للأطفال في بعض الأحيان، في الروايات كما في الحياة الواقعية، أفكار غريبة. في رواية "البارون المعلّق" لإيطالو كالـﭭينو، المنشورة عام 1957، يصعد البطل، وكان بعد صغيرا، إلى شجرة ويصمّم على عدم النّزول منها. راهن بذلك أن يظلّ طوال حياته بين الأوراق، أن لا يلامس الأرض أبدا، على شاكلة الطيور . بل أفضل منها، إذ يحدث لهذه أن تطأ الأرض. بعد سنتين، نشر غونتر غراس رواية "الطبل الصفيحي"، وفيها يتسبّب طفل، بصورة متعمّدة، في حادث ويتعرّض لإعاقة خطيرة بقصد أن لا يكبر وأن يظلّ طوال حياته قزما.
الأول كما الآخر ليسا ببعيدين عن التّذكير بعلاء الدين الذي كان يمضي سحابة يومه في اللّعب مع أولاد مزعجين في الأزقة الضيّقة. والده الخيّاط مصطفى كان يرغب أن يستقر عنده في دكّانه ويتعلّم الحرفة، غير أنّه، هو، لم يكن يفكّر إلاّ في التّسلية. مستاء، أدرك مصطفى من ذلك غمّ إلى حدّ أن عجّل بموته. إنّها، في حدود معرفتي، الحالة الوحيدة في الأدب التي يموت فيها الأب لأنّ ولده لا يريد أن يكفّ عن اللّعب. دون أن يتبلبل أو يحسّ بالذّنب، واصل علاء الدين اللّعب حتى ينقذ طفولته. سيعيش مغامرات، لكن على طريقته، منخرطا في اللّعب وإلى غاية انتهاء الحكاية. في لعبه مع الموت، تظاهرفقط ، إذا جاز القول، بأنّه مات. ألم يترك، كما نقرأ، "ذرية مشهورة" أغلب الظنّ من العابثين من فصيلته، مولعين باللّعب، مدمنين عليه؟
تبتغي"خصومة الصور" في جوهرها أن تكون حكاية طفل يحبّ أن يكذب على نفسه. في الظّاهر يهوى أن ينخرط في أدوار متنوّعة جاعلا من حياته تسلية متواصلة، سلسلة من الانحرافات (سنصادفه، أعتقد، في "حصان نيتشه"). أمنيته الغالية عليه أن يوقف الزمن، أن لا يتغيّر شيء من حوله، وباستعلاء واستخفاف، يعتبر الراشدين، وهم لا يلعبون، ضائعين ولهم عادات عقيمة بقدر ما هي عصيّة على الفهم.
مع ذلك، وجب عليه يوما أن يغادر طفولته، "جنتّه الخضراء" كي يواجه جحيم المراهقة. في تقدير الجميع، ليس هناك أشقى من المراهق. لكن من هو المراهق والحالة هذه؟ حتى لا نضيع في التفاصيل القانونية ــ النّفسانية، لنبق في نطاق الدلالة الاشتقاقية للكلمة، كما تبرز في "لسان العرب" لابن منظور. المراهق، كما يوضّح، "من يأتي متأخّرا"، أن يأتي إلى المسجد، مثلا، وتكون الصّلاة قد أقيمت.المسجد ممتلئ عن آخره، الصفوف مستقيمة وهو يقدم بغتة مروّعا ومنقطع النّفس، عيناه طائشتان، متعجّلا بمشقّة أن يندسّ بين المصلّين. للمراهق، بصفة إجمالية، إحساس أنّه في الحياة متطفّل، عليه أن يعلن المعذرة أن ولد متأخّرا، ومن ثمّ، فهوغير مبتغى.
لحسن الحظّ، ثمّة سارد متعاطف يسهر عليه. في الحقيقة، ليس في إمكان هذا الأخير، وبأيّة صورة، أن يتدخّل في قدر الآخر لأنّه، بالمعنى الصحيح للكلمة، ليس شخصية حكائية، إنّه يعيش ضمن بعد آخر. دوره أن يقدّم تعليقات على أحلام، على آمال، على خيبات. وعند الاقتضاء، ومثل جبّيتّو Geppetto¹ أن يدّعي الجهل والبراءة. إذا لم يكن يبخل بكلمة أخّاذة، فهو، في أغلب الأحيان، يبذل جهده ليبقى غير جاذب للانتباه وغير ملحوظ. دون أن ينجح في ذلك تماما. في كلّ مرّة يوجد في النص استطراد بين قوسين، يمكن ان نكون واثقين من العثور عليه هناك. أن يحيا بين قوسين هي طريقته المخصوصة أن يعيش الأدب.
23 غشت 2023
* مقدّمة الطبعة الثالثة من رواية "خصومة الصور" (2024)
Geppetto1 شخصية من شريط مطوّل من نوع الرسوم المتحرّكة Pinocchio (1940) مقتبس من رواية Les Aventures de Pinocchio لمؤلّفها Carlo Collodi (88). (المترجم)
الأول كما الآخر ليسا ببعيدين عن التّذكير بعلاء الدين الذي كان يمضي سحابة يومه في اللّعب مع أولاد مزعجين في الأزقة الضيّقة. والده الخيّاط مصطفى كان يرغب أن يستقر عنده في دكّانه ويتعلّم الحرفة، غير أنّه، هو، لم يكن يفكّر إلاّ في التّسلية. مستاء، أدرك مصطفى من ذلك غمّ إلى حدّ أن عجّل بموته. إنّها، في حدود معرفتي، الحالة الوحيدة في الأدب التي يموت فيها الأب لأنّ ولده لا يريد أن يكفّ عن اللّعب. دون أن يتبلبل أو يحسّ بالذّنب، واصل علاء الدين اللّعب حتى ينقذ طفولته. سيعيش مغامرات، لكن على طريقته، منخرطا في اللّعب وإلى غاية انتهاء الحكاية. في لعبه مع الموت، تظاهرفقط ، إذا جاز القول، بأنّه مات. ألم يترك، كما نقرأ، "ذرية مشهورة" أغلب الظنّ من العابثين من فصيلته، مولعين باللّعب، مدمنين عليه؟
تبتغي"خصومة الصور" في جوهرها أن تكون حكاية طفل يحبّ أن يكذب على نفسه. في الظّاهر يهوى أن ينخرط في أدوار متنوّعة جاعلا من حياته تسلية متواصلة، سلسلة من الانحرافات (سنصادفه، أعتقد، في "حصان نيتشه"). أمنيته الغالية عليه أن يوقف الزمن، أن لا يتغيّر شيء من حوله، وباستعلاء واستخفاف، يعتبر الراشدين، وهم لا يلعبون، ضائعين ولهم عادات عقيمة بقدر ما هي عصيّة على الفهم.
مع ذلك، وجب عليه يوما أن يغادر طفولته، "جنتّه الخضراء" كي يواجه جحيم المراهقة. في تقدير الجميع، ليس هناك أشقى من المراهق. لكن من هو المراهق والحالة هذه؟ حتى لا نضيع في التفاصيل القانونية ــ النّفسانية، لنبق في نطاق الدلالة الاشتقاقية للكلمة، كما تبرز في "لسان العرب" لابن منظور. المراهق، كما يوضّح، "من يأتي متأخّرا"، أن يأتي إلى المسجد، مثلا، وتكون الصّلاة قد أقيمت.المسجد ممتلئ عن آخره، الصفوف مستقيمة وهو يقدم بغتة مروّعا ومنقطع النّفس، عيناه طائشتان، متعجّلا بمشقّة أن يندسّ بين المصلّين. للمراهق، بصفة إجمالية، إحساس أنّه في الحياة متطفّل، عليه أن يعلن المعذرة أن ولد متأخّرا، ومن ثمّ، فهوغير مبتغى.
لحسن الحظّ، ثمّة سارد متعاطف يسهر عليه. في الحقيقة، ليس في إمكان هذا الأخير، وبأيّة صورة، أن يتدخّل في قدر الآخر لأنّه، بالمعنى الصحيح للكلمة، ليس شخصية حكائية، إنّه يعيش ضمن بعد آخر. دوره أن يقدّم تعليقات على أحلام، على آمال، على خيبات. وعند الاقتضاء، ومثل جبّيتّو Geppetto¹ أن يدّعي الجهل والبراءة. إذا لم يكن يبخل بكلمة أخّاذة، فهو، في أغلب الأحيان، يبذل جهده ليبقى غير جاذب للانتباه وغير ملحوظ. دون أن ينجح في ذلك تماما. في كلّ مرّة يوجد في النص استطراد بين قوسين، يمكن ان نكون واثقين من العثور عليه هناك. أن يحيا بين قوسين هي طريقته المخصوصة أن يعيش الأدب.
23 غشت 2023
* مقدّمة الطبعة الثالثة من رواية "خصومة الصور" (2024)
Geppetto1 شخصية من شريط مطوّل من نوع الرسوم المتحرّكة Pinocchio (1940) مقتبس من رواية Les Aventures de Pinocchio لمؤلّفها Carlo Collodi (88). (المترجم)