د. أحمد الحطاب - كِتاب الله والسَّيل الهائل من الكُتُبُ البشرية الدينية

بالنسبة لمَن آمن بالله وملائكته وكُتبه ورُسله واليوم الآخِر والقدر خيرِه وشرِّه، آخِر كتاب أنزله الله على خاتم الرُّسل والأنبياء، محمد (ص)، هو القرآن الكريم. القرآن الذي قال في حقه، سبحانه وتعالى :

1."وَهَـٰذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأنعام، 155).

في هذه الآية، اللهُ، سبحانه وتعالى، يُخبرنا بأن الكتابَ الذي هو القرآن الكريم، كتابٌ أُنزِلَ، عن طريق الوحي، على الرسول (ص). كما يُخبرنا بأن القرآنَ كتابٌ "مُبَارَكٌ"، أي فيه بركةٌ أو يتبرَّك به الناس، أو بعبارة أخرى، فيه خيرٌ للناس، أي فيه ما يُسعِدهم. وفي نفس الآية، يأمُرُنا باتِّباع ما جاء في هذا القرآن. كما يأمُرنا بالتَّقوى (وَاتَّقُوا)، أي بخِشية الله والخوف منه لعلَّه، سبحانه وتعالى، يشمل عبادَه بالرحمة.

2."لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" (فصلت، 42).

في هذه الآية، يُخبِرنا، سبحانه وتعالى، بأن القرآنَ الكريمَ مشمولٌ بحِفظ الله ورعايته، بحيث لا يمكن أن يُنقصَ منه أو يُزادُ فيه، مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر، 9). لماذا الله، سبحانه وتعالى، يحفظ القرآن من كل باطلٍ أو تحريف؟ لأنه هو مُرشِد البشرية ومنار طريقها نحو الإيمان والحق والطريق المستقيم، إلى يوم يُبعَثُون.

3."ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ" (البقرة، 2).

في هذه الآية، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، بأن محتوى القرآن المُنزَّل على الرسول محمد (ص)، لا يمكن، على الإطلاق، التَّشكيكُ فيه. بل إنه، كما سبق وأن أسلفتُ فيما يخصُّ تحليلَ الآية رقم 2 أعلاه، بأن هذا لقرآنَ هو مُرشِد البشرية ومنار طريقها نحو الإيمان والحق والطريق المستقيم (فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). وهو ما أكَّده، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 2 أعلاه.

4."وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (الأعراف، 52).

كلامُ اللهِ، سبحانه وتعالى، موجهٌ للذين لا يؤمنون برسالة محمد (ص)، قائلاً لهم : "هذا كتابٌ، أي القرآن الكريم، فصَّلنا آياتِه انطلاقا من علمنا بكل شيء. وهو، أي القرآن، يُنِير الطريق، وفيه رحمةٌ لمَن أراد أن يؤمنَ.

5،."قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَـٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الإسراء، 88).

في هذه الآية، الله، سبحانه وتعالى، يتحدَّى البشرَ والجِنَّ أجمعين، مهما كان عددُهم، بالأمس، اليوم وغدا، أن يصِيغوا مثلَ هذا القرآن، لن يستطيعوا أن يأتوا بمثلِه، ولو استعان بعضُهم بالبعض الآخر.

بعد هذه التَّوضيحات عن كتاب الله، سبحانه وتعالى، سأعود لعنوان هذه المقالة الذي هو : كِتاب الله والسَّيل الهائل من الكُتُبُ البشرية الدينية".

أول ملاحظة جالت ببالي هي أن الله، عزَّ وجلَّ، احتاج إلى كتابٍ واحدٍ جمع فيه كلَّ ما يحتاجُه الناسُ في حياتهم الدينية والدُّنيَوية، أي كلَّ ما يحتاجونه في مجالي العبادات والمعاملات. العبادات للتَّقرُّب من الله والمعاملات لتبادل المصالح داخلَ المجتمعات.

ثاني ملاحظة هي : "لماذا البشر ألَّفوا آلافَ الكُتب لشرح وتفسير القرآن الكريم وسنَّة الرسول محمد (ص)"؟ القرآن الكريم الذي يقول في حقه، سبحانه وتعالى :

1."بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ" (الحجر، 1).

2."وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء، 192، 193، 194 و 195)

3."بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ (النمل، 1).

كل هذه الآيات الثلاثة وَرَدَت فيها كلمة "مبين". وكلمة مبين وردت بكثرة في آيات القرآن الكريم. فنجدها مثلا، في أجزاء من آيات كثيرة على شكل العبارات التالية : "عَدُوٌّ مُّبِينٌ"، "لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"، "إِنْ هَـٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ"، "فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ"، "ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ"... وكلمة "مبين" تعني "واضح". وكل شيءٍ فيه وضوح، يعني أنه بَيِّنٌ أو جَلِيٌّ أو ظاهرٌ أو مفهوم…

إذن، ما دام كل شيءٍ واضحٌ في القرآن الكريم، فلماذا كثرةُ الكُتُب، علما أن هذه الكتب، عوضَ أن تُوحِّدَ الدين (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)، فرَّقته إلى مذاهبَ وطوائفَ وفِرقٍٍ متتافرة. فأصبح لكل مذهب ولكل طائفة ولكل فِرقة كُتُبُهُم علما أن كل شيءٍ واضحٌ في القرآن الكريم.

قد يقول قائل إن كلامَ الله الذي هو القرآن، يحتاج إلى تفسير ليُدرك الناسُ معانيه وتسهيل فهمه. هذا شيءٌ محمودٌ ما دام الغرض منه هو تقريب القرآن الكريم من الناس. لكن، هل كنا في حاجةٍ لهذا السيلُ الهائل من الكتب ومَن أوحى إلى رسوله (ص) يقول بأن كلامَه واضحٌ وبيِّنٌ!

لكن، دعوني أطرحُ السؤالَ التالي : "لماذا طلب الله، سبحانه وتعالى، من رسوله محمد (ص) أن يكتفيَ ببلاغ ما نزلَ عليه من وحيٍ؟ أليس لأن اللهَ، عزَّ وجلَّ، يعتبر أن وحيَه واضحٌ؟ مصداقا لقوله، سبحانه وتعالى : "مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (المائدة، 99).

وما يجب الانتباهُ إليه هو أن كل الكتب التي جاد بها علماء الدين وفقهائه، تمَّ تأليفُها بعد وفاة الرسول، وبعشرات ومئات السنين بعد هذه الوفاة، أي بعد أن أدى الرسول (ص) الأمانةَ وبلَّغ الرسالة. وبعد أن أوحى اللهُ، سبحانه وتعالى، لرسوله (ص) قائلا : "...الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا… (المائدة، 3).

هناك ملاحظة واحدة تُبرِّر تأليفَ هذا السيلَ الهائلَ من الكُتُب : تمّ تأليف هذا السيل الهائل من الكُتب منذ أن بدأ الدينُ يختلط بالسياسة، وخصوصا، في العصرين الأموي والعباسي. واختلاط الدين بالسياسة أدى إلى ظهور تواطؤً بين رجال الدين والحكَّام.

وهكذا أصبحت الدولةُ دولةً دينيةً يسود فيها، معا، الحكام (الخلفاء) ورجألُ الدين. كل جهةٍ تجد مصلحتَها في الجهة الأخرى. الحكام يضمنون الدوامَ في السلطة بدعمٍ من رجال الدين. ورجال الدين يبسطون نفوذَهم على الناس بسَنَد من الحكام. وبعبارة أخرى، رجال الدين يُؤكِّدون أن الحكَّام يستمدُّون حكمَهم بوصاية من الله والحكَّام يفرضون فتاوى وأحكامَ رجال الدين على الناس.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...