قبل أن أدخل في بعض التفاصيل الشخصية عن علاقتي بالأديب والصحفي المغربي عبد الجبار السحيمي (1938-2012)، المدير السابق لجريدة العلم، يبدو لي من الضروري، بداية، أن أشير إلى واقعة قد تُلخص المحبة التي كان الراحل موضوعا لها من جميع الكتاب والصحفيين على اختلاف مشاربهم وأفكارهم. حصل ذلك ذات مؤتمر لاتحاد كتاب المغرب في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
في هذا المؤتمر التاريخي، احتل عبد الجبار السحيمي، في انتخاب المكتب التنفيذي للاتحاد من قبل المؤتمرين، الرتبة الأولى بفارق كبير من الأصوات مع من جاء بعده في الرتبة الثانية. حصل ذلك دون أن يكون الراحل قد نسق مع أحد أو اجتمع بأحد أو وزع الكعكة على أحد. فلم يكن له وقت لتضييعه في لعبة انتخابية، على أهميتها. ذلك لأن إشرافه على الجريدة كان يستهلك كل دوامه وجهده. وطبعا فقد لاحظتُ، كما لاحظ غيري من المشاركين، كيف أن ذلك النجاح الصارخ الذي حققه السحيمي، بقدر ما أسعد الكتاب المحسوبين أو المتعاطفين مع "الحساسية الاستقلالية"، وقع كالصاعقة على الذين نسقوا مواقفهم في الكواليس، حتى إذا حسم التصويت النتيجة لصالح كاتب "استقلالي" معروف تفاجأوا دون أن يتفاجأ هو. فعبد الجبار كان محل إجماع، وكان يعرف مقدار المحبة التي يكنها له زملاؤه الكُتاب من جنوب المغرب إلى شماله، على اختلاف ميولاتهم الشخصية.
وطبعا فبحكم انشغاله بإصدار جريدة يومية وطنية كبرى، تنازل عبد الجبار السحيمي، عند الاختلاء لتكوين المكتب التنفيذي، عن رئاسة الاتحاد، وفهم الجميع ذلك اليوم رسالة هذا الرجل النبيل، وهي أنك لن تحصد المحبة إذا لم تكن تزرعها بالممارسة والسلوك وليس بالضحكات المصنوعة والكلمات المعسولة.
2
بدأت علاقتي بجريدة العلم في بداية السبعينيات كقارئ مواظب ثم ككاتب في صفحة "أصوات" المخصصة لإبداعات الشباب، التي كان يشرف عليها المرحوم المحجوب الصفريوي. كنت أكتب في هذه الصفحة إلى جانب عثمان أشقرا، ورابح التيجاني، ومصطفى الكليتي وحسن بحراوي وآخرين. ومع التقدم في التجربة والسن ستتطور علاقتي بالجريدة تدريجيا. فإلى جانب الشاعر نجيب خداري، المسؤول وقتها عن القسم الثقافي، سأتعرف على عبد الجبار السحيمي الذي كنت ألتقيه سواء بمكتبه بالجريدة أو خلال انعقاد مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب. كما مكّنني ذ. السحيمي من بطاقة مراسل ثقافي لجريدة العلم. وفي وقت لاحق ساعدني على إجراء تدريب مهني في قسم التحرير بالجريدة. وأتذكر أنه في فترة التدريب، تحت إشراف الفقيد عمر الدركولي في صفحة الأقاليم، كنت أتردد على مصلحة التوثيق بالجريدة للاطلاع على بحوث ودراسات قد تفيدني. وكان معلوما أن الاطلاع على الوثائق يجب أن يكون في عين المكان. وحدث أن عثرتُ على بحث جامعي رغبتُ في أخذه معي يوما أو يومين. فاتحت في ذلك الأخت زهرة العميرات، المسؤولة عن المكتبة، وكانت تشرف أيضا على صفحة المرأة في الجريدة. تفهّمتْ طلبي وقالت لي إنها سترى ما يمكن فعله. وقبل مغادرتي للجريدة بعد الظهر مدت لي بالبحث الذي كنت قد طلبته منها، وهي تقول لي إنها بعدما راجعت ذ. السحيمي، طمأنها هذا الأخير بقوله : "المصطفى اجماهري أنا أضمنه".
3
في بداية التسعينيات اقترحتُ على الدكتور زكي الجابر، الخبير الإعلامي والأستاذ بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، إنجاز بحث دبلوم الدراسات العليا في موضوع الصحافة الثقافية في المغرب من خلال نموذج العلم الثقافي. وكان ذ. عبد الكريم غلاب، مدير العلم أحد أعضاء لجنة المناقشة. وقد استكملت الإحاطة بموضوع البحث في العلم الثقافي من خلال ثلاثة حوارات أجريتها مع مسؤولي التحرير، وتمت تباعا مع عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي ونجيب خداري. خرجتُ من هذه اللقاءات بمعطيات غنية عن تاريخ الملحق الذي حقق سبقا زمنيا في الصدور بالمغرب، وعن طريقة إعداد المحتوى الأسبوعي، وعن المحطات الأساسية التي مر بها هذا المنتوج الإعلامي في تاريخه وخاصة في سياق الصراع السياسي الحزبي في المغرب، وانعكاسه على الثقافي. فقد عمل بعض الكتاب المنتمين لتوجه معين على حصار الملحق، إلا أن عبد الجبار السحيمي أفشل هذا الحصار بالتفتح على الجامعة المغربية وعلى اتحاد كتاب المغرب. كما بذل الراحل مجهودات مستمرة للتأقلم مع المستجدات : ففي فصل الصيف مثلا حينما يخلد الكتاب إلى العطلة كان يلجأ لتعويض الفراغ بنشر الترجمات. وطبعا كان من نتائج الاستقصاء حول قراءة العلم الذي قمت به (إلى جانب وثائق أخرى) أنه زوّد القائمين المباشرين على الإصدار بمعطيات موثوقة حول الحيز المخصص للترجمات في الملحق والذي كان حيزا معقولا ومناسبا.
4
في نفس السياق، أتذكر أيضا، بكثير من الفخر والاعتزاز، ما أسرّ لي به ذات يوم عبد الجبار السحيمي، في أواسط التسعينيات، حين طلبتْ منه جمعية خريجي معهد الصحافة المشاركة في مائدة مستديرة حول ظاهرة الملاحق الثقافية في المغرب. اقترحتْ عليه الجهة المنظمة أن يساهم شخصيا في الجلسة بتقديم ورقة عن العلم الثقافي وخلفية إعداده وإصداره، ما دام أن الراحل كان مشرفا عليه لسنين طويلة. شكرهم الراحل على الدعوة وأجابهم بما معناه : "عليكم الاتصال بالمصطفى اجماهري لأنه أنجز دراسة أكاديمية حول العلم الثقافي". وهو ما يدل على تواضع المرحوم ورغبته في التعريف بالباحثين وفي تثمين مجهوداتهم وإخراجهم إلى النور.
واليوم فإن ما يدعو حقا للاستغراب لهو أن نسمع بعض ضيوف البرامج الثقافية الحوارية في القنوات المغربية وهم ينطلقون من حاضرهم دون إضاءته بالماضي وبمن سبقهم في التجربة والبحث. تجد هؤلاء، إما عن جهل أو عن قصد، لا يشيرون إلى اسم واحد بحث قبلهم في المحور الذي استضيفوا من أجله. هؤلاء الناس يتخيلون أنفسهم، بلا حياء ولا حشمة، كما لو أن المغرب كان قبلهم قاحلا. والحال أن من بديهيات البحث العلمي أن يكون الباحث قد اطلع بالضرورة على الدراسات السابقة ونوّه بها.
رحل عبد الجبار السحيمي عن عالمنا في 24 أبريل 2012 وترك فراغا في المجال الثقافي والصحفي وأيضا الإنساني لم يعوّض بعد. كان إنسانا نادرا في زمان نادر، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. رحمه الله وأحسن إليه.
المصطفى اجْماهْـري
كاتب مغربي
في هذا المؤتمر التاريخي، احتل عبد الجبار السحيمي، في انتخاب المكتب التنفيذي للاتحاد من قبل المؤتمرين، الرتبة الأولى بفارق كبير من الأصوات مع من جاء بعده في الرتبة الثانية. حصل ذلك دون أن يكون الراحل قد نسق مع أحد أو اجتمع بأحد أو وزع الكعكة على أحد. فلم يكن له وقت لتضييعه في لعبة انتخابية، على أهميتها. ذلك لأن إشرافه على الجريدة كان يستهلك كل دوامه وجهده. وطبعا فقد لاحظتُ، كما لاحظ غيري من المشاركين، كيف أن ذلك النجاح الصارخ الذي حققه السحيمي، بقدر ما أسعد الكتاب المحسوبين أو المتعاطفين مع "الحساسية الاستقلالية"، وقع كالصاعقة على الذين نسقوا مواقفهم في الكواليس، حتى إذا حسم التصويت النتيجة لصالح كاتب "استقلالي" معروف تفاجأوا دون أن يتفاجأ هو. فعبد الجبار كان محل إجماع، وكان يعرف مقدار المحبة التي يكنها له زملاؤه الكُتاب من جنوب المغرب إلى شماله، على اختلاف ميولاتهم الشخصية.
وطبعا فبحكم انشغاله بإصدار جريدة يومية وطنية كبرى، تنازل عبد الجبار السحيمي، عند الاختلاء لتكوين المكتب التنفيذي، عن رئاسة الاتحاد، وفهم الجميع ذلك اليوم رسالة هذا الرجل النبيل، وهي أنك لن تحصد المحبة إذا لم تكن تزرعها بالممارسة والسلوك وليس بالضحكات المصنوعة والكلمات المعسولة.
2
بدأت علاقتي بجريدة العلم في بداية السبعينيات كقارئ مواظب ثم ككاتب في صفحة "أصوات" المخصصة لإبداعات الشباب، التي كان يشرف عليها المرحوم المحجوب الصفريوي. كنت أكتب في هذه الصفحة إلى جانب عثمان أشقرا، ورابح التيجاني، ومصطفى الكليتي وحسن بحراوي وآخرين. ومع التقدم في التجربة والسن ستتطور علاقتي بالجريدة تدريجيا. فإلى جانب الشاعر نجيب خداري، المسؤول وقتها عن القسم الثقافي، سأتعرف على عبد الجبار السحيمي الذي كنت ألتقيه سواء بمكتبه بالجريدة أو خلال انعقاد مؤتمرات اتحاد كتاب المغرب. كما مكّنني ذ. السحيمي من بطاقة مراسل ثقافي لجريدة العلم. وفي وقت لاحق ساعدني على إجراء تدريب مهني في قسم التحرير بالجريدة. وأتذكر أنه في فترة التدريب، تحت إشراف الفقيد عمر الدركولي في صفحة الأقاليم، كنت أتردد على مصلحة التوثيق بالجريدة للاطلاع على بحوث ودراسات قد تفيدني. وكان معلوما أن الاطلاع على الوثائق يجب أن يكون في عين المكان. وحدث أن عثرتُ على بحث جامعي رغبتُ في أخذه معي يوما أو يومين. فاتحت في ذلك الأخت زهرة العميرات، المسؤولة عن المكتبة، وكانت تشرف أيضا على صفحة المرأة في الجريدة. تفهّمتْ طلبي وقالت لي إنها سترى ما يمكن فعله. وقبل مغادرتي للجريدة بعد الظهر مدت لي بالبحث الذي كنت قد طلبته منها، وهي تقول لي إنها بعدما راجعت ذ. السحيمي، طمأنها هذا الأخير بقوله : "المصطفى اجماهري أنا أضمنه".
3
في بداية التسعينيات اقترحتُ على الدكتور زكي الجابر، الخبير الإعلامي والأستاذ بالمعهد العالي للصحافة بالرباط، إنجاز بحث دبلوم الدراسات العليا في موضوع الصحافة الثقافية في المغرب من خلال نموذج العلم الثقافي. وكان ذ. عبد الكريم غلاب، مدير العلم أحد أعضاء لجنة المناقشة. وقد استكملت الإحاطة بموضوع البحث في العلم الثقافي من خلال ثلاثة حوارات أجريتها مع مسؤولي التحرير، وتمت تباعا مع عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي ونجيب خداري. خرجتُ من هذه اللقاءات بمعطيات غنية عن تاريخ الملحق الذي حقق سبقا زمنيا في الصدور بالمغرب، وعن طريقة إعداد المحتوى الأسبوعي، وعن المحطات الأساسية التي مر بها هذا المنتوج الإعلامي في تاريخه وخاصة في سياق الصراع السياسي الحزبي في المغرب، وانعكاسه على الثقافي. فقد عمل بعض الكتاب المنتمين لتوجه معين على حصار الملحق، إلا أن عبد الجبار السحيمي أفشل هذا الحصار بالتفتح على الجامعة المغربية وعلى اتحاد كتاب المغرب. كما بذل الراحل مجهودات مستمرة للتأقلم مع المستجدات : ففي فصل الصيف مثلا حينما يخلد الكتاب إلى العطلة كان يلجأ لتعويض الفراغ بنشر الترجمات. وطبعا كان من نتائج الاستقصاء حول قراءة العلم الذي قمت به (إلى جانب وثائق أخرى) أنه زوّد القائمين المباشرين على الإصدار بمعطيات موثوقة حول الحيز المخصص للترجمات في الملحق والذي كان حيزا معقولا ومناسبا.
4
في نفس السياق، أتذكر أيضا، بكثير من الفخر والاعتزاز، ما أسرّ لي به ذات يوم عبد الجبار السحيمي، في أواسط التسعينيات، حين طلبتْ منه جمعية خريجي معهد الصحافة المشاركة في مائدة مستديرة حول ظاهرة الملاحق الثقافية في المغرب. اقترحتْ عليه الجهة المنظمة أن يساهم شخصيا في الجلسة بتقديم ورقة عن العلم الثقافي وخلفية إعداده وإصداره، ما دام أن الراحل كان مشرفا عليه لسنين طويلة. شكرهم الراحل على الدعوة وأجابهم بما معناه : "عليكم الاتصال بالمصطفى اجماهري لأنه أنجز دراسة أكاديمية حول العلم الثقافي". وهو ما يدل على تواضع المرحوم ورغبته في التعريف بالباحثين وفي تثمين مجهوداتهم وإخراجهم إلى النور.
واليوم فإن ما يدعو حقا للاستغراب لهو أن نسمع بعض ضيوف البرامج الثقافية الحوارية في القنوات المغربية وهم ينطلقون من حاضرهم دون إضاءته بالماضي وبمن سبقهم في التجربة والبحث. تجد هؤلاء، إما عن جهل أو عن قصد، لا يشيرون إلى اسم واحد بحث قبلهم في المحور الذي استضيفوا من أجله. هؤلاء الناس يتخيلون أنفسهم، بلا حياء ولا حشمة، كما لو أن المغرب كان قبلهم قاحلا. والحال أن من بديهيات البحث العلمي أن يكون الباحث قد اطلع بالضرورة على الدراسات السابقة ونوّه بها.
رحل عبد الجبار السحيمي عن عالمنا في 24 أبريل 2012 وترك فراغا في المجال الثقافي والصحفي وأيضا الإنساني لم يعوّض بعد. كان إنسانا نادرا في زمان نادر، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. رحمه الله وأحسن إليه.
المصطفى اجْماهْـري
كاتب مغربي