والسؤال الذي نهض أثناء انتهائي من قراءة الرواية هو: هل يمكن ان يحضر الكاتب في نصه؟ هل تحضر انشغالاته فيه؟ أن تأتي من الخراج بدل أن تاتي من الداخل؟ أستحضر حوارا له يسير في هذا الاتجاه، يخبر أن رواياته هي بيان احتجاج على الرداءة في كل شيء. وفي العمل نجده ينتقد التفاهة في الكتابة بالأخص، كما يوجهها للمجتمع وما يعرفه من انحطاط الأمر الذي يؤدي إلى الرفع من منسوب غضب السارد لدرجة جعلته يفكر في التهام نفسه. وقد اتخذ جمع القصاصات حيلة لبناء نصه الروائي. وقد لعبت هذه القصاصات دورا مهما في تكسير بنية السرد بإيرادها مجموعة من التعاريف المعجمية او الشخصية بشكل مقصود لجعل القارئ يقف على المواضيع الحارقة التي تبناها كالانقراض المحتمل للإنسان وهو يتآكل من داخله بفعل ضغوطات الواقع (ص8) والارهاب كآفة ضاربة في عمق الواقع (ص20) ….ولعل تعريف الكاتب ل (دراكولا) و(البرت فيش) يحمل أكثر من دلالة وعلى رأسها أن العنف صار محرك هذا العالم وهو ما عبرت عنه أغلب القصاصات.
هذا الأمر هو ما جعل معجم الالتهام يطغى على الرواية حتى إنه يكاد يحضر في كل صفحة من صفحاها بل إنها تنتهي به: برزت لي أنياب، انقضضت عليه{يقصد صديقه مراد} وغرزتها في عنقه... ص 99، فما السبب؟
ينبغي أن نستحضر في مجال الالتهام حدثين، الأول واقعي، والثاني خيالي، يرتبط الأول بما عاشه فعليا صاحب "كليلة ودمنة" ابن المقفع الذي فرض عليه أكل قطع من لحمه بشكل بشع. والثاني ما عاشته شخصية رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم.
حين خافت زوجة السارد على حياته بعد أن عاش وعكة صحية حذرته من المضي في طريق الانتحار المتجلية في تحمله ما لا طاقة له به، قائلة في ص 54:
أنت تحطم ذاتك.. أنت تأكلها.. من أنت كي تحمل على كتفك أوزار هذا العالم !!؟
كما أن صديقه يحمل الهم نفسه، والرغبة ذاتها حيث أخبره: " لست وحدك، عزيزي، تشعر بالرغبة في افتراس ذاتك، أشعر أني أنا أيضا في الطريق لألتحق بك، ولعل الكثيرين قد يلتحقون بنا، فقط هي مسألة وقت مرتبطة بسرعة الاستجابة ودرجة التفاعل مع هذه الرغبة اللعينة.. " ص 55.
وليس غريبا أن يحضر كلام الصديق في فصل لا يحمل رقما كما بقية أغلبية فصول الرواية، بل يحمل عنوانا من كلمة واحدة وهي افتراس".
إن فعل أكل النفس مرتبط بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية التي تمر بها بلداننا العربية جميعها؛ أوضاع أقل ما يقال عنها إنها معتلة. وليس هذا هو العنصر الوحيد الذي يقود باتجاه تحقيق تلك الرغبة بل ما حفلت به القصاصات التي كان يجمعها والباعثة على التقزز جراء ما تحمله من عنف وما تجري بسببه من دماء. والأكثر من ذلك أن مشاهد القتل. فكل قصاصة هي بمثابة وثيقة تنز دما وتفوح منها رائحة دم مقززة. وتشبه بيتا مسكونا بأشباح شريرة، تتلذذ بأكل اللحم البشري وتنتشي بشرب دمه...
وهي أيضا نتيجة حتمية لما نسمعه أو نقرأه من أخبار ونشاهده من مشاهد مؤلمة، مرة..
وإذا كانت الرواية تتحدث عن مشاهد مقززة في سنة 2016، فإنها زادت عنفا ومرارة بعد ذلك، وتكفي الإشارة إلى ما يعيشه أهل غزة من قتل ممنهج، وتجويع مقصود وتلويث مرسومة غاياته، وإبادة جماعية مستمرة.
اعتماد الكوابيس لقراءة الأوضاع النفسية والاجتماعية المؤدية إلى فكرة الافتراس.
الاسترجاع من التقنيات الأخرى الموظفة في العمل.
كسر التسلسل بحواجز القصاصات التي يستحضرها المبدع كلما دعت الضرورة.
اعتماد شكل الكتابة الشعرية في أكثر من موضع، حيث تأتي الجمل قصيرة على شكل أسطر متتابعة.
توظيف المقالة الصحفية بلغتها التقريرية الفاضحة للأشخاص المشبوهين.
استدعاء رواية "العمى" والقيام بتلخيصها مع الإشارة على مغزاها، ولم يكن هذا الاستدعاء مجانبا لسير الرواية بل كان معضدا لها، جاء لتقوية أبعادها الدلالية.
استحضار دور القصاصات في عالم الطفولة وبخاصة تلك المرتبطة بالممثلات. وكانت حيلة لعرض أوضاع الشرق الأوروبي وبخاصة رومانيا في عده الحاكم المستبد "تشاوسيسكو".
جاءت فصول الرواية قصيرة وكانها قصص قصيرة مترابطة في ما بينها، تتخللها مقاطع توضيحية وضرورية وتشكل جزءا من البناء الروائي. ونعثر بداخل المتن الروائي قصصا قصيرة جدا، مما يفيد أن المبدع يكتب بأبعاد ثلاثية، وهي القصة القصيرة والقصيرة جدا والرواية، فضلا عن الشعر والمقالة الصحافية.. مما يمنح النص ثراء، كل ذلك بلغة عربية متينة تنساب بسهولة وهي تعبر عن الشخصيات ومواقفها وعن الأمكنة وما يتخللها من أحداث. وتجدر الإشارة إلى سرعة الأحداث حين ننتقل من فصل إلى آخر، هذه الفصول التي اعتمدت الترقيم الذي بلغ 25 فصلا والمتخللة من مقاطع تحمل عناوين متنوعة.
يرسم السارد وهو عائد إلى منزله وقد دخل المنطقة الشعبية مشاهد تدعو للنفور والغضب؛ مشاهد مقززة ترتبط بالفوضى في الذوق والبيع والشراء وفي البناء والمعاملات.. كلها مشاهد قبيحة تبعث على الغثيان وبخاصة البصاق. مشاهد متكررة تعرفها أماكن مختلفة، كثرة تكررها جعلها تصير عادية، لا يعيرها المارة أدنى اهتمام. ص 59.
وفي الصفحة 61 ينقل إلينا معجم السباب والشتائم المتداول في مثل هذه الأوساط، منه ما هو خاص بالذكور ومنه ما هو خاص بالإناث، ومنه ما هو مرتب بالسلوكيات والمعاملات والأفعال.
وإذ تخلت الصحف الرسمية عن هذه المناطق فقد تولت المواقع الاجتماعية دورها بنقل ما تعيشه من أحدث. لكن ينبغي الا تحجب عنا تلك المشاهد الوجه المضيء لها، كما في مشهد حمل الصديق إلى المستعجلات نتيجة طعنة خاطئة.
إنه عالم غريب بل مجنون، يمتزج فيه الهزلي بالمحزن. يشبه الحياة، فمرة تكون هزلية ومرة تكون مأساوية.
وسط هذا العالم المتناقض يعيش السارد حاملا معه تناقضات المكان.
وحكاية عماد لها أشباه ونظائر يبرع الحكاؤون في نسجها بالتعديل والحذف والزيادة تصل حد المبالغة التي ترفعها إلى مقام الخرافة، وما ذلك إلا بغية إضفاء مزيد من التشويق والإثارة على الحكاية الأصل. ولهذا يحظى الحاكون بمنزلة رفيعة في الأوساط الشعبية.
بعض من أنشطة السارد يخبرنا بها حين عاد إلى منزله، وهي الاهتمام بغرس النباتات والاعتناء بها وبخاصة نبتة المريمية ذات الفضل في درء الأمراض المختلفة. إنها هواية جديدة تعبر عن انفتاح السارد على الحياة، مثلها في تعبيرها مثل مشهد العشيقين خلف سياج الحديقة حيث يطغى هدوء وجمال ساحر. ص 57. والملاحظ أن السارد يجمع بين العنف الطاغي ومشاهد جمال تتخلله، مما يفيد مسعى حب الحياة والدعوة إلى الفرح، هذا الفرح الذي صار عزيزا بل صعبا:
فطغيان العنف في الواقع كما أوردته القصاصات هو ما سوّغ انحسار دائرة الفرح وطغيان الحزن ، كما يبدو في قصة المدرس حيث ” نجح التلاميذ في تمرين البكاء فيما فشلوا في تمرين الضحك…” (ص39) ، وهاته القصة كانت هي مسوغ السوال التالي : ” أرايت أخي عماد كم بات الضحك صعبا حتى وإن كان تمثيلا او تعبيرا عن هم ؟ (ص40)
في المقهى يلتقي بصديقه عماد الذي يمده بمقالة له منشورة في الجريدة التي يشتغل فيها وتحمل عنوان "زمن الأقنعة"؛ أي زمن الزيف والخداع سواء أ ارتب بالأصدقاء أم بالشخصيات العامة أم بالدول، وحين تسقط أقنعهم لا يخجلون بل يعوضونها بأقنعة جديدة ليظل مسلسل الزيف والخداع مستمرا.
يعود السارد في الفصل 15 إلى بسط الأسباب التي تحمل الإنسان على الرغبة الكلبية في افتراس ذاته، ومنها: الحروب، والإبادة، والإرهاب، والمجاعة المفتعلة من لذن مؤسسات وشركات عالمية التي تعمد إلى تسميم المياه، وتلويث البحار، وتقوم بالتجارب النووية، مع نشر الأوبئة، فضلا عن الاحتقار والاضطهاد والوشاية وقمع الحريات.
كلها مؤثرات تقف وراء لا الرغبة في افتراس الذات بل الانتحار للخلاص من جحيم داخلي.
وقضية الانتحار ستقود إلى الحديث عنه في الفصل الذي يحمل عنوان "حكاية" مما يؤكد مسألة التداعي. وهذا الفصل حمل لنا تلاث حكايات، واحدة عن رجل باءت محاولات انتحاره بفعل تدخل أسرته إلى أن اهتدى إلى حيلة مكنته من تحقيق رغبته وإشباعها. والثانية عن مدرس للغة العربية أما الثالثة فرويها مارن باج عن إحدى شخصياته التي فشلت مرات عدة في محاولاتها مما تسبب لها في مرض اليأس الناجم عن الفشل في الانتحار.
ليواصل في الفصل 16 سرد الأحداث التي عاشها وهذه المرة عن الهواجس التي انتابته جراء غياب صديقه عماد وخاصة أنه أخفى يده اليسرى بقفاز. هل بدأ مراد مشروع الافتراس؟ وفي نهاية الرواية يضعنا السارد أمام احتمالية تحقق كابوسه الأخير والمتمثل في تحول مراد ضحية صديقه بدل أن يكون ضحية نفسه.
أما الفصل 17 فيعيدنا إلى الحديث الذي دار بين نيرون واحد أفراد حاشيته لكن هذه المرة بين الملك وغويا حيث جبن الرسام عن قول الحقيقة الواضحة أمامه بخلاف صديق نيرون الصريح.
ومرة أخرى يأتي الحديث عن التفاهة وضرب الفن بكل جبروت.
ويتابع السارد حديثه هذه المرة عن زيارته للطبيب النفسي الذي ينصحه برؤية النصف الثاني من الكأس بدل رؤية نصفه المظلم.
التكرار. جرت العادة اننا نترك المقهى معا ونفترق بعد مسافة من المشي...
خرق التكرار او العادة. رغبة عماد في مواصلة الجلوس مما اثار استغراب السارد فضلا عن القفاز الذي يستر يده اليسرى ومقالته عن الاقنعة.
التداعي والمقصود أن حدثا يستدعي حدثا مرتبطا به، من مثل تكذيب الظلاميين لنزول الإنسان على سطح القمر الأمر الذي قاد إلى الحديث عن خيبة الشعراء ومن بعدهم الهنود الحمر المضيعين لأرضهم وهو ما سيرد في الفصل الذي يحمل عنوان "ضياع أرض" ص 73.
يسرد علينا السارد قصة تصديق السكان الأصليين لدعوى سرقة القمر منهم، ورجوه أن يعيده إليهم مقابل التنازل عن الأرض، فكانوا ضحية تفكيرهم اللاعلمي مثلهم في ذلك مثل بعض مشايخ العقيدة الذين كذبوا نزول الإنسان رغم أن العقيدة الحقة لا تضاد العلم.
وتسير أحداث الرواية بخطى ثابتة حتى النهاية خالقة جوا من الراحة النفسية للقارئ إلى أن تفاجئه بضربة سردية مراوغة تخيب توقعاته، وتسمح له بإعادة بناء تصوراته، فاتحة باب التأويل على مصراعيه لا سيما أن الختمة المراوغة انبنت على احتمال مزدوج؛ احتمال تحقق الفعل، واحتمال بقائه حبيس الكوابيس التي ظلت تسكنه مذ وعى قبح العالم وما يشهده من عنف متعدد الأشكال والألوان. والأقوى في هذا أنه يوجه خطابه لقارئه حين يقول له: أبوح بسر لكم... ص 99.
لعل السارد ومن ورائه الكاتب يسعى إلى أن يتخلص من كوابيسه ليرتاح بنقلها إلى القارئ ليعيشها مثله أو أكثر ويبحث لنفسه عن خلاصه/راحته
فطوال العمل وهذا السارد يحكي لنا سوداويته وغضبه من واقعه المتردي والمتسم بالعنف وتحطيم كرامة الإنسان؛ واقعه المحلي والإقليمي والعالمي. وكأنه مستلق فوق سرير البوح يتطهر ببوحه فتنتقل العدوى منه إلى القارئ ليفهم أسباب علله ويعرف طريق الشفاء؛ ولن يكون هذا الشفاء فرديا، إذ لو كان كذلك لما تمت كتابة العمل، ولكان كل واحد يقلب أرضه ليخلصها من جراثيم القلق. لكن الخلاص ليكون فعليا لابد أن يكون جماعيا.
ولعل قمة قلق الكاتب هو ما اورده على لسان صديقه الاردني رائد ابوزهرة في رسالة سماها “هز النحاس ” تضمنت اسئلة حارقة يمكن تلخيصا في السؤال الاخير ” وما الفرق بين شيء وشيء ، طالما لايزال فضاء الكون معلقا، وما من ريح تهز نحاسه ” (ص34)
ان الكاتب وفي خضم تفاعله الايجابي مع الواقع ، عبّر عن قلقه المضاعف وهو يقول : “انا ايضا مختنق بألف سؤال وسؤال ، وتساؤلاتي لا نهاية لها ، ولا مجيب عنها…”… ” قد يجيب عنها الآتي المجهول ” ، هذا المجهول الذي قد يكون ” نبيا ” أو “عائدا من عمق التاريخ القديم ” أو” رسولا يحمل رسالة من كوكب آخر تعيش فيه كائنات في سلام..” (ص35).
إن ابداعية الرواية ،في نظري ، تتجلى في قدرة الكاتب عبد الحميد الغرباوي على التحكم المثالي في دلالة عنف الواقع انطلاقا من تقنية توظيف ” القصاصات التي لا مكان فيها للجمال ” (ص22) ، من هنا كان مصيرها الاعدام بالنار…
،يلخص مرمى الكاتب .إنّ حكاية الأسد سلطان ” النادم على فعلته وهو يفترس ذراع مروّضه ، كانت تذكيرا حاضرا بقوة في الرواية ..اذ وظفها الكاتب بإبداعية كبيرة وهو ينقلها الى ذاته والى صديقه. *
**
جامع القصاصات لعبد الحميد الغرباوي:
قراءة نقدية في رواية “جامع القصاصات ” للكاتب عبد الحميد الغرباوي من القصاصة الى الرواية…ذ. مصطفى امزارى.
وردت بعض الهنات؛ وهي ثلاث:
غيظ، وردت في الرواية غيض.
مصادفة وردت فيها صدفة.
مقاه وردت فيها مقاهي.
هذا الأمر هو ما جعل معجم الالتهام يطغى على الرواية حتى إنه يكاد يحضر في كل صفحة من صفحاها بل إنها تنتهي به: برزت لي أنياب، انقضضت عليه{يقصد صديقه مراد} وغرزتها في عنقه... ص 99، فما السبب؟
ينبغي أن نستحضر في مجال الالتهام حدثين، الأول واقعي، والثاني خيالي، يرتبط الأول بما عاشه فعليا صاحب "كليلة ودمنة" ابن المقفع الذي فرض عليه أكل قطع من لحمه بشكل بشع. والثاني ما عاشته شخصية رواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم.
حين خافت زوجة السارد على حياته بعد أن عاش وعكة صحية حذرته من المضي في طريق الانتحار المتجلية في تحمله ما لا طاقة له به، قائلة في ص 54:
أنت تحطم ذاتك.. أنت تأكلها.. من أنت كي تحمل على كتفك أوزار هذا العالم !!؟
كما أن صديقه يحمل الهم نفسه، والرغبة ذاتها حيث أخبره: " لست وحدك، عزيزي، تشعر بالرغبة في افتراس ذاتك، أشعر أني أنا أيضا في الطريق لألتحق بك، ولعل الكثيرين قد يلتحقون بنا، فقط هي مسألة وقت مرتبطة بسرعة الاستجابة ودرجة التفاعل مع هذه الرغبة اللعينة.. " ص 55.
وليس غريبا أن يحضر كلام الصديق في فصل لا يحمل رقما كما بقية أغلبية فصول الرواية، بل يحمل عنوانا من كلمة واحدة وهي افتراس".
إن فعل أكل النفس مرتبط بالأوضاع الاجتماعية والسياسية والفكرية والثقافية التي تمر بها بلداننا العربية جميعها؛ أوضاع أقل ما يقال عنها إنها معتلة. وليس هذا هو العنصر الوحيد الذي يقود باتجاه تحقيق تلك الرغبة بل ما حفلت به القصاصات التي كان يجمعها والباعثة على التقزز جراء ما تحمله من عنف وما تجري بسببه من دماء. والأكثر من ذلك أن مشاهد القتل. فكل قصاصة هي بمثابة وثيقة تنز دما وتفوح منها رائحة دم مقززة. وتشبه بيتا مسكونا بأشباح شريرة، تتلذذ بأكل اللحم البشري وتنتشي بشرب دمه...
وهي أيضا نتيجة حتمية لما نسمعه أو نقرأه من أخبار ونشاهده من مشاهد مؤلمة، مرة..
وإذا كانت الرواية تتحدث عن مشاهد مقززة في سنة 2016، فإنها زادت عنفا ومرارة بعد ذلك، وتكفي الإشارة إلى ما يعيشه أهل غزة من قتل ممنهج، وتجويع مقصود وتلويث مرسومة غاياته، وإبادة جماعية مستمرة.
اعتماد الكوابيس لقراءة الأوضاع النفسية والاجتماعية المؤدية إلى فكرة الافتراس.
الاسترجاع من التقنيات الأخرى الموظفة في العمل.
كسر التسلسل بحواجز القصاصات التي يستحضرها المبدع كلما دعت الضرورة.
اعتماد شكل الكتابة الشعرية في أكثر من موضع، حيث تأتي الجمل قصيرة على شكل أسطر متتابعة.
توظيف المقالة الصحفية بلغتها التقريرية الفاضحة للأشخاص المشبوهين.
استدعاء رواية "العمى" والقيام بتلخيصها مع الإشارة على مغزاها، ولم يكن هذا الاستدعاء مجانبا لسير الرواية بل كان معضدا لها، جاء لتقوية أبعادها الدلالية.
استحضار دور القصاصات في عالم الطفولة وبخاصة تلك المرتبطة بالممثلات. وكانت حيلة لعرض أوضاع الشرق الأوروبي وبخاصة رومانيا في عده الحاكم المستبد "تشاوسيسكو".
جاءت فصول الرواية قصيرة وكانها قصص قصيرة مترابطة في ما بينها، تتخللها مقاطع توضيحية وضرورية وتشكل جزءا من البناء الروائي. ونعثر بداخل المتن الروائي قصصا قصيرة جدا، مما يفيد أن المبدع يكتب بأبعاد ثلاثية، وهي القصة القصيرة والقصيرة جدا والرواية، فضلا عن الشعر والمقالة الصحافية.. مما يمنح النص ثراء، كل ذلك بلغة عربية متينة تنساب بسهولة وهي تعبر عن الشخصيات ومواقفها وعن الأمكنة وما يتخللها من أحداث. وتجدر الإشارة إلى سرعة الأحداث حين ننتقل من فصل إلى آخر، هذه الفصول التي اعتمدت الترقيم الذي بلغ 25 فصلا والمتخللة من مقاطع تحمل عناوين متنوعة.
يرسم السارد وهو عائد إلى منزله وقد دخل المنطقة الشعبية مشاهد تدعو للنفور والغضب؛ مشاهد مقززة ترتبط بالفوضى في الذوق والبيع والشراء وفي البناء والمعاملات.. كلها مشاهد قبيحة تبعث على الغثيان وبخاصة البصاق. مشاهد متكررة تعرفها أماكن مختلفة، كثرة تكررها جعلها تصير عادية، لا يعيرها المارة أدنى اهتمام. ص 59.
وفي الصفحة 61 ينقل إلينا معجم السباب والشتائم المتداول في مثل هذه الأوساط، منه ما هو خاص بالذكور ومنه ما هو خاص بالإناث، ومنه ما هو مرتب بالسلوكيات والمعاملات والأفعال.
وإذ تخلت الصحف الرسمية عن هذه المناطق فقد تولت المواقع الاجتماعية دورها بنقل ما تعيشه من أحدث. لكن ينبغي الا تحجب عنا تلك المشاهد الوجه المضيء لها، كما في مشهد حمل الصديق إلى المستعجلات نتيجة طعنة خاطئة.
إنه عالم غريب بل مجنون، يمتزج فيه الهزلي بالمحزن. يشبه الحياة، فمرة تكون هزلية ومرة تكون مأساوية.
وسط هذا العالم المتناقض يعيش السارد حاملا معه تناقضات المكان.
وحكاية عماد لها أشباه ونظائر يبرع الحكاؤون في نسجها بالتعديل والحذف والزيادة تصل حد المبالغة التي ترفعها إلى مقام الخرافة، وما ذلك إلا بغية إضفاء مزيد من التشويق والإثارة على الحكاية الأصل. ولهذا يحظى الحاكون بمنزلة رفيعة في الأوساط الشعبية.
بعض من أنشطة السارد يخبرنا بها حين عاد إلى منزله، وهي الاهتمام بغرس النباتات والاعتناء بها وبخاصة نبتة المريمية ذات الفضل في درء الأمراض المختلفة. إنها هواية جديدة تعبر عن انفتاح السارد على الحياة، مثلها في تعبيرها مثل مشهد العشيقين خلف سياج الحديقة حيث يطغى هدوء وجمال ساحر. ص 57. والملاحظ أن السارد يجمع بين العنف الطاغي ومشاهد جمال تتخلله، مما يفيد مسعى حب الحياة والدعوة إلى الفرح، هذا الفرح الذي صار عزيزا بل صعبا:
فطغيان العنف في الواقع كما أوردته القصاصات هو ما سوّغ انحسار دائرة الفرح وطغيان الحزن ، كما يبدو في قصة المدرس حيث ” نجح التلاميذ في تمرين البكاء فيما فشلوا في تمرين الضحك…” (ص39) ، وهاته القصة كانت هي مسوغ السوال التالي : ” أرايت أخي عماد كم بات الضحك صعبا حتى وإن كان تمثيلا او تعبيرا عن هم ؟ (ص40)
في المقهى يلتقي بصديقه عماد الذي يمده بمقالة له منشورة في الجريدة التي يشتغل فيها وتحمل عنوان "زمن الأقنعة"؛ أي زمن الزيف والخداع سواء أ ارتب بالأصدقاء أم بالشخصيات العامة أم بالدول، وحين تسقط أقنعهم لا يخجلون بل يعوضونها بأقنعة جديدة ليظل مسلسل الزيف والخداع مستمرا.
يعود السارد في الفصل 15 إلى بسط الأسباب التي تحمل الإنسان على الرغبة الكلبية في افتراس ذاته، ومنها: الحروب، والإبادة، والإرهاب، والمجاعة المفتعلة من لذن مؤسسات وشركات عالمية التي تعمد إلى تسميم المياه، وتلويث البحار، وتقوم بالتجارب النووية، مع نشر الأوبئة، فضلا عن الاحتقار والاضطهاد والوشاية وقمع الحريات.
كلها مؤثرات تقف وراء لا الرغبة في افتراس الذات بل الانتحار للخلاص من جحيم داخلي.
وقضية الانتحار ستقود إلى الحديث عنه في الفصل الذي يحمل عنوان "حكاية" مما يؤكد مسألة التداعي. وهذا الفصل حمل لنا تلاث حكايات، واحدة عن رجل باءت محاولات انتحاره بفعل تدخل أسرته إلى أن اهتدى إلى حيلة مكنته من تحقيق رغبته وإشباعها. والثانية عن مدرس للغة العربية أما الثالثة فرويها مارن باج عن إحدى شخصياته التي فشلت مرات عدة في محاولاتها مما تسبب لها في مرض اليأس الناجم عن الفشل في الانتحار.
ليواصل في الفصل 16 سرد الأحداث التي عاشها وهذه المرة عن الهواجس التي انتابته جراء غياب صديقه عماد وخاصة أنه أخفى يده اليسرى بقفاز. هل بدأ مراد مشروع الافتراس؟ وفي نهاية الرواية يضعنا السارد أمام احتمالية تحقق كابوسه الأخير والمتمثل في تحول مراد ضحية صديقه بدل أن يكون ضحية نفسه.
أما الفصل 17 فيعيدنا إلى الحديث الذي دار بين نيرون واحد أفراد حاشيته لكن هذه المرة بين الملك وغويا حيث جبن الرسام عن قول الحقيقة الواضحة أمامه بخلاف صديق نيرون الصريح.
ومرة أخرى يأتي الحديث عن التفاهة وضرب الفن بكل جبروت.
ويتابع السارد حديثه هذه المرة عن زيارته للطبيب النفسي الذي ينصحه برؤية النصف الثاني من الكأس بدل رؤية نصفه المظلم.
التكرار. جرت العادة اننا نترك المقهى معا ونفترق بعد مسافة من المشي...
خرق التكرار او العادة. رغبة عماد في مواصلة الجلوس مما اثار استغراب السارد فضلا عن القفاز الذي يستر يده اليسرى ومقالته عن الاقنعة.
التداعي والمقصود أن حدثا يستدعي حدثا مرتبطا به، من مثل تكذيب الظلاميين لنزول الإنسان على سطح القمر الأمر الذي قاد إلى الحديث عن خيبة الشعراء ومن بعدهم الهنود الحمر المضيعين لأرضهم وهو ما سيرد في الفصل الذي يحمل عنوان "ضياع أرض" ص 73.
يسرد علينا السارد قصة تصديق السكان الأصليين لدعوى سرقة القمر منهم، ورجوه أن يعيده إليهم مقابل التنازل عن الأرض، فكانوا ضحية تفكيرهم اللاعلمي مثلهم في ذلك مثل بعض مشايخ العقيدة الذين كذبوا نزول الإنسان رغم أن العقيدة الحقة لا تضاد العلم.
وتسير أحداث الرواية بخطى ثابتة حتى النهاية خالقة جوا من الراحة النفسية للقارئ إلى أن تفاجئه بضربة سردية مراوغة تخيب توقعاته، وتسمح له بإعادة بناء تصوراته، فاتحة باب التأويل على مصراعيه لا سيما أن الختمة المراوغة انبنت على احتمال مزدوج؛ احتمال تحقق الفعل، واحتمال بقائه حبيس الكوابيس التي ظلت تسكنه مذ وعى قبح العالم وما يشهده من عنف متعدد الأشكال والألوان. والأقوى في هذا أنه يوجه خطابه لقارئه حين يقول له: أبوح بسر لكم... ص 99.
لعل السارد ومن ورائه الكاتب يسعى إلى أن يتخلص من كوابيسه ليرتاح بنقلها إلى القارئ ليعيشها مثله أو أكثر ويبحث لنفسه عن خلاصه/راحته
فطوال العمل وهذا السارد يحكي لنا سوداويته وغضبه من واقعه المتردي والمتسم بالعنف وتحطيم كرامة الإنسان؛ واقعه المحلي والإقليمي والعالمي. وكأنه مستلق فوق سرير البوح يتطهر ببوحه فتنتقل العدوى منه إلى القارئ ليفهم أسباب علله ويعرف طريق الشفاء؛ ولن يكون هذا الشفاء فرديا، إذ لو كان كذلك لما تمت كتابة العمل، ولكان كل واحد يقلب أرضه ليخلصها من جراثيم القلق. لكن الخلاص ليكون فعليا لابد أن يكون جماعيا.
ولعل قمة قلق الكاتب هو ما اورده على لسان صديقه الاردني رائد ابوزهرة في رسالة سماها “هز النحاس ” تضمنت اسئلة حارقة يمكن تلخيصا في السؤال الاخير ” وما الفرق بين شيء وشيء ، طالما لايزال فضاء الكون معلقا، وما من ريح تهز نحاسه ” (ص34)
ان الكاتب وفي خضم تفاعله الايجابي مع الواقع ، عبّر عن قلقه المضاعف وهو يقول : “انا ايضا مختنق بألف سؤال وسؤال ، وتساؤلاتي لا نهاية لها ، ولا مجيب عنها…”… ” قد يجيب عنها الآتي المجهول ” ، هذا المجهول الذي قد يكون ” نبيا ” أو “عائدا من عمق التاريخ القديم ” أو” رسولا يحمل رسالة من كوكب آخر تعيش فيه كائنات في سلام..” (ص35).
إن ابداعية الرواية ،في نظري ، تتجلى في قدرة الكاتب عبد الحميد الغرباوي على التحكم المثالي في دلالة عنف الواقع انطلاقا من تقنية توظيف ” القصاصات التي لا مكان فيها للجمال ” (ص22) ، من هنا كان مصيرها الاعدام بالنار…
،يلخص مرمى الكاتب .إنّ حكاية الأسد سلطان ” النادم على فعلته وهو يفترس ذراع مروّضه ، كانت تذكيرا حاضرا بقوة في الرواية ..اذ وظفها الكاتب بإبداعية كبيرة وهو ينقلها الى ذاته والى صديقه. *
**
جامع القصاصات لعبد الحميد الغرباوي:
قراءة نقدية في رواية “جامع القصاصات ” للكاتب عبد الحميد الغرباوي من القصاصة الى الرواية…ذ. مصطفى امزارى.
وردت بعض الهنات؛ وهي ثلاث:
غيظ، وردت في الرواية غيض.
مصادفة وردت فيها صدفة.
مقاه وردت فيها مقاهي.