ما معنى "الله يُسخِّر والإنسان يفكِّر"؟ هذه الجُملة التي هي عنوان هذه المقالة، سبق أن أوردتُها، على الأقل، في مقالتين نشرتُهما على صفحتي. ما أقصِدُه، من خلال هذه الجملة، هو أن اللهَ سخَّر لبني آدم، ليس فقط، كلَّ ما في الأرض ولكن كذلك كلَّ ما في الكون الذي يُشير له، سبحانه وتعالى، في القرآن الكريم بعبارة "السماوات والأرض".
ولكن هذا لا يعني أن كل الأشياء المسخَّرة في الكون، وخصوصا في الأرض، لبني آدم جاهزة للاستعمال الفوري، أي يكفي العثورُ عليها للاستفادة منها. بل الأشياء المُسخَّرة لبني آدم في الكون، وخصوصا في الأرض، يمكن تصنيفُها إلى نوعين اثنين.
النوع الأول يشمل أصنافاً عديدةً من الحيوانات والنباتات التي يمكن الاستفادةُ منها مباشرةً، أي دون إدخال أية تغييرات عليها. ولعلَّ أهمَّ استفادة من هذه الأصناف هي أن تصلُحَ للتغذية. وللتذكير، الإنسان العاقل الذي كان يعيش في العصور الغابرة، كان يحصل على طعامه من خلال قَطفِ أو جَنيِ cueillette ثمار النباتات أو من خلال قنص (صيد) chasse بعض الحيوانات.
أما النوع الثاني من الأشياء المسخَّرة لبني آدم، لا يمكن الاستفادة منها إلا بعد إخضاعها إلى عدَّة تحويلات transformations تقود إلى صُنع أدواتٍ وآلات وأجهزة يستعين بها الناسُ لتسهيل حياتِهم اليومية. وخيرُ مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو مثال المعادن الخامة minerais bruts التي تتطلَّب عدَّةَ تحويلات لاستخراج منها فليزات métaux صالحة لعدة أغراض. وهذا النوع من الأشياء المسخَّرة لبني آدم يتطلَّب الملاحظةَ observation والتَّجرية المتكرِّرة expériences répétitives. والتجرية هنا، ليس المقصود منها التجرية العِلمية expérimentation، التي تدور أطوارُها في المختبرات العلمية. المقصود منها هو التَّجربة الميدانية واللجوءُ إلى تِكرار "التَّجرية والخطأ" tâtonnements إلى غاية الوصول إلى المبتغى. والمبتغى هنا لا يجب اعتبارُه تحصيلا علميا، بل ثقافة تتماشى مع ظروف عيش الإنسان العاقل أو معرفة تجريبية أو عملية connaissance empirique، أي معرفة ناتِجة عن التَّجربة المتكرِّرة.
وهذا يعني أن النوعَ الثاني من الأشياء المسخَّرة لبني آدم، بحُكم حاجتِها إلى الملاحظة والتَّجربة المتكررة، تحتاج إلى تشغيل العقل، ومن خلاله، تحتاج إلى الذكاء والفِطنة والمهارة والحذاقة…
وكلما قطع الإنسانُ العاقلُ أشواطا مهمَّةً في التَّعامل والتَّفاعل مع محيطه، كلما تطوَّر فكرُه وكلما زاد تعامُلُه وتفاعُلُه مع محيطه وضوحا إلى أن أصبح تفاعلُ الإنسان العاقل مع محيطه منظَّما فكريا، أي أن هذا التفاعل أصبح له منهجٌ علمي خاص به methode scientifique، علما أن العقلَ البشري هو الذي أنجب هذا المنهج.
وبصفةٍ عامة ونظرية، يبدأ هذا المنهجُ بالملاحظة observation التي تقود إلى صياغة الفَرَضِيات hypothèses التي يتمُّ التَّأكُّدُ من صحتها أو عدم صحتها من خلال التَّجريب expérimentation. والتجريب يعطينا نتائجَ résultats يتم تفسيرها أو تأويلُها interprétation ليُتوَّجَ المنهجُ بالاستنتاج conclusion الذي قد يقود إلى صياغة نظريات théories.
إذن التَّسخيرُ يحتاج إلى العقل. والعقل هو أسمى وأرقى وأحسن وأنفع ما وهبه الله، سبحانه وتعالى، لبني آدم. بالعقل يُفكِّر الإنسانُ العاقلً، وبالعقل وصلَ إلى ما وصلَ إليه الإنسان العاقلُ المعاصرُ من تقدُّمٍ وازدهارٍ علمي وتكنولوجي.
وهنا، لا بدَّ من التَّنبيه إلى أن التسخيرَ لن يساويَ شيئا بدون عقل بشري. ولهذا قلتُ، على الأقل، في مقالتين سابقتين : "اللهُ يُسخِّرُ والإنسانُ يُفكِّرُ". ولهذا، كذلك، عنونتُ المقالة الحالية بنفس الجملة.
انطلاقا من اقتران التَّسخير بالعقل البشري، لا داعيَ للتذكير بالازدهار الهائل الذي عرفته وتعرفه العلوم الدنيوية و وليدتُها التكنولوجيا. جلُّ ما وصلت إليه العلوم الدنيوية من تقدمٍ وما ترتَّب عن هذا التَّقدم من تنوُّعٍ في التكنولوجيات، يصبُّ في صالح البشر وفي تسهيل الحياة العملية اليومية. ألم يقل، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 34 من سورة إبراهيم : "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ". ولا داعيَ للتَّذكير بأن اقتران التسخير بالعقل البشري هو الذي وفَّرَ للبشر كل هذه النِّعِم. وفعلا، النِّعمُ التي وفَّرها ازدهار العلوم الدنيوية والتكنولوجيا نِعَمٌ لا تُحصى.
وفيما يلي، أقترح على القارئ آيتين كريمتين يُخبرنا فيهما، سبحانه وتعالى، بما سخَّره للناس من نِعَمٍ. وكل آية من الآيتين المواليتين، سيتمُّ تحليلُها انطلاقا من عنوان هذه المقالة، أي "الله يُسخِّر والإنسان يفكِّر".
1.هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل، 14).
في هذه الآية، ما سخَّره اللهُ، سبحانه وتعالى للناس، يتمثل في البحر وما يوجد فيه من ثروة سمكية وما يتضمَّنه من لؤلؤ ومرجان.
أما ما فكَّر فيه العقل البشري، فيتمثَّل، أولا، في صُنع وسائل بسيطة أو معقَّدة لصيد الأسماك من أجل التغذية. ثانيا، صنعُ وسائل الغطس plongée للوصول إلى المحار huîtres الذي يوجد بداخله اللؤلؤ وكذلك، للوصول إلى شِعاب المرجان récif de corail. ومن اللؤلؤ والمرجان، يصنع الإنسانُ مجوهراتٍ للزينة. ثالثا، اكتشف العقلُ البشري "دفعة أو ضغط أرخميدس "poussée d'Archimède" التي مكَّنت من صُنع الفُلك (سُفُن، بواخر، قوارب، بوارج، مراكب شراعِية…) من مختلف الأحجام والأشكال، التي تُستخدَم للصيد التقليدي أو الصناعي أو لنقل المسافرين والبضائع أو للترفيه عن النفس أو لأغراض عسكرية أو لأغراض علمية واستكشافية…
2.أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (لقمان، 20).
في هذه الآية، ما سخَّره الله، سبحانه وتعالى، يتمثَّل في كل ما هو موجودٌ في الكون، أي ما هو موجودٌ في "السماوات والأرض". ومن ضمن ما هو موجود في الكون، هناك نِعَمٌ تراها العين المجرَّدة وهناك نِعَمٌ لا تراها العين المجرَّدة. النِّعَمُ التي لا تراها العين المجرَّدة قد تكون مادية وقد تكون معنوية.
أما ما فكَّر فيه العقل البشري للاستفادة من ما سخَّره له الله، سبحانه وتعالى، من خيراتٍ في السماوات وفي الأرض، فيتمثَّل :
أولا، في الانتقال من العصر الحجري البِدائي إلى عصر أو عصور الحضارة والعمران civilisation et urbanisme، ثم من عصر العمل اليدوي travail manuel إلى عصر العمل المُمَكنَن travail mécanisé، أي العمل الذي يستعين فيه الإنسان بالأدوات outils أو بالآلات والأجهزة machines et appareils. وكل مرحلة دامت وقتا طويلا وبدل فيها الإنسانُ العاقل جُهدا كبيرا من الملاحظة والتَّفكير وتِكرار التَّجريب… إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم من رُقيٍّ وازدهار علمياً وتكنولوجياً.
ثانيا، أما المرحلة الحاسمة التي مكَّنت الإنسانَ العاقلَ من أن يقطعَ أشواطا في توسيع دائرة معارفه، ومن تمَّةَ، توسيع دائرة علمه وتكنولوجياتِه، فتتمثَّل في الانتقال من مرحلة مقاربة المادة بمنظورٍ العين المجرَّدة d'un point de vue macroscopique إلى مرحلة مقاربة نفس المادة بمنظورٍ مِجهري microscopique. هذه المرحلة الأخيرة هي التي مكَّنت الإنسانَ العاقلَ من الاستفادة من النِّعَم الباطِنة التي وردت في الآية رقم 2 أعلاه.
ثالثا، لا داعيَ للدخول في تفاصيل الانتقال الخاص بمقاربة المادة لأن الإنجازات التي حققها الإنسان العاقل، بسبب هذا الانتقال، رائعة وهائلة وضخمة… أذكر فقط منها الانتقال من التكنولوجيات الضخمة والمتوسِّطة والصغيرة إلى ما يُسمَّى النانوتكنولوجيات، أي أن إنتاجَ التِّكنولوجيات نزل إلى مستوى الجُزيئة molécule أو إلى مستوى الذرة atome. والنانوتكنولوجيات تعتمد على ما يُسمى النانومتر nanomètre، أي المليمتر millimètre مقسَّمٌ إلى مليون جزء أو المتر mètre مقسَّمٌ إلى مليار جزء. والطب هو المجال الذي تُستَعمَل فيه، بكثرة، النانوتكنولوجيا لأغراض استكشافية أو علاجية. في هذه الحالة، كل استعمالات المادة ستنقلب رأسا على عقب وفي جميع مجالات الصناعة.
رابعا، أما المرحلة القادمة، فستكون من أهم التَّطوُّرأت التي ستطرأ على العقل البشري. لماذا؟ لأنها ستعتمد كليا أو جزئيا على ما يسمى حاليا بالذكاء الاصطناعي intelligence artificielle الذي هو عبارة عن خوارزميات algorithmes تضمُّ كلَّ ما له علاقة بالحياة العملية بجميع تجلِّياتها الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، والتي يمكن برمجتُها على الحواسيب. والغرض من برمجتِها هو إيجاد حلولٍ للمشاكل المطروحة في هذه الحياة العملية.
أرأيتم لماذا قال، سبحانه وتعالى : "...وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا… (إبراهيم، 34)؟ أرأيتم لماذا نفخ اللهُ جزأً من روحه في بني آدم؟ أرأيتم لماذا وهب الله، سبحانه وتعالى، لبني آدم العقلَ؟ أرأيتم كيف يقترن التَّسخيرُ بالعقل؟
إذن، فكل ما وصل إليه الإنسانُ العاقلُ من تقدُّم علمي وتكنولوجي، فهو فضلٌ من الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (النمل، 73).
ولكن هذا لا يعني أن كل الأشياء المسخَّرة في الكون، وخصوصا في الأرض، لبني آدم جاهزة للاستعمال الفوري، أي يكفي العثورُ عليها للاستفادة منها. بل الأشياء المُسخَّرة لبني آدم في الكون، وخصوصا في الأرض، يمكن تصنيفُها إلى نوعين اثنين.
النوع الأول يشمل أصنافاً عديدةً من الحيوانات والنباتات التي يمكن الاستفادةُ منها مباشرةً، أي دون إدخال أية تغييرات عليها. ولعلَّ أهمَّ استفادة من هذه الأصناف هي أن تصلُحَ للتغذية. وللتذكير، الإنسان العاقل الذي كان يعيش في العصور الغابرة، كان يحصل على طعامه من خلال قَطفِ أو جَنيِ cueillette ثمار النباتات أو من خلال قنص (صيد) chasse بعض الحيوانات.
أما النوع الثاني من الأشياء المسخَّرة لبني آدم، لا يمكن الاستفادة منها إلا بعد إخضاعها إلى عدَّة تحويلات transformations تقود إلى صُنع أدواتٍ وآلات وأجهزة يستعين بها الناسُ لتسهيل حياتِهم اليومية. وخيرُ مثالٍ يمكن سياقُه، في هذا الصدد، هو مثال المعادن الخامة minerais bruts التي تتطلَّب عدَّةَ تحويلات لاستخراج منها فليزات métaux صالحة لعدة أغراض. وهذا النوع من الأشياء المسخَّرة لبني آدم يتطلَّب الملاحظةَ observation والتَّجرية المتكرِّرة expériences répétitives. والتجرية هنا، ليس المقصود منها التجرية العِلمية expérimentation، التي تدور أطوارُها في المختبرات العلمية. المقصود منها هو التَّجربة الميدانية واللجوءُ إلى تِكرار "التَّجرية والخطأ" tâtonnements إلى غاية الوصول إلى المبتغى. والمبتغى هنا لا يجب اعتبارُه تحصيلا علميا، بل ثقافة تتماشى مع ظروف عيش الإنسان العاقل أو معرفة تجريبية أو عملية connaissance empirique، أي معرفة ناتِجة عن التَّجربة المتكرِّرة.
وهذا يعني أن النوعَ الثاني من الأشياء المسخَّرة لبني آدم، بحُكم حاجتِها إلى الملاحظة والتَّجربة المتكررة، تحتاج إلى تشغيل العقل، ومن خلاله، تحتاج إلى الذكاء والفِطنة والمهارة والحذاقة…
وكلما قطع الإنسانُ العاقلُ أشواطا مهمَّةً في التَّعامل والتَّفاعل مع محيطه، كلما تطوَّر فكرُه وكلما زاد تعامُلُه وتفاعُلُه مع محيطه وضوحا إلى أن أصبح تفاعلُ الإنسان العاقل مع محيطه منظَّما فكريا، أي أن هذا التفاعل أصبح له منهجٌ علمي خاص به methode scientifique، علما أن العقلَ البشري هو الذي أنجب هذا المنهج.
وبصفةٍ عامة ونظرية، يبدأ هذا المنهجُ بالملاحظة observation التي تقود إلى صياغة الفَرَضِيات hypothèses التي يتمُّ التَّأكُّدُ من صحتها أو عدم صحتها من خلال التَّجريب expérimentation. والتجريب يعطينا نتائجَ résultats يتم تفسيرها أو تأويلُها interprétation ليُتوَّجَ المنهجُ بالاستنتاج conclusion الذي قد يقود إلى صياغة نظريات théories.
إذن التَّسخيرُ يحتاج إلى العقل. والعقل هو أسمى وأرقى وأحسن وأنفع ما وهبه الله، سبحانه وتعالى، لبني آدم. بالعقل يُفكِّر الإنسانُ العاقلً، وبالعقل وصلَ إلى ما وصلَ إليه الإنسان العاقلُ المعاصرُ من تقدُّمٍ وازدهارٍ علمي وتكنولوجي.
وهنا، لا بدَّ من التَّنبيه إلى أن التسخيرَ لن يساويَ شيئا بدون عقل بشري. ولهذا قلتُ، على الأقل، في مقالتين سابقتين : "اللهُ يُسخِّرُ والإنسانُ يُفكِّرُ". ولهذا، كذلك، عنونتُ المقالة الحالية بنفس الجملة.
انطلاقا من اقتران التَّسخير بالعقل البشري، لا داعيَ للتذكير بالازدهار الهائل الذي عرفته وتعرفه العلوم الدنيوية و وليدتُها التكنولوجيا. جلُّ ما وصلت إليه العلوم الدنيوية من تقدمٍ وما ترتَّب عن هذا التَّقدم من تنوُّعٍ في التكنولوجيات، يصبُّ في صالح البشر وفي تسهيل الحياة العملية اليومية. ألم يقل، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 34 من سورة إبراهيم : "وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ". ولا داعيَ للتَّذكير بأن اقتران التسخير بالعقل البشري هو الذي وفَّرَ للبشر كل هذه النِّعِم. وفعلا، النِّعمُ التي وفَّرها ازدهار العلوم الدنيوية والتكنولوجيا نِعَمٌ لا تُحصى.
وفيما يلي، أقترح على القارئ آيتين كريمتين يُخبرنا فيهما، سبحانه وتعالى، بما سخَّره للناس من نِعَمٍ. وكل آية من الآيتين المواليتين، سيتمُّ تحليلُها انطلاقا من عنوان هذه المقالة، أي "الله يُسخِّر والإنسان يفكِّر".
1.هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (النحل، 14).
في هذه الآية، ما سخَّره اللهُ، سبحانه وتعالى للناس، يتمثل في البحر وما يوجد فيه من ثروة سمكية وما يتضمَّنه من لؤلؤ ومرجان.
أما ما فكَّر فيه العقل البشري، فيتمثَّل، أولا، في صُنع وسائل بسيطة أو معقَّدة لصيد الأسماك من أجل التغذية. ثانيا، صنعُ وسائل الغطس plongée للوصول إلى المحار huîtres الذي يوجد بداخله اللؤلؤ وكذلك، للوصول إلى شِعاب المرجان récif de corail. ومن اللؤلؤ والمرجان، يصنع الإنسانُ مجوهراتٍ للزينة. ثالثا، اكتشف العقلُ البشري "دفعة أو ضغط أرخميدس "poussée d'Archimède" التي مكَّنت من صُنع الفُلك (سُفُن، بواخر، قوارب، بوارج، مراكب شراعِية…) من مختلف الأحجام والأشكال، التي تُستخدَم للصيد التقليدي أو الصناعي أو لنقل المسافرين والبضائع أو للترفيه عن النفس أو لأغراض عسكرية أو لأغراض علمية واستكشافية…
2.أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (لقمان، 20).
في هذه الآية، ما سخَّره الله، سبحانه وتعالى، يتمثَّل في كل ما هو موجودٌ في الكون، أي ما هو موجودٌ في "السماوات والأرض". ومن ضمن ما هو موجود في الكون، هناك نِعَمٌ تراها العين المجرَّدة وهناك نِعَمٌ لا تراها العين المجرَّدة. النِّعَمُ التي لا تراها العين المجرَّدة قد تكون مادية وقد تكون معنوية.
أما ما فكَّر فيه العقل البشري للاستفادة من ما سخَّره له الله، سبحانه وتعالى، من خيراتٍ في السماوات وفي الأرض، فيتمثَّل :
أولا، في الانتقال من العصر الحجري البِدائي إلى عصر أو عصور الحضارة والعمران civilisation et urbanisme، ثم من عصر العمل اليدوي travail manuel إلى عصر العمل المُمَكنَن travail mécanisé، أي العمل الذي يستعين فيه الإنسان بالأدوات outils أو بالآلات والأجهزة machines et appareils. وكل مرحلة دامت وقتا طويلا وبدل فيها الإنسانُ العاقل جُهدا كبيرا من الملاحظة والتَّفكير وتِكرار التَّجريب… إلى أن وصل إلى ما وصل إليه اليوم من رُقيٍّ وازدهار علمياً وتكنولوجياً.
ثانيا، أما المرحلة الحاسمة التي مكَّنت الإنسانَ العاقلَ من أن يقطعَ أشواطا في توسيع دائرة معارفه، ومن تمَّةَ، توسيع دائرة علمه وتكنولوجياتِه، فتتمثَّل في الانتقال من مرحلة مقاربة المادة بمنظورٍ العين المجرَّدة d'un point de vue macroscopique إلى مرحلة مقاربة نفس المادة بمنظورٍ مِجهري microscopique. هذه المرحلة الأخيرة هي التي مكَّنت الإنسانَ العاقلَ من الاستفادة من النِّعَم الباطِنة التي وردت في الآية رقم 2 أعلاه.
ثالثا، لا داعيَ للدخول في تفاصيل الانتقال الخاص بمقاربة المادة لأن الإنجازات التي حققها الإنسان العاقل، بسبب هذا الانتقال، رائعة وهائلة وضخمة… أذكر فقط منها الانتقال من التكنولوجيات الضخمة والمتوسِّطة والصغيرة إلى ما يُسمَّى النانوتكنولوجيات، أي أن إنتاجَ التِّكنولوجيات نزل إلى مستوى الجُزيئة molécule أو إلى مستوى الذرة atome. والنانوتكنولوجيات تعتمد على ما يُسمى النانومتر nanomètre، أي المليمتر millimètre مقسَّمٌ إلى مليون جزء أو المتر mètre مقسَّمٌ إلى مليار جزء. والطب هو المجال الذي تُستَعمَل فيه، بكثرة، النانوتكنولوجيا لأغراض استكشافية أو علاجية. في هذه الحالة، كل استعمالات المادة ستنقلب رأسا على عقب وفي جميع مجالات الصناعة.
رابعا، أما المرحلة القادمة، فستكون من أهم التَّطوُّرأت التي ستطرأ على العقل البشري. لماذا؟ لأنها ستعتمد كليا أو جزئيا على ما يسمى حاليا بالذكاء الاصطناعي intelligence artificielle الذي هو عبارة عن خوارزميات algorithmes تضمُّ كلَّ ما له علاقة بالحياة العملية بجميع تجلِّياتها الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية، والتي يمكن برمجتُها على الحواسيب. والغرض من برمجتِها هو إيجاد حلولٍ للمشاكل المطروحة في هذه الحياة العملية.
أرأيتم لماذا قال، سبحانه وتعالى : "...وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا… (إبراهيم، 34)؟ أرأيتم لماذا نفخ اللهُ جزأً من روحه في بني آدم؟ أرأيتم لماذا وهب الله، سبحانه وتعالى، لبني آدم العقلَ؟ أرأيتم كيف يقترن التَّسخيرُ بالعقل؟
إذن، فكل ما وصل إليه الإنسانُ العاقلُ من تقدُّم علمي وتكنولوجي، فهو فضلٌ من الله، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (النمل، 73).