مفهوم "الإنسانية" له، لُغوياً، عِدَّة دلالات. تارةً، المقصود منه، هو مجموع البشر أو مجموع الكائنات البشرية ensemble des êtres humains. وتارة، المقصود منه، هو ذلك الاستعداد disposition الذي يُظهره هؤلاء البشر لفَهم الآخر والتَّعاطف معه وتقديم المساعدة له إن اقتضى الحال. في هذه الحالة، مفهوم "الإنسانية" مرادفٌ للطيبوبة bonté، للشفقة pitié والإحساس sensibiluté، ومضادٌّ للبهيمية bestialité أو الوحشية sauvagerie أو الشراسة ferocité. وتارةً، المقصود منه، هو كل الصفات التي يتميَّز بها الكائن البشري عن المخلوقات الأخرى، وخصوصا، القريبة منه.
فمثلاً، حينما نقول الجنس البشري le genre humain بلغ عددُهم ما يفوق 8 ،ملايير نسَمة، فالمقصود هو جميع الكائنات البشرية التي تَعمُرُ الأرضَ. وحينما نقول "فلانٌ قام بعملٍ إنساني، فالمقصود هو عملٌ فيه الخير، أي فيه نفعٌ للناس.
ما أ،تابع به كتابةَ هذه المقالة، هو تحليلٌ بعقلانية ورزانة لبعض آيات القرآن الكريم التي لها علاقة بالإنسانية. من بين هذه الآيات، أخصُّ بالذكر ما يلي :
1."يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات، 13).
هذه الآية الكريمة إشارةٌ واضحة للإنسانية، حيث كلامُ الله موجَّهٌ فيها لجميع الناس بغض النظر عن انتمآتهم الاجتماغية، العِرقية، الدينية والثقافية٠ وهذا دليلٌ على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين البشر ولو كانوا مختلفين في الكثير من الأشياء. وكلمة "لِتَعَارَفُوا" هي أساسُ هذه المساواة، إذ أنه، سبحانه وتعالى، يدعو الناسَ ليتقرَّبوا بعضُهم من البعض الآخر واضعين جنباً اختلافاتهم ليتصاهروا ويتزاوجوا من أجل إعمار الأرض.
2."اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ" (غافر، 61).
في هذه الآية الكريمة، كلام الله موجَّهٌ لجميع الناس دون أن يذكرَ ما قد يجعلهم مختلفين لا من حيث اختلاف لون البشرة ولا من حيث اختلاف الألسن ولا من حيث اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد… لكنه، سبحانه وتعالى، لم يأخذ بعين الاعتبار هذه الاختلافات. وهذا دليلٌ آخر على أنه، عزَّ وجلَّ، يُساوي بين الناس. وفي نفس الآية، يقسِّم الإنسانيةَ إلى فئتين : فئة تشكر اللهَ على فضله على الناس، وفئة، وهي الكثرة، لا تشكر اللهَ على هذا الفضلَ. وحين يقول، سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ"، فإن هذا الفضلَ يشمل جميع الناس، سواءً كانوا مؤمنين أو كفارا. وهذا يعني أنه يكفي أن يكون الكفار جزأً من الإنسانية ليستفيدوا من فضلُ الله. وهذا دليلٌ آخر يُبيِّن لنا بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس كبشرٍ.
3."وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم، 22).
في هذه الآية الكريمة، الله، سبحانه وتعالى، يبيِّن لجميع الناس، في أرجاء المعمور، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) بأن أعظم الآيات التي جلاَّها للناس هي خلقُ الكون، أي "السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، علما أن عددَ مجرات galaxies السماوات، يُقدَّرُ بألفي مليار مجرة، بينما عددُ نجوم كل مجرة يُقدَّرُ، هو الآخر، بالملايير. ومن آياته كذلك، "اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ". ورغم هذا الاختلاف في اللغات ولون البشرة، فإنه، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس في الفضل والنِّعَم، كما بيَّنتُ ذلك عندما حلَّلتً الآيتين، الأولى والثانية، المُشار إليهما أعلاه.
4."أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (لقمان، 20).
في هذه الآية الكريمة، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، بأنه وضع الكونَ كلَّه، بسماواته وأرضه وبما فيه من خيرٍ وخيرات في خدمة البشرية جمعاء. بل إنه أفاض على هذه البشرية بكل النِّعم، الظاهر منها والباطن. والباطن، في هذه الآية، يعني الخفي من النِّعَم التي تستدعي من الإنسان أن يُشغِّلَ عقلَه للاستفادة منها. وفي نفس الآية، الله، سبحانه وتعالى، لا يفرض أيَّ شرطٍ للاستفادة من التَّسخير ومن النِّعَم الظاهرة والباطنة. يكفي أن يكونَ الإنسان إنسانا ليستفيدَ من التَّسخير ومن كلِّ النِّعم. وكما قسَّم اللهُ، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 61 ،من سورة غافر، الإنسانيةَ إلى فئتين : فئة الشاكرين وفئة غير الشاكرين، فإنه، في هذه الآية، يخبرنا بأن فئةَ غير الشاكرين، هي التي، رغم استفادتها من التَّسخير ومن النِّعم الظاهرة والباطِنة، تُجادل (تُشكِّك) في وحدانية الله وفي قدرته، سبحانه وتعالى، على خلق ما يشاء ومتى يشاء. مرةً أخرى، الله، سبحانه وتعالى، يُبيِّن لنا بأنه يُساوي بين الناس
5."يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (البقرة، 168).
في هذه الآية الكريمة، كلام الله مُوجَّهٌ للبشرية جمعاء. ومن خلال هذا الكلام، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، يأمر (كُلُوا) هؤلاء الناس بأكل كل ما هو حلالٌ، أي غير مُحرَّم شرعا، من الخيرات التي وفَّرها اللهُ للناس جميعا. وفي نفس الآية، نلاحظ بأن أكلَ الحلال الطيِّب مُتاحٌ للناس دون قيدٍ أو شرط. وهذا دليلٌ آخر على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس. وفي نفس الآية، يحدِّر، سبحانه وتعالى، الناسَ من اتِّباع "خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" لأن هذا الأخير "عَدُوٌّ مُّبِينٌ" لهؤلاء الناس. وهذا التَّحديرُ ليس تخويفا. بل إنه توعية بأن اتِّباعَ الشيطان ليس فيه مصلحة الناس.
6."إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء، 58).
في هذه الآية الكريمة، الله، سبحانه وتعالى، يُبيِّن لنا بأن الإنسانية، كي تستحقَّ إنسانيتَها، يجب أن تتَّصِفَ بأخلاقٍ عالية. وفي نفس الآية، أعطى مثالين لهذه الأخلاق ألا وهما ردُّ "الْأَمَانَاتِ" إلى أهلها والحٌكم بين الناس بالعدل. وبالطبع، الإنسانية لا تكون إنسانيةً إلا بأخلاقها السامية. ومن ضمن ما يُميِّز الأخلاقَ السامية، الطيبوبة bonté، التَّواضع modestie، العفو pardon، الرأفة clémence، التسامح tolérance، التضامن solidarité، النزاهة probité، الإنصاف équité، المساواة égalité، الصِّدق sincérité، اجتناب الباطل والكذب وقول الحق…
ومن أهمِّ ما تفرضه الأخلاق السامية على الإنسانية، أن لا يُستعملَ المالُ كأداةٍ لبثِّ ونشر الفساد في المجتمعات، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، حدَّر الناسَ من هذا الانزلاق، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ : (البقرة، 188)، أي لا تستعملوا المال في غير ما ينفع الناسَ والمجتمعات، كالسَّطوِ على ممتلكات وأموال الغير والسرقة والرشوة والربا والتجارة الجائرة…
وفي الختام، كثيرٌ من آيات القرآن الكريم تشير للإنسانية ولو أن مفردَةَ "إنسانية" غير موجودة فيه. لكن تدبُّرَ وتحليلَ هذه الآيات بعقلانيةٍ وتمعُّنٍ، هما اللذان يقودان العقلَ البشري للوصول إلى ما يريده اللهُ، سبحانه وتعالى، لهذه الإنسانية أن تكونَ. علما أنه، عزَّ وجلَّ، يريد الخيرَ لعباده، كما بيَّنتُ ذلك في عديدٍ من مقالاتي المنشورة على صفحتي. وزيادةً في الخير الذي أراده ويريده، سبحانه وتعالى، للإنسانية جمعاء، بعث لها الأنبياء والرُّسلَ ليكون الدِّينُ مُكمِّلاً للإنسانية والإنسانية مكمِّلةً للدين.
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هنا، هو : "هل إنسانية العصر الحاضر هي الإنسانية التي أشار لها، سبحانه وتعالى، في قرآنه الكريم"؟ الجواب على هذا السؤال واضحٌ وضوح الشمس!
فمثلاً، حينما نقول الجنس البشري le genre humain بلغ عددُهم ما يفوق 8 ،ملايير نسَمة، فالمقصود هو جميع الكائنات البشرية التي تَعمُرُ الأرضَ. وحينما نقول "فلانٌ قام بعملٍ إنساني، فالمقصود هو عملٌ فيه الخير، أي فيه نفعٌ للناس.
ما أ،تابع به كتابةَ هذه المقالة، هو تحليلٌ بعقلانية ورزانة لبعض آيات القرآن الكريم التي لها علاقة بالإنسانية. من بين هذه الآيات، أخصُّ بالذكر ما يلي :
1."يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات، 13).
هذه الآية الكريمة إشارةٌ واضحة للإنسانية، حيث كلامُ الله موجَّهٌ فيها لجميع الناس بغض النظر عن انتمآتهم الاجتماغية، العِرقية، الدينية والثقافية٠ وهذا دليلٌ على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين البشر ولو كانوا مختلفين في الكثير من الأشياء. وكلمة "لِتَعَارَفُوا" هي أساسُ هذه المساواة، إذ أنه، سبحانه وتعالى، يدعو الناسَ ليتقرَّبوا بعضُهم من البعض الآخر واضعين جنباً اختلافاتهم ليتصاهروا ويتزاوجوا من أجل إعمار الأرض.
2."اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ" (غافر، 61).
في هذه الآية الكريمة، كلام الله موجَّهٌ لجميع الناس دون أن يذكرَ ما قد يجعلهم مختلفين لا من حيث اختلاف لون البشرة ولا من حيث اختلاف الألسن ولا من حيث اختلاف الثقافات والعادات والتقاليد… لكنه، سبحانه وتعالى، لم يأخذ بعين الاعتبار هذه الاختلافات. وهذا دليلٌ آخر على أنه، عزَّ وجلَّ، يُساوي بين الناس. وفي نفس الآية، يقسِّم الإنسانيةَ إلى فئتين : فئة تشكر اللهَ على فضله على الناس، وفئة، وهي الكثرة، لا تشكر اللهَ على هذا الفضلَ. وحين يقول، سبحانه وتعالى : "إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ"، فإن هذا الفضلَ يشمل جميع الناس، سواءً كانوا مؤمنين أو كفارا. وهذا يعني أنه يكفي أن يكون الكفار جزأً من الإنسانية ليستفيدوا من فضلُ الله. وهذا دليلٌ آخر يُبيِّن لنا بأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس كبشرٍ.
3."وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (الروم، 22).
في هذه الآية الكريمة، الله، سبحانه وتعالى، يبيِّن لجميع الناس، في أرجاء المعمور، (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) بأن أعظم الآيات التي جلاَّها للناس هي خلقُ الكون، أي "السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ"، علما أن عددَ مجرات galaxies السماوات، يُقدَّرُ بألفي مليار مجرة، بينما عددُ نجوم كل مجرة يُقدَّرُ، هو الآخر، بالملايير. ومن آياته كذلك، "اخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ". ورغم هذا الاختلاف في اللغات ولون البشرة، فإنه، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس في الفضل والنِّعَم، كما بيَّنتُ ذلك عندما حلَّلتً الآيتين، الأولى والثانية، المُشار إليهما أعلاه.
4."أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ" (لقمان، 20).
في هذه الآية الكريمة، يُخبرنا، سبحانه وتعالى، بأنه وضع الكونَ كلَّه، بسماواته وأرضه وبما فيه من خيرٍ وخيرات في خدمة البشرية جمعاء. بل إنه أفاض على هذه البشرية بكل النِّعم، الظاهر منها والباطن. والباطن، في هذه الآية، يعني الخفي من النِّعَم التي تستدعي من الإنسان أن يُشغِّلَ عقلَه للاستفادة منها. وفي نفس الآية، الله، سبحانه وتعالى، لا يفرض أيَّ شرطٍ للاستفادة من التَّسخير ومن النِّعَم الظاهرة والباطنة. يكفي أن يكونَ الإنسان إنسانا ليستفيدَ من التَّسخير ومن كلِّ النِّعم. وكما قسَّم اللهُ، سبحانه وتعالى، في الآية رقم 61 ،من سورة غافر، الإنسانيةَ إلى فئتين : فئة الشاكرين وفئة غير الشاكرين، فإنه، في هذه الآية، يخبرنا بأن فئةَ غير الشاكرين، هي التي، رغم استفادتها من التَّسخير ومن النِّعم الظاهرة والباطِنة، تُجادل (تُشكِّك) في وحدانية الله وفي قدرته، سبحانه وتعالى، على خلق ما يشاء ومتى يشاء. مرةً أخرى، الله، سبحانه وتعالى، يُبيِّن لنا بأنه يُساوي بين الناس
5."يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ" (البقرة، 168).
في هذه الآية الكريمة، كلام الله مُوجَّهٌ للبشرية جمعاء. ومن خلال هذا الكلام، فإن اللهَ، سبحانه وتعالى، يأمر (كُلُوا) هؤلاء الناس بأكل كل ما هو حلالٌ، أي غير مُحرَّم شرعا، من الخيرات التي وفَّرها اللهُ للناس جميعا. وفي نفس الآية، نلاحظ بأن أكلَ الحلال الطيِّب مُتاحٌ للناس دون قيدٍ أو شرط. وهذا دليلٌ آخر على أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُساوي بين الناس. وفي نفس الآية، يحدِّر، سبحانه وتعالى، الناسَ من اتِّباع "خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ" لأن هذا الأخير "عَدُوٌّ مُّبِينٌ" لهؤلاء الناس. وهذا التَّحديرُ ليس تخويفا. بل إنه توعية بأن اتِّباعَ الشيطان ليس فيه مصلحة الناس.
6."إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" (النساء، 58).
في هذه الآية الكريمة، الله، سبحانه وتعالى، يُبيِّن لنا بأن الإنسانية، كي تستحقَّ إنسانيتَها، يجب أن تتَّصِفَ بأخلاقٍ عالية. وفي نفس الآية، أعطى مثالين لهذه الأخلاق ألا وهما ردُّ "الْأَمَانَاتِ" إلى أهلها والحٌكم بين الناس بالعدل. وبالطبع، الإنسانية لا تكون إنسانيةً إلا بأخلاقها السامية. ومن ضمن ما يُميِّز الأخلاقَ السامية، الطيبوبة bonté، التَّواضع modestie، العفو pardon، الرأفة clémence، التسامح tolérance، التضامن solidarité، النزاهة probité، الإنصاف équité، المساواة égalité، الصِّدق sincérité، اجتناب الباطل والكذب وقول الحق…
ومن أهمِّ ما تفرضه الأخلاق السامية على الإنسانية، أن لا يُستعملَ المالُ كأداةٍ لبثِّ ونشر الفساد في المجتمعات، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، حدَّر الناسَ من هذا الانزلاق، مصداقا لقوله، عزَّ وجلَّ : "وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ : (البقرة، 188)، أي لا تستعملوا المال في غير ما ينفع الناسَ والمجتمعات، كالسَّطوِ على ممتلكات وأموال الغير والسرقة والرشوة والربا والتجارة الجائرة…
وفي الختام، كثيرٌ من آيات القرآن الكريم تشير للإنسانية ولو أن مفردَةَ "إنسانية" غير موجودة فيه. لكن تدبُّرَ وتحليلَ هذه الآيات بعقلانيةٍ وتمعُّنٍ، هما اللذان يقودان العقلَ البشري للوصول إلى ما يريده اللهُ، سبحانه وتعالى، لهذه الإنسانية أن تكونَ. علما أنه، عزَّ وجلَّ، يريد الخيرَ لعباده، كما بيَّنتُ ذلك في عديدٍ من مقالاتي المنشورة على صفحتي. وزيادةً في الخير الذي أراده ويريده، سبحانه وتعالى، للإنسانية جمعاء، بعث لها الأنبياء والرُّسلَ ليكون الدِّينُ مُكمِّلاً للإنسانية والإنسانية مكمِّلةً للدين.
السؤال الذي يفرض نفسَه علينا هنا، هو : "هل إنسانية العصر الحاضر هي الإنسانية التي أشار لها، سبحانه وتعالى، في قرآنه الكريم"؟ الجواب على هذا السؤال واضحٌ وضوح الشمس!