واجهت السلطة الإيمانية النقلية الفلاسفة العرب بالتكفير، مستحثة السلطة السياسية والجمهور للتضييق عليهم واستئصال شأفتهم، ومن هؤلاء من قضى اغتيالا، ومنهم من عرف السجون والمنافي، أما كتبهم فقد كان مصيرها الحرق والمصادرة في الغالب، فضاع جانب مهمّ منها، وحتى تلك التي وصلتنا فقد ظلت لقرون طويلة نسيا منسيا. والمفارقة أن هؤلاء الفلاسفة كثيرا ما كان يجري تقريبهم لطبّهم، واستبعادهم ومطاردتهم لفلسفتهم، فكانوا موضع حظوة حينا، وتجريم أحيانا أخرى. وقد كتبنا في الأوان عن ملامح من العقلانية العربية المغدورة في كتابات هؤلاء محيلين إلى الفيلسوف الأندلسي أبي بكر بن الصائغ المعروف بابن باجة، ونواصل هنا الحديث عن هذا الفيلسوف الذي دعا إلى الهجرة إلى العقل، في مواجهة سلطة المتصوفة والمتكلمين المتزمتين.
من بين جميع الكتب والرسائل التي وصلتنا من ابن باجة فإنّ كتابه تدبير المتوحّد يتمتّع بأهمية خاصة، فقد ضمّنه أبرز أفكاره حول العقل والتعقل والمعقولات وتدبير المنزل والمدينة ومعنى السعادة الخ… والغاية التي طلبها من وراء تأليف هذا الكتاب هي الإبانة عن الكيفية التي من خلالها يمكن بلوغ المقصد الأسمى أي السعادة، فكتاب تدبير المتوحّد يرشد إلى الطريق المناسبة لتحقيق ذلك الهدف، فأيّ فرد يختار سبيل العقل يمكنه الوصول إلى الغاية القصوى، بل إن أهل مدينة ما إذا أعملوا عقولهم أمكنهم في مجموعهم إدراك كمالهم وسعادتهم.
وبقدر سموّ الهدف بقدر صعوبة المسالك المؤدّية إليه، لذلك فإنّ ابن باجة لا يكتفي بالحديث عن الغاية المطلوبة، وإنما يصبّ اهتمامه أيضا على السبل الموصلة إليها. ومنذ البداية يهتمّ المؤلف بتحليل لفظ التدبير، مبيّنا أنه يدلّ على مجموعة من الأعمال التي تروم تحقيق مقصد محدد، فالتدبير لا يدلّ على عمل مفرد وإنما على تشابك جملة من الأعمال ووقوعها وفق نسق محدّد، يؤدّي في نهاية المطاف إلى بلوغ الهدف المرسوم، فالتدبير دالّ على وضع استراتيجيا يتمّ التحرك وفقها، وهو ما يعني أنّ كلّ عمل منفرد ومعزول لا يمكن أن يدخل ضمن هذا التحديد، فالتدبير يعني شبكة كاملة من الأفعال التي يجري ترتيبها بحسب أهميتها، ويعود ابن باجة إلى لسان العرب للوقوف على معنى لفظ التدبير، مبيّنا أن أشهر دلالة له تتمثل في "ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، ولذلك لا يطلقونها على من فعل فعلا واحدا يقصد به غاية ما، فإنّ من اعتقد في ذلك الفعل أنه واحد لم يطلق عليه التدبير، وأما من اعتقد فيه أنه كثير، وأخذه من حيث هو ذو ترتيب سمّي ذلك الترتيب تدبيرا" ابن باجة، تدبير المتوحد، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق وتقديم ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت لبنان 1968، ص 37.
ولفظ التدبير يمكن أن تكون له دلالة القوة أو دلالة الفعل، ودلالة القوة هي الأكثر انتشارا، فترتيب المسائل التي هي بالقوّة يتمّ عن طريق الفكر، لذلك فإنّ الإنسان يختص به وحده دون بقية الكائنات، يقول ابن باجة " ولفظة التدبير دلالتها على ما بالقوّة أكثر وأشهر، وبين أن الترتيب إذا كان في أمور بالقوة فإنّما يكون ذلك بالفكرة، فإنّ هذا مختص بالفكر ولا يمكن أن يوجد إلا منه، ولذلك لا يمكن أن يوجد إلا للإنسان فقط". ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 37.
والتدبير أنواع، فهناك تدبير الله للعالم، وهو التدبير المطلق، وتدبير المدن الذي تناوله أفلاطون في كتبه السياسية، كما نجد نوعا ثالثا وهو تدبير المنزل، ونوعا رابعا هو تدبير المتوحد مدار اهتمام المعالجة الفلسفية الباجية الواردة في الكتاب المذكور، فغرض ابن باجة إنما هو " بيان كيف يتدبر هذا الإنسان المتوحد حتّى ينال أفضل وجوداته فيحقق السعادة لنفسه" ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 37.
والتدبير يعنى حضور العقل فهو الذي يتدبر الأعمال و ينظمها ويرتبها، محيلا الى شبكة من الأعمال المتآلفة والمنسجمة فيما بينها، لتحقيق غرض معين. والمجال السياسي الأخلاقي هو الأرضية المثلى التي يتحرك فيها، لذلك نجد كتاب تدبير المتوحد مسكونا بهذا الهاجس، وابن باجة لا يخفي أنه يتحدث تحديدا عن التدبير السياسي، فتدبير المدن إنما يعني تنظيم حياة الناس الاجتماعية والسياسية وفق معايير مضبوطة، يمثل العقل القاعدة التي تستند إليها.
وابن باجة وهو يعرض لهذه القضايا من وجهة نظر عقلية واقع تحت وطأة الوضع الاجتماعي السياسي المحيط به، فقد تفشت الأمراض الاجتماعية والسياسية بمنوعاتها المختلفة، وزاد الغزو الذي أطبق على مدينة سرقسطة الأمر سوءا، وفي مثل وضع كهذا لا بدّ للفلسفة أن تطلق صوتها منبهة للمخاطر المحدقة، موقظة النائمين من نومهم الذي طال كثيرا، فهو يروم تحقيق إصلاح اجتماعي وسياسي، معتمدا في ذلك العقل، مستشرفا آفاقا ممكنة لتأسيس المدينة الكاملة الفاضلة.
وعلى هذا النحو، فإنّ السند الذي ترتكز عليه المدينة الفاضلة، وتستمدّ منه شرعية وجودها هو العقل، فأهل المدينة الفاضلة يبلغون السعادة بواسطة محدّدة هي النظر العقليّ الدقيق، ممّا يعني تعقّل مختلف الأمور وتوضحها. وهذا التعقّل هو الذي يجعل المرء عالما بما يجوز وما لا يجوز، و بالتالي يتسنّى له تجنّب الوقوع في الأخطاء، وهذا من شأنه أن يؤلف أساسا يقوم عليه النظام السياسي الفاضل والطباع التي تتّسم بالصفاء، والأخلاق التي تتصف بالرفعة، بما يعنيه ذاك من تحقيق الارتباط بين السياسة والأخلاق.
ومهمة المتوحد ليست هيّنة، فبفعل انتشار الفساد في المدن فإنه يكون غريبا في بلده بعيدا عن أهله وأصدقائه، إنّه مثقف معزول ومنعزل في علاقته بالسائد، فالمدينة الجاهلة الناقصة غارقة في أزماتها، غير مدركة للهلاك المتربص بها، معرضة عن الفيلسوف ومتعلقة بأهداب المتصوفة والمتكلمين الجهلة، الأحياء منهم والأموات، إنّها ضحيّة تقدّس جلادها، متنكّرة لمن يطلب خلاصها، وتذكّرنا الصورة التي يرسمها ابن باجة للمتوحّد في غربته بصورة أخرى تطفح بالملامح ذاتها في الإشارات الإلهية للتوحيدي، فـ" الغريب من هو في غربته غريب… هو من إن رأيتَه لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه، الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً، وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه"، فمن حوله لا يدرك بيسر مراميه وأهدافه، فالناس واقعون تحت وطأة العادة تحركهم الرغبات والأهواء، في حين لا يخضع المتوحد لسلطة غير سلطة عقله، لذلك فإنه يسمو بفكره عن المدينة التي يعيش فيها، ويهاجر عقليا إلى مدينة أخرى متصورة، تكون بديلا عنها، وفي قطيعة كلية مع شرورها ومساوئها، فالعقل حصن يأوي الفيلسوف إليه، والمدينة الكاملة طوبى جميلة تراوده، إنّها مدينة منشودة، إذا ما قيّض لها التأسيس ستكون خالية من الكذب والزيف والشرّ وكلّ ما يفقد الإنسان إنسانيته، فتلك هي السمات الدالة عليها، إذ "بيّن أن المدينة الفاضلة الكاملة قد أعطي فيها كل إنسان أفضل ما هو معد نحوه، وأنّ آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذب فيها، وأنّ أعمالها هي الفاضلة بالاطلاق وحدها، وأن كل عمل غيره فإن كان فاضلا فبالإضافة إلى فساد موجود" ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 41. وعند حصول ذلك التأسيس تكون عزلة الفيلسوف قد انتفت لكي تخلي المجال أمام انصهاره بين الفضلاء والعقلاء أمثاله.
ويبدو واضحا هنا أنّ ابن باجة يوجّه نقدا لاذعا للحياة الاجتماعية السياسية السائدة في عصره، أي إننا أمام معالجة نقدية لنمط مجتمعيّ نتج عنه ظهور إنسان تخلو سلوكاته الأخلاقية من الفضيلة، وتفتقر أفكاره إلى الحكمة، تعطل العقل لديه فأضحي عدوا لذاته قبل أن يكون عدوا للآخرين.
والمسألة السياسية في رأي ابن باجة هي في جوهرها مسألة اجتماعية أخلاقية، ولحلها يجب الاعتناء بالأسرة والفرد، لذلك يركز اهتمامه على المنزل (الأسرة)، فمثلما هناك مدينة كاملة وأخرى ناقصة هناك منزل كامل وآخر ناقص ومريض، فـ "المنازل ما عدا المنزل الفاضل مرضي وكلها منحرفة" ابن باجة، تدبير المتوحد،، ص 40.
والدور الذي يعطيه للعقل يكشف عن الفعالية التي تمارسها الأفكار بالنسبة إليه في تنظيم شؤون الناس، فالفلسفة بما هي فعل عقلانيّ يمكن أن تقود إلى السعادة والكمال، وبالتالي بناء المدينة الكاملة وضمان وحدتها، أما الإيمانية الدينية سواء اتخذت شكل الكلام أو التصوف فإنها لا تؤدّي لغير بقاء المدن على فسادها، لافتقارها إلى البرهنة العقلية وارتكازها على الخطابة والجدل، فمجال حركتها على مستوى النظر إعادة إنتاج النصوص القدسية دون إضافة تذكر، أما على مستوى العمل فإنها تبذر الفرقة والتباغض بين الناس، مما يؤدي إلى انقسام المدينة على نفسها في شكل ملل ومذاهب وطوائف متناحرة.
والقيمة الكبرى التي يمنحها ابن باجة للفعل الإنساني المستند إلى العقل والتعقل، تجعله يسمو بهذا الفعل إلى مستوي الفعل الإلهي، وهذا هو الفعل الذي يختص به المتوحد، إذ التفلسف كما قال سقراط هو التشبّه بالآلهة قدر المستطاع، فالنفس العاقلة هي التي يجب الانقياد إليها أمّا النفس الحيوانية فإنّ الانقياد إليها يعني الوقوع تحت وطأة الشهوات، وذلك يؤدّي إلى الضلال، فالإنسان الذي يترك العقل جانبا، ويتبع شهواته يعدّ الحيوان أفضل منه، إذ الحيوان يطيع طبيعته الخاصة، بينما يتنكّر ذلك الإنسان إلى طبيعته الخصوصية من حيث هو كائن عاقل، ويتبع الطبيعة الحيوانية، فلا يكون العقل لديه سبيلا إلى الخير والفضيلة وإنما طريقا إلى الشرّ والرذيلة.
وإذا كان ذلك هو حال عامة الناس في المدن الفاسدة بمن فيهم أصحاب السلطة النقلية الإيمانية، فإنّ المتوحد/الفيلسوف يمثل استثناء، فهو يستعمل عقله لكي يصل إلى الكمال والفضيلة، لذلك فإنّ المدن الناقصة تحتاج إلى المتوحد الذي به يتم تجديدها، أي إنّ المدينة الناقصة تجد في المتوحد وسيلة لدرء مساوئها، وبالتالي إعادة بنائها على أسس جديدة، فهو يتحمل مسؤولية خطيرة تتمثل في الحث على تحطيم المدينة الناقصة، وإقامة المدينة الكاملة محلها، فالمتوحد أو كما يسميه ابن باجة "النابت"هو شخص عاقل فاضل في مدينة جاهلة فاسدة، ومن هنا بالذات جاء تفرده.
ومن ثمة فإنّ مشروع المتوحد مشروع تجديديّ في جوهره، يجد في العقل سلاحا يشهره ضدّ الشرّ والفساد في الحقلين السياسي والأخلاقي. فالمتوحد رافض لما هو سائد متمرّد على المعايير السياسية والاجتماعية والأخلاقية والمؤسسات التي ترتكز عليها، ووجوده داخل المدينة الناقصة إنّما يمثل جنين المدينة الكاملة التي يجب أن تتأسس، وأفعاله وأفكاره بواكير لما سوف يأتي من نظم اجتماعية وسياسية وأخلاقية بديلة.
من بين جميع الكتب والرسائل التي وصلتنا من ابن باجة فإنّ كتابه تدبير المتوحّد يتمتّع بأهمية خاصة، فقد ضمّنه أبرز أفكاره حول العقل والتعقل والمعقولات وتدبير المنزل والمدينة ومعنى السعادة الخ… والغاية التي طلبها من وراء تأليف هذا الكتاب هي الإبانة عن الكيفية التي من خلالها يمكن بلوغ المقصد الأسمى أي السعادة، فكتاب تدبير المتوحّد يرشد إلى الطريق المناسبة لتحقيق ذلك الهدف، فأيّ فرد يختار سبيل العقل يمكنه الوصول إلى الغاية القصوى، بل إن أهل مدينة ما إذا أعملوا عقولهم أمكنهم في مجموعهم إدراك كمالهم وسعادتهم.
وبقدر سموّ الهدف بقدر صعوبة المسالك المؤدّية إليه، لذلك فإنّ ابن باجة لا يكتفي بالحديث عن الغاية المطلوبة، وإنما يصبّ اهتمامه أيضا على السبل الموصلة إليها. ومنذ البداية يهتمّ المؤلف بتحليل لفظ التدبير، مبيّنا أنه يدلّ على مجموعة من الأعمال التي تروم تحقيق مقصد محدد، فالتدبير لا يدلّ على عمل مفرد وإنما على تشابك جملة من الأعمال ووقوعها وفق نسق محدّد، يؤدّي في نهاية المطاف إلى بلوغ الهدف المرسوم، فالتدبير دالّ على وضع استراتيجيا يتمّ التحرك وفقها، وهو ما يعني أنّ كلّ عمل منفرد ومعزول لا يمكن أن يدخل ضمن هذا التحديد، فالتدبير يعني شبكة كاملة من الأفعال التي يجري ترتيبها بحسب أهميتها، ويعود ابن باجة إلى لسان العرب للوقوف على معنى لفظ التدبير، مبيّنا أن أشهر دلالة له تتمثل في "ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، ولذلك لا يطلقونها على من فعل فعلا واحدا يقصد به غاية ما، فإنّ من اعتقد في ذلك الفعل أنه واحد لم يطلق عليه التدبير، وأما من اعتقد فيه أنه كثير، وأخذه من حيث هو ذو ترتيب سمّي ذلك الترتيب تدبيرا" ابن باجة، تدبير المتوحد، ضمن رسائل ابن باجة الإلهية، تحقيق وتقديم ماجد فخري، دار النهار للنشر، بيروت لبنان 1968، ص 37.
ولفظ التدبير يمكن أن تكون له دلالة القوة أو دلالة الفعل، ودلالة القوة هي الأكثر انتشارا، فترتيب المسائل التي هي بالقوّة يتمّ عن طريق الفكر، لذلك فإنّ الإنسان يختص به وحده دون بقية الكائنات، يقول ابن باجة " ولفظة التدبير دلالتها على ما بالقوّة أكثر وأشهر، وبين أن الترتيب إذا كان في أمور بالقوة فإنّما يكون ذلك بالفكرة، فإنّ هذا مختص بالفكر ولا يمكن أن يوجد إلا منه، ولذلك لا يمكن أن يوجد إلا للإنسان فقط". ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 37.
والتدبير أنواع، فهناك تدبير الله للعالم، وهو التدبير المطلق، وتدبير المدن الذي تناوله أفلاطون في كتبه السياسية، كما نجد نوعا ثالثا وهو تدبير المنزل، ونوعا رابعا هو تدبير المتوحد مدار اهتمام المعالجة الفلسفية الباجية الواردة في الكتاب المذكور، فغرض ابن باجة إنما هو " بيان كيف يتدبر هذا الإنسان المتوحد حتّى ينال أفضل وجوداته فيحقق السعادة لنفسه" ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 37.
والتدبير يعنى حضور العقل فهو الذي يتدبر الأعمال و ينظمها ويرتبها، محيلا الى شبكة من الأعمال المتآلفة والمنسجمة فيما بينها، لتحقيق غرض معين. والمجال السياسي الأخلاقي هو الأرضية المثلى التي يتحرك فيها، لذلك نجد كتاب تدبير المتوحد مسكونا بهذا الهاجس، وابن باجة لا يخفي أنه يتحدث تحديدا عن التدبير السياسي، فتدبير المدن إنما يعني تنظيم حياة الناس الاجتماعية والسياسية وفق معايير مضبوطة، يمثل العقل القاعدة التي تستند إليها.
وابن باجة وهو يعرض لهذه القضايا من وجهة نظر عقلية واقع تحت وطأة الوضع الاجتماعي السياسي المحيط به، فقد تفشت الأمراض الاجتماعية والسياسية بمنوعاتها المختلفة، وزاد الغزو الذي أطبق على مدينة سرقسطة الأمر سوءا، وفي مثل وضع كهذا لا بدّ للفلسفة أن تطلق صوتها منبهة للمخاطر المحدقة، موقظة النائمين من نومهم الذي طال كثيرا، فهو يروم تحقيق إصلاح اجتماعي وسياسي، معتمدا في ذلك العقل، مستشرفا آفاقا ممكنة لتأسيس المدينة الكاملة الفاضلة.
وعلى هذا النحو، فإنّ السند الذي ترتكز عليه المدينة الفاضلة، وتستمدّ منه شرعية وجودها هو العقل، فأهل المدينة الفاضلة يبلغون السعادة بواسطة محدّدة هي النظر العقليّ الدقيق، ممّا يعني تعقّل مختلف الأمور وتوضحها. وهذا التعقّل هو الذي يجعل المرء عالما بما يجوز وما لا يجوز، و بالتالي يتسنّى له تجنّب الوقوع في الأخطاء، وهذا من شأنه أن يؤلف أساسا يقوم عليه النظام السياسي الفاضل والطباع التي تتّسم بالصفاء، والأخلاق التي تتصف بالرفعة، بما يعنيه ذاك من تحقيق الارتباط بين السياسة والأخلاق.
ومهمة المتوحد ليست هيّنة، فبفعل انتشار الفساد في المدن فإنه يكون غريبا في بلده بعيدا عن أهله وأصدقائه، إنّه مثقف معزول ومنعزل في علاقته بالسائد، فالمدينة الجاهلة الناقصة غارقة في أزماتها، غير مدركة للهلاك المتربص بها، معرضة عن الفيلسوف ومتعلقة بأهداب المتصوفة والمتكلمين الجهلة، الأحياء منهم والأموات، إنّها ضحيّة تقدّس جلادها، متنكّرة لمن يطلب خلاصها، وتذكّرنا الصورة التي يرسمها ابن باجة للمتوحّد في غربته بصورة أخرى تطفح بالملامح ذاتها في الإشارات الإلهية للتوحيدي، فـ" الغريب من هو في غربته غريب… هو من إن رأيتَه لم تعرفه، وإن لم تره لم تستعرفه، الغريب من إن حضر كان غائباً، وإن غاب كان حاضراً، وأغرب الغرباء من صار غريباً في وطنه"، فمن حوله لا يدرك بيسر مراميه وأهدافه، فالناس واقعون تحت وطأة العادة تحركهم الرغبات والأهواء، في حين لا يخضع المتوحد لسلطة غير سلطة عقله، لذلك فإنه يسمو بفكره عن المدينة التي يعيش فيها، ويهاجر عقليا إلى مدينة أخرى متصورة، تكون بديلا عنها، وفي قطيعة كلية مع شرورها ومساوئها، فالعقل حصن يأوي الفيلسوف إليه، والمدينة الكاملة طوبى جميلة تراوده، إنّها مدينة منشودة، إذا ما قيّض لها التأسيس ستكون خالية من الكذب والزيف والشرّ وكلّ ما يفقد الإنسان إنسانيته، فتلك هي السمات الدالة عليها، إذ "بيّن أن المدينة الفاضلة الكاملة قد أعطي فيها كل إنسان أفضل ما هو معد نحوه، وأنّ آراءها كلها صادقة، وأنه لا رأي كاذب فيها، وأنّ أعمالها هي الفاضلة بالاطلاق وحدها، وأن كل عمل غيره فإن كان فاضلا فبالإضافة إلى فساد موجود" ابن باجة، تدبير المتوحد، ص 41. وعند حصول ذلك التأسيس تكون عزلة الفيلسوف قد انتفت لكي تخلي المجال أمام انصهاره بين الفضلاء والعقلاء أمثاله.
ويبدو واضحا هنا أنّ ابن باجة يوجّه نقدا لاذعا للحياة الاجتماعية السياسية السائدة في عصره، أي إننا أمام معالجة نقدية لنمط مجتمعيّ نتج عنه ظهور إنسان تخلو سلوكاته الأخلاقية من الفضيلة، وتفتقر أفكاره إلى الحكمة، تعطل العقل لديه فأضحي عدوا لذاته قبل أن يكون عدوا للآخرين.
والمسألة السياسية في رأي ابن باجة هي في جوهرها مسألة اجتماعية أخلاقية، ولحلها يجب الاعتناء بالأسرة والفرد، لذلك يركز اهتمامه على المنزل (الأسرة)، فمثلما هناك مدينة كاملة وأخرى ناقصة هناك منزل كامل وآخر ناقص ومريض، فـ "المنازل ما عدا المنزل الفاضل مرضي وكلها منحرفة" ابن باجة، تدبير المتوحد،، ص 40.
والدور الذي يعطيه للعقل يكشف عن الفعالية التي تمارسها الأفكار بالنسبة إليه في تنظيم شؤون الناس، فالفلسفة بما هي فعل عقلانيّ يمكن أن تقود إلى السعادة والكمال، وبالتالي بناء المدينة الكاملة وضمان وحدتها، أما الإيمانية الدينية سواء اتخذت شكل الكلام أو التصوف فإنها لا تؤدّي لغير بقاء المدن على فسادها، لافتقارها إلى البرهنة العقلية وارتكازها على الخطابة والجدل، فمجال حركتها على مستوى النظر إعادة إنتاج النصوص القدسية دون إضافة تذكر، أما على مستوى العمل فإنها تبذر الفرقة والتباغض بين الناس، مما يؤدي إلى انقسام المدينة على نفسها في شكل ملل ومذاهب وطوائف متناحرة.
والقيمة الكبرى التي يمنحها ابن باجة للفعل الإنساني المستند إلى العقل والتعقل، تجعله يسمو بهذا الفعل إلى مستوي الفعل الإلهي، وهذا هو الفعل الذي يختص به المتوحد، إذ التفلسف كما قال سقراط هو التشبّه بالآلهة قدر المستطاع، فالنفس العاقلة هي التي يجب الانقياد إليها أمّا النفس الحيوانية فإنّ الانقياد إليها يعني الوقوع تحت وطأة الشهوات، وذلك يؤدّي إلى الضلال، فالإنسان الذي يترك العقل جانبا، ويتبع شهواته يعدّ الحيوان أفضل منه، إذ الحيوان يطيع طبيعته الخاصة، بينما يتنكّر ذلك الإنسان إلى طبيعته الخصوصية من حيث هو كائن عاقل، ويتبع الطبيعة الحيوانية، فلا يكون العقل لديه سبيلا إلى الخير والفضيلة وإنما طريقا إلى الشرّ والرذيلة.
وإذا كان ذلك هو حال عامة الناس في المدن الفاسدة بمن فيهم أصحاب السلطة النقلية الإيمانية، فإنّ المتوحد/الفيلسوف يمثل استثناء، فهو يستعمل عقله لكي يصل إلى الكمال والفضيلة، لذلك فإنّ المدن الناقصة تحتاج إلى المتوحد الذي به يتم تجديدها، أي إنّ المدينة الناقصة تجد في المتوحد وسيلة لدرء مساوئها، وبالتالي إعادة بنائها على أسس جديدة، فهو يتحمل مسؤولية خطيرة تتمثل في الحث على تحطيم المدينة الناقصة، وإقامة المدينة الكاملة محلها، فالمتوحد أو كما يسميه ابن باجة "النابت"هو شخص عاقل فاضل في مدينة جاهلة فاسدة، ومن هنا بالذات جاء تفرده.
ومن ثمة فإنّ مشروع المتوحد مشروع تجديديّ في جوهره، يجد في العقل سلاحا يشهره ضدّ الشرّ والفساد في الحقلين السياسي والأخلاقي. فالمتوحد رافض لما هو سائد متمرّد على المعايير السياسية والاجتماعية والأخلاقية والمؤسسات التي ترتكز عليها، ووجوده داخل المدينة الناقصة إنّما يمثل جنين المدينة الكاملة التي يجب أن تتأسس، وأفعاله وأفكاره بواكير لما سوف يأتي من نظم اجتماعية وسياسية وأخلاقية بديلة.