إبراهيم محمود - "الإقامة في الشّعر"... قراءة في (الأعمال الشعرية الكاملة) للشاعر سعيد تحسين بك






تأكيد تاريخي

يبدو لي أن أفلاطون، وليس سواه، أصدر نفيرَه الشهير بطرد الشعراء من جمهوريته" كتابه الاشهر" خارجاً، ليس لأن " الغاوون يتبعهم" كما يتردد، إنما لأنهم أكبر من جمهوريته التي دُشّنت بمعايير هندسية فلسفية الطابع، ولولا هذا الحضور الطاغي" الغواية المستحقة للشعر نفسه " والتي تجد لها لها صدى نفسياً في الجهات الأربع، لما تسجلتْ علامة الشعر الفارقة في الحياة: الشعر باعتباره كائن البرّية الذي لا يجارى إجمالاً.

أفلاطون كان في قرارة نفسه شاعراً، وإن أظهر معارضته للشعر أو تكتم عليه، وما يوتوبياه إلا حصيلة هذا المخاض الروحي الذي- ربما- يصعب، إن لم يكن مستحيلاً الأخذ به إبداعياً دون الإقرار بمأثرته.



نعم، يقول الشاعر ما يريد التعبير عن عالم ٍ داخلي يحمله معه، ويقيم فيه بالمقابل. إنها الإقامة في الشعر، والبقاء فيه تمثيلاً لرؤيا عالم ينشده لنفسه، ليتاح له دوام التفاعل معه، والامتداد إلى الآتي، كم لو أنه يريد طي أمسه ويومه جانباً كلياً.

هنا ما على قارئه إلا أن يحاول سبر ما يقوله، وعلى طريقته، وبأسلوبه، دون تأكيد قيمة ثابتة تلخص شخصية الشاعر بوصفها جلية بكاملها. فالشعر متعدد الآفاق.

ثمة ما يمكن قوله هنا وهو أن الكلام لا يتوقف عن طرح نفسه بأكثر من صيغة:

ما يفكر فيه الكاتب" الشاعر هنا " ويصوغ ما يعتمل داخله شعورياً، وما يتبقّى داخلاً يخص الشاعر، وهو مسعى قارئه لأن يقدّر نوعية العلاقة بين المتبقّي دون تسمية، والجاري تسطيره، وما يقوله القارىء الناقد من كلام يعنيه( كلام حول كلام) وفي الحالتين، لكل كلام ما يعنيه في حدود رؤياه وثقافته، أو طبيعة العلاقة بين الشاعر ومحيطه، بين قارئه: ناقده وشاعره.

ولعل الذي تضمنتَّه ( الأعمال الشعرية الكاملة )"1 " للشاعر الكردي الإيزيدي سعيد تحسين بك، من مجموعات شعرية" وهي خمس هنا" إلى جانب التقديم لها، ومن ثم جملة الإسهامات التي سعت إلى تنوير علاقة كتّابها بالشاعر، وكيفية تلقّي أثرها في نفوسهم، وفي تجربة حياتية ملموسة، يطرح تساؤلات مختلفة حول بنية هذه الأعمال في حمولتها " الشعرية " رغم وجود مسافة زمنية فاصلة بين صدور الكتاب ورحيل الشاعر( 1-3/ 1957، 11-12/ 2001)، أي قرابة ربع قرن، وفي زمانها، ومن خلال ما هو مقروء طي " الأعمال " هذه، وما إذا كان هناك أعمال أخرى" كتابات مختلفة، تخص تجربة الراحل في الكتابة..

وفي هذا المقال سأحاول قراءة هذه الأعمال المنشورة، ولو بإيجاز، وخاصية الشّعر فيها، عبر مفهوم " الإقامة ". المفهوم الذي يقرّ بمكانة جمالية، اعترافاً بحضور شعري لديه، وسعي إلى تحميله بصمته الذاتية، كما هو الممكن تلمسه لديه، وما في ذلك من ولادات حياتية لافتة.



تأكيد مشروع

هناك جهد جماعي وراء طباعة هذه الأعمال، بدءاً من عائلته، والذين وراء طباعتها مادياً، وودور معدّ الأعمال الشعرية والمقدم لها، الباحث" داود مراد ختاري " وهو ملحوظ هنا بالتأكيد، ومَن هم أصدقاء له من كتاب وأكاديميين، كما تعلِمنا بذلك مقالاتهم في مستهل الكتاب، ولزوجته الباحثة والمحامية " عالية بايزيد اسماعيل بك " حضور لافت عبر كلمتها ذات المنحى الوجداني والبحثي في آن.

لكل من هؤلاء ركيزة رؤية، ومعايشة تترجمها خاصية القول لديه، رغم وجود قاسم مشترك يصل ما بينهم جميعاً، جهة الاعتراف بمكانة الراحل وتقديرهم لصداقته، ووفائه للغة الشعر، وحبه لأهله، وانفتاحه على محيطه الاجتماعي.

أشير هنا إلى ما أفصحت عنه عالية في كشّاف أثرها البحثي عن شخصية الراحل، وعن قرب طبعاً وفاءً له. عن تأثره برموز أدبية عالمية، تضيء ذلك الإنسان الرحالة، المغترب الروحي، والقلق داخله:لوركا، إليوت، كافكا،بودلير، وإدغار آلان بو.. ومن شعراء العربية: أدونيس، الجواهري، السياب، محمود درويش.. وفي الشعر العربي القديم: عمر الخيام والمتنبي.."ص17"

وما عرِف به في الإقدامية( شاعر صريح جريء لا يخشى من التصريح بآرائه ومواقفه حتى السياسية منها..ص19).

وفي الإمكان،الإستئناس بقراءة ما كتبه الأستاذ الدكتور نجمان ياسين في ( شرفة للصداقة وأخرى للإبداع )، تعزيزاً لذلك التفاعل بين اليومي والحميم والعائد إلى الذات المبدعة حيث يكون ( الشعر المتمرد.ص22)، والدكتور هشام عبدالكريم في ( متوالية العشق والموت في شعر سعيد تحسين بك)،وكيف ارتسمت روح الشاعر ( بين العشق والموت.ص28)، والدكتور فيصل القصيري في ( سعيد تحسين تجربة شعرية ناضجة: قراءة في تجربته الشعرية/ الرؤى والعلامات ) وما في هذا العنوان من إبراز السيميائية في شعر الراحل، وما للشعر من دور في تجسيد معاناته جهة الشعر( بوصفه تعبيراً عن أزمة الذات.ص38)والاستاذ عبدالجبار الجبوري في ( الأمير سعيد تحسين شاعراً وإنساناً وصديقاً) حيث يمتزج الوجداني بالأدبي، وما في هذه التوأمة من مكاشفة لما هو روحي واجتماعي، حيث إنه ( رمز شعري إيزيدي..ص55)، وهكذا الحال في مقال الأستاذ بهجت درسون( ظاهرة التضاد في قصائد سعيد تحسين )، بناء على مقولة التضادية المحورية في الحياة، وهذه سمة من سمات القول الشعري لدى الشاعر، ومن خلال أمثلة متنوعة ( صص59-63)...

تلك إشارات أردت بها تعزيز جانب الصداقة وروح الضيافة لدى من كتبوا عنه، وحاولوا إضاءة جوانب مختلفة من شعره، ولو بإيجاز شديد، وما في هذه الكتابات من إشعار لافت بحق الصداقة : صداقة الشاعر، وصداقة الكتابة نفسها، والذي يتوقف عندها لا بد أن يعيش تجربة الحفاوة القائمة، وتلك العلاقات التي يشهد عليها زمانها ومكانها هنا وهناك.



كيف يمكن البحث عن الشاعر؟

أن يكون الشاعر سعيد تحسين بك شاعرالتمرد، ومن خلال قراءة مجموعاته الشعرية، قول جائزٌ التأكيد عليه. في مجموعاته الشعرية التي ضمّنت أعمالَه الشعرية، ما يستوقف القارىء إزاء هذه المعايشة لما هو حياتي، وما في الحياة من مأساة، وأكثر من ذلك ما يرتد بالناظر إلى العالم الداخلي المنقسم على نفسه، حيث إن الذي تسمّيه دون ما تعيشه في سخونته.

إن الانخراط في الحياة ومن خلال تجنيسها أنثوياً، ترجمة لتلك الروح التي تجد مؤاساة لها فيما يقبل عليه الشاعر، وما يسمّيه، كما لو أنه يرسم خريطة حياته التي تعنيه لمن يهمه أمره، وما فيها من إحداثيات، ويا لها من خريطة واسعة وعميقة!

المجموعات الشعرية وترتيبها:

كل ما فيك ينطق حباً ( 65-146 )

كل شيء سواك سراب ( 147-213 )

رقصة النجوم ( 215-326 )

العشق والنار ( 327-390)

موت جديد( 391-448)

تأتي مجموعة ( رقصة النجوم ) الأكبر حجماً، و( موت جديد ) الأقل حجماً، كما هو مذكور آنفاً جهة عدد الصفحات.

يشار هنا، وكما لاحظت في مقال عالية .. اختلافاً في الترتيب بالنسبة لتاريخ الظهور زمنياً:

الديوان الأخير هنا ( موت جديد)، صدر بدايةً( 1983)، وثم( كل شيء سواك سراب-1997)، فـ(الموت عشقاً-1998)، و( كل ما فيك ينطق حباً-1999)، وأخيراً( رقصة النجوم-2000)، " ص 18 "، أي قبل رحيله بسنة.

وهناك ما يلفت النظر في مقال الدكتور هشام عبدالكريم، جهة الترتيب:

موت جديد-العشق والنار- الموت عشقاً- رقصة النجوم- كل شيء سواك سراب- كل ما فيك ينطق حباً ..

هنا نجد أن لا حضور لديوان( الموت عشقاً )، رغم ذكره في مقال عالية..هل من التباس؟ والسؤال الأهم: لماذا لم ترد هذه المجموعات حسب ترتيب ظهورها، أي بدءاً من ( موت جديد ).. إن كان التذكير بالاسم صحيحاً زمنياً؟

ألم يكن هناك من تعاون بين المعنيين بالموضوع في هذا الشأن، وهو مهم طبعاً للقارىء، ومن حق الشاعر كذلك؟

قراءة الشاعر في سياقه الزماني تعزز صورته الفنية، وكيفية تلوينها بتلك العلامات الفارقة زماناً ومكاناً.

لا يعود الزمان ولا المكان هو نفسه، إن روعيَ تأثر الشاعر بتلك المستجدات، وتلقيها للمتغيرات من حوله. ودراسة قصائده " نصوصه الشعرية التي التي لم يؤرَّخ لأي منها، تفيد قارئه كثيراً، جهة بناء المفردة وموقعها في ذائقة الشاعر وجماليتها.

أما لحظة متابعة هذه المجموعات في عناوينها، وعناوين قصائده، فإن أهم سمة ملاحَظَة فيها هي وضوحها المباشر، وما يأتي إقراراً قطعياً بعلاقة قائمة، كما في ( كل ما فيك ينطق حباً ) و( كل شيء سواك سراب )،كما لو أن المجموعة الثانية جواب الأول، فما هو محكوم بالحب، يلغي خارجه، أي ما لا ينطق حباً، تتم تنحيته خارجاً " جانباً ". سوى أن ( رقصة النجوم ) تخرج عن نطاق التسمية المباشرة ، بطابعها المجازي، حيث تتم أنسنة النجوم بجلاء.

العنوان شاهد على معايشة واقع، على إشهار حالة نفسية لا تهدأ، حالة تستغرق وجوداً كاملاً، كما يبدو. وعناوين الشاعر تتراح في أغلبها بين الاكتفاء بمفردة واحدة أو اثنتين، والمزاوجة بين الجملة الاسمية والفعلية بالمقابل، توقاً إلى التغيير دلالياً.

يعيش الشاعر عالمه وفق تجربة تشير إليه، وهو في وضعية امتثال الخيال لرغبة الانطفاء في الوجود، والخوف من الموت، وهي خاصية تضاد بين الإقبال على الشيء قبل فوات الأوان، والتنبيه إليه قبل الوقوع في مصيدته" الموت ".

إنها شخصية نواسية، إن جاز التعبير، شخصية تبصر روحها في تفاعلها مع وجود مفتوح، وزمان معزز بذاكرة تخيلية.

ليس من مهبط أرضي مستقر يستقبل الشاعر، وإن وجِد فثمة مخاوف، لأن الأرض غير مستقرة بما فيها ومن فيها.

كما في آخر قصيدة في أعماله( أيها الحلم ):

أيها الحلم – إنك الحرية- لأن الأرض مغلولة- بقوانين العبودية...ص448 .

لا يخفي الشاعر خوفه من تقلبات الزمان، ورهانه على الزمان الذي يبقيه مأخوذاً بروحه النشطة، حيث المتعة دأبه، وبدءاً من القصيدة الأولى، هذه المرة في أعماله( لقاء):

وأخيراً التقينا- دون ميعاد- في المكان- الذي كنا فيه- قد التقينا –قبل عشرين عاماً..ص67 ..

الزمان له أبعاده الثلاثة لديه، شأنه في ذلك شأن كل مرصود بتقلباته، والمأهول بسرَيان فعله، حيث يقول في ( من يستطيع):

من يستطيع- أن يوقف – سير الزمن- من يستطيع – أن يمنع- تسلل الموت- إلى البدن..ص102..

هل يمكن القول هكذا دون إعاقة: هوذا الشاعر الكردي الإيزيدي الإنساني حتى أعالي الوجع الروحي، وهو يشد الزمن إلى ما يخشى التذكير به، ويذكره اضطراراً؟ الشاعر مسكون بالزمن الذي يغيّر فيه حتى يودي به في النهاية!

إنها روح الاغتراب بالمقابل، لأن لدينا مواجهة مفتوحةً مسماة بدقة بينه وبين الزمن المأخوذ بوطأته، ووراء هذا الاغتراب تكشف روح الشاعر الناطقة عن خلل وجودي. فهو في الوقت الذي يعرّي الزمن، يعرّي ضعفه ويشهره .

مزاوجة بين الإقبال على الحياة، والحذر من مقالبها ومكائدها، في قلق يفيض بأوجاعه.

يمكنني هنا أن أتوقف قليلاً، وأمارس كشفاً لخاصية هذا المغترب أو جوّاب الآفاق !

ثمة نسب إبداعي، فني وأدبي يسمّي الذين يعيشون هذه المزاوجة بين الشيء ونقيضه، وفي الوسط وجود متشظّ.

أستدعي تلك الإشارة إليه في مقال عالية، وتأثره برموز الاغتراب وتسكعهم، بأوسع معنى له: كافكا، إليوت، وبودلير..

ولا أوسع من مساحة الاغتراب وعمقه في ذات كاتب من هذا القبيل " 2 "

إن أهم من عبَّر عن هذه الحالة شعرياً كان بودلير ( 1821-1867)، إنه عمر زمني يذكّر بعمر شاعرنا هنا، وما بات يعرَف بالتسكع، أو " المتسكع flâneur " وهناك م يستخدم مفردة أخرى وهي " المتجول " أو حتى " البوهيمي ". إنه الشخص الذي لا تهدأ روحه داخله، ذلك الإنسان اليقظ من الداخل، ثمة فرط الحساسية التي تسمّيه في العمق.نقرأ عن ذلك حتى في " ويكيبيديا " بالفرنسية، ما يفصح عما تقدم:

(استخدم شارلبودلير كلمة المتسكع لوصف الفنان الذي تتسم روحه بالاستقلالية والعاطفة والنزاهة، "وهي روح لا يمكن للغة أن تحددها إلا بطريقة خرقاء". "بالنسبة للمتسكع المثالي، وللمراقب الشغوف، إنه لمن دواعي سروري البالغ أن يقيم في العدد، في التموج، في الحركة، في الهارب واللانهائي. أن تكون بعيدًا عن المنزل، ومع ذلك تشعر وكأنك في المنزل في كل مكان؛ انظر إلى العالم، وكن في مركز العالم، وابق مخفيًا عن العالم”. وتحت تأثير جورج سيمل، طور الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين (مترجم بودلير) هذه الفكرة، وبعده عمل العديد من المفكرين الآخرين أيضًا على مفهوم " المتسكع "، وربطه بالحداثة، والمدن الكبرى، والتخطيط الحضري والعالمية)، وما يأتي تعبيراً لافتاً بلسان بودلير، وكائنه الروحي المأخوذ باللاثبات:

(أيها المراقب، أو المتسكع، أو الفيلسوف، أطلق عليه ما تريد؛ لكن من المؤكد أنك ستقود، إلى وصف هذا الفنان، إلى إرضائه بلقب لن تتمكن من إطلاقه على رسام الأشياء الأبدية، أو على الأقل الأشياء الأكثر ديمومة، من الأشياء البطولية أو الدينية. أحيانا يكون شاعرا. وفي أغلب الأحيان يقترب من الروائي أو الأخلاقي؛ إنه رسام الظروف وكل ما يوحي به من الأبدية. لقد امتلك كل بلد، من أجل سعادته ومجده، بعضًا من هؤلاء البشر.)" 3 "

وجاء فالتر بنيامين( 1892-1940 ) ليتخذ من بودلير هذا النموذج الشعري الأمثل في التعبير عن عالم كامل، في مداه الاجتماعي، السياسي، والنفسي كذلك، كما لو أنه قرأ تاريخاً في شعر بودلير، وفي مجموعته الشعرية ذات الصيت( أزهار الشر )، فنقرأ جانباً مما يخص هذا المسار الشعري، بلسان أحد النقاد وهوزوي بالتوس، في مقاله" مؤامرة بودلير الشعرية عند بنيامين "

(عرف أن بودلير احتل مكانة راجحة في فكر فالتر بنيامين. كان الشاعر مرجعًا دائمًا له، وقد ترجم لوحاته الباريسية إلى الألمانية، وكانت أعماله بأكملها موضوع دراسة مستمرة ودقيقة.

أراد المفكر الألماني الكشف عن مؤامرة بودلير الشعرية، ذات الأهمية الكبيرة في نظره، أولاً وقبل كل شيء، ومن الواضح أنها فنية، ولكنها أيضًا سياسية واجتماعية وتاريخية وفلسفية. المؤامرة الشعرية لمؤلف أزهار الشرLes Fleurs du Mal، بحسب بنيامين، تهدف إلى ثورة حقيقية.)، ويكون في قصيدة بودلير " سأم باريس " النموذج الحي في تعزيز هذه العلامة الفنية. ما السأم؟

(السأم ليس سوى جوهر التجربة التاريخية. لا شيء يبدو أكثر ازدراءً من التلويح بفكرة التقدم ضد هذه التجربة. لا سيما أنه باعتباره تمثيلاً للاستمرارية، فإنه يتناقض بشكل أساسي مع الدافع التدميري لبودلير، الذي، على العكس من ذلك، مستوحى من رؤية ميكانيكية للزمن. في قبضة الطحال، لا يمكننا تعبئة أي شيء آخر غير الجديد، وتنفيذه هو المهمة الحقيقية للبطل الحديث. إن الأصالة الكبيرة في شعر بودلير هي أنه يدمج بشكل فعال مثال البطولة في الحياة الحديثة. قصائده مهمات منجزة، حتى إحباطه وتراخيه بطولية. ) "4 "

والملاحظ أن للمتسكع أو المتجول مقامه الاعتباري، بعائده الاجتماعي المؤثر، على مستوى المكاشفة العميقة لما وراء المرئي في عالمنا، حيث إنه يعيش زمنه المتخيل وأكثر، ويوسّع في معناه، ليلتقط تلك الإشارات التي تعرّي نقائص مجتمع كامل، كما يلاحظ أحد الباحثين في هذا الشأن وهو جيامباولونوفولاتيفي مقال معمق له وهو" المتسكع في الفضاء الحضري "، عندما يتحدث عن تعريف المفهوم، والشئون الحالية للمتسكع هذ:

(تم استخدام مفهوم المتسكع، الذي قنّنه ف بنيامين وعمله على "ممرات" باريس، منذ نهاية القرن التاسع عشر لتعيين الشعراء والمثقفين الذين لاحظوا سلوك الأفراد بشكل نقدي أثناء المشي. ولا يزال يحظى اليوم باهتمام كبير في العلوم الاجتماعية، ولكن أيضًا في الفلسفة والأدب والسينما، لأنه يشكل أداة متميزة لتحديد أنماط الحركة واستكشاف الأماكن من قبل الأفراد والعلاقات الناتجة عنها.

الحركة المرتبطة بالفرد الأسير للقيود الإقليمية والإيديولوجية والمهنية؛ والتمرد ضد الاستهلاك الشامل، وخاصة السياحة الجاهزة للاستهلاك؛ الرغبة في الاستمتاع بالحياة بوتيرة أبطأ؛ تطور الحساسية كشكل من أشكال المعرفة.

وعلى الرغم من أن فكرة المتسكع ترتبط في المقام الأول بحياة الشعراء والفنانين والمثقفين الذين يتجولون في المدينة بهدف تفسيرها، فإن التنزه كنشاط يذكرنا بعدد لا يحصى من الشخصيات التي تسكن الفضاء الحضري. على الرغم من بعض الاختلافات، فإن المتسكع قريب جدًا من المتأنق والسائح. في علاقته مع الجمهور، يهتم المتأنق بأن ينظر إليه أكثر من اهتمامه بالملاحظة.

إن المتسكع هو الذي يتحمل المهمة الشاقة المتمثلة في تجسيد هذه المشاعر شبه المفقودة من خلال فنه، وواجب الجمع بين الحركة والبطء في رفض التجانس والسيطرة الاجتماعية، باسم الحرية وعفوية العمل والاستمرار ( إعادة) دلالة الأماكن المحسوسة.

المتسكع ليس هو مؤلف المشهد فحسب، بل هو أيضًا الشخص الذي يمكنه توفير الإحداثيات اللازمة لإعداد المشهد نفسه. في الواقع، ليس لنشاط المتسكع وظيفة النمو الشخصي فحسب، بل هو أيضًا في خدمة المجتمع. أولاً، سيقدم عمله قيمة إعلامية وجمالية وأخلاقية بشكل غير مباشر، مرتبطة بشكل العمل نفسه ومحتوياته، والتي سيتمكن المجتمع من الاستفادة منها) " 5 "

ينفتح الشاعر على داخله، بمقدار ما ينفتح على خارجه. إنه ثنائي الجرح، إن جاز توصيف مكوّنه الروحي، ودون هذا التواصل والتفاعل، ربما استحال الربط بين عالميْه، والانتحار حباً بالحياة .

يحتاج هذا المتسكع دائماً إلى من لا يكتفي بمشاركته جرحه النفسي، أو وجعه، إنما التوحد معه، وللعلاقة مع المرأة أكثر من مديونية معنى على صعيد الامتلاء بما هو حياتي والتبصر بالحياة.

ربما من هذا المنظور نستطيع تبيّن ثنائية المشهد في ( لنحاول ):

تعالي لنحاول- معاً- اكتشاف مجاهيل- الحياة من جديد- لنبحث في خلاياها- عن معنى نسغ جديد- لنروي عطش نفوسنا..ص106

لا تعود هذه الأنثى المميزة مجرد امرأة عادية، إنما تستجيب لشرط الشاعر الفني، ترتقي إلى مستوى ذائقته، إلى الولادة العسيرة والمثيرة في عالم تغنى به كثيراً...يراهن عليه شعرياً.

يصبح المتسكع شاهداً على عدم صلاحية السكنى في العالم، وما حركته إلا برهان مصداقية فيه.



ماذا في حوزة المقيم في الشعر؟

ثمة روحه، وهي تحلق به في كل مكان. الشاعر مرصود الزمن وراصده. الزمن مسجَّل عليه، ليتحرر من روتينه، ليكون ملء متخيله الشعري الواعد.

هناك الكثير مما يعزز مكانة الشاعر.. ما يبقي قصيدته رهن المغايرة وانتظار الأجمل.

في لغة الشاعر، نلمح فأساً كافكاوية، أو مطرقة نيتشوية، استجابة لهذا المأمول.

في ( لا ترمم ):

لا ترمم شيئاً- بل هدم ما تبقى- من القديم- قبل أن يتداعى- فقريباً- سينهار كل- قديم..ص114 .

طبعاً ليس المهم السؤال عما إذا كان سينهار أم لا، إنما هو ما يترقبه الشاعر، ما يصبو إليه.

ولعل إشارته إلى نفسه، ومن يكون، ترجمة هذه الهوية شعرية الطابع، في ( من أنا):

أتريدون- أن تعرفوا- من أنا-أنا يا أصدقائي- رجل ضال- لا أعرف- طريق العودة- إلى جداري- أنا مشرد- لا مأوى لي- سوى- الحانات والحدئق- والشوارع والطرقات- وأنا مجنون..ص244 ..

إنها ضلالة تغاير المتداول عنها قيمياً. إنها نفي الضلالة، جرّاء انخساف العالم قيمياً.

والمشاء يرى كل شيء كما هو من حوله.. إنه شاهد على العالم.. رفض الإقامة في مكان مغلق، حال البيت ودلالته، هو شد العالم مفتوحاً إلى داخله، هو تعزيز موقعه في عالم محرر من القيود . إنه الكائن الذي يموت ليحيى، ويحيى لكي يتبصر حقيقة حياة من حوله، بلغته المختلفة:

(الشاعرهوهذاالفانيالفريدالذيلديهفياللغةمحاكاةلامتناهيةويعرفعدماستقرارهعنظهرقلبعنطريقترتيبهافيباقات. إنهيعرفالكثيرعماينتظرهليأملفيأيشيءآخرغيرالتنزهقليلاًفيالضوءوالجمال. إنهيعلمأنهسيموت. ولعلهيعرفذلكفقط،الذيمنخلالهيتعرفعلىالحياةالحقيقيةالتيليستحقيقةولاخيالًا،ولاولادةولاموتًا،بلالفترةالتيتفصلبينهماوتوحدهما.) " 6

إنها آصرة الشعر بطابعها الكينوني، حيث الوجود يصبح بيت الشاعر الأوسع.

ربما هكذا نقرأ في ( حلّق ):

حلّق- كن طيراً- كن نجمة- كن بيرقاً- كن راية- خفاقة- كن شراعاً- بوجه الريح- ولا تقبل أبداً- أن تكون- أسيراً- أو عبداً..ص384 ..

مفردات متجانسة مع بعضها بعضاً، لكن لكل منها جرْسها، هاتفها الداخلي، ومضتها الدلالية، وهذا النوع من التسطير المفرداتي، أو التقطيع بعثرة لعالم متراكم مثقِل على ذاكرة العالم نفسه .

الآخرون ينامون، وهو عصي على النوم، جرّاء إشهاره لرغبته التي تهدر داخله، أو ما ينطوي عليه في داخله، أكثر من كونه ذلك الكردي الإيزيدي، تحديداً، وهو ممتلىء بعالم كامل وينزف.

وهو ما يمكن النظر فيه في ( المتبرم ):

سأبقى الثائر المتمرد- متبرماً من كل واقع- سأصارع كل شيء من أجل حلمنا- إلى أن يتحقق- وسأبقى الأسير بين يديك- رافضاً كل شيء- يتعارض وسجاياك..ص438

وما يعمق هذا الأثر الشعري في ( الاغتراب ):

أنا جوال بين البشر- طواحين في رأسي- تطحن البشر للبشر- سكاكين مزروعة في قلبي- أطوف العالم- من مدينة إلى مدينة..ص439..

إنها شهادته التي يتقدم بها جسده وهو بحمولة معاناته، وهو يشهد وضوح رؤيته لمن يريد..

لا بد أن وراء هذا الشروع بما هو شعري، معايشة حياتية تجمع بين حيوية التجربة وثراء المتحصل ثقافياً، من خلال رموز الفكر والأدب. نعم (توجدعلاقةحادةبينالشعروالتفكير. يعتمدالشاعرعلىالخبرةوالكتابةالشعريةوالقراءةالنقديةوالترجمةودراسةالمصنفاتالتيتنتميإلىفنونأخرى. يمكننا،فيهذاالصدد،أننلاحظالشخصية "المثقفة" لهذاالشاعر،وثراءوتنوعمراجعه.) " 7 "

دون ذلك، يمكن يمكننا إقامة حوار مع الكائن الذي يتنفس عالماً كاملاً داخله، وكيف يمكننا التقاط هذا المعنى تلو المعنى في مسرد الصور الشعرية التي تطرح عالماً ممزقاً في نصه هذا أو ذاك؟



الأنثى الخالدة

يستحيل الحديث عن معاناة الشاعر، عن اغترابه أو تمرده، دون ذلك الحضور الكثيف لظلال أنثى ليست أي أنثى، وحيث يمتزج الشراب بالقبلة ورشف المشتهى.. أنثى ربما تمثّل وجوداً كاملاً، يصل الأرض بالسماء، تكون ملهمته ومعززته.إنها عنصر التوازن الروحي فيه. لغته الأخرى، التي بها يعالج لغته اليومية. داءه ودواؤه في آن. الشاعر يتعين مركز توازن كونياً !

ووراء هذا الكم الكبير من النصوص التي تسمّيها، يسهل تبيّن عمق الرهان الحياتي لديه.

هكذا نقرأ ( كل ما فيك ينطق حباً):

لا تتصوري- إن الحب- قد تخلى- عنك ِ- وأنك قد تجاوزت- سن العشق- فإنك- مازلت- في قمة الأنوثة ..ص120

أو في ( لأنني أحبك ):

لأني أحبك- أحب المطر- وأحب القمر- وأحب الربيع..ص190

وما يأتي باسم المرأة التي يعيشها بين جنبيه( امرأة حرة):

أنا-امرأة حرة- وقلبي- يأبى الأسر- وجبيني- يأبى الخضوع..ص256

وأكثر مما تقدم، في ( إلى رجل )، وبمثابة رسالة إلى من يحب:

إذا كانت الجنة- قاب قوسين مني- وكنت أنت- شفيعتي- للدخول إليها- لرفضتها- وفضلت- نار جهنم- عليها..ص366

يصدق هنا قول أنطونيو برازيليرو( الإنسان يبقى في الشعر) " 8 " لأن هذا الإنسان يؤبده الشعر نفسه، هذا الشعر الذي أوجده أو أبدع فيه الإنسان يستحيل روحية روحية تديمه شامخاً.



هل ما يخشاه يخشاه حقاً؟

هناك نصوص كثيرة للشاعر الراحل تتمحور حول الموت. أيعني ذلك أنه كان يخشى الموت؟ قراءة هذه النصوص بالتوازي مع نصوصه الأخرى، ترفع من شأنه. من يخشى الموت، لا يمارس فيه توصيفاً، ويمضي بقارئه إلى عالم آخر.. إلى النار الحارقة المحرقة، إنما ما يجعل الموت حافزاً على وجوب النهل من الحياة، على وجوب الامتلاء بالحياة وهي في أكثر دلالاتها سمواً بالمقابل.

يستشرف الشاعر عالم الآخرين، وليس عالمه وحده. إنه يستنطق الأشياء، ويهبها ما يجعلها أبهى.

( إنالشعرهوأرضالمواجهات،بلإنهساحةمعركةفياللغةومصالحها ...

قالرينيهشارإنمبدأالكتابةالشعريةهو فيالذهابإلىأبعدمما تقدَّمدائماً: إنهاتدورحول "حرقالأسوارbrûlerl’enclos ".) " 9 "

لا تنتهي الأعمال الشعرية، لحظة الانتهاء منها، إنما تتابع تأثيرها، من خلال إثارة متخيل قارئها، باحثة عن نديمها الجمالي، ليقيم هو نفسه في الجمالي، أو يؤاسي روحه المتفاعلة بمعايشة سريان فعل المقروء شعراً، وما كان عليه الشاعر الراحل الذي فارق دنياه، واستقر في ذاكرة الزمن الشعرية تالياً، ليصبح كغيره شاهد زمان من نوع خاص، ولا يطعَن في شهادته المدعمة بروحه.



مصادر وإشارات

1-سعيد تحسين بك: الأعمال الشعرية الكاملة، إعداد وتقديم: داود مراد ختاري،مطبعة طهران،ط1، 2024، في " 448 " صفحة من القطع الكبير، وفي تجليد فني أنيق ومسلفن.وفي المتن ترد أرقام الصفحات، من باب الإيجاز.

2-ينظَر بحثي الطويل حول ذلك ، في " الاغتراب الكافكاوي، ورواية المسخ نموذجاً "، مجلة : عالم لفكر، لكويتية، يوليو، 1984 .

3- fr.wikipedia.org/wiki/Fl%C3%A2neur

4-Zoé Balthus:Laconspirationpoétique de Baudelaire, selon Benjamin

للمزيد من المعلومات، ينظر في مقال ادوار بورديلمن المتنزه إلى المتسكع، والتكيف مع المدينة الجديدة في سأم باريس

ÉDOUARD BOURDELLE: Du promeneur au flâneur, s’adapter à la ville nouvelle dans Le Spleen de Paris.

ومن ذلك حديثه عن مشهد العالم: فن المتسكع:

في نهاية "الآنسةبيستوري"، يذكر بودلير "المعرفة" حول المشي في مدينة كبيرة:

ما هي الشذوذات التي لا تجدها في مدينة كبيرة عندما تعرف كيف تتجول وتنظر حولك؟ المدينة تعج بالوحوش البريئة36.

يفترض أن غالبية المشاة لا يعرفون كيفية المشي. ويكشف أيضًا أن الناس لا يريدون "العثور" على "شيء غريب": فقد تم تدريب أعينهم على عدم ملاحظة الفرق. إلى الممارسة التي تجعل المرء غير مرئي لجاره، يعارض الشاعر فن المشي، وهو التنزه.

التمشي، وهو العرض المتزايد للهوية الاجتماعية حيث يتم عرض وصمة العار، بدلاً من إخفائها.

وهذا من شأنه أن يفسر لماذا التسكع هو من اختصاص المتأنق، وهو الفرد الذي لا يقف على هامش المجتمع، ولكنه يظهر هامشيته داخله. وحيث تميل الأعراف إلى محو الاختلافات، أو إلى إبقاء المهمشين جانباً - كما هو الحال في المقهى الذي يجتمع فيه الشعراء في "بيرت دوريول" - فإن المشي يشكل انحرافاً طوعياً في الفضاء العام. وباستخدام كلمات جوفمان: "لذلك يمكننا أن نؤكد أن معايير الهوية تولد الانحراف بقدر ما تولد المطابقة...إلخ

في الحديث عن الموت، ما ينحّي به جانباً، ليصبح موضوع تأمل وفن تعلم العيش بصورة أمثل. الموت يضيء عالمه.

كما في ( الموت يغريني) :

المحيطات كثيرة- والذكريات آلام- تعذبني- يتجمل الموت- بثياب زاهية- ويأتيني مبتسماً..ص186 ..

أو في ( الموت عشقاً ):

رجال ونساء- يعشقون الدنيا- يلعبون فيها- ويمارسون العشق فيها- رغم البؤس- والظلم والظلام..ص288..

وهكذا يعد نفسه والآخرين، في ( إلى أن أموت ):

إلى أن أموت- وإلى أن- يكون بمقدوري- السير على القدمين- سأحمل شعلة الحب- في كل مكان..ص385..

وما في المرئي من مصائب، في ( ثمرة الحضارة):

أنظر إلى الأزقة- سموم الموت في كل زاوية- والعيون تبحث عن الخبز- والدم يسيل من الأجساد العارية..ص416 ..

مشاهد محبوكة في منتهى البساطة، ولكن وراء هذا الفعل ما يسجّل له اعترافاً بجدّية الروح وانشغالها بالعالم المتداعي.

وراء هذه البساطة، ثمة إخلاص لمبدأ القصيدة، وانفتاح على خميرتها، لتكون عجينة القول مشتهاة تالياً.

ما قاله بورخيس بهذا الصدد مهم جداً، وهو(عندما نقرأ قصيدة جيدة، نتخيل أننا نحن أيضاً نستطيع كتابتها، وأن القصيدة كانت لتوها موجودة في داخلنا..) " 10 " ص108

5-Giampaolo Nuvolati: Le flâneurdansl’espaceurbain

6-Jean-Michel Maulpoix :La vraie vie est-elle absente?

7-Jean-Michel Maulpoix:Introduction à la lecture de l'oeuvred'YvesBonnefoy

8-*-Antonio Brasileiro: L’hommedemeureenpoésieautour de la créationpoétique, avec Heidegger et Valéry, Traduction de Textetraduit par Christine Ritui

9-*-Antonio Brasileiro: L’hommedemeureenpoésieautour de la créationpoétique, avec Heidegger et Valéry, Traduction de Textetraduit par Christine Ritui

10- بورخيس: سبع ليال، ترجمة: د. عابد اسماعيل، دار الينابيع، دمشق،ط1، ،1999.ص108.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...