أمل الكردفاني- سِحر السِّحر

لا يمكن وصف الحدث كجزء من ارتباطات شبكية، بقدر ما هو منفلت بذاته، إنه سابح في عراء شاسع، وهذا ما يجعل التقاطه للحَدَث أشبه بالمعجزة. من هنا يكون السحر هو أداة لالتقاط الحدث. ويكوم اللجوء للسحر هو رغبة في التقاط الحدث. فالحدث يجب أن يكون ممكناً ولكن ليس محققاً من ناحية، ولا مستحيلاً من ناحية أخرى. وهذا ما يعزز الرغبة. وبالتالي يعزز لجوء البعض إلى السحر كحل لمعضلة عصية على المرء.
السحر للكسالى، وللتائهين، وللموجوعين، ولكنه ليس للقانطين ولا للمتفائلين، لأن تذبذبه في العقل يستوجب ألا يكون هناك قنوط أو تفاؤل، بل حالة من اليقين واللا يقين ويأتي السحر ليدفع باليقين إلى الأمام واللا يقين إلى الخلف.
إن الإنسان مقياس كل شيء، كما قال بروتاغوراس؛ ولكي تكون مقياس كل شيء يجب أن تكون إنساناً، بمعنى ألا تكون صاحب شخصية ملائكية ولا شيطانية، بل شخصية تتمتع بكل الإضطرابات والتقلبات نتاج تجارب شديدة الصعوبة. أقول ذلك لأن معرفتنا بمحيطنا تنطلق من أنفسنا حيث أن الإنسان قاضي حدسي، فهو قاضٍ لأن عمله الأساسي هو الحكم على كل شيء ليتمكن من التعامل معه، وتأتي احكامه من تجاربه الحسية في المقام الأول، إذ يمتنع الطفل عن تقريب أصابعه من النار إذا كانت قد لسعته سابقاً، ولكن الأهم من تلك الأحكام الحسية هي احكامه الحدسية، وهي التي جعلته كائناً خلاقاً وفناناً وعدائياً ومحباً وانطوائياً واجتماعياً ومنزوياً أنانياً ومنفتحاً معطاءًا وغير ذلك مما تبدو لوهلة وكأنها تناقضات ولكنها في الواقع أدواته في الحركة وأسلحته للبقاء. ومن خلال أنفسنا نعرف لماذا تميل قلوبنا إلى السحر، وخاصة عندما يحيط بنا العجز الشديد، دون أن نفقد الأمل، فنحن نقتحم المعجزة، ونحاول خوض معركة مع القوى السماوية، لذلك يبدو السحر تمرداً بخلاف المنتجات العلمية التي هي انكباب شامل على ما هو زمني ودنيوي دون أي اكتراث بالروحي والغيبي. فالسحر تمرد ومقاومة، ومحاولة لمواجهة السماء بأدواتها، ومن خلال قوى تشبهها وتمتلك خوارقها، دون أن نساوي بينها، فزيوس يظل هو زيوس، وما دونه هم دونه ولكنهم يؤثرون عليه ويتأثرون به، وفي هذا الهامش الصغير يتحرك الإنسان في مسارات السحر، بلا حاجة منا للحكم على صحة أو عدم صحة السحر، فهو صحيح عندما نخاف ونعجز؛ ووهم حينما نمتلك القوة اللازمة لتذليل كل الصعاب والعقبات. فالسحر له سحره الخاص، المختلف عن أي متعة ساحرة أخرى، كالغناء والرقص والشعر وغيرهم، لأن هذه الأخيرة خطية ويقينية، أما السحر ففوضوي ومشكوك فيه باستمرار، ومن هذا الشك تأتي قوته بدلاً عن إضعافه. ويذكرنا ذلك بصراعات آلهة الأولمب وملحمياتها ومعاناة الإنسان بسببها. وهنا يكمن سحر السحر.
والعالم مكون من كارتيلات، هذا ليس أمراً حديثاً بل هو قديم قدم الإنسان، وما الحروب إلا محاولات لكسر تلك الحلقات الفولاذية لتشكيل حلقات أخرى، وحتى في حالة "السلام" بمفهومه العسكري، فإن الحرب المدنية ليست سوى محاولات لإثبات الحق في الوجود عبر الاقتصاد والسياسة والسلطة والقانون. فما الذي يملكه للضعفاء لكي يحاولوا اختراق تلك الكارتلات؟ لا شيء سوى السحر. نعم يمكن للعمل الدؤوب أن ينجح أو يفشل، ولكن هذا النجاح أو الفشل هو نفسه رهين الكارتيلات المسيطرة. بل ولو استبعدنا كل أسلحة الصراع المعروفة، فإن المزاج الثقافي يخلق كارتيلا أكثر قمعية للطموحات والإبداع، فما الذي جعل إلفيس بريسلي أكثر شهرة من بوبي فينتون سوى الكارتيلات الثقافية التي ترفع وتحط من شأن كل شيء، بل وهناك الكارتيلا الحيوية التي تمثل أعنف مؤسسة موجهة ضد الإنسان وهو جسده نفسه، جسده الذي يتضمن عقله أيضاً وهو الذي قد يجعله عاجزاً عن تتويج أحلامه بعرش النجاح. وكم من عباقرة هزمهم جسدهم فكان ذكاؤهم -على سبيل المثال- وبالاً عليهم وضعف بنيتهم سبب انهيارهم. وأما العامل المؤثر الأخير فهو الحظ. والحظ هو أن يقع ذلك الحدث داخل محيط أحد هذه الكارتيلات؛ الحدث العبقري الذي يجعل الدنيا تبتسم لك بعد اكفهرار. ولأن الحدث ملقى في غياهب الغيب، فإن الإنسان يبحث عن السحر لكي يجلب الحدث إلى موقع داخل المحيط. طلسم المحبة، وطلسم الباه، وطلسم لتحيير الرجل، وطلسم لتخريب بيت العدو الظالم، وطلسم لكشف الكنوز، وطلسم للولادة، وطلسم للتزويج، وغير ذلك من طلاسم تعمل كلها على جلب الحدث في مكان يُتصور أنه المكان الصحيح. وهذا هو حقا ما يمنح السحر سحره.
(يتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...