا قيل: إن الحديث من القرى.
في النهاية نقول: إن هذا المقال الذي توقفنا عنده يفتقد الصفة العلمية، بما طغى عليه من مبالغة، وتناقض، واضطراب. وبقي على الباحثين تحديد الأسباب التي كانت وراء ظهوره على هذه الشاكلة، أهي التكنولوجيا الرقمية، أم الاستهانة بعقلية المتلقي، أم عدم المراجعة، أم التخلي عن القلق العلمي الذي يحرس النوعية؟؟
سنبدي رأينا في المقال؛ لأنه مثال لما يكتب من مقالات ومؤلفات تتناول التراث العربي القديم برؤية ما يسمى ما بعد الحداثة.
نلاحظ في البدء أن عنوان المقال حمل تغييرًا مهمًا في بيت الشعر بقوله" هل يمكن للمثقّف أن يقسّم نفسه في نفوس كثيرة؟!" والحقيقة أنه يقسم جسمه وليس نفسه، وكلمة "نفس" لا تستقيم والمعاني التي تطرحها كلمة" جسم"، أو المعاني التي يريدها الشاعر. فمن الواضح أن مضافًا قد سقط، وهو القوت أو الطعام، ولا يصح مع كلمة "نفس".
ويرى المقال أن عروة بن الورد "شخصية ثقافية عامة"، فمن الغرابة أن يوصف شاعر في العصر الجاهلي بمصطلح حديث، حتى ولو كان أمير الصعاليك، فهو ليس معروفًا حتى في عصره الجاهلي، مثل شعراء المعلقات على سبيل المثال، وليس معروفًا على مستوى الثقافة العربية، مثل المتنبي على سبيل المثال أيضًا.
ويرى المقال بأن بيت عروة الشعري هو" تجسيد المشهد الملحمي الذي سطّره عروة بن الورد، في بيته العابر لكل حدود الزمان والمكان" وفي موضع آخر هو "البيت الشعري الخالد" وفي آخر هو "البيت الشعري الأسطوري". والحقيقة أن خلود هذا البيت ليس كخلود حِكم زهير بن أبي سلمى في معلقته التي أشاد بها الرسول(صلى الله عليه وسلم) وعمر بن الخطاب، ولا أكثر خلودًا من بعض شعر عنترة العبسي ابن قبيلة عروة بن الورد، ثم إن وصفه بأنه أسطوري تارة وتارة بأنه عابر للزمان والمكان، وتارة بأنه ملحمي يربك المتلقي، ويعطي صورة مضطربة، ومتناقضة، ومبالغ فيها، وغير دقيقة عن قيمة هذا البيت ومعناه.
وفي قول المقال:" كلّهم(المثقفون) أجمعوا على أن (ألدّ) منافسي مشروع الكاتب أو برنامجه، هم أحبّهم للكاتب وأقربهم إليه، دون قصد منه ودون قصد منهم." تعميم مخل، والحكاية عن ذلك المثقف وزوجته عندما غارت من الكلمات التي كتبها في إهدائه كتابه إلى الكاتب لا علاقة لها ببيت عروة، الذي كان يتسامح مع من تنكر لمعروفه من أصحابه عندما أصبح فقيرًا.
ثم من الخطأ الواضح القول "إن عروة بن الورد قد لخّص فيه(البيت)، مأساة المثقف العام المعطاء الملتزم؛ المثقف الذي يجد نفسه موزّعًا على الدوام، وربما على مدار الساعة" فمع تجاوز المبالغة والحشو في هذا القول فإن عروة بن الورد ليس فيلسوفًا، وليس عنده القلق الوجودي مثل نيتشه، أو بالمثقف الملتزم مثل غرامشي أو سارتر. إنه شاعر من البادية، له رؤية للحياة والناس مثل الشنفرى وغيره من صعاليك العرب.
ثم القول: " لقد ظلّت مقولة عروة بن الورد تتدحرج من عصر إلى عصر، حتى التقطها الشاعر الكوني محمود درويش، فأعاد إنتاجها من وجهة نظره الإبداعية والشخصية في قصيدته المذهلة (أنا لست لي)" والصحيح أن "أنا لست لي" ليست قصيدة، بل هي الجزء الأخير من قصيدة "جدارية" للشاعر درويش، تتحدث عن رؤيته للوجود والموت، ولا علاقة لها بما يوحي به بيت عروة.
ولا شك أن قول عروة: (أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة/ وأحسو قراح الماء والماء بارد) فيه صورة جميلة، وفكرة عميقة، ويحمل صفة إنسانية محببة للناس جميعًا، وهي صفة الإيثار ضمن البيئة الصحراوية وقيمها. لكنه ليس جديدًا على الشعر العربي، وبخاصة الشعر الجاهلي، وفي مقدمتها إكرام الضيف وتفضيله على النفس، حتى إن الشاعر الجاهلي الطفيل الغنوي له بيتان، يقترب معناهما مما أراده عروة في بيته المذكور. يقول:
لِحافي لِحافُ الضَيفِ وَالبَيتُ بَيتُهُ وَلَم يُلهِني عَنهُ غَزالٌ مُقَنَّعُ
أُحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِن القِرى وَتَكلَأُ عَيني عَينَهُ حينَ يَهجَعُ
أُحَدِّثُهُ إِنَّ الحَديثَ مِن القِرى وَتَكلَأُ عَيني عَينَهُ حينَ يَهجَعُ
ففي هذين البتين يقول الغنوي إنه يؤثر الضيف بأفضل مكان من بيته، ويوفر له أحسن الفراش، ويخدمه ويؤنسه بأطيب الأحاديث، ولا ينشغل عنه بأهل أو ولد. كما أنه يحس بضيفه فإن رأى حاجته للنوم تركه وحرص على راحته. والعربي - كما يرى الأصمعي - إذا نزل ضيفًا على قوم فإنه إن رأى منهم بشاشة أقام عندهم، وإن لم ير تركهم، ولهذا قيل: إن الحديث من القرى.
في النهاية نقول: إن هذا المقال الذي توقفنا عنده يفتقد الصفة العلمية، بما طغى عليه من مبالغة، وتناقض، واضطراب. وبقي على الباحثين تحديد الأسباب التي كانت وراء ظهوره على هذه الشاكلة، أهي التكنولوجيا الرقمية، أم الاستهانة بعقلية المتلقي، أم عدم المراجعة، أم التخلي عن القلق العلمي الذي يحرس النوعية؟؟