ياسر أنور - هل سرق "جون لوك" أفكار " ابن طفيل "؟

يعترف المنصفون من المفكرين و العلماء على مر العصور بالتأثير الكبير الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في تشكيل أسس و معالم الحضارة الغربية بل و تشكيل خارطة كبرى للمعرفة الإنسانية للعالم بشكل عام .. و لم يكن هذا التأثير قاصرا على العلوم الطبيعية فقط من كيمياء و رياضيات وطبيعة .. وغير ذلك من العلوم التجريبية .. بل امتد ليشمل القيم الإنسانية أيضا من مساواة و حرية و تسامح .. كما امتد أيضا إلى كثير من الجوانب الدينية و و العقدية حتى إن هناك بعض الدراسات الحديثة التي تثبت أن مذهب مارتن لوثر في الإصلاح الديني .. ليس إلا نتيجة لتأثره ببعض تراجم القرآن الكريم في ذلك الوقت .. و احتكاكه بالإمبراطورية العثمانية التي توغلت في قلب أوروبا و دول البلقان. وإذا كانت أوروبا قد ضاقت ذرعا في عصور ظلامها بفكرة الاختلاف الديني و المذهبي حتى كانت محاكم التفتيش (inquisitions)إحدى البقع السوداء في تاريخ أوروبا ..فإن الإسلام و خصوصا في عصر ازدهار الدولة العباسية كان يحتضن المتخصصين من اليهود و النصارى في العلوم المختلفة و يدخلهم إلى قصور الخلفاء كي يتبوءوا مناصب كبرى في الدولة غير عابئ بالاختلافات العرقية و الدينية لهؤلاء. لقد أشاد إذن كبار العلماء و الفلاسفة و المؤرخين بهذا الدور المحوري للإسلام .. ويكفي أن نشير إلى مقولات و كتابات بعضهم مثل توماس كارلايل و لامارتين و فيكتور هيجو ونابليون و جورج برنارد شو و مايكل هارت .. و عشرات آخرين .و مع كل هذه الكتابات .. فقد أصر بعض متطرفي العلمانية في عالمنا العربي على التنكر لهذا التاريخ العريق و إهالة التراب على المنجز الحضاري لهذا الدين .. بل ووصمه بالكهنوت و التخلف و الرجعية ! و هذا ينم عن جهل واضح أو استعداء مأجور لخدمة جهات ما تتخوف من المد الإسلامي الجارف على المستويين الداخلي و الخارجي . و في الوقت الذي يعلن فيه العلمانيون العرب عن تبعيتهم لمذاهب التنوير الغربي و تنصلهم من جذورهم الإسلامية .. تخرج بعض الدراسات لكي تؤكد أن عصر التنوير الأوروبي لم يكن ليتشكل بهذه الطريقة دون أن يستند إلى مقومات حضارية سابقة .. مهدت لأسسه الفكرية و العقلية . و قد كان لإحدى الباحثات الغربيات و هي البروفيسور Gul .A.Russell الشجاعة الكافية لكي تقدم طرحا جديدا مغايرا للتوجهات السائدة عن تشكل عصر التنوير .. و تقدم في أحد كتبها The Interest of the Natural Philosophers in 'Arabick' in Seventeenth-Century England (1994) ثم تؤكده في دراسة أخرى 2010

تقدم - مبررات مقبولة عن تأثر جون لوك أحد رواد عصر التنوير برواية حي بن يقظان لابن طفيل .. تلك الرواية الفلسفية التي كتبت في القرن الثاني عشر للميلاد و ترجمت للاتينية في عام 1671 م و هو نفس العام الذي قدم فيه جون لوك مقاله عن العقل البشري An Essay on Human Understanding . وقد أكد بعض الباحثين – و منهم الكاتبة السورية سمر العطار – أن الموضوعات التي طرحها ابن طفيل نجدها واضحة في كتابات هوبز و لوك و إسحاق نيوتن و إيمانويل كانت .. وأن هذه الرواية هي إحدى الدعامات الكبرى التي شكلت المناهج المختلفة للفكر والعقل الغربي .و قد حظيت بشهرة واسعة و تلقفتها الأوساط العلمية المختلفة بعد ترجمتها إلى اللاتينية و عدة لغات أخرى .و تلفت الباحثة البريطانية "رسل" النظر إلى أن جون لوك كان مهتما قبل ذلك بالدراسات الاجتماعية و السياسية ... فما مبرر انتقاله المفاجيء لهذه المقالة الفلسفية في نفس العام الذي ترجمت فيه رواية ابن طفيل إلى اللاتينية مع هذا التشابه الكبير بين الموضوعات المطروحة بين لوك و ابن طفيل. كما أنها تلفت النظر إلى علاقة الصداقة الحميمة التي كانت تربط بين المترجمين الأب والابن " بوكوك" و "جون لوك". و في النهاية فإن الدعوة موجهة إلى الباحثين الجادين لتسليط الضوء على التأثير المعرفي للعقل العربي على تشكل عصر التنوير الغربي كي نحاول أن نعيد الثقة للعقل العربي في محنة التيه التي يتخبط فيها .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...