أنت الآن في عمر قد فقد البريق واللمعان والاندفاع، التدفق والانصباب، حكم الأيام والسنوات جمل واضحة المعالم والمعاني والدلالات على تقاسيمك، وفي أعماقك ودخيلتك وانحناءات نفسك، لهذا عليك أن تهدأ قليلا وتدرك ولمرة واحدة، وبيقين مطلق بما
تحمل مفردة المطلق من دلالات، بأنك لن تغير شيئا لو بقيت حبيس ذاتك التي تجلدك وتجلدها بطرق شتى، فالأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام لم يستطيعوا برغم صلتهم بالله العزيز القادر، أن يضعوا البشرية على صراط واحد، وكذلك الفلاسفة والمصلحون والعلماء، ومن ادعو النبوة والتجرد والتقشف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطاولت البشرية تطاولا كاملا على كل الرسل، فحرفوا رسائلهم وكتبهم، وحتى القرآن الكريم الذي تم حفظه ولم يتم تحريفه، جاءت طوائف عديدة فحرفت معانيه ومقاصده وبيانه وتبيانه.
عليك أن تدرك إدراكا لا يأتيه الشك من أي طرف من أطرافه، بأن آدم عليه السلام قد فتن وأكل من الشجرة، وكذلك أولاده قتل أحدهم الآخر، إخوة يوسف عليهم السلام ألقوه في الجب، ابن نوح عليه السلام ظل متعلقا بالكفر، امرأة نوح ولوط عليهما السلام ظلتا في الكفر والنفاق، هذا ما علمناه من أحوال ما علمنا من أخبار بعض الرسل، وما لا نعلمه الله أعلم به.
لهذا عليك الآن بعد هذا العمر الذي لا يعوض، أن تتصالح مع ذاتك، فإن كنت قد تزوجت ونجحت تجربتك أو فشلت، أو ظلت معلقة تراوح بين مد من رفض وجزر من قبول، أن تحسم أمرك فليس في العمر متسع لتأرجح لا يليق بما تبقى من أيام.
اولادك، هم الآن في سن البلوغ والتكليف، أنت كأب وإنسان، ظللت تكد وتعمل وتتعب، حملتهم في أشد لحظات ضعفهم وعدم قدرتهم، تجاوزت بهم الظروف والمحن، أطعمتهم من قلبك وكبدك، أسقيتهم من صبرك ووفائك وتفانيك، حتى استوت قاماتهم واشتدت أقدامهم، فأصبحوا كما أصبحت أنت قادرا على المواجهة والعوم والسباحة، الآن عليك أن تفتح قبضتك ليخرجوا محلقين كما يشاؤوا، فإن هوت أجنحتهم لا تدعي الشفقة لتجهض ذاتك وهم لا يسمعون أبدا لهمسك أو صراخك.
ولا تأسف إن هجروك أو تنصلوا بأنانية مفرطة من حاجاتك التي لم تعد قادرا على ممارستها، هم سيؤثرون غيرك عليك، فلا تحمل هما أو حزنا، هي الحياة، كما هي، لا جديد فيها، منذ عهد آدم وحتى يومنا.
الأهل والأصدقاء، هم بشر، يتحولون ويتلونون، حسب الوقت والحاجة والظروف والتقلبات، لا تضع سقفا عاليا لأحد، كن موقنا دائما بأن القادم والمستقبل هو من يحكم على الجميع، عليك وعليهم، أما الماضي فقد منحك بعض الشرارات الخفيفة لتتبين المستقبل، لكنك ربما أغفلته عن طيبة أو غفلة أو تمني وحياء، والحاضر يشد بنواجذه عليك تخلع الطيبة والغفلة والحياء، لكنك تنظر برجاء ضعيف إلى المستقبل الذي قد يغير الحاضر والماضي، بهذا تكون قد حنثت العهد الذي كانت ذاتك تحضضك على التمسك به.
أنا أعلم بأن حسرة الولد والأخ والصديق لاذعة وكاوية، لكنها كذلك لأنك لم تصل مرحلة النضج التي يجب الوصول إليها من أول لفتة أمسكت بشريان القلب الذي يغذي الروح، فينهض بالوعي المتمسك بالواقع. والواقع يقول: - حين تموت، سيبكي عليك أولادك بضعة أيام فقط، خلالها سيكونون يفكروا بما تركت لهم، وإن لم تترك لهم شيئا، سيفكرون بأشياء تشغلهم، سيعودون إلى بيوتهم، يلعبون ويأكلون ويشربون، سيواجهون الحياة بدونك، وكأنهم جاءوا الى الدنيا هكذا، لو أنك تعلمت تركهم يكابدون الحياة مبكرا، لكنت قد حققت القليل من الهدوء لذاتك، لكنك تركتهم مرغما، وهم الآن سيسجلون نسيانك في كل لحظة تمر بعد وجودك في اللحد.
الآن عليك وعلي أن نتعلم القليل قبل فوات الأوان، المتعة بكل أنواعها بما تبق لك من عمر، كأن تشعر بالنشوة الغامرة وأنت تدفع ثمن أدويتك التي تبقيك بصحة متوازنة، وأن ترفرف كقلب يفيض بالفرحة وأنت تتوجه إلى مطعم وتطلب ما طاب لك طعام، وأن تكون شاكرا لله وأنت ترتقي الدرجات دون الحاجة لعكاز من خشب أو بشر.
أنا ما زلت أشعر بالفرح حين أشتري مجموعة من الملابس الجديدة التي تظهرني بمظهر الإنسان الذي يتأنق للنسيم والورد والياسمين، وأكون أشد فرحة حين ادفع مبلغا ولو كان كبيرا ثمن زجاجة من طيب، لتكون رائحتي تشابه رائحة الجوري حين أمر من جواره ولا أشعره بخجل.
على النهر القريب من مسكني طريق طويل تسكن حافتيه أشجار وحشائش وأنواع مختلفة من النباتات الصغير، تعوم فوق مياهه مجموعة من البط والإوز، أتوجه هناك وأنا محمل بالخبز والحبوب، فتأتي مجموعات البط والإوز مثل مراكب من شفافية لتأكل، وتحط أسراب من العصافير فوق كتفي وعلى رأسي لتجد مكانا لها وهي ترفرف للوصول الى الجبوب المعبأة بالكفين، وفجأة يتوهج الموج، ويصدح الخرير، تغني الطيور وتزقزق وتهدل، تبدو المياه مصقولة مثل ماس يكاد يتحطم من شدة النقاء والصفاء، تتعمقني اللذة، يباغتي الفرح والرضا، أسير وقلبي يتوكأ على فرحي، أعود للبيت، اصنع كوبا من القهوة، أتوسط الحديقة، ومعي صوت القرآن بترتيل يصدع الأفئدة ويغسل القلوب ويجلو الروح.
قبل أن أدخل البيت أحيي مجموعة من القنافذ التي تعيش معي في الحديقة، وألقي التحية على الجبل المقابل، أخلع ملابسي، تغسلني المياه الدافئة، ينتفض جلدي، تتوسع مساماتي، أتوجه نحو السرير، وسادتي تحتاج إلى تبديل حتى تناسب الرأس، وفرشة السرير هبطت يجب تغييرها، ولحافي خشن أحتاج لجديد ناعم، غدا إن شاء الله لو بقيت حيا، سأعلن نضجي الكامل، وأشتري كل ما أحتاج ويريحني بسخاء، بدل ادخاره للآخرين الذين عليهم أن يتعلموا كيف يحلقوا من غيري.
غدا سيكون صباح جديد في كل شيء.
الكاتب والقاص والروائي مأمون أحمد مصطفى
تحمل مفردة المطلق من دلالات، بأنك لن تغير شيئا لو بقيت حبيس ذاتك التي تجلدك وتجلدها بطرق شتى، فالأنبياء كلهم عليهم الصلاة والسلام لم يستطيعوا برغم صلتهم بالله العزيز القادر، أن يضعوا البشرية على صراط واحد، وكذلك الفلاسفة والمصلحون والعلماء، ومن ادعو النبوة والتجرد والتقشف، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تطاولت البشرية تطاولا كاملا على كل الرسل، فحرفوا رسائلهم وكتبهم، وحتى القرآن الكريم الذي تم حفظه ولم يتم تحريفه، جاءت طوائف عديدة فحرفت معانيه ومقاصده وبيانه وتبيانه.
عليك أن تدرك إدراكا لا يأتيه الشك من أي طرف من أطرافه، بأن آدم عليه السلام قد فتن وأكل من الشجرة، وكذلك أولاده قتل أحدهم الآخر، إخوة يوسف عليهم السلام ألقوه في الجب، ابن نوح عليه السلام ظل متعلقا بالكفر، امرأة نوح ولوط عليهما السلام ظلتا في الكفر والنفاق، هذا ما علمناه من أحوال ما علمنا من أخبار بعض الرسل، وما لا نعلمه الله أعلم به.
لهذا عليك الآن بعد هذا العمر الذي لا يعوض، أن تتصالح مع ذاتك، فإن كنت قد تزوجت ونجحت تجربتك أو فشلت، أو ظلت معلقة تراوح بين مد من رفض وجزر من قبول، أن تحسم أمرك فليس في العمر متسع لتأرجح لا يليق بما تبقى من أيام.
اولادك، هم الآن في سن البلوغ والتكليف، أنت كأب وإنسان، ظللت تكد وتعمل وتتعب، حملتهم في أشد لحظات ضعفهم وعدم قدرتهم، تجاوزت بهم الظروف والمحن، أطعمتهم من قلبك وكبدك، أسقيتهم من صبرك ووفائك وتفانيك، حتى استوت قاماتهم واشتدت أقدامهم، فأصبحوا كما أصبحت أنت قادرا على المواجهة والعوم والسباحة، الآن عليك أن تفتح قبضتك ليخرجوا محلقين كما يشاؤوا، فإن هوت أجنحتهم لا تدعي الشفقة لتجهض ذاتك وهم لا يسمعون أبدا لهمسك أو صراخك.
ولا تأسف إن هجروك أو تنصلوا بأنانية مفرطة من حاجاتك التي لم تعد قادرا على ممارستها، هم سيؤثرون غيرك عليك، فلا تحمل هما أو حزنا، هي الحياة، كما هي، لا جديد فيها، منذ عهد آدم وحتى يومنا.
الأهل والأصدقاء، هم بشر، يتحولون ويتلونون، حسب الوقت والحاجة والظروف والتقلبات، لا تضع سقفا عاليا لأحد، كن موقنا دائما بأن القادم والمستقبل هو من يحكم على الجميع، عليك وعليهم، أما الماضي فقد منحك بعض الشرارات الخفيفة لتتبين المستقبل، لكنك ربما أغفلته عن طيبة أو غفلة أو تمني وحياء، والحاضر يشد بنواجذه عليك تخلع الطيبة والغفلة والحياء، لكنك تنظر برجاء ضعيف إلى المستقبل الذي قد يغير الحاضر والماضي، بهذا تكون قد حنثت العهد الذي كانت ذاتك تحضضك على التمسك به.
أنا أعلم بأن حسرة الولد والأخ والصديق لاذعة وكاوية، لكنها كذلك لأنك لم تصل مرحلة النضج التي يجب الوصول إليها من أول لفتة أمسكت بشريان القلب الذي يغذي الروح، فينهض بالوعي المتمسك بالواقع. والواقع يقول: - حين تموت، سيبكي عليك أولادك بضعة أيام فقط، خلالها سيكونون يفكروا بما تركت لهم، وإن لم تترك لهم شيئا، سيفكرون بأشياء تشغلهم، سيعودون إلى بيوتهم، يلعبون ويأكلون ويشربون، سيواجهون الحياة بدونك، وكأنهم جاءوا الى الدنيا هكذا، لو أنك تعلمت تركهم يكابدون الحياة مبكرا، لكنت قد حققت القليل من الهدوء لذاتك، لكنك تركتهم مرغما، وهم الآن سيسجلون نسيانك في كل لحظة تمر بعد وجودك في اللحد.
الآن عليك وعلي أن نتعلم القليل قبل فوات الأوان، المتعة بكل أنواعها بما تبق لك من عمر، كأن تشعر بالنشوة الغامرة وأنت تدفع ثمن أدويتك التي تبقيك بصحة متوازنة، وأن ترفرف كقلب يفيض بالفرحة وأنت تتوجه إلى مطعم وتطلب ما طاب لك طعام، وأن تكون شاكرا لله وأنت ترتقي الدرجات دون الحاجة لعكاز من خشب أو بشر.
أنا ما زلت أشعر بالفرح حين أشتري مجموعة من الملابس الجديدة التي تظهرني بمظهر الإنسان الذي يتأنق للنسيم والورد والياسمين، وأكون أشد فرحة حين ادفع مبلغا ولو كان كبيرا ثمن زجاجة من طيب، لتكون رائحتي تشابه رائحة الجوري حين أمر من جواره ولا أشعره بخجل.
على النهر القريب من مسكني طريق طويل تسكن حافتيه أشجار وحشائش وأنواع مختلفة من النباتات الصغير، تعوم فوق مياهه مجموعة من البط والإوز، أتوجه هناك وأنا محمل بالخبز والحبوب، فتأتي مجموعات البط والإوز مثل مراكب من شفافية لتأكل، وتحط أسراب من العصافير فوق كتفي وعلى رأسي لتجد مكانا لها وهي ترفرف للوصول الى الجبوب المعبأة بالكفين، وفجأة يتوهج الموج، ويصدح الخرير، تغني الطيور وتزقزق وتهدل، تبدو المياه مصقولة مثل ماس يكاد يتحطم من شدة النقاء والصفاء، تتعمقني اللذة، يباغتي الفرح والرضا، أسير وقلبي يتوكأ على فرحي، أعود للبيت، اصنع كوبا من القهوة، أتوسط الحديقة، ومعي صوت القرآن بترتيل يصدع الأفئدة ويغسل القلوب ويجلو الروح.
قبل أن أدخل البيت أحيي مجموعة من القنافذ التي تعيش معي في الحديقة، وألقي التحية على الجبل المقابل، أخلع ملابسي، تغسلني المياه الدافئة، ينتفض جلدي، تتوسع مساماتي، أتوجه نحو السرير، وسادتي تحتاج إلى تبديل حتى تناسب الرأس، وفرشة السرير هبطت يجب تغييرها، ولحافي خشن أحتاج لجديد ناعم، غدا إن شاء الله لو بقيت حيا، سأعلن نضجي الكامل، وأشتري كل ما أحتاج ويريحني بسخاء، بدل ادخاره للآخرين الذين عليهم أن يتعلموا كيف يحلقوا من غيري.
غدا سيكون صباح جديد في كل شيء.
الكاتب والقاص والروائي مأمون أحمد مصطفى