"مئة وخمسة أيام مضت وأنا أقبع في مركز التحقيق والتعذيب (المسكوبية) في القدس ما بين غرف التحقيق والزنزانة رقم عشرة، مع كيل من التعذيب الجسدي والنفسي... لملمنا ما لدينا من أشياء بسيطة وقليلة على عجل، تم تفتيشنا بدقة، قيدونا ووضعوا العصابات على أعيننا، زجوا بنا إلى سيارة، ركلونا ركلًا للصعود، أجلسونا على مقاعد، أدركنا أنها حديدية باردة ضيقة، لا نستطيع وضع أكثر من نصف مقعدتنا عليها، سارت بنا زمنًا لا يقل عن الساعة، أعلمونا عن وصولنا، وأنزلونا من السيارة، فكوا القيود والعصابات، بمشقة استطعنا فتح العيون من شدة ضوء الشمس بعد العتمة المطبقة طوال الطريق، فركنا أعيننا جيدًا لنميز ما حولنا، مشينا في ممر يحيطه من الجانبين ورود وأشجار بألوان مختلفة، لم نفسح مجالًا للدهشة أن تحرمنا من تمتعنا بما رأينا منذ زمن طويل، لم نرَ النور وهذه المناظر الجميلة، وهذه الألوان.
انحصرت الرؤية على عتمة الزنازين وضيق الأمكنة، والممرات ذات اللون السكني القاتم، والتي يضيق بها الصدر وتطبق علة الأنفاس، وماهي إلا لحظات حتى دخلنا البوابة الرئيسية للمبنى. عادت الأنفاس تضيق بما يفصل الجنة التي مررنا بها منذ لحظات والجحيم الذي دخلناه. وجوه عابسة متجهمة، عيون تقدح بالشر والكراهية. تفتيش وحشي، خلع كل ملابسنا، تفتيش الملابس الداخلية، تحسس أجسادنا العارية، حتى الشعر كانوا يقومون بشده خصلة خصلة لئلا نكون قد خبئنا به شيئًا. تسلمنا السجانة بطانية وضع داخلها فستان أخضر وبنطال وبلوزة بنفس اللون دون السماح بقياس الملابس.
فلا يهم إن كانت واسعة أم ضيقة، وضعوا الملابس التي كنا نرتديها في مخزن الأمانات، اقتادونا إلى أقسام. هناك بدأت مرحلة جديدة، رحلة من نوع مختلف وأُصر على تسميتها "رحلة معاناة وقهر"، لأنها بدت لنا كذلك. كان لها مذاق آخر، وكان واضحًا منذ بدايتها، بأن هناك مخططًا مدروسًا منظمًا يتم تنفيذه ببطء يعمل على قتل الروح المعنوية، وطمس الهوية النضالية، فما يفشلون فيه بالتحقيق بحسب معتقداتهم يمكن الحصول عليه عبر ضغوطاتهم وتأثيرهم في الحياة اليومية للسجينة".
هذه الكتابة مقتبسة عن رواية "احترقت لتضيء" للأسيرة المحررة ناديا خياط، صادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية مؤخرًا، في عام 2021. استوقفتني الرواية، ليست فقط لأنها تُصنف على أنها أدب السجون، بل لأن كاتبتها امرأة، فلسطينية، أسيرة، عايشت تجربة الأسر لمدة طويلة، بعد أن حُكمت لمؤبد وعشرين عامًا، وخرجت في صفقة تبادل للأسرى، إلا أنها أُبعدت إلى الأردن لما يزيد عن عقد من الزمن.
لدي اهتمام لما تكتب المرأة الفلسطينية المناضلة، وتشدني تفاصيلها، بل ودوافعها للكتابة؛ لأن الكتابة ليست فعلًا عاديًا، بل إنها إرادة؛ جعبة من الذكريات وسردية ذاكرة معبئة، إحساس جواني، توثيق التجربة، فلا تكون ما كتبت ناديا رواية أدبية فقط، إنها اشتباك بين سيرة ذاتية محملة بالمشاعر، والعلاقات الذاتية والبينذاتية، الأسيرات، وتفاصيل المكان، وعلاقتها بجسدها، بل بأجسادهن. إنه فضاء مؤلم وزاخر؛ زنزانة، وبرش، وحمام متسخ وطعام رديء، وظلام. سريات محكية عن غرفة التحقيق، والانتقال "البوسطة"، هذا الانتقال بمحمولاته الثقيلة، بعصاب العينين، وجسد مربط بإحكام.
سير لمدة طويلة مجهولة، دوران في الزمن، وماذا تكون الأسيرة في شبح الزمن المظلم؟ وماذا تكون الأسيرة في ربقة هذا الزمان؛ ماضيها لا يمكن العودة إليه، والحاضر يتسرب من بين يديها إلى الماضي، والمستقبل مجهول ولا تعلم إن كان سيكون أصلًا... "الكتابة، المعرفة، معرفة حقيقتنا الشخصية، لا تتحقق إلا بالدخول في صراع جدلي مع إرادة قوة أخرى. قوة نقيضة مضادة، قوة مهيمنة على قوة مهيمن عليها. والصراع مع "جحيم الآخرين"، بوصفهم قوة مضادة، ربما أسهل من الصراع مع الذات أو مع رقباء الذات، فالأولون يمكن التعامل معهم بقليل من التخطيط والتكيف، وربما نحن نحتاجهم ونحتاج إلى ما تتيحه الحياة من مال وسقف وجدار لنوفر عزلة تحقيق الذات".
وفي أدب السجون أمثلة ممتلئة بتجارب "المحاربين"؛ وأذكر من ذلك مثالًا للأسير سامر محروم عن كتابه "دائرة الألم" الذي يتحدث عن الدائرة المغلقة لأسرى أمضوا أكثر من 25 عامًا داخل السجون، وعن تفاصيل حياتهم اليومية، ولهذا الكتاب قصة نضال تكاد تكون مستحيلة، إذ تناقل قصاصاتها داخل كبسولات دقيقة داخل أمعائهم حتى وصلت الضوء، وصارت مروية عنهم من خلال سامر المحروم.
"عندما تقرأ الكتاب تجد نفسك ما زلت أسيرًا في خيمة تتقاسم البيضة والصفعة أو الدمعة مع عشرة أشخاص أو أكثر. مازلت جثة تائهة أو خرقة أو بقايا عظام في مقبرة أو كمشة غبار تلاحقها الغيوم. ما زلت رقمًا للتعداد"، هذا من قاله محمد صفا، الأسير الكاتب، صاحب كتاب "مئة يوم في معتقل أنصار"، وفيه يوثق تجربة وحياة الأسرى السجون الإسرائيلية في عام 1982، مسار حياتهم، قصصهم، بطولاتهم عندما يعذبون ويصمدون، ويبقون!
والكتابة هنا لا تكتمل إلا فعلًا، ولم يكن نموذجا وحيدًا، فقد كتب الأسرى شعرًا ونثرًا، وأطروحات أكاديمية في مختلف أزمنة الأسر، ونُشرت أعمالهم في صحف ومجلات مثل؛ البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي، وعبير. بل أصدروا مجلات أدبية كتبوها بخط اليد؛ ومن هذه المجلات: "الملحق الأدبي" لمجلة "نفحة الثورة"، ومجلة "الصمود الأدبي" في معتقل عسقلان، ومجلة "الهدف الأدبي" في معتقل عسقلان التي صدرت عام 1981، ومجلة "إبداع نفحة" التي صدرت عن اللجنة الثقافية الوطنية في معتقل نفحة، ومجلة "صدى نفحة". وقد نشرت دار القسطل للدراسات والنشر بالقدس نسخة من مجلة "إبداع نفحة" كما هي بخط اليد عام 1990، وضمت قصائد شعرية وقصصًا قصيرة، وخواطر، وزجلًا شعبيًا.
"وصلت باب البيت ووقفت على عتبة أول درجة للشرفة المحببة إلى قلبي. مر شريط ذكريات السنين كلها في ثواني، تلك الشرفة التي شهدت سهراتنا، ضحكنا ولعبنا، أشجار الليمون التي لا تنقطع عن الجود بعطائها طوال السنة... وقع بصري على الياسمينة تتراقص عليها قطرات الندى، ورقها أخضر يانع، زهرها لم يتفتح بعد... حملوني في سيارة جيب عسكري مكشوفة إلى مركز وسجن رام الله العسكري، بقيت أكثر من نصف ساعة، كانوا يدخلون ويخرجون محملين بالأوراق وقد جهزوا ملفًا رأيته فيما بعد في غرفة التحقيق.
قاربت الساعة الثالثة فجرًا، اتجهت السيارة في شارع القدس الرئيس باتجاه القدس مرورًا بمدينة البيرة. حمدت الله أنهم لم يضعوا العصبة على عيني. كبلوا يدي فقط إلى الأمام... رحمة ربنا بلا حدود... منحني فرصة لا تُقدر بالثمن، ولم يحرمني من إلقاء نظرت الوداع على كل ما تقع عليه عيناي، أحدق في كل شيء، أحدث كل من أعرف ممن مررت بهم وهم نيام في بيوتهم، ألقي عليهم تحية الوداع بصمت وهدوء، نسمات باردة هبت، ونحن نغادر آخر بيوت المدينة..".
ولدت ناديا خياط في عام (1958)، وهي نابلسية، سكنت مدينة رام الله، درست العلوم في دار المعلمات. عملت معلمة في عام 1979 في قرية بيت سيرا التي تقع شمال غرب رام الله. شاركت بالإعداد لعملية فدائية وعدد من رفاق النضال، ولكنها فشلت واعتقلت في إثرها، وقد كانت قد انضمت للثورة والعمل الوطني الفلسطيني، حُكمت مؤبدًا وعشرين عامًا، لكنها لم تنه مدة أسرها وخرجت في صفقة تبادل في عام 1983، أُبعدت لمدة 13 عامًا إلى الأردن، وعملت مع أم جاد "انتصار الوزير" هناك، في مؤسسة رعاية أسر الجرحى والشهداء، وتزوجت من مبعد أيضًا، وأنجبت بنتًا، إلى أن عادت بعد اتفاق أسلو، وشغلت منصبًا في وزارة الاقتصاد الوطني، وبعدها منصب رئيسة رابطة "نساء أسرن من أجل الحرية".
قاطعتها متسائلة: ماذا هناك؟ هل اعتُقل أحد أخوتي؟ هل استشهد أخي فايز؟ وقبل أن أكمل استرسلت قائلة: كلنا على هذا الدرب، نعم، استشهد أخوك فايز في معركة قلعة الشقيف البطولية، في لبنان. شهقت شهقة هزت كياني، كاد رأسي أن يتحطم من ضغط يدي.
"ناديا تعالي بسرعة أريد التحدث إليك. لحظة، سأدخل مرتبتي معي وسألحق بك فورًا. حملت مرتبتي وبطانيتي ودخلت غرفتي، وجدتها قد جلست هي وسعاد على حافة سريري ينتظرنني. أخذتا مني المرتبة والبطانيات ووضعتاها عل السرير، أمسكت بريجيت يدي وأجلستني بجانبها وقالت: نادية أنت تعلمين أن طريق النضال طويلة وشاقة، مليئة بالصعاب، يجب علينا أن نتحلى بالصبر ونكون أقوياء لمواجهتها.
قاطعتها متسائلة: ماذا هناك؟ هل اعتُقل أحد أخوتي؟ هل استشهد أخي فايز؟ وقبل أن أكمل استرسلت قائلة: كلنا على هذا الدرب، نعم، استشهد أخوك فايز في معركة قلعة الشقيف البطولية، في لبنان. شهقت شهقة هزت كياني، كاد رأسي أن يتحطم من ضغط يدي، طلبت من بريجت وسعاد أن تتركاني وحدي، ففعلتا دون نقاش. دخلت الحمام وأخذت حمامًا باردًا ليطفئ النار التي اشتعلت داخلي".
نشأت ناديا في بيت مناضل؛ فأخوها فايز الخياط، استشهد في معركة "قلعة الشقيف" في لبنان، بينما كانت أسيرة في سجون الاحتلال، وأسرت أختها نائلة ومعظم أفراد عائلتها كذلك. تعرضت ناديا لأشد وأعنف طرق التعذيب الجسدي والنفسي في معتقل المسكوبية، إذ تعرضت للشبح المستمر، في كيس أسود نتن يخنقها، تركوها لمدة طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، قدموا لها الطعام بطريقة مهينة، وطلبوا منها أن تأكله كالكلاب، فرفضت.
وظلت هكذا في صولات وجولات بين غرف التحقيق والزنزانة رقم 10. كانت ساعات الشبح تستمر لثماني ساعات متواصلة، يسمعونها أصوات أنّات وصرخات من الغرف المجاور حتى يتمكنوا منها. يسألونها أسئلة متلاحقة ويهددونها بأعز ما تملك حتى تعترف، ولا يوفرون أشكال السباب والشتائم "اقتادني السجان إلى ساحة الزنازين، كان يوما حارًا جدًا...قام بشبحي، قيّد يدي بالماسورة المعهودة وأنا جالسة على كرسي بدون خلفية أتكئ عليها... وضع الكيس القميء على وجهي".
عندما انتقلت ناديا إلى سجن نيفي تيرتسا، مع صاحباتها؛ بريجيت، تيرزا هلسة، زكية شموط، حنان مسيح، عطاف يوسف، لودوين" وغيرهن. عملت في الحقل التابع للسجن مقابل أجر زهيد، ولأنها معلمة نظمت دورسًا تعليمية وثقافية وحلقات للسجينات، وأعددن لهن نظامًا يستطعن من خلاله التعايش ولو باليسير.
قضت ناديا 105 أيام في مركز التحقيق المسكوبية، يجدد توقيفها بقرار من المحكمة في كل مرة لمدة 14 يومًا، وتم نقلها بعد ذلك من المسكوبية إلى السجن المركزي للنساء في الرملة "نيفي تيرتسا"، في آب/أغسطس 1979. وفي السجن سجينات يهوديات لقضايا جنائية وفلسطينيات، ووضعت ناديا مع مجموعتها القادمة من المسكوبية وهن خمس أسيرات.
عندما انتقلت ناديا إلى سجن نيفي تيرتسا، مع صاحباتها؛ بريجيت، تيرزا هلسة، زكية شموط، حنان مسيح، عطاف يوسف، لودوين" وغيرهن. عملت في الحقل التابع للسجن مقابل أجر زهيد، ولأنها معلمة نظمت دورسًا تعليمية وثقافية وحلقات للسجينات، وأعدت ورفيقاتها لهن نظامًا يستطعن من خلاله التعايش ولو باليسير، يمارسن الرياضة ويعددن الطعام إن تمكّنّ من ذلك. وقد خاضت ناديا وصاحباتها الإضراب الشهير في عام 1980، والذي بدأ في سجن نفحة الصحراوي احتجاجًا على الظروف القاسية والتعذيب الوحشي الذي يتعرض له الأسرى.
| الزمن المتوازي
"في حدسٍ أول، تحيلُ الحرية إلى الحركة، الخروج من هنا، الذهاب خطوة أبعد من المعتاد، واستكشاف فضاء أوسع غير معلوم مسبقًا، على خطورةٍ محتملة في ذلك. هذا الوجه الأول للحرية يتقابل مع شيئين، مع نازعٍ بشري لا يقل قوة إلى الإقامة هنا، إلى الاستقرار في بيت، إلى العودة إلى ديارٍ، والارتباط بمكانٍ محدد، والشيء الثاني هو الحبس، المنع من الحركة خارج نطاق معين، محدود".
يعيش السجين في الزنانة زمنًا متوازيًا مع الخارج، لكنه في الحقيقة ليس متوازيًا البتة، ليس زمنا محسوبًا في بقعة؛ محدودًا ومظلمًا، ليس بثقله وبطيء ساعاته، ولكنه، يكاد زمانًا لا هو حقيقي ولا هو متخيل! ربما يدرك بعد التذكر، أو في البحث عنه في عمق الذاكرة، في عصبة العينين، التخيل في الزمن المظلم، في فقدان الوعي أثناء التعذيب، في الاحتراق تحت لهيب الشمس. إنه مصير محتوم، لا يوجد توسّل، أو استسلام، الجسد ليس جسدي، وتفكيري ليس هنا!
bnfsj.net
انحصرت الرؤية على عتمة الزنازين وضيق الأمكنة، والممرات ذات اللون السكني القاتم، والتي يضيق بها الصدر وتطبق علة الأنفاس، وماهي إلا لحظات حتى دخلنا البوابة الرئيسية للمبنى. عادت الأنفاس تضيق بما يفصل الجنة التي مررنا بها منذ لحظات والجحيم الذي دخلناه. وجوه عابسة متجهمة، عيون تقدح بالشر والكراهية. تفتيش وحشي، خلع كل ملابسنا، تفتيش الملابس الداخلية، تحسس أجسادنا العارية، حتى الشعر كانوا يقومون بشده خصلة خصلة لئلا نكون قد خبئنا به شيئًا. تسلمنا السجانة بطانية وضع داخلها فستان أخضر وبنطال وبلوزة بنفس اللون دون السماح بقياس الملابس.
فلا يهم إن كانت واسعة أم ضيقة، وضعوا الملابس التي كنا نرتديها في مخزن الأمانات، اقتادونا إلى أقسام. هناك بدأت مرحلة جديدة، رحلة من نوع مختلف وأُصر على تسميتها "رحلة معاناة وقهر"، لأنها بدت لنا كذلك. كان لها مذاق آخر، وكان واضحًا منذ بدايتها، بأن هناك مخططًا مدروسًا منظمًا يتم تنفيذه ببطء يعمل على قتل الروح المعنوية، وطمس الهوية النضالية، فما يفشلون فيه بالتحقيق بحسب معتقداتهم يمكن الحصول عليه عبر ضغوطاتهم وتأثيرهم في الحياة اليومية للسجينة".
هذه الكتابة مقتبسة عن رواية "احترقت لتضيء" للأسيرة المحررة ناديا خياط، صادرة عن وزارة الثقافة الفلسطينية مؤخرًا، في عام 2021. استوقفتني الرواية، ليست فقط لأنها تُصنف على أنها أدب السجون، بل لأن كاتبتها امرأة، فلسطينية، أسيرة، عايشت تجربة الأسر لمدة طويلة، بعد أن حُكمت لمؤبد وعشرين عامًا، وخرجت في صفقة تبادل للأسرى، إلا أنها أُبعدت إلى الأردن لما يزيد عن عقد من الزمن.
لدي اهتمام لما تكتب المرأة الفلسطينية المناضلة، وتشدني تفاصيلها، بل ودوافعها للكتابة؛ لأن الكتابة ليست فعلًا عاديًا، بل إنها إرادة؛ جعبة من الذكريات وسردية ذاكرة معبئة، إحساس جواني، توثيق التجربة، فلا تكون ما كتبت ناديا رواية أدبية فقط، إنها اشتباك بين سيرة ذاتية محملة بالمشاعر، والعلاقات الذاتية والبينذاتية، الأسيرات، وتفاصيل المكان، وعلاقتها بجسدها، بل بأجسادهن. إنه فضاء مؤلم وزاخر؛ زنزانة، وبرش، وحمام متسخ وطعام رديء، وظلام. سريات محكية عن غرفة التحقيق، والانتقال "البوسطة"، هذا الانتقال بمحمولاته الثقيلة، بعصاب العينين، وجسد مربط بإحكام.
سير لمدة طويلة مجهولة، دوران في الزمن، وماذا تكون الأسيرة في شبح الزمن المظلم؟ وماذا تكون الأسيرة في ربقة هذا الزمان؛ ماضيها لا يمكن العودة إليه، والحاضر يتسرب من بين يديها إلى الماضي، والمستقبل مجهول ولا تعلم إن كان سيكون أصلًا... "الكتابة، المعرفة، معرفة حقيقتنا الشخصية، لا تتحقق إلا بالدخول في صراع جدلي مع إرادة قوة أخرى. قوة نقيضة مضادة، قوة مهيمنة على قوة مهيمن عليها. والصراع مع "جحيم الآخرين"، بوصفهم قوة مضادة، ربما أسهل من الصراع مع الذات أو مع رقباء الذات، فالأولون يمكن التعامل معهم بقليل من التخطيط والتكيف، وربما نحن نحتاجهم ونحتاج إلى ما تتيحه الحياة من مال وسقف وجدار لنوفر عزلة تحقيق الذات".
وفي أدب السجون أمثلة ممتلئة بتجارب "المحاربين"؛ وأذكر من ذلك مثالًا للأسير سامر محروم عن كتابه "دائرة الألم" الذي يتحدث عن الدائرة المغلقة لأسرى أمضوا أكثر من 25 عامًا داخل السجون، وعن تفاصيل حياتهم اليومية، ولهذا الكتاب قصة نضال تكاد تكون مستحيلة، إذ تناقل قصاصاتها داخل كبسولات دقيقة داخل أمعائهم حتى وصلت الضوء، وصارت مروية عنهم من خلال سامر المحروم.
"عندما تقرأ الكتاب تجد نفسك ما زلت أسيرًا في خيمة تتقاسم البيضة والصفعة أو الدمعة مع عشرة أشخاص أو أكثر. مازلت جثة تائهة أو خرقة أو بقايا عظام في مقبرة أو كمشة غبار تلاحقها الغيوم. ما زلت رقمًا للتعداد"، هذا من قاله محمد صفا، الأسير الكاتب، صاحب كتاب "مئة يوم في معتقل أنصار"، وفيه يوثق تجربة وحياة الأسرى السجون الإسرائيلية في عام 1982، مسار حياتهم، قصصهم، بطولاتهم عندما يعذبون ويصمدون، ويبقون!
والكتابة هنا لا تكتمل إلا فعلًا، ولم يكن نموذجا وحيدًا، فقد كتب الأسرى شعرًا ونثرًا، وأطروحات أكاديمية في مختلف أزمنة الأسر، ونُشرت أعمالهم في صحف ومجلات مثل؛ البيادر الأدبي، والشراع، والكاتب، والفجر الأدبي، وعبير. بل أصدروا مجلات أدبية كتبوها بخط اليد؛ ومن هذه المجلات: "الملحق الأدبي" لمجلة "نفحة الثورة"، ومجلة "الصمود الأدبي" في معتقل عسقلان، ومجلة "الهدف الأدبي" في معتقل عسقلان التي صدرت عام 1981، ومجلة "إبداع نفحة" التي صدرت عن اللجنة الثقافية الوطنية في معتقل نفحة، ومجلة "صدى نفحة". وقد نشرت دار القسطل للدراسات والنشر بالقدس نسخة من مجلة "إبداع نفحة" كما هي بخط اليد عام 1990، وضمت قصائد شعرية وقصصًا قصيرة، وخواطر، وزجلًا شعبيًا.
"وصلت باب البيت ووقفت على عتبة أول درجة للشرفة المحببة إلى قلبي. مر شريط ذكريات السنين كلها في ثواني، تلك الشرفة التي شهدت سهراتنا، ضحكنا ولعبنا، أشجار الليمون التي لا تنقطع عن الجود بعطائها طوال السنة... وقع بصري على الياسمينة تتراقص عليها قطرات الندى، ورقها أخضر يانع، زهرها لم يتفتح بعد... حملوني في سيارة جيب عسكري مكشوفة إلى مركز وسجن رام الله العسكري، بقيت أكثر من نصف ساعة، كانوا يدخلون ويخرجون محملين بالأوراق وقد جهزوا ملفًا رأيته فيما بعد في غرفة التحقيق.
قاربت الساعة الثالثة فجرًا، اتجهت السيارة في شارع القدس الرئيس باتجاه القدس مرورًا بمدينة البيرة. حمدت الله أنهم لم يضعوا العصبة على عيني. كبلوا يدي فقط إلى الأمام... رحمة ربنا بلا حدود... منحني فرصة لا تُقدر بالثمن، ولم يحرمني من إلقاء نظرت الوداع على كل ما تقع عليه عيناي، أحدق في كل شيء، أحدث كل من أعرف ممن مررت بهم وهم نيام في بيوتهم، ألقي عليهم تحية الوداع بصمت وهدوء، نسمات باردة هبت، ونحن نغادر آخر بيوت المدينة..".
ولدت ناديا خياط في عام (1958)، وهي نابلسية، سكنت مدينة رام الله، درست العلوم في دار المعلمات. عملت معلمة في عام 1979 في قرية بيت سيرا التي تقع شمال غرب رام الله. شاركت بالإعداد لعملية فدائية وعدد من رفاق النضال، ولكنها فشلت واعتقلت في إثرها، وقد كانت قد انضمت للثورة والعمل الوطني الفلسطيني، حُكمت مؤبدًا وعشرين عامًا، لكنها لم تنه مدة أسرها وخرجت في صفقة تبادل في عام 1983، أُبعدت لمدة 13 عامًا إلى الأردن، وعملت مع أم جاد "انتصار الوزير" هناك، في مؤسسة رعاية أسر الجرحى والشهداء، وتزوجت من مبعد أيضًا، وأنجبت بنتًا، إلى أن عادت بعد اتفاق أسلو، وشغلت منصبًا في وزارة الاقتصاد الوطني، وبعدها منصب رئيسة رابطة "نساء أسرن من أجل الحرية".
قاطعتها متسائلة: ماذا هناك؟ هل اعتُقل أحد أخوتي؟ هل استشهد أخي فايز؟ وقبل أن أكمل استرسلت قائلة: كلنا على هذا الدرب، نعم، استشهد أخوك فايز في معركة قلعة الشقيف البطولية، في لبنان. شهقت شهقة هزت كياني، كاد رأسي أن يتحطم من ضغط يدي.
"ناديا تعالي بسرعة أريد التحدث إليك. لحظة، سأدخل مرتبتي معي وسألحق بك فورًا. حملت مرتبتي وبطانيتي ودخلت غرفتي، وجدتها قد جلست هي وسعاد على حافة سريري ينتظرنني. أخذتا مني المرتبة والبطانيات ووضعتاها عل السرير، أمسكت بريجيت يدي وأجلستني بجانبها وقالت: نادية أنت تعلمين أن طريق النضال طويلة وشاقة، مليئة بالصعاب، يجب علينا أن نتحلى بالصبر ونكون أقوياء لمواجهتها.
قاطعتها متسائلة: ماذا هناك؟ هل اعتُقل أحد أخوتي؟ هل استشهد أخي فايز؟ وقبل أن أكمل استرسلت قائلة: كلنا على هذا الدرب، نعم، استشهد أخوك فايز في معركة قلعة الشقيف البطولية، في لبنان. شهقت شهقة هزت كياني، كاد رأسي أن يتحطم من ضغط يدي، طلبت من بريجت وسعاد أن تتركاني وحدي، ففعلتا دون نقاش. دخلت الحمام وأخذت حمامًا باردًا ليطفئ النار التي اشتعلت داخلي".
نشأت ناديا في بيت مناضل؛ فأخوها فايز الخياط، استشهد في معركة "قلعة الشقيف" في لبنان، بينما كانت أسيرة في سجون الاحتلال، وأسرت أختها نائلة ومعظم أفراد عائلتها كذلك. تعرضت ناديا لأشد وأعنف طرق التعذيب الجسدي والنفسي في معتقل المسكوبية، إذ تعرضت للشبح المستمر، في كيس أسود نتن يخنقها، تركوها لمدة طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة، قدموا لها الطعام بطريقة مهينة، وطلبوا منها أن تأكله كالكلاب، فرفضت.
وظلت هكذا في صولات وجولات بين غرف التحقيق والزنزانة رقم 10. كانت ساعات الشبح تستمر لثماني ساعات متواصلة، يسمعونها أصوات أنّات وصرخات من الغرف المجاور حتى يتمكنوا منها. يسألونها أسئلة متلاحقة ويهددونها بأعز ما تملك حتى تعترف، ولا يوفرون أشكال السباب والشتائم "اقتادني السجان إلى ساحة الزنازين، كان يوما حارًا جدًا...قام بشبحي، قيّد يدي بالماسورة المعهودة وأنا جالسة على كرسي بدون خلفية أتكئ عليها... وضع الكيس القميء على وجهي".
عندما انتقلت ناديا إلى سجن نيفي تيرتسا، مع صاحباتها؛ بريجيت، تيرزا هلسة، زكية شموط، حنان مسيح، عطاف يوسف، لودوين" وغيرهن. عملت في الحقل التابع للسجن مقابل أجر زهيد، ولأنها معلمة نظمت دورسًا تعليمية وثقافية وحلقات للسجينات، وأعددن لهن نظامًا يستطعن من خلاله التعايش ولو باليسير.
قضت ناديا 105 أيام في مركز التحقيق المسكوبية، يجدد توقيفها بقرار من المحكمة في كل مرة لمدة 14 يومًا، وتم نقلها بعد ذلك من المسكوبية إلى السجن المركزي للنساء في الرملة "نيفي تيرتسا"، في آب/أغسطس 1979. وفي السجن سجينات يهوديات لقضايا جنائية وفلسطينيات، ووضعت ناديا مع مجموعتها القادمة من المسكوبية وهن خمس أسيرات.
عندما انتقلت ناديا إلى سجن نيفي تيرتسا، مع صاحباتها؛ بريجيت، تيرزا هلسة، زكية شموط، حنان مسيح، عطاف يوسف، لودوين" وغيرهن. عملت في الحقل التابع للسجن مقابل أجر زهيد، ولأنها معلمة نظمت دورسًا تعليمية وثقافية وحلقات للسجينات، وأعدت ورفيقاتها لهن نظامًا يستطعن من خلاله التعايش ولو باليسير، يمارسن الرياضة ويعددن الطعام إن تمكّنّ من ذلك. وقد خاضت ناديا وصاحباتها الإضراب الشهير في عام 1980، والذي بدأ في سجن نفحة الصحراوي احتجاجًا على الظروف القاسية والتعذيب الوحشي الذي يتعرض له الأسرى.
| الزمن المتوازي
"في حدسٍ أول، تحيلُ الحرية إلى الحركة، الخروج من هنا، الذهاب خطوة أبعد من المعتاد، واستكشاف فضاء أوسع غير معلوم مسبقًا، على خطورةٍ محتملة في ذلك. هذا الوجه الأول للحرية يتقابل مع شيئين، مع نازعٍ بشري لا يقل قوة إلى الإقامة هنا، إلى الاستقرار في بيت، إلى العودة إلى ديارٍ، والارتباط بمكانٍ محدد، والشيء الثاني هو الحبس، المنع من الحركة خارج نطاق معين، محدود".
يعيش السجين في الزنانة زمنًا متوازيًا مع الخارج، لكنه في الحقيقة ليس متوازيًا البتة، ليس زمنا محسوبًا في بقعة؛ محدودًا ومظلمًا، ليس بثقله وبطيء ساعاته، ولكنه، يكاد زمانًا لا هو حقيقي ولا هو متخيل! ربما يدرك بعد التذكر، أو في البحث عنه في عمق الذاكرة، في عصبة العينين، التخيل في الزمن المظلم، في فقدان الوعي أثناء التعذيب، في الاحتراق تحت لهيب الشمس. إنه مصير محتوم، لا يوجد توسّل، أو استسلام، الجسد ليس جسدي، وتفكيري ليس هنا!
ناديا خياط: عندما يتسرب الزمن
"مئة وخمسة أيام مضت وأنا أقبع في مركز التحقيق والتعذيب (المسكوبية) في القدس ما بين غرف التحقيق والزنزانة رقم عشرة، مع كيل من التعذيب الجسدي والنفسي...