تصدير:
يقولون الثورات المستقبلية سيسبّبها الكَبْتُ، ص 86.
تقول كاترين لحظة اشتعال الشهوة جامعة في تعبير واحد بين المتعالي والدنيوي، بين المقدس والمدنس:
هذا هو الوحي الحقيقي الذي يأتي من أعماقنا. ص 86.
أردت تصدير القراءة بهذين المقتطفين للحديث عن الجنس والاحتفال بمباهج الجسد، وللإشارة إلى مساحة حضورهما في العمل الروائي كنوع من مقاومة الموت.
**
رواية هشام ناجح تحتفل بالجسد السفلي، وتعطيه سموا يضاد الأماكن العليا التي تقتل الرغبات، فهنا جسد سفلي شهواني يقابل جسدا علويا بمثابة عنصر صاد ومانع. وللتغلب على ثقل أجواء تلك الموانع يستعين بجسده السفلي للتغلب عليها وخلق صورة منحطة في مقابل صورة متعالية؛ فحضور المتانة والرغبة في التبول عنصران سفليان يواجهان سمو المكان الذي يشعر الذات المتكلمة بالضيق، ولعل ربطات العنق وبقية الأكسسوارات تشير إلى بعد الزيف الذي يخفي الرغبات أو يقتلها، ومن هنا تلك الرغبة في التبول كنوع من رد فعل الساعي إلى التحقير كهدف.
الجسد السفلي يمتلك سطوته وحضوره القوي، وهو عنصر إثارة، ومن هنا تلك اليد التي تنحدر إلى أسفل مونيكا حيث العجيزة المثيرة؛ مونيكا هي الطبيبة النفسية لحمامو.
وفي مكان البريستيج يقف السارد أمام كهل شهواني فيصفه جسديا بشكل مثير، وفاضح وصادم للأخلاق المثالية، فالرجل مثلي وقد أثار رغبات السارد الدفينة لكنه لم يسترسل في استيهامته لأنه أثناء البحث عن ورق يعصم ماءه وجد رسالة من أمه وكأن حضور الأم يمثل مانعا، رغم الصورة الساخرة التي قدمها عن أخيه وعن مؤخرته هو نفسه أيام فقره بالدوار وهي تلعق من طرف الجراء.
ويتابع السارد احتفاءه بالجسد الذكوري والأنثوي معا، ويخصص فقرة ترتبط بعشقه لروائح جسد مونيكا معبرا عن انجذابه لها بفعل روائحها. بل إنه يستمد العون من رائحة إبطه؛ فروائح الجسد الطبيعية مهيجة.
ويأتي الرقص تتويجا للرغبات وتهييجها، بما أن الرقص لغة جسدية معبرة عن الشبق غالبا.
تندفع مونيكا في الارتقاء برغبتها الجنسية إلى حدود لا معقولة حيث تمارس فعل الإشباع مع حمامو فوق ملفات المرضى بمكتبها الذي تراه المكان الأكثر إثارة لغريزة الحب.
المزج بين الحقيقة والخيال، بين الإلهي والإنساني، مع مراهنة على الخيال وتحجيم الحقيقة لأنها مخيفة وباعثة على سفك الأحلام.
يتابع السارد خلق مفارقة بين الجسد العلوي والجسد السفلي لكن هذه المرة بنوع من الخجل بفعل شذوذ الجوارب، فحين جلس بالحديقة العمومية ارتبك وهو يلاحظ طرفه السفلي الموشوم بالاختلال مما أشعره بالخجل، وما ولادة هذا الشعور إلا نتيجة المقارنة بين النصف العلوي لتمثال الفنان، والسفلي للذات المتكلمة.
ويقيم تعارضا بين الجسد في عنفوانه وبينه في شيخوخته. كما يتم رسم الجسد بكل وقاحته العارية حين يرسم صورة للهولندي مركزا على الجانب الأسفل لديه، الكرش والمؤخرة، أي التركيز على مكاني الامتلاء والإفراغ. مع تركيز على الرجلين كمنتهى سفر العين الواصفة.
والتركيز على الجسد السفلي في لحظة الإخراج نجده في التمثال وهو في لحظة تغوط ص36.
كما يتم رصد عشق حمامو للصدر والمؤخرة في ص 38.
أما التركيز على الجمع بين المقدس والمدنس فنجده واضحا في هذا المقتطف المعبر:
المغنّية تدعو أباً كاثوليكياً إلى إنهاء عطشها من مائه الدافق، ترغب في رحمته التي يتأبّطها
بين فخذيه، حينها تعالى قرع أجراس الكنائس المبثوثة بنغمة صارمة، تدفع
الأب إلى تقديم مبرّراته بصوت قريب إلى التوسّل، وبرغبته في ذلك، فثمّة
قيود تمنعه، تُرّ المغنية بصوت فيه وحوحات وإغراءات لذيذة، يرفل
الأب في حيرته البالغة بن جذب الجنّة وجحيم النار، وأخيرا انجذب لنداء
الرحمة.
إن الشهوات في نظر النصرانية دنس بكل أنواعها من نساء وزواج وطعام وشراب . لذا، نجد الأب، في هذا المقتطف، حائرا بين تلبية الرغبة الدنيوية والشهوانية الممثلة في المغنية، وبين الاستجابة للنداء العلوي والمقدس، وبعد حين سينجذب للمقدس طاردا المدنس من مجال رغباته، ملجما شهوته عبر التسامي. لقد خرج من إغراء النار، إلى إغراء الجنة، بعدم تكرار قصة آدم. لقد رفض نداء المرأة وغوايتها.
كما يرسم السارد مشهدا جنسيا يجمع بين عشق الجسد السفلي ورائحته وبين اللذة في صبغتها الحيوانية حيث الجمال والقبح في تركيبة واحدة:
تخرج مونيكا بعينن متورّمتن، تقصد التواليت، بدت
مغرية في لباس وردي خفيف، يكشف جوانب ثدييها، ينهدل حدّ سرّتها،
تبدو جذّابة من الأسفل أكثر. بياض يُغري باللَّحْس والعَضّ والبوس،
كا تقول المالكية. قبّلتْني قبلة سريعة، أسمع غرغرة بولها كمقاة زيت
تستقبل سرديناً. أسبقها إلى الفراش بعد أن تخلّصتُ من كل ملابي،
فقد سفت ريح أقراص دواء سروبليكس التلعثم إلى وجهات بعيدة،
أضحيتُ أعبّ عن أفكاري بدون مركب نقص منذ اليوم الأوّل. سيروبليكس
يقوّي من هرمون السعادة، أقصد السروتونين؛ قرص واحد عقب وجبة
الفطور كاف لترتيب الأفكار عى الوجه الأصحّ.
أدخلتْ يدها في شعري، تمسّده في نعومة، ويدها الأخرى تلاطف
شعيرات صدري. أضع رأسي على كتفها، وأشرع في تحريك أنفي للوقوف عند الرائحة البشرية المستفزّة. طالت العملية، وغرقنا في جحيم من
عَرَق الشهوة، وأنفاسنا المتلاحقة تمأ الدنيا. تخلّصنا من الغطاء بعد
ارتفاع درجة حرارتنا، تشابكت أرجلنا. لزوجة مقرفة بن الفخذَيْن وروائح
اللذّة تشبه بقايا بيض في اليد أو رائحة الكلور.
تعقب النشوة أخذ دوش يشعر حمامو بالسعادة التي تكسرها سطوة الموت. وأخذ دوش بعد الجنس هو تطهر وتطهير، هو إزالة المدنس لتنتعش الروح والجسد وتسمو بقداسة.
لكن المثير للغرابة أن يلصق القحب بالمرأة من المهد إلى اللحد سائقا قصة البلغارية الطاعنة في الزمن والتي لفظت أنفاسها من شدة الركوب الذي أرهق قلبها الضعيف.
في ص 27 و28 حديث عن القبل والفرق بين قبلة الحب وقبلة الشهوة. كما أن القبل في فرنسا لا يعاقب عليها؛ إنها مباحة ومعبرة في الآن ذاته. القبلة مدخل، أو عتبة بين الابتعاد أو الإقبال، قد تقود إلى النفور أو الاحترام أو التقدير، فتبعد الجسدين من الالتحام، وقد تكون حميمية وحارة ومعبرة عن تجاوز العتبة إلى السرير، حيث لغة الجسد في لحظة التحامه بجسد الآخر لبلوغ النشوة الجامعة بين الكيانين في ذات واحدة.
الجسد الأنثوي غير الملائكي:
مونيكا تخرج من
التواليت، يتولّد حينها أن المرأة تتبوّل وتتغوّط هي الأخرى، تفقد ملائكيّتها
في التصوّر العام، خاصة عندما تداهمنا رائحة الصابون عقب عمليات
الإفراغ. ص 130.
إن الصورة المرسومة للجسد في لحظة قيامه بوظائفه لا ينزع عنه جماله والانجذاب إليه، بل يقدم فعله على أنه ضرورة من ضروريات استمراريته، فتلك الوظائف تعزز قوته وتبرز انتماءه إلى الأرض أو لنقل إلى الجانب السفلي المثير للغرائز. إنه جسد إنساني غير مؤله، وغير علوي، جسد بشري يحمل جماله وقبحه في تركيبة واحدة لا تخلق النفور بل تؤكد الانجذاب.
وكما انه يملأ نفسه بمختلف الأطعمة والأشربة، فإنه يقوم بإفراغها، مشيرا بذلك إلى أن حياته مرتبطة بكل ما هو مادي، ويخضع لجدلية الملء والإفراغ. وليس غريبا أن يكون السائل الذكري عنصرا في بناء الحياة واستمراريتها، كما أن البول فعل إفراغ يمكن أن ينتقم به المرء من بلادة الحياة المكتنزة بالتقوى.
سيخصص حمامو الفصل السادس لأمه السعدية. وسيكون السرد بلسانها في ما يندرج ضمن تعدد الأصوات، وكسر احتكار السرد من طرف واحد؛ إنها ديمقراطية الحكي وتنويع وجهات النظر.
وقد تم تصدير فصلها بجملة من المحكي الشعبي ذات دلالة، وهي: عيب البحيرة تفتاشها.
تسرد تركيز انتباهها على عضو الذكور وهي ما زالت طفلة وتسعى إلى تقليد تبولهم واقفين فلا تفلح إلى أن يداهمها دم الحيض لتدرك أنوثتتها ويتفتح قلبها على حب ولد حمادي أزرق العينين. لكنها ستتزوج مبارك الذي كان يعرف مكامن الشهوة فيها فيحركها باقتدار وتمرس.
لكنها وهي تتحدث عن المتعة التي تشعر بها صحبة زوجها تتحدث في الآن ذاته عن ثمرة هذا الحب وهو حمامو العاق الذي هاجر إلى فرنسا وترك أمه تغوص في فقرها وتسعى إلى رده إليها بسبل عقلانية رغم لا تاريخيتها لأنها ستكتب لملك فرنسا الجمهورية وغير عقلانية باعتماد السحر. وما لباسها إلا علامة من علامات الفقر بألوانه الصاخبة.
وهو حديث يجمع بين اللذة والألم في الوقت نفسه، وكأن اللذة لا يمكن أن تنفصل عن الألم، فهما صنوان لا ينفصلان.
حتى الأم أنجبت حمامو في لحظة نشوة جنسية بالغة اللذة لتكون الثمرة عاقة، وبهذا يتم الجمع بين المدنس والمقدس، فالجنس من أجل الإنجاب مقدس، لكن العقوق عنصر مدنس.
لكن، هل يمكن تحقيق القطيعة كما صاغها حمامو؟ هل يمكن أن تكون نهائية أم أنها ليست سوى رغبة لا يمكنها التحقق في ظل الامتداد؟ هل برفع الإصبع الوسطى يتم التخلص من كل الموروث، وفي وجه من؟ وهل يمكن التحلل من كل التزام؟
مممم.. لا أبالي، قد قطعتُ صلتي بالوعيد منذ أن غَرّبتُ في رحلتي،
لحسن الحظّ أنني لم أشرّق، تخلّصتُ من الالتزام المقيت المنسكب من
تجذّر اجتماعي مَبني عى الخوف من كل شيء. سرتُ أنأى بمخّي بعيداً
عن الموروث الممتدّ بمواضعات وأحكام، تجرف البشر إلى البحيرة الراكدة
بتعفّنات الوطن الذي أتلف كل شيء، وجززتُ نزوة الحماسة النابتة في
أحشاء الوعي لخدمة صرورة الأجندة أو الأنساق الجاهزة، أحياناً أشرب
البرة، وأزعق فرحاً با حدود. أسبّ الوطن وأبناء الوطن، واليوم الأوّل
الذي تعلّمنا فيه الحرف الأوّل، وبعدها أشرع في البكاء عن غر قصد.
علاقة حمامو بأمه:
في الحديث عن رغبة حمامو في القطع مع أمه، هل تمكن من ذلك وهو يقيم علاقات جنسية مع نساء ناضجات؟
يبدو أنها أخذت حقّها من الشمس،
واكتست بلون عسي. تؤكّد مونيكا أن النقص في حنان الأم يولّد ميولات
اتجاه النساء أكر منا بكثر، فاحتضانهنّ لنا يلبّي رغبة دفينة بتعويض
هذا النقص، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث دائماً عن هذه الشريحة من
النساء.
مؤخّراً تسرّب إليّ فتور، إلى حدّ أن الانتصاب أصبح عملية مقرفة، يحتاج إلى مداعبة أطول بتلك العضعضات الأليفة بشكلها العمودي
والأفقي لتنبعث تلك "أوم" المقدّسة من الأعاق، فهي غالبا مفتعلة
كإشارة عى العَظَمَة المنهزمة، التي تبحث عنها مونيكا. ص100 و101.
هل المسافة بين حمامو وأمه كبيرة بسبب ذلك الوشم في وجهها والذي يقربها من الجنية المخيفة، لذا سعى إلى البحث عن أم بديلة من مثل هنية الجارة خالية الوجه من تلك العلامة المفزعة؟
أفتح عينيّ صوب الشمس العمودية، فترادف الصور النورانية لأمّي
هنية بشقّتها البيضاء المخلّلة بنطاق أخضر على الحواف كأولئك العذارى
اللواتي وهبنَ أنفسهنّ لله، مطهّرات الجسد والروح. ص 107.
أم كان بسبب فرجها المخيف حين نظر إليه وهو طفل صغير؟
كنتُ أرى والدتي أو الجنّية بعد خروجها من الحماّم تسرق
المسافات من موضع الاغتسال إلى الغرفة الكبيرة غر مبالية بغزو عينيّ
لذاك الشيء الغريب المنطوي على أسرار، مضاعفاً مساحة الأسئلة:
كيف يخرج هذا العالم من تلك الكوّة الشبيهة بقنفذ متكوّم على
نفسه، وتستمرّ هذه المسرحية المسماّة الحياة؟! ص 108.
يأتي الفصل الأخير معبرا عن تصالح حمامو مع أمه ومع نفسه في الأن نفسه؛ فمع أمه لأنه مدها بالمال المطلوب والذي بحسبها قد حرر أباه من ضيقه وهو في قبره، أما مع ذاته فمن خلال هذا المقتطف الذي يقول فيه:
إيماني الخاص بالفعل الإنساني العفوي الذي نستمدّ منه وجودنا، ترياق الديمومة، حتّى نتمفصل
ونتنصّل من ثقل الدوّامة القسرية.. ص 197.
يقدم لنا السارد حمامو فلسفته القائمة على حب الإنسان والحياة بعيدا عن كل انتماء ضيق، مستشهدا في ذلك بقصيدة كريشنا مورثي التي تنتهي بجملة: أنا الحياة.
هكذا، يأتي الفصل المعنون ب: ما فضل من حديث الوجه المائل، ليقدم لنا فلسفة حمامو واختياره المعبر عن انسجامه مع ذاته بعد رحلة شاقة وشيقة من العذاب والمتعة.
وقد كان لهذا التحول مقدمات سهلت ما مورية اكتشاف خلاصه المطلوب المختلف عن خلاص صديقه سي محمد، بل يباينه رغم أنه صورة أخرى له، أو الصورة النقيض له.
كان الكل يفضّل باريس للإحاطة الكاملة بطبائع التمدّن والإسراف في تبنّي
أسس التحرّر. الجنوب يرتبط بالبداوة والسذاجة ومواضعات التهريج، فيمور
في أنفسنا فردوس مُدُن الشمال حتّى نُعطي لأنفسنا والمكان عَظَمَتَه
الغامضة. ص 12.
ثم بفضل الشعور الإنساني الذي انتابه:
كان القدر قد تحالف مع الرغبات، فانقشعت
شمس، تحسّ بها مقرورة، لكنها فرصة لانسيابات متدفّقة من أحاسيس
جميلة، لا تترك لنا مجالاً للتفكر في القتل أو الانتقام أو الغدر، نحسّ أننا
كلنا إخوة بشروط الفعل الإنساني الظاهرة على الملامح وعلى حُرّيّة الحركة،
يبدو أن الملائكة طارت من لوحة دي يبرا، من لوحة حلم يعقوب، لتحقّق
أحلام البر داخل اللوحة الكرى التي تُسمّى مدريد. ص 172.
لقد تصالح السارد/حمامو مع ذاته بعد أن تخلص من جديث الوجوه المائلة، أي بعد الانتهاء من كتابة الرواية، بمعنى، أن الكتابة كانت خلاصه وحريته في الآن ذاته، لقد تطهر من كل الشوائب ليعانق ذاته الحرة باختيارها الحر:
القارورات تطفو عى مويجات نهر لادور في هذيان شاعريّ جميل،
متخلّصة إلى الأبد من حديث الوجوه المائلة. ص 198.
تعد القارورات بمثابة رسائل موجه إلى جهة غير محددة، إلى جميع القارات، مما يفيد تشتت الذات، لا بمعنى تشظيها بل بمعنى تعددها، حيث بلوغ كل قارورة لقارة هو بمثابة جمع لها وتوحيد لشتاتها، وتوحيد لتباعدها، إن حمامو سيصير وفق هذا الطرح بمثابة الكرة الأرضية التي تحتوي كل قاراتها.
ختاما، لقدم انتصر السارد للجسد الدنيوي أو المدنس في انفتاحه على بعده الإنساني. فلا يمكن أن تستقيم الحياة بنبذ شهواته، أو تحجيمه أو تغييبه، ذلك أن أي فعل يسعى إلى ضبطه سيقود إلى قتله وبالتالي قتل الحرية التي ينشدها.
يقولون الثورات المستقبلية سيسبّبها الكَبْتُ، ص 86.
تقول كاترين لحظة اشتعال الشهوة جامعة في تعبير واحد بين المتعالي والدنيوي، بين المقدس والمدنس:
هذا هو الوحي الحقيقي الذي يأتي من أعماقنا. ص 86.
أردت تصدير القراءة بهذين المقتطفين للحديث عن الجنس والاحتفال بمباهج الجسد، وللإشارة إلى مساحة حضورهما في العمل الروائي كنوع من مقاومة الموت.
**
رواية هشام ناجح تحتفل بالجسد السفلي، وتعطيه سموا يضاد الأماكن العليا التي تقتل الرغبات، فهنا جسد سفلي شهواني يقابل جسدا علويا بمثابة عنصر صاد ومانع. وللتغلب على ثقل أجواء تلك الموانع يستعين بجسده السفلي للتغلب عليها وخلق صورة منحطة في مقابل صورة متعالية؛ فحضور المتانة والرغبة في التبول عنصران سفليان يواجهان سمو المكان الذي يشعر الذات المتكلمة بالضيق، ولعل ربطات العنق وبقية الأكسسوارات تشير إلى بعد الزيف الذي يخفي الرغبات أو يقتلها، ومن هنا تلك الرغبة في التبول كنوع من رد فعل الساعي إلى التحقير كهدف.
الجسد السفلي يمتلك سطوته وحضوره القوي، وهو عنصر إثارة، ومن هنا تلك اليد التي تنحدر إلى أسفل مونيكا حيث العجيزة المثيرة؛ مونيكا هي الطبيبة النفسية لحمامو.
وفي مكان البريستيج يقف السارد أمام كهل شهواني فيصفه جسديا بشكل مثير، وفاضح وصادم للأخلاق المثالية، فالرجل مثلي وقد أثار رغبات السارد الدفينة لكنه لم يسترسل في استيهامته لأنه أثناء البحث عن ورق يعصم ماءه وجد رسالة من أمه وكأن حضور الأم يمثل مانعا، رغم الصورة الساخرة التي قدمها عن أخيه وعن مؤخرته هو نفسه أيام فقره بالدوار وهي تلعق من طرف الجراء.
ويتابع السارد احتفاءه بالجسد الذكوري والأنثوي معا، ويخصص فقرة ترتبط بعشقه لروائح جسد مونيكا معبرا عن انجذابه لها بفعل روائحها. بل إنه يستمد العون من رائحة إبطه؛ فروائح الجسد الطبيعية مهيجة.
ويأتي الرقص تتويجا للرغبات وتهييجها، بما أن الرقص لغة جسدية معبرة عن الشبق غالبا.
تندفع مونيكا في الارتقاء برغبتها الجنسية إلى حدود لا معقولة حيث تمارس فعل الإشباع مع حمامو فوق ملفات المرضى بمكتبها الذي تراه المكان الأكثر إثارة لغريزة الحب.
المزج بين الحقيقة والخيال، بين الإلهي والإنساني، مع مراهنة على الخيال وتحجيم الحقيقة لأنها مخيفة وباعثة على سفك الأحلام.
يتابع السارد خلق مفارقة بين الجسد العلوي والجسد السفلي لكن هذه المرة بنوع من الخجل بفعل شذوذ الجوارب، فحين جلس بالحديقة العمومية ارتبك وهو يلاحظ طرفه السفلي الموشوم بالاختلال مما أشعره بالخجل، وما ولادة هذا الشعور إلا نتيجة المقارنة بين النصف العلوي لتمثال الفنان، والسفلي للذات المتكلمة.
ويقيم تعارضا بين الجسد في عنفوانه وبينه في شيخوخته. كما يتم رسم الجسد بكل وقاحته العارية حين يرسم صورة للهولندي مركزا على الجانب الأسفل لديه، الكرش والمؤخرة، أي التركيز على مكاني الامتلاء والإفراغ. مع تركيز على الرجلين كمنتهى سفر العين الواصفة.
والتركيز على الجسد السفلي في لحظة الإخراج نجده في التمثال وهو في لحظة تغوط ص36.
كما يتم رصد عشق حمامو للصدر والمؤخرة في ص 38.
أما التركيز على الجمع بين المقدس والمدنس فنجده واضحا في هذا المقتطف المعبر:
المغنّية تدعو أباً كاثوليكياً إلى إنهاء عطشها من مائه الدافق، ترغب في رحمته التي يتأبّطها
بين فخذيه، حينها تعالى قرع أجراس الكنائس المبثوثة بنغمة صارمة، تدفع
الأب إلى تقديم مبرّراته بصوت قريب إلى التوسّل، وبرغبته في ذلك، فثمّة
قيود تمنعه، تُرّ المغنية بصوت فيه وحوحات وإغراءات لذيذة، يرفل
الأب في حيرته البالغة بن جذب الجنّة وجحيم النار، وأخيرا انجذب لنداء
الرحمة.
إن الشهوات في نظر النصرانية دنس بكل أنواعها من نساء وزواج وطعام وشراب . لذا، نجد الأب، في هذا المقتطف، حائرا بين تلبية الرغبة الدنيوية والشهوانية الممثلة في المغنية، وبين الاستجابة للنداء العلوي والمقدس، وبعد حين سينجذب للمقدس طاردا المدنس من مجال رغباته، ملجما شهوته عبر التسامي. لقد خرج من إغراء النار، إلى إغراء الجنة، بعدم تكرار قصة آدم. لقد رفض نداء المرأة وغوايتها.
كما يرسم السارد مشهدا جنسيا يجمع بين عشق الجسد السفلي ورائحته وبين اللذة في صبغتها الحيوانية حيث الجمال والقبح في تركيبة واحدة:
تخرج مونيكا بعينن متورّمتن، تقصد التواليت، بدت
مغرية في لباس وردي خفيف، يكشف جوانب ثدييها، ينهدل حدّ سرّتها،
تبدو جذّابة من الأسفل أكثر. بياض يُغري باللَّحْس والعَضّ والبوس،
كا تقول المالكية. قبّلتْني قبلة سريعة، أسمع غرغرة بولها كمقاة زيت
تستقبل سرديناً. أسبقها إلى الفراش بعد أن تخلّصتُ من كل ملابي،
فقد سفت ريح أقراص دواء سروبليكس التلعثم إلى وجهات بعيدة،
أضحيتُ أعبّ عن أفكاري بدون مركب نقص منذ اليوم الأوّل. سيروبليكس
يقوّي من هرمون السعادة، أقصد السروتونين؛ قرص واحد عقب وجبة
الفطور كاف لترتيب الأفكار عى الوجه الأصحّ.
أدخلتْ يدها في شعري، تمسّده في نعومة، ويدها الأخرى تلاطف
شعيرات صدري. أضع رأسي على كتفها، وأشرع في تحريك أنفي للوقوف عند الرائحة البشرية المستفزّة. طالت العملية، وغرقنا في جحيم من
عَرَق الشهوة، وأنفاسنا المتلاحقة تمأ الدنيا. تخلّصنا من الغطاء بعد
ارتفاع درجة حرارتنا، تشابكت أرجلنا. لزوجة مقرفة بن الفخذَيْن وروائح
اللذّة تشبه بقايا بيض في اليد أو رائحة الكلور.
تعقب النشوة أخذ دوش يشعر حمامو بالسعادة التي تكسرها سطوة الموت. وأخذ دوش بعد الجنس هو تطهر وتطهير، هو إزالة المدنس لتنتعش الروح والجسد وتسمو بقداسة.
لكن المثير للغرابة أن يلصق القحب بالمرأة من المهد إلى اللحد سائقا قصة البلغارية الطاعنة في الزمن والتي لفظت أنفاسها من شدة الركوب الذي أرهق قلبها الضعيف.
في ص 27 و28 حديث عن القبل والفرق بين قبلة الحب وقبلة الشهوة. كما أن القبل في فرنسا لا يعاقب عليها؛ إنها مباحة ومعبرة في الآن ذاته. القبلة مدخل، أو عتبة بين الابتعاد أو الإقبال، قد تقود إلى النفور أو الاحترام أو التقدير، فتبعد الجسدين من الالتحام، وقد تكون حميمية وحارة ومعبرة عن تجاوز العتبة إلى السرير، حيث لغة الجسد في لحظة التحامه بجسد الآخر لبلوغ النشوة الجامعة بين الكيانين في ذات واحدة.
الجسد الأنثوي غير الملائكي:
مونيكا تخرج من
التواليت، يتولّد حينها أن المرأة تتبوّل وتتغوّط هي الأخرى، تفقد ملائكيّتها
في التصوّر العام، خاصة عندما تداهمنا رائحة الصابون عقب عمليات
الإفراغ. ص 130.
إن الصورة المرسومة للجسد في لحظة قيامه بوظائفه لا ينزع عنه جماله والانجذاب إليه، بل يقدم فعله على أنه ضرورة من ضروريات استمراريته، فتلك الوظائف تعزز قوته وتبرز انتماءه إلى الأرض أو لنقل إلى الجانب السفلي المثير للغرائز. إنه جسد إنساني غير مؤله، وغير علوي، جسد بشري يحمل جماله وقبحه في تركيبة واحدة لا تخلق النفور بل تؤكد الانجذاب.
وكما انه يملأ نفسه بمختلف الأطعمة والأشربة، فإنه يقوم بإفراغها، مشيرا بذلك إلى أن حياته مرتبطة بكل ما هو مادي، ويخضع لجدلية الملء والإفراغ. وليس غريبا أن يكون السائل الذكري عنصرا في بناء الحياة واستمراريتها، كما أن البول فعل إفراغ يمكن أن ينتقم به المرء من بلادة الحياة المكتنزة بالتقوى.
سيخصص حمامو الفصل السادس لأمه السعدية. وسيكون السرد بلسانها في ما يندرج ضمن تعدد الأصوات، وكسر احتكار السرد من طرف واحد؛ إنها ديمقراطية الحكي وتنويع وجهات النظر.
وقد تم تصدير فصلها بجملة من المحكي الشعبي ذات دلالة، وهي: عيب البحيرة تفتاشها.
تسرد تركيز انتباهها على عضو الذكور وهي ما زالت طفلة وتسعى إلى تقليد تبولهم واقفين فلا تفلح إلى أن يداهمها دم الحيض لتدرك أنوثتتها ويتفتح قلبها على حب ولد حمادي أزرق العينين. لكنها ستتزوج مبارك الذي كان يعرف مكامن الشهوة فيها فيحركها باقتدار وتمرس.
لكنها وهي تتحدث عن المتعة التي تشعر بها صحبة زوجها تتحدث في الآن ذاته عن ثمرة هذا الحب وهو حمامو العاق الذي هاجر إلى فرنسا وترك أمه تغوص في فقرها وتسعى إلى رده إليها بسبل عقلانية رغم لا تاريخيتها لأنها ستكتب لملك فرنسا الجمهورية وغير عقلانية باعتماد السحر. وما لباسها إلا علامة من علامات الفقر بألوانه الصاخبة.
وهو حديث يجمع بين اللذة والألم في الوقت نفسه، وكأن اللذة لا يمكن أن تنفصل عن الألم، فهما صنوان لا ينفصلان.
حتى الأم أنجبت حمامو في لحظة نشوة جنسية بالغة اللذة لتكون الثمرة عاقة، وبهذا يتم الجمع بين المدنس والمقدس، فالجنس من أجل الإنجاب مقدس، لكن العقوق عنصر مدنس.
لكن، هل يمكن تحقيق القطيعة كما صاغها حمامو؟ هل يمكن أن تكون نهائية أم أنها ليست سوى رغبة لا يمكنها التحقق في ظل الامتداد؟ هل برفع الإصبع الوسطى يتم التخلص من كل الموروث، وفي وجه من؟ وهل يمكن التحلل من كل التزام؟
مممم.. لا أبالي، قد قطعتُ صلتي بالوعيد منذ أن غَرّبتُ في رحلتي،
لحسن الحظّ أنني لم أشرّق، تخلّصتُ من الالتزام المقيت المنسكب من
تجذّر اجتماعي مَبني عى الخوف من كل شيء. سرتُ أنأى بمخّي بعيداً
عن الموروث الممتدّ بمواضعات وأحكام، تجرف البشر إلى البحيرة الراكدة
بتعفّنات الوطن الذي أتلف كل شيء، وجززتُ نزوة الحماسة النابتة في
أحشاء الوعي لخدمة صرورة الأجندة أو الأنساق الجاهزة، أحياناً أشرب
البرة، وأزعق فرحاً با حدود. أسبّ الوطن وأبناء الوطن، واليوم الأوّل
الذي تعلّمنا فيه الحرف الأوّل، وبعدها أشرع في البكاء عن غر قصد.
علاقة حمامو بأمه:
في الحديث عن رغبة حمامو في القطع مع أمه، هل تمكن من ذلك وهو يقيم علاقات جنسية مع نساء ناضجات؟
يبدو أنها أخذت حقّها من الشمس،
واكتست بلون عسي. تؤكّد مونيكا أن النقص في حنان الأم يولّد ميولات
اتجاه النساء أكر منا بكثر، فاحتضانهنّ لنا يلبّي رغبة دفينة بتعويض
هذا النقص، الأمر الذي يدفعنا إلى البحث دائماً عن هذه الشريحة من
النساء.
مؤخّراً تسرّب إليّ فتور، إلى حدّ أن الانتصاب أصبح عملية مقرفة، يحتاج إلى مداعبة أطول بتلك العضعضات الأليفة بشكلها العمودي
والأفقي لتنبعث تلك "أوم" المقدّسة من الأعاق، فهي غالبا مفتعلة
كإشارة عى العَظَمَة المنهزمة، التي تبحث عنها مونيكا. ص100 و101.
هل المسافة بين حمامو وأمه كبيرة بسبب ذلك الوشم في وجهها والذي يقربها من الجنية المخيفة، لذا سعى إلى البحث عن أم بديلة من مثل هنية الجارة خالية الوجه من تلك العلامة المفزعة؟
أفتح عينيّ صوب الشمس العمودية، فترادف الصور النورانية لأمّي
هنية بشقّتها البيضاء المخلّلة بنطاق أخضر على الحواف كأولئك العذارى
اللواتي وهبنَ أنفسهنّ لله، مطهّرات الجسد والروح. ص 107.
أم كان بسبب فرجها المخيف حين نظر إليه وهو طفل صغير؟
كنتُ أرى والدتي أو الجنّية بعد خروجها من الحماّم تسرق
المسافات من موضع الاغتسال إلى الغرفة الكبيرة غر مبالية بغزو عينيّ
لذاك الشيء الغريب المنطوي على أسرار، مضاعفاً مساحة الأسئلة:
كيف يخرج هذا العالم من تلك الكوّة الشبيهة بقنفذ متكوّم على
نفسه، وتستمرّ هذه المسرحية المسماّة الحياة؟! ص 108.
يأتي الفصل الأخير معبرا عن تصالح حمامو مع أمه ومع نفسه في الأن نفسه؛ فمع أمه لأنه مدها بالمال المطلوب والذي بحسبها قد حرر أباه من ضيقه وهو في قبره، أما مع ذاته فمن خلال هذا المقتطف الذي يقول فيه:
إيماني الخاص بالفعل الإنساني العفوي الذي نستمدّ منه وجودنا، ترياق الديمومة، حتّى نتمفصل
ونتنصّل من ثقل الدوّامة القسرية.. ص 197.
يقدم لنا السارد حمامو فلسفته القائمة على حب الإنسان والحياة بعيدا عن كل انتماء ضيق، مستشهدا في ذلك بقصيدة كريشنا مورثي التي تنتهي بجملة: أنا الحياة.
هكذا، يأتي الفصل المعنون ب: ما فضل من حديث الوجه المائل، ليقدم لنا فلسفة حمامو واختياره المعبر عن انسجامه مع ذاته بعد رحلة شاقة وشيقة من العذاب والمتعة.
وقد كان لهذا التحول مقدمات سهلت ما مورية اكتشاف خلاصه المطلوب المختلف عن خلاص صديقه سي محمد، بل يباينه رغم أنه صورة أخرى له، أو الصورة النقيض له.
كان الكل يفضّل باريس للإحاطة الكاملة بطبائع التمدّن والإسراف في تبنّي
أسس التحرّر. الجنوب يرتبط بالبداوة والسذاجة ومواضعات التهريج، فيمور
في أنفسنا فردوس مُدُن الشمال حتّى نُعطي لأنفسنا والمكان عَظَمَتَه
الغامضة. ص 12.
ثم بفضل الشعور الإنساني الذي انتابه:
كان القدر قد تحالف مع الرغبات، فانقشعت
شمس، تحسّ بها مقرورة، لكنها فرصة لانسيابات متدفّقة من أحاسيس
جميلة، لا تترك لنا مجالاً للتفكر في القتل أو الانتقام أو الغدر، نحسّ أننا
كلنا إخوة بشروط الفعل الإنساني الظاهرة على الملامح وعلى حُرّيّة الحركة،
يبدو أن الملائكة طارت من لوحة دي يبرا، من لوحة حلم يعقوب، لتحقّق
أحلام البر داخل اللوحة الكرى التي تُسمّى مدريد. ص 172.
لقد تصالح السارد/حمامو مع ذاته بعد أن تخلص من جديث الوجوه المائلة، أي بعد الانتهاء من كتابة الرواية، بمعنى، أن الكتابة كانت خلاصه وحريته في الآن ذاته، لقد تطهر من كل الشوائب ليعانق ذاته الحرة باختيارها الحر:
القارورات تطفو عى مويجات نهر لادور في هذيان شاعريّ جميل،
متخلّصة إلى الأبد من حديث الوجوه المائلة. ص 198.
تعد القارورات بمثابة رسائل موجه إلى جهة غير محددة، إلى جميع القارات، مما يفيد تشتت الذات، لا بمعنى تشظيها بل بمعنى تعددها، حيث بلوغ كل قارورة لقارة هو بمثابة جمع لها وتوحيد لشتاتها، وتوحيد لتباعدها، إن حمامو سيصير وفق هذا الطرح بمثابة الكرة الأرضية التي تحتوي كل قاراتها.
ختاما، لقدم انتصر السارد للجسد الدنيوي أو المدنس في انفتاحه على بعده الإنساني. فلا يمكن أن تستقيم الحياة بنبذ شهواته، أو تحجيمه أو تغييبه، ذلك أن أي فعل يسعى إلى ضبطه سيقود إلى قتله وبالتالي قتل الحرية التي ينشدها.